يذهب رورتي* في معرض رصده للتصور الذي طوره ديفدسن عن اللغة إلى أن هذا الأخير لا يرى في اللغة مستوى ثالثا قائما بين الذات والموضوع، كما لا يرى فيها وسيلة أو وسيطا نعتمده في بناء تمثيلات أو صور عن الواقع. اللغة حسب ديفدسن، كما يذهب إلى ذلك رورتي، مكون من مكونات سلوك الكائنات البشرية. بهذا المعنى تكون فاعلية إنتاج الأقوال جزءا لا يتجزأ من الأشياء التي يقوم بها الناس لمواجهة محيطهم والتفاعل معه.
لا يرى رورتي حرجا في القبول بتصور ديوي للغة من حيث إنها أداة نستخدمها لمواجهة الواقع؛ لكننا يجب، في نظر رورتي، أن نحتاط حتى لا ننقاد إلى فصل الأداة عن مستعملها، ونشرع بعد ذلك في التساؤل عن تلاؤمها مع ما نصبو إليه من أهداف، كما نفعل ذلك عادة مع كل أداة مفصولة عنا. فصل اللغة (بوصفها أداة) عنا أمر مستحيل في نظر ديفدسن كما يقرأه رورتي.
إن الفصل يعني أن لنا طريقا في متناولنا نسلكه فنخرج من لغتنا ثم نقارنها بعد ذلك بشيء آخر. وهذا ـ لعمري ـ أمر لا نستطيع أن نتصور حصوله؛ لأنه ليس هناك إمكان يسمح بالتفكير في العالم أو في الأهداف التي نصبوا إليها من دون أن نستعمل لغتنا. حقا، إن بإمكاننا أن نستعمل لغتنا لننتقدها أو لنوسعها، ونكون في هذه الحالة كمن يمرن بدنه لكي يزداد قوة ويتطور، لكننا لا نستطيع، كما يقول رورتي، أن نخلع عنا لغتنا خلعا، ونأخذها ككل، ونضعها أمامنا، ثم نشرع في مقارنتها أو موازنتها بشيء آخر نزعم أنها تنطبق عليه أو تتطابق معه أو تمثل وسيلة لبلوغه والوصول إليه. بعبارة أوضح لا نستطيع أن نخلع عنا جلدنا ونغادره – أي لا نستطيع أن نغادر تقاليدنا اللغوية وغير اللغوية التي نُكوِّن فيها أفكارنا ونبدع ضمن حدودها نقدنا الذاتي- ونقارن أنفسنا بشيء آخر يوجد في خارج مطلق. فهذه الرغبة الأفلاطونية في الهروب من التناهي، في المكان والزمان، والفرار من المظاهر العارضة والاعتيادية للحياة، هي التي حركت في الناس تلك الرغبة الجامحة في التعالي بحثا عن المطلق.
* Rorty, Richard (1982) Consequences of pragmatism (Essays:1972-1982). University of Minnesota Press. pp. xviii- xix.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق