28‏/12‏/2006

حوار حول كتاب اللغة والفكر وفلسفة الذهن


حوار مع الأستاذ مصطفى الحداد حول كتابه

اللغة والفكر وفلسفة الذهن. منشورات جمعية الأعمال الاجتماعية والثقافية لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. المغرب. 1995.

ملحق جريدة الجسر الثقافي، الصفحة 2، العدد السادس والثلاثون سبتمبر 1996.

بمناسبة صدور هذا الكتاب التقينا بالأستاذ مصطفى الحداد، فكان لنا معه الحوار التالي:

سؤال: الأستاذ مصطفى الحداد، نود في البداية أن نسألك سؤالا، ما هو إشكالك المركزي في الكتاب؟

جواب: هناك في الكتاب إشكالان مركزيان: الأول معرفي صرف، والثاني منهجي، أو سجالي على الأصح. ففيما يخص الإشكال المعرفي وضعته في مقدمة الكتاب على النحو الآتي: "ما طبيعة الفكر؟". لكن على الرغم من وضوح هذه الصيغة من الجهة اللغوية، بدا لي أن العمل أو البحث انطلاقا منها يقود الباحث، أيا كان، إلى الوقوع في مزالق شتى؛ لأن السعي إلى معالجة إشكال موضوع ضمن هذه الحدود العامة يستلزم استقراء واستقصاء كل ما قيل عن الفكر على الأقل منذ أفلاطون. لم يكن غرضي في الكتاب إجراء بحث وَفق هذا النهج الشمولي. ولا أعتقد أن أحدا يستطيع اليوم سلوك هذا النهج في بحث أي موضوع. لذلك عملت على تقييد هذا الإشكال من الجهة التاريخية، فأعدت صوغة على النحو الآتي: "ما طبيعة الفكر اليوم؟" وإذا كانت هذه الصيغة بدورها تثير مشاكل لا تقل عسرا (كالمشاكل المتصلة بالاختلاف القائم بين تقاليد البحث التي تعالج سؤال الفكر اليوم) فإنها تمتاز عن الصيغة العامة الأولى لكونها تُنسِّب سؤال الفكر وتحشره في التاريخ، أي تجعل الباحث لا ينظر إلى "الفكر" بوصفه شيئا قائما أو مستقرا في خارج مطلق، بل بوصفه يحيل على مجموع الأقوال التي قيلت عنه. لهذا السبب حصرت إشكال الكتاب ضمن نمط خاص من القول على الفكر هو النمط الذي الذي انتجته النزعة الذهنية التي يصدر عنها (ما سماه بوتنم) معهد الماساشوسيتس بقيادة أحد أبرز مفكري هذا القرن نعوم تشومسكي.

أما الإشكال الثاني الذي وسمته بالمنهجي أو السجالي فيتصل أساسا بطريقة عرض هذا النمط الخاص من القول. فهدفي لم يكن مجرد إطلاع القارئ على ما يقوله أقطاب النزعة الذهنية لمعهد الماساشوسيتس. فالاقتصارُ على تحقيق هدف كهذا لم يكن له أدنى اعتبار لدي. وهذا أمر راجع إلى أن القارئ، كما تصورته في الكتاب وافترضته، ليس شخصا خالي الذهن، وإنما شخص مطلع من خلال الأدبيات اللسانية والنفسية والفلسفية على معظم أطروحات المعهد. فالهدف الذي كنت أسعى في تحقيقه- ولا أعتقد أنني نجحت في تحقيقه- هو وضع القارئ في السياق الفلسفي العام الذي تبلورت فيه أطروحات المعهد والكشف عن التصنيفات الأساسية التي تحيل عليها هذه الأطروحات. ولم أكن ألتفت في الكتاب إلى الأفكار، بل إلى الكيفية التي تُبنى بها الأفكار والكيفية التي يُستدَلُّ بها على الأفكار. بل إنني خصصت فصلا كاملا لرصد الكيفية التي تُدحَض بها الأفكار. وجعلتُ هذا الفصل – وهو الفصل الأخير- دائرا كله على نسف أطروحات المعهد وحججه، استنادا إلى أطروحات وحجج أخرى لا تقل وجاهة وورودا (أطروحات فيتجنشتاين وسورل وبوتنم).

ويمكن القول بصفة عامة، لم يكن هدفي في الكتاب 'التبشير' بموقف أحد أو الجزم بأفضلية تصور، بل كان هدفي التسرب إلى الفضاء الاستدلالي الذي نسجه العقل الغربي للإمساك، من خلال لحظة مواجهة، ببعض ملامح هذه الفضاء والعودة بنص مكتوب بلغة العرب الجميلة.

سؤال: نعتقد أن هناك فرقا كبيرا بين فهم المدرسة الأمريكية لأفلاطون وديكارت وبين فهم المدرسة الأوربية، على الرغم من الفرق الحاصل في هذا الباب بين المفكرين الألمان المعاصرين والفرنسيين. إذا كنتم تشاطروننا هذا الرأي، فما هي أسباب وأسس هذا الفرق؟

جواب: هذا أمر صحيح، وإن كنتُ حذرا مما قد يُفهم من "مدرسة". وأفضل الحديث عن تقاليد البحث بدل الحديث عن مدارس. أعود لأقول إن أسباب الاختلاف كثيرة ومتباينة؛ لكنني أريد هنا أن ألفت الانتباه إلى ملاحظة أساسية تخص علاقة أفلاطون بمن جاؤوا بعده إلى يوم الناس هذا. وهذا التعميم صحيح إلى حد بعيد. فجل الإشكالات التي يدور حولها النقاش في الفكر الآن، سواء أتعلق الأمر بالعلم أم بالأخلاق (بما في ذلك التربية والسياسة والقانون) أم بالفن، وردت على نحو من الأنحاء في النص الأفلاطوني. وعلى الرغم من أن الحلول التي اقترحت لهذه الإشكالات تباينت حسب المراحل التاريخية وحسب تقاليد البحث المختلفة، فإننا مع ذلك نعثر على "شيء" أفلاطوني قائم في كل هذه الحلول. ونقصد بهذا الشيء استعمالَ المفهوم. فاللجوء إلى المفهوم هو الذي يجعل الفكر بعد أفلاطون شأنا أفلاطونيا صرفا.

لقد أثرتُ هذه الملاحظة لأشير إلى نوع من الارتباط القائم بين السابق واللاحق في الفكر. وهذا الضرب من الارتباط شمولي، يتطلب الكثير من المرونة أو الرأفة في التأويل لكي يحصل استيعابه. وهذا الارتباط لا يمكن أن يُنكره إلا شخص جاحد أو قليل الاطلاع.

هناك ضرب آخر من الارتباط وهو الذي يتم بطريق القراءة النصية التي غالبا ما تكون قطاعية، كأن يضع السائل أسئلة مثل: ما المعرفة عند أفلاطون؟ أو ما الرأي عند أفلاطون؟ أو ما التربية عند أفلاطون؟ ...الخ. فلكي يعرف السائل الأجوبة، يتعين عليه أن يفحص عن نصوص أفلاطون المتصلة بهذه الأسئلة جملة جملة. وفي هذا الفحص تحصل المشاكل، لأن ذهن طالب الجواب ليس صفحة بيضاء، وإنما نسيج من التصورات والمسبقات منها ما يكون ملائما لفهم النص، ومنها ما يكون ملائما لتحريفه. وهناك مراتب في الفهم، كما أن هناك مراتبَ في التحريف. وعندما نتحدث عن الفهم والتحريف بحدود المراتب، فإننا نرمي بذلك إلى إدخال بُعد النسبية في عملية الفهم، سواء أكان هذا الفهم جيدا أم فهما محرفا. وهذا يعني أننا عندما نقرأ نص أفلاطون أو نص ديكارت أو أي نص آخر ينتمي إلى التراث فإن الأفق الذي نفكر منه لا يكون عاكسا مضمون الماضي فحسب بل يكون عاكسا أيضا حساسية العصر الذي نعيش فيه ومشروع الحياة الذي نلتزم به.

وفي هذا السياق العام يمكن القول إن تشومسكي يقرأ أفلاطون وديكارت وغيرهما من المفكرين الذين ينتمون إلى الماضي انطلاقا من تصورات ومسبقات متصلة اتصالا وثيقا بالبرنامج اللساني الذي سطره في منتصف الخمسينات ومازال يطوره إلى الآن. فالاختلافات التي تنشأ بين تقاليد البحث في فهم نصوص الماضي عموما راجعة في جزء كبير منها إلى الاختلافات القائمة بين برامج البحث التي تصدر عنها هذه التقاليد. فكلما اختلفت التقاليد التي تلتزم بها تقاليد البحث المتباينة اختلفت التصورات والمسبقات، واختلفت تبعا لها تآويل نصوص الماضي.

