11‏/03‏/2014

معرفة بلا تفكير


تصدت الفلسفة الحديثة لألغاز كثيرة. هذا الكتاب الجماعي يتناول بالدرس والتحليل أهم هذه الألغاز وأشدها صعوبة، ويتعلق بتفسير الكيفية التي تستطيع بها الكائنات البشرية أن تتفاعل مع العالم من دون أن تكون في الغالب الأعم في حاجة إلى إعمال فكرها (هذا الأمر يصدق على جميع الناس في أحوال كثيرة، لكن يمكنكم أن تلاحظوه في أجلى صوره لدى الرياضيين مثلا: تحركات اللاعب ميسي وسط الزحام في اللحظات الأخيرة قبل تسجيل الإصابة). كيف يتأتى للاعتقادات والأفكار والرغبات أن تحضر إلى ذهننا قبل أن يقع إفراغها في الكلمات؟ وكيف يتسنى للأفعال التي تصدر عنا أن تأخذ مجراها قبل أن يقع إعلام الذات بصدورها؟ وكيف يتأتى للمحتويات والبواعث الذهنية على الفعل أن تتولد من دون مفاهيم في العقل تُذكر أو تمثيلات في الذهن تُحسب؟ الاتجاهات الرائجة اليوم في بحث هذه الأمور ذات الصلة بالسلوك البشري ترتكز على الشعور وعلى التفكير، وتغض الطرف عن كل ما لا يمكن أن يَخضع للآليات العقلانية. فهي اتجاهات تسلم بأن الأفكار تقبل المراقبة الشعورية، وأن الأفعال لا تصدر إلا عن رَوِية، وأن السلوك ينتج في أساسه عن ضرب من التخطيط القضوي. فهي اتجاهات لا تستطيع لهذه الأسباب مجتمعة أن تعرض رصدا ملائما لما هو تَلْقائي ومَهاري وضمني وغير شعوري وغير تصوري.


يحاول المشاركون في هذا الكتاب أن يقتحموا هذا اللغز ويفسروا بعض جوانبه باللجوء إلى مفهوم رئيس هو مفهوم الخلفية (Background). إنهم يرون أن الخلفية هي الهادي الضمني واللامفكر فيه للإنسان في تعامله مع العالم، الهادي الذي يرسم مجالا لأفعالنا الممكنة قبل أن تعرف 'الذات' ما عليها أن تفعل وكيف يتعين عليها أن تفعله، أي قبل أن يتسنى لها أن تعيَ فعلها الخاص وهي تفعله. الفكرة الرئيسة التي تفضي بها الخلفية في هذا الكتاب هي أننا نستطيع أن نقوم بأكثر مما نعرفه بكيفية صريحة؛ وأن ما نعرفه يتعدى كثيرا ما يمكن أن يعالجَه شعورنا ولغتنا ونتوصل إليه بإعمال رَويتنا العقلانية. أغلب الباحثين المشاركين في الكتاب يستوحون الإطار الفلسفي الذي طوره جون سورل في كتابه الشهير عن القصدية 1983، والإطار الفلسفي الناقد لأطروحات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها في العلم المعرفي الذي طوره هيوبير دريفيوس (المقال الافتتاحي للكتاب كتبه دريفيوس نفسه). الخلفية عند هذا الأخير تتميز بالشمول (holistic) وتبقى متوارية محجوبة. بيد أنها ليست ركاما من الحالات القصدية (أي المعرفية)، بعضها مستقل عن بعض كما ذهب إلى ذلك هوسيرل مثلا؛ بل هي 'جو' كما ذهب هايدغر أو 'حقل قُوى' كما ذكر بورديو. إنها حسب دريفيوس لا تعد شرطا للنشاط الماهر الذي يصدر عن جسمنا فقط، بل تعد شرطا لتفكيرنا في العالم من حولنا أيضا.


Zdravko Radman (Editor). Knowing without Thinking: Mind, Action, Cognition and the Phenomenon of the Background (New Directions in Philosophy and Cognitive Science). Palgrave Macmillan ( 2012). 280 pages.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق