الأخ: ر.ح
تحية وبعد،
إن كتاب ويلر (Michael Wheeler) المعنون (Reconstructing the cognitive world ) الصادر سنة 2005 الذي أشرت إليه في رسالتك تطلب رأيي فيه كتاب مهم جدا بالفعل كما قلتَ، وصعب للغاية. وقد كنت قرأته سابقا بكيفية غير متأنية على الرغم من إدراكي لأهميته. وكنت قد سجلت حين قرأته جملة من الملاحظات العامة، أذكر لك أهمها:
إنه كتاب يسعى فيه صاحبه إلى الابتعاد عن التقليد الذي ترسخ في العلم المعرفي بشقه الكلاسيكي (سيمون، نويل، فودور...الخ)، وربما بشقه الاقتراني (connectionist) (ستيش، شورشلاند...) أيضا. فهو يعتقد أن هذا التقليد مشدود شدا إلى التصور الذي صاغه ديكارت عن الذهن (mind). تصور ديكارت ينظر إلى الذهن من حيث إنه جهاز عارف (cognizer) مستقل عن السياق، يشتغل على التمثيلات الباطنية (أي آلة استدلالية عامة الأغراض) في المقام الأول والرئيس. أما مقاربة ويلر، ومن هم على منواله، فتنظر إلى الذهن العارف من زاوية أكثر اتساعا، زاوية تربط بين الدماغ والجسم والمحيط، وترى إلى الكل من منظور نسقي دينامي يؤثر بعضه في بعض، ويقيد بعضه بعضا. العلم المعرفي الذي يسعى إليه ويلر باختصار هو علم معرفي مُجسَّد ومندمج (embodied-embedded cognitive science). لهذا السبب مال في كتابه، كما أورد هو نفسه في ديباجة الكتاب، إلى أن الرصد الكافي للذهن، أي الرصد الموسع، يجب أن يمزج فلسفة الوجود الفينومينولوجية التي طورها هايدغر في كتابه الشهير الوجود والزمن، بالإطار التفسيري الذي تقدمه نظرية الأنساق الدينامية، فضلا عن أنه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الإنجازات المتصلة بالذكاء الاصطناعي التي توصلت إليها الأبحاث التي اعتمدت الصيغ الجديدة في علم الإنسان الآلي (خصوصا لدى رودني بروكس).
إن المشكل الذي يواجهه الباحثون في العلم المعرفي، وفي فلسفة علم النفس، مع ديكارت هو أنهم يستطيعون طرده من الباب، لكنهم سرعان ما يكتشفون أنه دخل مرة أخرى من النافذة..! فعلى الرغم من سذاجة الاستعارة التي اعتمدها ديكارت في دراسته للذهن البشري (التمثيل، المسرح الديكارتي، الغدة الصنوبرية، مفاهيم علم النفس الشعبي (folk psychology)...الخ (انظر التفاصيل في دانيال دينيت 1991))، فإنها تظل مع ذلك استعارة قوية. ويلر لم يتخلص كليا من مفهوم التمثيل (representation) الذي يعد عماد الاستعارة الديكارتية في النموذج الذي أراد صوغه. إنه استطاع بالفعل أن يهمشه، ويخفف التركيز عليه، حين أدرجه في إطار دينامي يستلهم فيه هايدغر، وقيده استنادا إلى أندي كلارك بمفهوم الفعل (action-oriented representation) حتى يجعل من السلوك الذكي شأنا مقرونا بالعوامل المتصلة بالجسم والمحيط، وحتى يعالج لاحقا مشكلا عويصا آخر هو مشكل الإطار (frame problem)، ويتحايل على ما يعرف بالانفجار التأليفي اللصيق بمشكل الإطار؛ لكنه (أي التمثيل) ظل مع ذلك حاضرا في النموذج (ص: 195 وما بعدها من الكتاب).
الاجتهاد اللافت في كتاب ويلر هو قراءته المتميزة لهايدغر. إنها قراءة على الرغم من اعتمادها على تأويل هيوبير دريفوس، الذي يرجع إليه الفضل في تنبيه الفلاسفة الأنجلوساكسونيين عموما إلى أهمية فينومينولوجيا هايدغر، فإنها تبقى مع ذلك قراءة متميزة. إنها متميزة لكونها حافظت على مشروع تطبيع الذهن (أي إخضاع دراسة الذهن للمناهج المتبعة في العلوم الطبيعية)، ومتميزة لكونها ظلت حساسة إزاء القيود التي تفرضها الاعتبارات الحاسوبية والهندسية التي تحكم التنظير في الذكاء الاصطناعي وعلم الإنسان الآلي. فويلر قرأ هايدغر واستفاد من نقده اللاذع لديكارت في القسم الأول من الوجود والزمن، لكنه قاوم هايدغر ولم يسايره كما فعل دريفوس، أي ظل ينظر إليه من منظار العلم المعرفي. لذلك تحس وأنت تقرأ هايدغر في كتاب ويلر كما لو كان هو نفسه يقول بتطبيع الذهن..! وهو أمر لا يمكن بحال أن ننسبه إلى هايدغر.
وهنا يطرح السؤال الآتي: متى يحق لنا القول إننا خرجنا عن التقليد الديكارتي؟ هل يحق لنا ذلك عندما نقطع قطعا تاما معه، أم عندما نُبقي على مفاهيمه الرئيسة ونكتفي بتقييدها؟ والسؤال الذي يطرح على ويلر بصيغة أخرى هو: هل حقق ويلر باقتراحه نقلة أنموذجية (paradigm shift) في العلم المعرفي، أم أن اقتراحه ظل مندرجا ضمن ما أسماه توماس كون بالعلم العادي (normal science)، أي ضمن الأنموذج السائد نفسه اليوم في العلم المعرفي؟ والسؤال الأعقد والأعم من السؤالين السالفين هو: هل بالإمكان الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه ويلر والتخلي مطلقا عن الرصد الذي يعتمد التمثيل؟ من الصعب الإفتاء هاهنا برأي في هذه الأسئلة العويصة...
كتاب ويلر في الواقع غني، وصاحبه قوي الحجة راجح الرأي، يصدر فيه عن خلفية معرفية صُلبة وعن اطلاع كبيرعلى التقليدين الفلسفيين الكبيرين اليوم: التقليد القاري (فرنسا وألمانيا)، والتقليد التحليلي. وكنت قد ألمعت إلى ما بين التقليدين من اختلاف في مقال قصير يوجد في هذه المدونة عن باشلار وتوماس كون، حيث ذكرت في آخره المحاولات التي يقوم بها علماء الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي والعلماء المعرفيون للاستفادة من هايدغر على وجه الخصوص في تطوير أنساق معرفية مجسدة ومندمجة غير مفصولة (كما فعل رودني بروكس عندما شيد الربوط جنكيس)، ولبناء نماذج للمعرفة البشرية أكثر واقعية من النماذج الكلاسيكية الرمزية التي ما زال فودور يدافع عنها بعناد غريب في أعماله الأخيرة على الرغم من اعترافه صراحة بقصورها. لكن من يتأمل حجج فودور التي تفسر عناده، ويأخذها بعين الاعتبار وينظر انطلاقا منها إلى كتاب ويلر يمكنه أن يقطع بأن شروط النقلة الأنموذجية المبتغاة التي يتوق إليها ويلر والمدافعون أمثاله عن علم معرفي مجسد ومندمج لم تتوافر بعد لكي يسهل الانتقال من أنموذج التمثيل إلى أنموذج شيء آخر يختلف جذريا عنه.
تحية وبعد،
إن كتاب ويلر (Michael Wheeler) المعنون (Reconstructing the cognitive world ) الصادر سنة 2005 الذي أشرت إليه في رسالتك تطلب رأيي فيه كتاب مهم جدا بالفعل كما قلتَ، وصعب للغاية. وقد كنت قرأته سابقا بكيفية غير متأنية على الرغم من إدراكي لأهميته. وكنت قد سجلت حين قرأته جملة من الملاحظات العامة، أذكر لك أهمها:
صورة الغلاف
إنه كتاب يسعى فيه صاحبه إلى الابتعاد عن التقليد الذي ترسخ في العلم المعرفي بشقه الكلاسيكي (سيمون، نويل، فودور...الخ)، وربما بشقه الاقتراني (connectionist) (ستيش، شورشلاند...) أيضا. فهو يعتقد أن هذا التقليد مشدود شدا إلى التصور الذي صاغه ديكارت عن الذهن (mind). تصور ديكارت ينظر إلى الذهن من حيث إنه جهاز عارف (cognizer) مستقل عن السياق، يشتغل على التمثيلات الباطنية (أي آلة استدلالية عامة الأغراض) في المقام الأول والرئيس. أما مقاربة ويلر، ومن هم على منواله، فتنظر إلى الذهن العارف من زاوية أكثر اتساعا، زاوية تربط بين الدماغ والجسم والمحيط، وترى إلى الكل من منظور نسقي دينامي يؤثر بعضه في بعض، ويقيد بعضه بعضا. العلم المعرفي الذي يسعى إليه ويلر باختصار هو علم معرفي مُجسَّد ومندمج (embodied-embedded cognitive science). لهذا السبب مال في كتابه، كما أورد هو نفسه في ديباجة الكتاب، إلى أن الرصد الكافي للذهن، أي الرصد الموسع، يجب أن يمزج فلسفة الوجود الفينومينولوجية التي طورها هايدغر في كتابه الشهير الوجود والزمن، بالإطار التفسيري الذي تقدمه نظرية الأنساق الدينامية، فضلا عن أنه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الإنجازات المتصلة بالذكاء الاصطناعي التي توصلت إليها الأبحاث التي اعتمدت الصيغ الجديدة في علم الإنسان الآلي (خصوصا لدى رودني بروكس).
إن المشكل الذي يواجهه الباحثون في العلم المعرفي، وفي فلسفة علم النفس، مع ديكارت هو أنهم يستطيعون طرده من الباب، لكنهم سرعان ما يكتشفون أنه دخل مرة أخرى من النافذة..! فعلى الرغم من سذاجة الاستعارة التي اعتمدها ديكارت في دراسته للذهن البشري (التمثيل، المسرح الديكارتي، الغدة الصنوبرية، مفاهيم علم النفس الشعبي (folk psychology)...الخ (انظر التفاصيل في دانيال دينيت 1991))، فإنها تظل مع ذلك استعارة قوية. ويلر لم يتخلص كليا من مفهوم التمثيل (representation) الذي يعد عماد الاستعارة الديكارتية في النموذج الذي أراد صوغه. إنه استطاع بالفعل أن يهمشه، ويخفف التركيز عليه، حين أدرجه في إطار دينامي يستلهم فيه هايدغر، وقيده استنادا إلى أندي كلارك بمفهوم الفعل (action-oriented representation) حتى يجعل من السلوك الذكي شأنا مقرونا بالعوامل المتصلة بالجسم والمحيط، وحتى يعالج لاحقا مشكلا عويصا آخر هو مشكل الإطار (frame problem)، ويتحايل على ما يعرف بالانفجار التأليفي اللصيق بمشكل الإطار؛ لكنه (أي التمثيل) ظل مع ذلك حاضرا في النموذج (ص: 195 وما بعدها من الكتاب).
الاجتهاد اللافت في كتاب ويلر هو قراءته المتميزة لهايدغر. إنها قراءة على الرغم من اعتمادها على تأويل هيوبير دريفوس، الذي يرجع إليه الفضل في تنبيه الفلاسفة الأنجلوساكسونيين عموما إلى أهمية فينومينولوجيا هايدغر، فإنها تبقى مع ذلك قراءة متميزة. إنها متميزة لكونها حافظت على مشروع تطبيع الذهن (أي إخضاع دراسة الذهن للمناهج المتبعة في العلوم الطبيعية)، ومتميزة لكونها ظلت حساسة إزاء القيود التي تفرضها الاعتبارات الحاسوبية والهندسية التي تحكم التنظير في الذكاء الاصطناعي وعلم الإنسان الآلي. فويلر قرأ هايدغر واستفاد من نقده اللاذع لديكارت في القسم الأول من الوجود والزمن، لكنه قاوم هايدغر ولم يسايره كما فعل دريفوس، أي ظل ينظر إليه من منظار العلم المعرفي. لذلك تحس وأنت تقرأ هايدغر في كتاب ويلر كما لو كان هو نفسه يقول بتطبيع الذهن..! وهو أمر لا يمكن بحال أن ننسبه إلى هايدغر.
وهنا يطرح السؤال الآتي: متى يحق لنا القول إننا خرجنا عن التقليد الديكارتي؟ هل يحق لنا ذلك عندما نقطع قطعا تاما معه، أم عندما نُبقي على مفاهيمه الرئيسة ونكتفي بتقييدها؟ والسؤال الذي يطرح على ويلر بصيغة أخرى هو: هل حقق ويلر باقتراحه نقلة أنموذجية (paradigm shift) في العلم المعرفي، أم أن اقتراحه ظل مندرجا ضمن ما أسماه توماس كون بالعلم العادي (normal science)، أي ضمن الأنموذج السائد نفسه اليوم في العلم المعرفي؟ والسؤال الأعقد والأعم من السؤالين السالفين هو: هل بالإمكان الذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه ويلر والتخلي مطلقا عن الرصد الذي يعتمد التمثيل؟ من الصعب الإفتاء هاهنا برأي في هذه الأسئلة العويصة...
كتاب ويلر في الواقع غني، وصاحبه قوي الحجة راجح الرأي، يصدر فيه عن خلفية معرفية صُلبة وعن اطلاع كبيرعلى التقليدين الفلسفيين الكبيرين اليوم: التقليد القاري (فرنسا وألمانيا)، والتقليد التحليلي. وكنت قد ألمعت إلى ما بين التقليدين من اختلاف في مقال قصير يوجد في هذه المدونة عن باشلار وتوماس كون، حيث ذكرت في آخره المحاولات التي يقوم بها علماء الذكاء الاصطناعي والإنسان الآلي والعلماء المعرفيون للاستفادة من هايدغر على وجه الخصوص في تطوير أنساق معرفية مجسدة ومندمجة غير مفصولة (كما فعل رودني بروكس عندما شيد الربوط جنكيس)، ولبناء نماذج للمعرفة البشرية أكثر واقعية من النماذج الكلاسيكية الرمزية التي ما زال فودور يدافع عنها بعناد غريب في أعماله الأخيرة على الرغم من اعترافه صراحة بقصورها. لكن من يتأمل حجج فودور التي تفسر عناده، ويأخذها بعين الاعتبار وينظر انطلاقا منها إلى كتاب ويلر يمكنه أن يقطع بأن شروط النقلة الأنموذجية المبتغاة التي يتوق إليها ويلر والمدافعون أمثاله عن علم معرفي مجسد ومندمج لم تتوافر بعد لكي يسهل الانتقال من أنموذج التمثيل إلى أنموذج شيء آخر يختلف جذريا عنه.
تحياتي بدءا وختاما.