نص كتبته على هامش ندوة
'الفرجة والمجال العام'.
كان كل شيء في الندوة مرتبا
بعناية في ذهن زميلي الدكتور خالد أمين حين شرع في تقديم إريكا فيشر-ليشته،
الباحثة المقتدرة وأستاذة الدراسات المسرحية بجامعة برلين الحرة، التي ألقت العرض
الافتتاحي الذي رسم للندوة إطارها العام. لم يبالغ خالد أمين حين أثنى على الأهمية التي تحظى بها أعمال
إريكا وزملائها وزميلاتها في مجال الفرجة (performance).
كان عرض إريكا تلخيصا مكثفا وتحيينا لكتابها البرنامجي الهام الفرجة قوةُ تغيير:
أبحاث في جماليات جديدة (الصادر بلندن ونيويورك، ضمن منشورات روتليدج، 2008). فقد
ألحت فيه على أن الفرجة تكثف حالات البينية (in-betweenness)،
لكونها تنبثق عفوا من الوجود الجسماني/ النفسي المتزامن للذين يعرضون وللذين
يشاهدون ويشاركون من دون تخطيط سابق أو توجيه مُعَد. العارضون والمشاهدون في
الفرجة هم روادها وأبطالها ومخرجوها وتقنيوها. لكن بَيْنية الفرجة أو توسطها
يجعلها طاقة مستقلة بذاتها عنهم كلهم، تحركهم بتلقائيتها وتوجههم من دون أن تضع
على حريتهم قيودا تحول بينهم وبين الخلق والابتكار. قواعد إخراج الفرجة يعاد
اكتشافها أو صوغها على الأصح من جديد في كل حركة ومع كل إنجاز.
ما ميز عرض إريكا هو أنها أعطت بَينية الفرجة بعدا كونيا. إنها أدرجت الفرجة في إطار بينية تتخطى بينية الثقافة الواحدة، والدين والواحد، والعرق الواحد...الخ. إنها أعادت تأويل المثاقفة وحوار الثقافات والحضارات استنادا إلى حدود فرجوية مبتكرة تتخطى الحدود التي تمليها العولمة المهووسة بالهيمنة على الشعوب والبحث عن الربح. إن من شأن الفرجة التي يمكن أن تتناسج وتتحابك بين الثقافات والأعراق والأديان في تصور إريكا أن تقودنا إلى بينية جديدة غير متوقعة وإلى مشترك أغنى وأمتع وأنفع من كل مشترك.
ما ميز عرض إريكا هو أنها أعطت بَينية الفرجة بعدا كونيا. إنها أدرجت الفرجة في إطار بينية تتخطى بينية الثقافة الواحدة، والدين والواحد، والعرق الواحد...الخ. إنها أعادت تأويل المثاقفة وحوار الثقافات والحضارات استنادا إلى حدود فرجوية مبتكرة تتخطى الحدود التي تمليها العولمة المهووسة بالهيمنة على الشعوب والبحث عن الربح. إن من شأن الفرجة التي يمكن أن تتناسج وتتحابك بين الثقافات والأعراق والأديان في تصور إريكا أن تقودنا إلى بينية جديدة غير متوقعة وإلى مشترك أغنى وأمتع وأنفع من كل مشترك.
كان بال إريكا وهي تتحدث عن الفرجة بهذه اللغة منصرفا إلى المفهوم الآخر الذي تدور عليه الندوة: إنه الفضاء العمومي. هذا الأخير بدوره فضاء بَيني بامتياز. فيه تتشكل الإرادة العامة وتُبنى. الإرادة العامة لا توجد سلفا كما توهم روسو. إنها، كالفرجة تماما، شأن إنجازي (performative)، يُبنى بناء بالاشتراك والتداعي والإسهام. نبني الإرادة العامة عندما يتراءى بَعضُنا لبعض، ويخاطب الواحد منا الآخر ويجادله في مواقفه ورؤاه. ليس هناك قيود مفروضة على ولوج الفضاء العمومي. إنه مفتوح في وجه الكل ويتسع لمساهمات الجميع. يمكن للفضاء العمومي أن يتسع فيتخطى حدود الدولة الوطنية ليصبح فضاء عموميا كونيا يستوعب الفرجات العابرة للحدود والمتخطية للتخوم.
إريكا تقدر الاختلافات والفروق القائمة بين الثقافات، لكنها تلح على أن أعمال الفرجة تستطيع بحكم طابعها البيني أن تستثمر على نحو إيجابي هذه الاختلافات والفروق للبرهنة على أن التعايش والتناسج ممكنان. وهنا لا تعود الفرجة أمرا جماليا فقط، بل تغدو شأنا سياسيا يكتسي أبعادا كوسموبوليتية أيضا. تلقائية الفرجة وعَرَضيتها (contingency) تحولان دون إخضاعها للمسبقات الإيديولوجية ولنوازع الهيمنة.
لم يُخْفِ الدكتور خالد أمين ابتهاجه وهو يختتم الندوة بابتسامة حذرة لم تفارق محياه. لقد حققت الندوة مبتغاها. كانت هي ذاتها فرجة إنجازية بالأبحاث الرصينة التي ألقيت فيها، وبالنقاشات العميقة التي أثارتها، وبالتكريم المُستحَق الذي تخللها (تكريم الفنانة القديرة ثريا جبران). لقد نسجت الندوة علاقات، ورسمت معالم طريق، وبلورت مشاريع أبحاث سيواصل الدكتور خالد أمين الإشراف عليها وتوجيهها بمعية شركائه المغاربة والأجانب...