سؤال: رجوعا إلى ما انتهيت إليه في كتابك. هل ما ورد في خاتمة الكتاب على شكل صرخة مدوية يمثل احتجاجا على النحو الذي يسير عليه الفكر الأمريكي خصوصا؟

جواب: طبعا لا؛ لأن النحو الذي يسير عليه النمط من الفكر الذي درسته ليس خاصا بأمريكا وحدها. فالنزعة 'العلموية' المتطرفة توجد ممثلة بنسب متفاوتة في كل ربوع الكوكب الذي نعيش فيه وفي كل الميادين. وقد حاولت في خاتمة الكتاب أن أنبه القارئ إلى انعكاسات المواقف التي ناقشتها في متن الكتاب على تصورنا للإنسان ولمحمولاته. وحاولت في هذه الخاتمة أيضا أن أبين الحاجة إلى صوغ فرضية جديدة حول دور المثقف في عالم تغير وجهه بفعل الثورة المهولة في المعلوميات ووسائل الاتصال والانتاج والمراقبة والتطبيع والاختراق.

سؤال: نود أن نطرح عليك سؤالا لا علاقة له بكتابك بصفة مباشرة، كيف تفسر انتحار الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (G. Deleuze) مؤخرا؟

جواب: إن الانتحار من حيث إنه فعل "إرادي"، يضع به المرء حدا لحياته، ليس له دلالة أخرى غير ما يشير إليه تعريفه. لكننا حين نُدخل في الحسبان الشخص المنتحر، ويكون هذا الشخص هو الفيلسوف ذائع الصيت: جيل دولوز، فإن الاكتفاء بالتعريف العادي للانتحار يغدو أمرا مُخلاًّ.

إن دولوز أنتج نصوصا موغلة في التعقيد، ونحت مفاهيم بمعية رفيقه غاتاري بالغة الدقة والعمق. إنه فيلسوف تصدى لصناعة المفاهيم ونحتها بعد أن أمضى السنين والسنين باحثا يقظا في تاريخ الفلسفة. ويشهد له على ذلك ما قدمه من دراسات، لفت إليه الانتباه منذ الخمسينات، عن سبينوزا وهيوم وكانط ونيتشه وبيرغسون وبروست وآخرين. وحينما اقترن برفيقه غاتاري، وهو محلل نفساني ذو دربة واطلاع واسعين، وكان ذلك في سنة 1969، راحا معا يحللان حقبة الحداثة بوصفها حقبة تاريخية لا تضاهى في إنتاج أفاعيل الهيمنة وأسبابها عبر خطابات ومؤسسات تطبيعية تخترق كافة مظاهر الوجود الاجتماعي.

يمكن القول: إن انتحار دولوز هو كتابه الأخير إلى القارئ. إنه كتاب غير ورقي، سيبقى لوقت، قد يطول، أصلا يراقب تأويل كتابات دولوز الورقية. وما دمنا قد تحدثنا عن أفلاطون قبل قليل، فإننا نقول: لقد بنى أفلاطون نسقه على النسخ الجيدة التي تقود، دون خلط أو تصدع، إلى مملكة الأفكار؛ وألقى بالنسخ الرديئة في مملكة السراب. فانتحار دولوز، من المنظور الأفلاطوني، سيكون نسخة "رديئة" للموت. إنه فعل مذهل يُحدِث خلطا أنطلوجيا في صيرورة الانتقال من الحياة إلى الموت، ويسبب تصدعا عميقا في عالم الصور المثالية الأفلاطوني. وباختصار يمكن القول: إن أفلاطون أقام نسقه على العفة والتشابه والدوام والانسجام والهوية. أما دولوز (وطائفة من زملائه مثل فوكو وليوطار...الخ) فقد فكك النسق وناضل من أجل فكر مبني على الرغبة والاختلاف واللحظية والتناقض واللاهوية. فانتحاره إذن هو نوع من الاحتفال بالموت في قلب الحياة، واستراتيجية أخيرة لإعلان العصيان الفلسفي أمام الأنساق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق