... لننظر في الصلة القائمة بين القط طوم في أفلام الكرتون الشهيرة
وسقوط الرئيس التونسي بن علي. يذكر جيجيك أن لدى المحلل النفسي جاك لاكان رأيا يقضي
بأن "المعرفة قائمة في ما هو واقعي". وقد يلوح للوهلة الأولى أن هذا
الكلام يدخل في باب السفسطة البعيدة عن الواقع الفعلي الذي نعرفه أو ألفناه في
تجربتنا العادية [...]. وبالفعل فالفكرة التي تقول إن الطبيعة تعرف قوانينها وتسلك
تبعا لها، كما لو أن تفاحة نيوطن الشهيرة لم تسقط إلا لأنها تعرف قانون الجاذبية،
تبدو فكرة غريبة حقا. لكن جيجيك يرى أن هذه الفكرة حتى وإن بدت شاذة وغريبة وغير
متماسكة فإننا نستغرب من كونها تتردد باستمرار وبكيفية مطردة في أفلام الكرتون
التي تفتننا. فالقط طوم المتميز من الغيظ، الذي يطارد بوحشية الفأر جيري، لا ينتبه
إلى الهوة السحيقة أمامه. إنه لا ينتبه إليها حتى عندما تكف الأرض عن أن تكون تحت
أقدامه. يواصل غير مبال مطاردته للفأر الماكر من دون أن يقع. في هذه اللحظة
بالتحديد التي يكون فيها القط معلقا بين السماء والأرض يكون الواقعي قد نسي أي
قانون سيتبع: قانون سقوط الأجسام أم قانون الطيران. لا يسقط القط إلا حين ينظر
تحته ويعرف أنه قد خلف الأرض وراء ظهره. آنذاك يتذكر الواقعي قانونه ويشرع في
اتباعه، فيبدأ القط رحلة السقوط..
متى سقط بن علي؟ إنه كان بدوره معلقا
بين السماء والأرض قبل أن يسقط سقطته الأخيرة التي نقلتها وسائل الإعلام وسجلها
التاريخ. لقد كفت الأرض عن أن تكون تحت أقدامه منذ اللحظة التي أحرق فيها
البوعزيزي نفسه، أو ربما قبل هذا بوقت طويل أو قصير بسبب سياساته التسلطية. لكن
السقوط الذي سجله التاريخ وشاهدناه بالعين المجردة لم يقع إلا حين أعلن في خطابه
الشهير قائلا: 'فهمتكم، إيه نعم، فهمتكم!'، أي لم يسقط السقوط المدوي مثل طوم إلا
حين عرف كما عرف طوم أن الأمر قد انتهى وأن رحلة السقوط يجب أن تبدأ (يصدق هذا على
مبارك أيضا، الذي انتقلت خطاباته أثناء الثورة قبل سقوطه من الغلظة المبنية على
الجهل إلى المعرفة شيئا فشيئا، حتى اهتدى إلى أنه لم يكن 'ينتوي' الترشح لمنصب
الرئاسة ! وهو أمر لم يكن معلوما في السابق).
فحين تحصل المعرفة ويصبح لدى الكائن فائضُ قيمةٍ معرفيٌّ، آنذاك يلفي الكائن نفسه
مضطرا إلى أن يؤدي عن هذا الفائض ضريبةً من صميم كيانه، كأن يَلقى حتفه مثلا أو
يفقد سلطته..الخ. يقول
جيجيك: "إننا نصادف في 'الواقع النفسي' سلسلة من الكيانات لا يكون لها وجود
حقيقي إلا بسبب خطأ معين في كيفية تعرف ذلك الواقع وإدراكه (misrecognition)، كأن لا تكون الذات قد
عرفت شيئا معينا، أو أن يكون شيء ما قد ظل خارج نطاق الكلام ولم يقع إدراجه في
العالم الرمزي. لكن بمجرد ما تتوصل الذات إلى 'معرفة الكثير'، فإنها تؤدي الثمن عن
هذه الكثرة وهذا الفائض من المعرفة من صميم نفسها ومن كيانها".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق