06‏/07‏/2006

حوار مع المفكر الألماني هابرماس



ي . هابرماس


كانت مجلة (Autrement) الفرنسية (العدد 102) سنة 1988 قد أجرت حوارا عميقا، مضمونا وأفقا، مع الفيلسوف الألماني ي. هابرماس. وكنت قد ترجمته ونشرته بجريدة العلم المغربية يوم الإثنين 7 يونيو 1993، وعند مراجعتي له، قبل أيام، وجدته ما زال واردا. ويسعدني أن أعيد نشره على نطاق واسع في هذه المدونة. وقد صححت بعض أخطاء الرقن التي وردت فيه حين نشر أول مرة. وعنوان الحوار من اقتراحي.




الحداثة والتواصل والديمقراطية


حوار مع المفكر الألماني ي. هابرماس



سؤال: إن مشروعكم الرامي إلى استعادة روح الحداثة، وإعادة بناء نظرية موحدة عن العقل، قادكم إلى انتقاد أولئك الذين سموا بما بعد الحداثيين، أي أولئك الذين يظنون أنه من غير الممكن بتاتا أن يكون المرء حديثا اليوم (وأعني هنا ليوطار وديريدا وفوكو... أو ما يمكن أن يسمى عموما بالفلسفة الفرنسية). هل يمكنكم أن تحددوا بالضبط ما يفصلكم عن هؤلاء المفكرين؟



هابرماس: لا أحب أن أحشر أناسا مختلفين في علبة واحدة، كما بعد الحداثة، التي تبقى في نهاية المطاف علبة سوداء. ما قمت به في كتابي خطاب الحداثة الفلسفي ينحصر في رواية قصة تشرح الموقف الذي وقفه الفلاسفة (الفلاسفة الألمان خاصة) منذ نهاية القرن 18 مما أدركوه هم أنفسهم بوصفه حداثة. فهذه الحركة انطلقت بكيفية من الكيفيات مع كانط. وغدت أمرا ملحا بوجه خاص مع هيجل والهيجليين الشباب، بمن فيهم ماركس. وجاء نيتشه لينخرط بدوره في أحداث هذه القصة عن طريق نقده الجذري للعقلانية. ثم تبلور، منذ نيتشه، اتجاهان نقديان في القرن 20: أحدهما تمثل في نظرية السلطة، انتهت إلى فوكو عن طريق باطاي، والثاني تمثل في نقد الميتافيزيقا، قاده كل من هايدجر وديريدا.


وقد كان قصدي من رواية هذه القصة تذكير أولئك الذين التزموا في هذه الأيام بنقد شمولي للعقل بجذور هذا الخطاب حول الحداثة. وبالفعل، فمنذ أن ظهر التمييز بين العقل (vernunft) والفهم (verstand)، وجدنا نقدا يتجه إلى التصور الذاتي المحض للعقل، ونقدا يتجه إلى العقل الأداتي والعقل التوضيعي على حد سواء. وهذا يعني أنه كان هناك نضج مبكر في نقد الأوجه القمعية للعقل عندما يكون هذا الأخير مشدودا إلى بعد واحد، سواء أتعلق الأمر بالبعد التوضيعي أم بالبعد القاضي بالسيطرة الأداتية على الطبيعة أو على ذواتنا. فهذا النقد الذاتي للعقل أو هذا النقد المتجه إلى الذاتية، والذي فُهم منذ نيتشه بوصفه شيئا جديدا كل الجدة، كان حاضرا منذ البداية عند كانط. وحاول هيجل أن ينتقد ما أسماه بفكر الفهم (verstandesdenken)، وكان يقصد به نمطا من الاستدلال الخطابي لا يعي حدوده الخاصة. فهيجل كان يلوم فلسفة الفهم كما خصصها ديكارت وكانط (وهذا الأخير هو ممثل هذا التيار الحقيقي) وفيخته، على كونها فلسفة أو فكرا يضفي الإطلاق (العقل) على شيء ضارب في النسبية (الفهم). وقد ظلت النظرية النقدية مع هوركايمر وأدورنو وبينيامين أسيرة هذا المحور الهيجيلي، على الرغم من أن هؤلاء المفكرين انتقدوا غير ما مرة النزعة الإطلاقية عند هيجل. ففكرتهم عن العقل الأداتي ظلت تُفهم بوصفها اغتصابا للمكانة التي كان يحتلها عقل جامع بواسطة أحد عناصره المقدم بوصفه شيئا مطلقا. بل إن استعمالهم فكرةَ العقل الأداتي كان بدوره استعمالا تهكميا؛ لأنهم كانوا يعتقدون (خصوصا أدورنو) أن العقل الأداتي ليس عقلا بالمرة بل هو فهم يخادع نفسه عندما يتوهم أنه عقل.


زد على هذا أن أدورنو في كتابه الجدل السلبي، كان متأثرا بنيتشه أشد ما يكون التأثر. فقد كان في هذه المرحلة من فكره فاقدا كل ثقة في مفهوم إثباتي عن العقل. وكونه استطاع أن يذهب إلى أن العقل شيء قد ضاع، وأنه في مقابل ذلك كان أيضا يعي تمام الوعي عدم قدرته على مواصلة نقده للعقل الأداتي (واستلزاماته في سياق مجتمع سادته البيروقراطية وأطبقت عليه)، يقتضي أنه ظل يذكر على الأقل ما كان يرمي إليه هيجل بواسطة مفهوم "العقل". فقد كان يعرف تمام المعرفة أننا لا نستطيع امتلاك جدل إيجابي يخول لنا الحديث عن كل شيء. فما نقدر عليه هو أن نتحدث بكيفية غير مباشرة (كما اعتقد كيركجارد الذي يستوحيه أدورنو أحيانا)، أو على نحو سلبي (كما يتحدث اللاهوت السلبي عن الإله) لكي نتمسك بما كان يفهم، في وقت من الأوقات، من هذا المفهوم الملتبس للعقل.


إن فوكو وديريدا واصلا معا مشروع نيتشه على نحو أكثر جذرية مما فعل أدورنو. فقد بلغ بهما الأمر مبلغا أنكرا فيه، ولو أن ذلك كان بطريقة غير مباشرة، إمكان تحديد فضاء للعقل يمكن فيه انتقاد العقل الأداتي أو السلطة أو الذاتية. أدورنو كان يحافظ على هذا الإمكان في فكرته عن الجدل السلبي. ولهذا السبب ففوكو وديريدا مورطان، بمعنى من المعاني، فيما سأسميه بـ"التناقض الإنجازي"، لأنهما بنيا مشروعهما ( المتصل بتحليل بنى السلطة بالنسبة إلى فوكو، وذاك المتعلق بنقد الميتافيزيقا الذي واصله ديريدا بعد هايدجر) على أساس موقف نقدي مبهم؛ لكونه يرمي إلى الشمولية السلبية للحقبة الراهنة وللحداثة ولذاتية الأفراد ولنظام السلطة وإمبرياليته. لكن موقفا كهذا لا يمكنه أن يسوغ مقاييسه أو معاييره الخاصة. فالعقل بالنسبة إليهما محصور بصفة قطعية في بعد يتعارض تماما مع فكرهما. إنهما بكل بساطة يبدعان اصطلاحات جديدة لصيغتهما الخاصة في الاستدلال (وهذا يصدق أكثر على ديريدا أو على هايدجر كذلك). فهايدجر يستبدل بالاصطلاح (Denken) اصطلاح (Andenken)، لكن الأمر لا يعدو أن يكون لفظا جديدا. فهذا الإبداع للاصطلاحات الجديدة يؤدي، حسب رأيي، وظيفة تكمن في إخفاء الدوران الذي ينقلب به نقدهما الخاص ضدا حتى على مشروعية المسلمات التي يستند إليها.


وهكذا ترون أنني أروي فقط قصة تبين، في حال الإنصات إليها كلها، أن نقد ميتافيزيقا الذاتية مظهر قديم جدا، حرك أول نقاش حول الحداثة وظل، منذ نيتشه، مسكونا بهذا التناقض الإنجازي ومهددا به.



سؤال: مهما يكن اعتقاد أولئك الذين يكتبون عن الحداثة، نجدهم يذهبون إلى أننا الآن مفصولون جذريا عن الأقدمين. وهناك آخرون مثل ليو شتروس (Leo Strauss) حاولوا أن يفكروا في كيفية الاهتداء بالقدامى ضدا على الحداثة. ما رأيكم في إمكان الرجوع إلى أرسطو مثلا، أو إلى الميتافيزيقا القديمة، للبحث عن أدوات للتفكير؟ وإذا كانت الهوة الفاصلة بين الحداثة والقدماء سحيقة لا تقبل الردم، فكيف يمكن تجنب تهمة التاريخانية؟



جواب: إن أناسا مثل ليو شتروس بحثوا في أفق إحياء لحظة الفكر الميتافيزيقي. والعمل الذي قدمه ليو شتروس لا يعبر إلا عن مهارة مؤول كبير ساهم، بكيفية غير حجاجية، في بعث نصوص قديمة لأرسطو وأفلاطون. وأحسب أن المشاكل التي وضعها الأقدمون تعد بمعنى من المعاني مشاكل خالدة. غير أنه لا يبدو لي أن بإمكاننا، بعد هيجل، التفكير استنادا إلى مسلمات أفلاطون أو أرسطو أو أتباعهما.


فالميتافيزيقا تقوم على مفاهيم رئيسة كالكون (cosmos) والمادة (physis) والغاية (telos) والكمال (entelecheia)...الخ. وقد قُوضَت هذه المفاهيم منذ ديكارت وليبنيتس وهيوم؛ أي منذ أن أصبحنا ملزمين بالتمييز بين المفاهيم الوصفية والمعيارية والتقويمية. فالمفاهيم الأساس التي تنهض عليها الميتافيزيقا لا تسمح بإقامة هذه الفروق التي نحن ملزمون بإقامتها اليوم. لا يمكننا باختصار أن نعيد استثمار صيغة ميتافيزيقية في التفسير تحيل على غائية موضوعية أو على شمولية أو على مطلق...الخ. كما أنني من جانب آخر لا أومن بالاستمراريات التي يقترحها هايدجر في دروسه عن التراث الميتافيزيقي، كما لو أن المرحلة الفاصلة بين أفلاطون ونيتشه لم تشهد إلا الطريقة التشييئية نفسها التي تضع الموجود محل الوجود.


وأنا لا أعود البتة إلى تفكير أصلي، كما لا أدعو إلى استمرارية قسرية بين الفكر الميتافيزيقي الخالص والفكر الحديث. فهذا الأخير يمكن أن يوصف بأنه نمط من فلسفة الذاتية؛ ولا أظن أن هناك ضرورة تدعونا إلى الالتفات إلى التاريخانية. فنحن كلنا، والفلاسفة الفرنسيون كذلك (باشلار أو باطاي أو فوكو أو ديريدا) أو أدورنو أو أنا بدوري، نفكر كلنا استنادا إلى مسلمات بعد هيجيلية؛ أي استنادا إلى مسلمات بعد ميتافيزيقية. بيد أن هذا لا يعني أننا مسجونون في سياق تاريخي عارض أو طارئ أو محلي أو إقليمي. لماذا يجب أن نكون كذلك؟ لأنه لم يعد لدينا أي أساس ميتافيزيقي بعد أن تهاوت تلك المفاهيم الميتافيزيقية وانهارت. لم يعد لدينا أي منهج فلسفي مفضل، كما كان الحال عليه سابقا حين كان الجدل أو الحدس الفينومينولوجي منهجا متبعا. غير أننا اليوم محظوظون لامتلاكنا القدرة على الوقوف موقفا تبصريا ازاء كل أشكال الاستدلال الخطابي. فلا يمكننا باختصار أن نغض الطرف ونتخلى عن هذا الاستدلال الخطابي. ونحن، من حيث إننا فلاسفة، نعد كذلك أعضاء في المجموعة العلمية تماما كغيرنا من العلماء؛ ويتعين علينا أن نحافظ على وجودنا إزاء المباحث الأخرى حتى لا تبتلعنا، من دون أن يكون لدينا الحظ أو الحق في ادعاء أي امتياز في بلوغ الحقيقة وحدنا، بغض النظر عن الطريقة التي قد نفهم بها هذه الحقيقة. فالعلماء يحتاجون إلى نوع من الموضوعية، كما يحتاجون أيضا إلى نوع من تناسي المسلمات، وإلا فإنهم لن يحققوا أي تقدم يذكر. فلماذا لا يتعين علينا نحن الفلاسفة أن نواصل البحث الحديث في الصور والشروط الأكثر عمومية للكلام والفعل والتفكير؟ ألسنا من يملك ميزة الدفع بالتأمل أبعد مما يحتاجه العلماء عادة؟



سؤال: كيف تفهمون إذن علاقتنا بالفلسفة الكلاسيكية؟ فبإمكاننا أن لا نعيد استثمار مقولات أرسطو عندما يتعلق الأمر بتفسير ميتافيزيقي للعالم. لكن هل يصح هذا عندما يكون الأمر متصلا بالتفكير السياسي والأخلاقي ومشاكل الفعل..؟



جواب: إذا قرأتم حنا آرنت وليو شتروس وسلكتم الطريق التي تقود إلى الأخلاق النيقوماخية مثلا، أي إلى مفاهيم السياسة والممارسة (praxis) والتيخني (techne)...الخ فإنكم ستفعلون ذلك، إذا كنتم نزيهين، انطلاقا من مسلمات مختلفة عن المسلمات الخاصة بأرسطو. فهو كان يعرف ما هي بنية المدينة (polis) وما هي الأخلاق (ethos)، وكان لا يشك لحظة في قدرته على أن يفسر لأي كان وبالنسبة إلى أي زمان ما هي القوة الوحيدة للحياة الاجتماعية أو السياسية التي يمكن فيها لكل فرد يريد أن يصبح كائنا بشريا أن يحقق ذلك. أما أنتم فليس بإمكانكم أن تفعلوا ذلك. وإذا حصل أن توقفتم عن ادعاء المعرفة بالصورة الوحيدة للمدينة أو الأخلاق، تعين عليكم ابتكار تمثيل مختلف عن المفاهيم الأرسطية. ففي كتاب دروس في فلسفة كانط السياسية، تقترح علينا حنا آرنت الفرونيسيس (الروية) صيغة استدلالية في المسائل العملية. وتحدد هذه الصيغة بأنها الاعتناق الدوري لمنظور كل واحد من أولئك الذين يمكنهم أن يتأثروا بالاقترانات العملية لفعل من الأفعال. وهذا ـ لعمري ـ ليس إلا طريقة مختلفة لتفسير التأويل الحديث للمسألة الأخلاقية، ولا يتعلق الأمر بأرسطو أبدا. فاللجوء إلى أرسطو أو أفلاطون لا يعني البتة أننا نتملكهما تملكا كليا كما كانا، بل نتملكهما بالمعنى الجاداميري (نسبة إلى جادامير)، انطلاقا من وضعنا الهيرمينوطيقي ونحن نعلم علم اليقين أن مقدماتنا تختلف كثيرا عن مقدماتهما.



سؤال: لكن هل يصح في نظركم تملك أرسطو، حتى بالمعنى الذي حددتموه؟



جواب: لقد أحلت في كتابي الأول عن الفضاء العمومي على حنا آرنت التي كانت تعنيني كثيرا آنذاك. فاهتمامي الأول في مطلع الستينات كان منصبا على معرفة الكيفية التي يمكن أن نخلص بها المنظور الأرسطي حول الطبيعة العملية من سياق تشاخصي واجتماعي، ونجعله يقف في مستوى واحد مع الخطاب السياسي الحديث. وأعني هنا خطاب ماكيافللي وهوبز وروسو. فكيف يمكن عقد الصلح، ليس فقط بين الطريقة العلمية الحديثة، بل بين الواقع الاجتماعي المعاصر (الذي يندرج بالنسبة إلى الحداثة في السوق تماما كاندراجه في النسق القانوني التعاقدي الحديث) وبين الرؤى الكلاسيكية حول الطبيعة العملية التي تتميز بها شؤون البشر؟


فأنا لا أتغاضى عن التأويل، لكنني أظن أننا لن نسمح لأنفسنا بأن نكون سُذَّجا فنقفز على شرطنا الحديث لنجد أنفسنا في مستوى واحد مع القدماء. يجب إذن أن نتحلى بالنزاهة ونعلن أننا لا يمكننا التظاهر بتبني مسلمات لا نستطيع الاعتقاد فيها ولا العيش بها.


لقد كانت حنا آرنت واقعة بين أمرين: فمن جهة كانت تتوق إلى العودة إلى النظرية السياسية التقليدية، لكنها كانت، من جهة أخرى، واعية المشاكل الحديثة. وفي رأيي كانت حنا في كتابها عن الثورتين (الفرنسية والأمريكية) منقادة شيئا ما بتعاطفها الأحادي مع سياسة القدماء، ومعارضتها للمجتمع الحديث. وقد تبنت هنا في هذا الكتاب اختيارا لم يكن، حقيقة، في متناولها. فنحن لا نستطيع الخروج من المجتمع الحديث سواء أكنا نحبه أم لا. لا يمكننا غض الطرف عن رؤى الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، منذ آدم سميث، التي تدور حول الفكرة القاضية بأن المجتمعات الحديثة ترتبط في مجموعها (على نحو جزئي وأساسي، وإن لم يكن ذلك بكيفية حصرية) بعلاقات يمكن نعتها بأنها نسقية: علاقات السوق والإدارة والأوضاع التي ينظمها القانون. فلا يمكن، والحالة هذه، أن نعثر في البنية الحديثة على صورة مؤمثلة للمدينة (polis). ولكن، للأسف، هذا ما فعلته جزئيا حنا آرنت حينما قارنت الثورة الأمريكية بالثورة الفرنسية. فالثورة الأمريكية جرت قبل كل شيء في بلد المزارعين الصغار الرأسماليين والتجار الصغار. وبلد كهذا لا يمكن رده بسهولة إلى نموذج المدينة القديم. وأعتقد أن حنا لم تقدر هذه النقطة حق قدرها. فقد كان هيجل أشد وضوحا منها؛ ففكرته عن المجتمع المدني أكثر حداثة من الفهم الذي تقدمه هي.


فامتلاك نظرية جيدة يعني كذلك امتلاك نظرية "مطلعة" من جهة الوصف؛ إذ لا فائدة ترجى من صوغ نظرية معيارية ومواجهتها بواقع مختلف كليا. فعلينا أن نربط التوجهات المعيارية بما ينجم عن هذا الواقع نفسه دون أن نفترض نهائيا أن هناك مادة وحيدة للتاريخ. ويمكننا أن نحلل النزعات المتناقضة في الوضع الراهن وفي المجتمعات المعاصرة بحيث نشجع بكيفية عملية المجتمعات التي نعتقد أن بإمكانها ومن حقها أن تُشَجَّع دون تعسف. ويمكن في الواقع أن نسوغ ذلك بالوقوف في وجه الهيمنة المتوسعة للبيروقراطية، والتوحيد الكبير للحياة وتكثيفها، والأوامر النسقية للاقتصاد الرأسمالي. وإذا شئت استعمال اصطلاحاتي الخاصة قلت: يجب أن نشجع بقوة عوالم الحياة المهيكلة بكيفية تواصلية.



سؤال: لقد سعيتم في نظريتكم عن الفعل التواصلي بين الموقف المعياري والموقف الوصفي، إلى الاتكاء على البنية الأنثروبولوجية (حين أحلتم على بياجيه ودوركايم). فكيف يمكن للباحث أن يولد نظرية معيارية انطلاقا من وصف؟



جواب: ألسنا هنا أمام المغالطة التطبيعية؟ إن هذه الصعوبة تمثل بالضبط السبب الذي يدفعني إلى البحث عن متابعة التحليل المتعالي ولو على نحو يختلف قليلا عما هو متعارف عليه؛ أي أن الأمر لا يتعلق بتحليل شروط إمكان المعرفة بالمعنى الكانطي أو الهوسيرلي، بل بتحليل للشروط الضرورية للفهم. فإذا نظرنا عن كثب إلى الشروط التي تكون ضرورية لكي نتفاهم عن شيء في العالم، فإننا نكتشف شيئا مثيرا للغاية، أي نكتشف افتراضات تداولية ذات محتوى معياري لا يمكن تلافيها أو التغاضي عنها.


فبمجرد ما نقبل الانخراط في الكلام، وقبل الدخول في أي صورة من صور الحجاج، يتعين علينا أن نفترض بكيفية متبادلة أننا مسؤولون. وهذا يصدق أيضا على الخطاب اليومي. وحتى لا نستطرد في ذكر أمثلة، يمكن أن نكتفي بواحد فقط. فإذا أنت قلت شيئا غامضا أو قمت بفعل يميل شيئا ما إلى الغرابة، فإن من حقي أن أسألك: "ماذا فعلت؟"، أو "ماذا قلت؟"، وأنا أفترض أن بمقدورك منحي تفسيرا صادقا يبين ما إذا كنت على صواب أو على خطأ. فهذا الافتراض القاضي بأنك لست غشاشا ولا ممسوسا بالذُهان ولا سكرانا لا يمكنك أن لا تأخذه في الحسبان. فتكون هنا متأكدا من أنني لن أعاملك بوصفك موضوعا أو شيئا يمكن التلاعب به، أو أنني عالم نفس يريد أن يلاحظ، بل سأعاملك بوصفك مسؤولا. يمكنني بالتأكيد أن أغير رأيي وأقف موقفا آخر أكثر حذرا واستراتيجية على نحو خفي أو ظاهر. لكن الموقف الأول يكون أساسيا أكثر من غيره، ويتطابق مع استعمال خاص باللغة. لماذا يتعلق الأمر هنا باستعمال خاص باللغة؟ لأن وسيلة اللغة وغاية (telos) الفهم تترابطان من الداخل لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى كما نفصل عادة بين الوسائل والغايات. فلا يمكنكم أن تفسروا ما اللغة من دون اللجوء إلى فكرة الفهم. وقد أوضح فيتجنشتاين هذه الحجة. ويتعلق الأمر هنا بضرورة متعالية ضعيفة، أي أنكم لا تستطيعون رفض الصدور عن بعض الافتراضات.


فالفعل التواصلي يقوم على الربط بين خطط مختلف الفاعلين باستعمال القوة المحفزة عقلانيا التي تستلزمها أفعال اللغة الإنجازية. زد على ذلك أن الفعل التواصلي لا يقبل أن يعوض بممارسات من جنس آخر مهما يكن السياق. فإذا كنا نربي على سبيل المثال أبناءنا أو ندرس طلابنا، أو كنا نسعى إلى إنعاش الروابط الاجتماعية بكيفية مشتركة، فإننا لا نستطيع رفض الانخراط في هذه الممارسة التواصلية. وهذا يعني أن إجراء الإدماج الاجتماعي وتحقيق الاتصال الثقافي والتكييف الاجتماعي أمور لا تتم إلا استنادا إلى الفعل التواصلي.



سؤال: هل توافقون على أن الديمقراطيات المعاصرة في حاجة إلى حد أدنى من الاختلاف (وليس إلى الإجماع فقط)، وأن سمة الديمقراطية قائمة في إقرار الاختلاف أكثر مما هي قائمة في نجاح الإجماع؟



جواب: بالطبع، فإذا كان هناك من امتياز أنثروبولوجي فإنه قائم في القدرة على قول: لا. وقد بين كل من هيردير وهيجل وفرويد، وأكتفي هنا بنماذج من ألمانيا، أن الحصول على إجماع معين لا يتم إلا استنادا إلى هذه القدرة على قول: لا. فالإجماع ليس شيئا إثباتيا، بل إنه نفي مزدوج. فقط ينبغي لنا أن نفترض أن العوالم المعيشة التي نتحرك فيها تتراكب، جزئيا على الأقل، بكيفية يكون فيها بمستطاعنا الانطلاق من افتراضات ضمنية متقاسمة على نحو تذاوتي. فالفعل التواصلي لا يمكنه أن يتحرك حرا طليقا في الفراغ. إنه يحتاج إلى عالم معيش يكون خلفية له (وهذا ما بينتُه في المجلد الثاني من كتابي نظرية الفعل التواصلي). فإذا كان هذا الضمني غائبا بصفة كلية، فإننا لن نلاقي إلا أفعالا استراتيجية. لكننا في المجتمعات الحديثة، وهذا أمر محمود في نظري، لدينا حشد من العوالم المعيشة المختلفة، وكل كينونة فردية تعد فريدة في مشروعها. والفردانية والكونية وجهان لعملة واحدة. وهذا أمر يعرفه كل واحد منذ هيجل. فلا يمكن أن تكون لديكم فردانية دون كونية معيارية. الشرط الوحيد هو أن لا نخلط الكونية المعيارية بمسلسل التسوية على النحو الذي يفهمه فوكو. فيجب أن لا نضع الكونية الأخلاقية في السلة نفسها مع الإمبريالية؛ ذلكم لأن الإمبريالية أو المركزية الإثنية تؤشر على الرفض أو العجز عن اتخاذ منظور أخلاقي. فليس هناك أبدا إفراط في الكونية، ولكن ليس هناك ما يكفي منها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق