25‏/06‏/2006

الحداثة والأصالة

الحداثة والأصالة

ألقي هذا النص في فقرة "فسحة رأي" بالإذاعة الوطنية المغربية.

كانت المجتمعات السابقة على الحداثة تعيد إنتاج نظامها الاجتماعي استنادا إلى نمط أو روح جماعي في الحياة. فقد كان الفرد في هذه المجتمعات يُنشَّـأُ اجتماعيا، ليصبح ذا هوية شخصية متميزة تقترن بدور اجتماعي مخصوص، يكمل من جهته أدوارا اجتماعية أخرى، ليَنشَأَ عن ذلك كله نسق اجتماعي عام يتمتع بتجانس نسبي يسمح باستمرار الحياة واتصال وجودها. وكانت هذه الخلفية الاجتماعية توازي البنيات الميتافيزيقيةَ التي تحكم صيغ الفلسفة السياسية التقليدية. فهذا التنظيم الاجتماعي المنضود والتراتبي هو الذي مكن تلك الفلسفةَ من الحديث عن لائحة الفضائل والقيم والشيم الكلية والثابتة التي لا يأتي عليها التغيير. إنها حددت المبادئ التي تجعل العلاقات بين الأفراد علاقات أخلاقيةً في ذاتها من جهة، ووظيفية فيما يخص ضمانها للاستقرار الاجتماعي من جهة أخرى أيضا. لكن هذا التلاحم بين النظرية والممارسة تفكك وشرع في الانهيار عند ظهور الصور الحديثة للمجتمع وبروز البنيات الفكرية التي تطابق هذه الصور وتوازيها. فالإعلاء من شأن الحرية الفردية وإعمال العقل وانتشار التعليم والحث على قيم المواطنة والمشاركة في الحياة العامة... إلى غير ذلك من القيم الجديدة، كلها أمور أظهرت الحاجة إلى مناهج جديدة لتوليد النظام الاجتماعي وإعادة إنتاجه. وهذه المناهج لا يمكن العثور عليها أو اشتقاقها من تصانيف الفلسفة السياسية السابقة على الحداثة. ولعل هذا هو الذي يجعل بعض الناس يرون في مسلسل التحديث المتعثر الذي تعيشه بلداننا مسلسلا للانحطاط والتدهور؛ ويدافعون عن التمسك بأصالتنا وجذورنا. إنه لخوف مشروع، لكن البقاء عند مستوى الخوف والمناداة بالتمسك بالأصالة لا يحل أي مشكل. فمسلسل التحديث جار على قدم وساق لا يمكن لأحد أن يوقفه، الخوف كل الخوف هو أن لا يكون لنا عليه سلطان. ويجب أن لا ننسى أن المجتمعات الحديثة كلَّها عاشت في فترات تحديثها الأولى ما نعيشه نحن اليوم. لكن هذه المجتمعات أدركت، بعد طول معاناة وتأمل، أن أصالتَها وجذورَها لا توجد في الماضي الذي كف عن الوجود، بل في المستقبل المشرق الذي تستطيع أن تبنيَه، لقد أدركت أن جذورها أمامها لا خلفها. لن ننجح في الإقدام على الحداثة إلا إذا أجرينا هذا القلب في تصورنا لمفهومي الأصالة والجذور. وقد أصبح هذا القلب اليوم امتحانا للمواطنة أكثر منه إشكالا لعلم الاجتماع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق