جاكندوف ضد تشومسكي
Jackendoff, R (2003) “Précis of Foundations of Language:Brain, Meaning, Grammar, Evolution” BEHAVIORAL AND BRAIN SCIENCES . 26, 651–707.pp. 651-655.
هذه ترجمة انتقائية لقسم من مقال جاكندوف أعلاه، ينتقد فيه هذا الأخير مواقف تشومسكي بخصوص المكانة المبالغ فيها التي توليها لسانياته للتركيب. وهو مقال رئيس في مسار جاكندوف العلمي. فجاكندوف ظل لوقت طويل يدافع عن أطروحات تشومسكي. وفي هذا المقال يعلن رفضه الصريح لكثير من تلك الأطروحات، ويُحمل تشومسكي مسئولية التراجع الذي عرفته اللسانيات اليوم إذا ما قورنت بالعلوم المعرفية (أو العرفانية) الأخرى. (والمقال موجه في هذه المدونة أساسا إلى طلبتي).
*****
يتحدث جاكندوف مسترجعا ذكرياته في الستينات حين كان طالبا جامعيا عن المكانة التي كان يحتلها النحو التوليدي في النقاش عند ظهوره، فيقول:
في الستينات حينما صرت طالبا جامعيا أَدْرُس اللسانيات، كان النحو التوليدي يمثل حينئذ الموضوع الجديد الساخن. فالناس، من الفلاسفة إلى علماء النفس إلى الأنثروبلوجيين إلى علماء التربية إلى منظري الأدب، كانوا جلهم يقرأون عن النحو التحويلي ويتابعون ما يجري فيه من نقاش. لكن مع نهاية السبعينات بدأ الاهتمام بهذا النحو يخف ويضعف، على الرغم من أن اللغويين في عمومهم لم يدركوا ذلك. وفي التسعينات أصبحت اللسانيات عمليا على الهامش، بعيدة عن النشاط الذي يقع في العلم العرفاني. إن هذا الخفوت لا يعدو في بعض جوانبه أن يكون راجعا إلى تغير في موضة العصر، وإلى ظهور مناهج جديدة كالنزعة الاقترانية وطرائق تصوير الدماغ. غير أن هناك أسبابا أخرى أعمق من هذه وراء فقدان اللسانيات مكانتها. بعض هذه الأسباب تاريخي، وبعضها الآخر علمي. والأسئلة الرئيسة التي أود مناقشتها هنا هي الآتية:
* ما الذي كان صحيحا في النحو التوليدي إبان الستينات، بحيث كان يجعل من هذا النحو نحوا واعدا؟
* ما الذي كان خاطئا فيه، بحيث حال بينه وبين تحقيق وعوده؟
* كيف بإمكاننا أن نُثَبِّتَه ثانية، ونبرز قيمته من جديد بالنسبة إلى العلوم العرفانية الأخرى؟
إن الهدف هنا هو أن نحدث تكاملا بين اللسانيات والعلوم العرفانية الأخرى، لا أن نضرب صفحا عن النتائج التي توصلت إليها هذه العلوم ونتنكر لها. فلكي نفهم اللغة ونسبر أغوار الدماغ نحتاج إلى كل الأدوات الممكنة. لكن على كل علم أن يأتي بما يستطيع لكي تكتمل الصورة وتستوي.
إن الموقف الذي عرضته في كتابي أسس اللغة Foundations of Language (جاكندوف 2002) يقضي بأن برنامج النحو التوليدي كان في عمومه صحيحا، كما أن الطريقة التي رُبط بها هذا البرنامج بعلم النفس وبالبيولوجيا كانت صحيحة أيضا. غير أن هناك خطأ تقنيا رئيسا يقع في قلب التنفيذ الصوري للبرنامج. ويتمثل هذا الخطأ في الدور المبالغ فيه الذي أسند إلى التركيب. فهذا الإعلاء من شأن التركيب في النحو هو الذي جعل النظرية النحوية عاجزة عن الاقتران على نحو كاف بالنظرية اللغوية وبالحقول الجارة على حد سواء. في أسس اللغة اقترحت بديلا، أسميته الهندسة المتوازية، يعرض فرصا قوية جدا لتحقيق الاندماج في المجال. ولكي نفهم بجلاء الدافع الذي حركني لاقتراح الهندسة المتوازية، لا بد من العودة إلى بعض الأمور التاريخية.
المحاور الثلاثة التي ينهض عليها النحو التوليدي
لقد حدد الفصل الأول من كتاب تشومسكي مظاهر نظرية التركيب برنامج كل ما جرى في النحو التوليدي منذ ذلك الحين. فالمشروع يرتكز إلى ثلاثة أعمدة نظرية هي: النزعة الذهنية، والتأليفية، والاكتساب.
النزعة الذهنية
الرؤية التي كانت شائعة بين اللغويين قبل المظاهر كانت تقول إن اللغة شيء يوجد إما وجودا مجردا في النصوص، وإما يوجد بمعنى من المعاني "في إطار أو حضن الجماعة" (التصور الأخير يعود إلى سوسير). وقد دافع تشومسكي عن رؤية تقضي بأن الموضوع الملائم للدراسة هو النسق اللغوي القائم في ذهن/دماغ المتكلم الفرد. وحسب هذا الموقف لا تكون للجماعة لغة مشتركة إلا لأن المتكلمين الذين ينتمون إليها يملكون النسق اللغوي نفسه ممثلا في أذهانهم/أدمغتهم.
الاصطلاح الذي طغى استعماله للدلالة على هذا النسق اللغوي هو "المعرفة"، وهو اصطلاح غير موفق ربما. بيد أننا إذا رجعنا إلى الخطاب النظري الذي كان سائدا في ذلكم الوقت، وجدنا أن البديل الذي كان يُعرَضُ في مقابل تصور تشومسكي كان يرى في اللغة استعدادا أو مهارة، بالمعنى الذي كان رايل (1949) قد طوره؛ وهو بديل يحمل في ثناياه شحنات من النزعة السلوكية ومن الموقف الذي يربط التعلم بالمنبه والاستجابة، وهو ما كان تشومسكي ينأى بنفسه عنه، ويحتاط احتياطا من الوقوع فيه لأسباب كلها معقولة وراجحة. وينبغي التشديد هاهنا على أننا بغض النظر عن الاصطلاح الذي يمكن أن نستعمله لتعيين هذا النسق اللغوي الذي يوجد في ذهن/دماغ المتكلم، فإنه يظل نسقا ضاربا في اللاشعور ومتمنعا عن البلوغ من طريق الاستبطان، مثله في ذلك مثل العمليات التي تعالج في دماغنا العلامات البصرية. فاللغة إذن خاصية تميز الذهن/الدماغ، يصعب ربطها أو وضعها تحت لفظ "المعرفة" الذي يستفاد من معناه في الاستعمال الشائع الوجود في متناول الاستبطان. في كتابي أسس اللغة عقدت تسوية مع التراث واستعملت بطريقة منهجية اصطلاح "معرفة ـ و" (f-knowledge)، أي معرفة وظيفية، لأسمي به كل ما يوجد في رؤوس المتكلمين مما يمكنهم من الكلام بلغتهم أو لغاتهم وفهمها.
.....
التأليفية
لقد بدأ تشومسكي منذ كتابه بنيات تركيبية (1957)، وهو كتابه الأول من حيث النشر، يلاحظ أن اللغة تحتوي عددا لا يحصى من الجمل. فإلى جانب لائحة الكلمات النهائية إذن، يتعين على التخصيص المضبوط للغة أن يتضمن مجموعة من القواعد (أي نحوا) تصف أو "تولد" جمل اللغة. وقد بين تشومسكي في بنيات تركيبية أن قواعد اللغة الطبيعية لا يمكن تخصيصها استنادا إلى عمليات ماركوف المبنية على الحالة المحدودة؛ كما بين أيضا أن هذه القواعد لا تقبل التخصيص باعتماد النحو المركبي غير المقيد بالسياق. وارتأى حلا يقضي بأن تكون الصورة الملائمة لقواعد اللغة الطبيعة مستندة إلى نحو مركبي غير مقيد بالسياق، مرفوق بقواعد تحويلية. إن الاتجاهات التي أفرزها النحو التوليدي لاحقا (كالنحو المركبي الرأسي لبولار وساغ، أو النحو المعجمي الوظيفي لبريزنان) لم تحافظ كلها على آلية القواعد التحويلية؛ لكنها تضمنت كلها آلية معينة صُممت أساسا لدرء النواقص اللصيقة بالأنحاء المستقلة عن السياق التي شرحها تشومسكي بتفصيل في بنيات تركيبية سنة 1957.
عندما ننقل مفهوم التأليفية إلى الإطار الذهني (من النزعة الذهنية) الذي وضعه تشومسكي سنة 1965 في كتابه مظاهر نظرية التركيب، تكون النتيجة كالآتي: يتعين على متكلمي اللغة أن يمتلكوا في رؤوسهم قواعد لغوية (أنحاء) تكون جزءا من معرفتهم الوظيفية (f-knowledge). وهنا أيضا أثير نقاش حول المقصود بلفظ "قواعد". قواعد النحو كما تُتصور في النحو التوليدي لا تشبه أي نوع من أنواع القواعد أو القوانين المتعارف عليها في الحياة العادية: كقواعد الآداب، أو قواعد الشطرنج، أو قوانين المرور، أو قوانين الفيزياء. قواعد النحو كما يتصورها تشومسكي تعد مبادئ لا شعورية تلعب دورا في إنتاج الجمل وفهمها. ودرءا للخلط أيضا، استعملتُ في كتابي أسس اللغة لفظ "القواعد ـ و" ( (f-rules للإشارة إلى المبادئ التأليفية القائمة في الرأس، بغض النظر عن ماهيتها. إن اللسانيات التوليدية تترك الباب مفتوحا فيما يخص الكيفية التي تعمل بها القواعد الوظيفية؛ إنها لا تقطع برأي في كيفية هذا العمل. لكن اللغويين لا يلتزمون الحيطة والحذر في هذا الشأن. والنظرية التي عرضتُها في الأسس تسمح لنا بأن نقول إن هذه القواعد تلعب دورا مباشرا في تلك العمليات.
إن من أهم الأسباب التي جعلت الناس يستقبلون النحو التوليدي استقبالا حسنا يرجع إلى أن هذا النحو ذهب أبعد من مجرد الادعاء بأن اللغة تحتاج إلى قواعد. إنه تخطى ذلك باقتراحه تقنياتٍ صوريةً دقيقة تمكن من تخصيص تلك القواعد، استنادا إلى مقاربات جرى تطويرها من قبل في أوائل القرن تناولت أسس الرياضيات والحوسبة.
....
الاكتساب
عندما نجمع بين النزعة الذهنية والتأليفية ضمن تصور واحد ننقاد إلى وضع السؤال الآتي: كيف يتوصل الأطفال إلى حيازة هذه القواعد الوظيفية في رؤوسهم؟ وإذا سلمنا بأن هذه القواعد الوظيفية لا شعورية، فإن الآباء والأقارب لا يستطيعون صوغها في الكلام. وحتى إذا سلمنا بإمكان ذلك، فإن الأطفال لن يفهموا عنهم؛ لأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة اللغة. أرقى ما يمكن للمحيط أن يقوم به بالنسبة إلى متعلم اللغة هو أن يعرض عليه أمثلة من اللغة مدرجة في سياق. وهذا ـ لعمري ـ كاف بالنسبة إلى متعلم اللغة لينطلق على رسله وحده في بناء المبادئ، بكيفية لا شعورية بالطبع.
لقد وضع تشومسكي (1965) السؤال الآتي: ما الذي ينبغي أن يعرفه الطفل سلفا لكي يقوم بهذه المهمة (يكتسب اللغة)؟ وقد عبر عن هذا المشكل بحدود "فقر المنبه": فهناك تعميمات مختلفة شتى تكون كلها متلائمة مع المعطيات التي يواجهها الطفل؛ لكن هذا الأخير يتوصل بطريقة من الطرق إلى التعميمات "الصحيحة"؛ أي إلى التعميمات التي تجعله في تناغم تام مع تعميمات المجموعة اللغوية التي ينتمي إليها. أحب دائما أن أضع هذا المشكل على النحو الآتي: إن جماعة اللغويين كلَّها التي تعمل على اللغة منذ عقود باستعمال كل أنواع المعطيات النفسية واللغوية المقارنة التي لا تكون في متناول الأطفال، لم تستطع إلى حد الآن أن تتوصل إلى التخصيص المضبوط لنحو لغة واحدة. وفي مقابل هذا نجد كل الأطفال يصلون إلى تخصيص أنحاء لغتهم في سن العاشرة تقريبا. الأطفال ليسوا ملزمين بالاختيار بين الأنحاء مثلنا. إنهم ليسوا مجبرين على البت فيما إذا كان ينبغي للنحو الصحيح أن يكتسي طابع النحو التحويلي أو البرنامج الأدنى أو النظرية القصوى أو النحو العرفاني أو الشبكات الاقترانية أو بديلا آخر لَمَّا تتضح ملامحه. الأطفال يعرفون النحو (معرفة وظيفية) سلفا قبل أن يواجهوا المعطيات.
أحد أهداف النظرية اللغوية قائم إذن في حل هذه المفارقة، "مفارقة اكتساب اللغة"، بالكشف عن مظاهر المعرفة-و اللغوية غير المتعلمة، والتي تمثل الأساس الذي يستند إليه الطفل في تعلمه. الاصطلاح المعيار الذي استعمل لتعيين هذا المكون غير المُتعلَّم هو النحو الكلي، وهو اصطلاح يحمل طيه أيضا أمورا كثيرة مضللة. فينبغي أن لا نخلط النحو الكلي بالكليات اللغوية. النحو الكلي هو الذي يوجه اكتساب اللغة. وأحب من زاويتي أن أنظر إلى النحو الكلي بوصفه مجموعة من الأدوات لبناء اللغة، أي مجموعة من الأدوات ينتقي الطفل (أو دماغه على الأصح) منها بكيفية وظيفية الأدوات الملائمة أو المناسبة للقيام بما يتعين القيام به. فإذا حصل أن كانت اللغة الموجودة في محيط الطفل تملك نسقا إعرابيا (كالألمانية مثلا)، فإن النحو الكلي سيساعد الطفل على اكتساب الإعراب؛ وإذا كانت اللغة لغة تنغيم (كالصينية) فإن النحو الكلي سيساعد الطفل على اكتساب التنغيم؛ وإذا حصل أن كانت اللغة التي توجد في محيط الطفل هي الأنجليزية، التي لا تعول على الإعراب ولا على التنغيم، فإن الأجزاء المتصلة بالإعراب والتنغيم في النحو الكلي لن تعمل.
....................
من السابق للأوان إنكار فرضية النحو الكلي كما أقدم على ذلك بعض الباحثين (ديكون 1997؛ إيلمان وآخرون 1996)، الذين تذرعوا بأننا لا نعرف كيف يمكن للجينات أن ترمز اكتساب اللغة. وهذه ـ لعمري ـ ذريعة باطلة؛ لأننا لا نعرف أيضا كيف ترمز الجينات شدو العصافير أو السلوك الجنسي أو حتى العطس؛ لكن هذا ليس كافيا للطعن في وجود أساس جيني وراء هذه الظواهر السلوكية كلها.
إخلاف الوعد: البنية العميقة مفتاح الذهن
النقطة الرابعة الهامة التي وردت في كتاب المظاهر وأثرت تأثيرا كبيرا في وعي الجمهور تتصل بفكرة البنية العميقة. فقد ذهب تشومسكي سنة 1965 إلى الدفاع عن صيغة في النحو التوليدي تقول إن هناك إلى جانب الصورة السطحية التي تكون عليها الجمل، أي الصور التي نسمعها، مستوى نحويا آخر يسمى البنية العميقة، يعبر عن الاطرادات التركيبية التحتية التي تتمتع بها الجمل. فالجملة المبنية على غير الفاعل (1) ترتد إلى بنية عميقة مبنية على الفاعل (2):
1) قُتل زيد.
2) قَتل أحد زيدا.
والشيء نفسه بالنسبة إلى الجملة الاستفهامية (3)، التي تعود إلى البنية العميقة الشبيهة جدا بتلك التي تقترن بالجملة الخبرية (4):
2) أي وردة قطف خالد؟
3) قطف خالد هذه الوردة.
في السنوات القليلة التي سبقت نشر كتاب المظاهر، وُضع السؤال عن الكيفية التي تقترن بها البنية التركيبية بالمعنى. وأجابت المظاهر عن هذا السؤال، استنادا إلى فرضية كان قد اقترحها كاتز وبوسطال (1964)، تقضي بأن المستوى التركيبي المؤهل لتحديد المعنى هو البنية العميقة.
إن هذه الدعوى في صيغتها المعتدلة لا تقول أكثر من أن الاطرادات الدلالية التي تكشف عنها الجمل توجد مرمزة بكيفية مباشرة في البنية العميقة. وهذا أمر يمكن ملاحظته في الجمل السالفة. لكن الدعوى كانت تكتسي أحيانا طابعا أكثر إقداما وتطرفا، كأن يقال مثلا إن البنية العميقة هي المعنى، وهو بالمناسبة قول لم يكن تشومسكي يعترض عليه في البداية. وهذا القسم من اللسانيات التوليدية تحديدا، أي القسم المتصل بالمعنى، هو الذي لفت إليه انتباه الجمهور أكثر من غيره. فإذا كانت تقنيات النحو التحويلي تمكننا من الإمساك بالمعنى، فإننا نستطيع أن نطمئن إلى إمكان القبض على طبيعة الفكر البشري. وإذا كانت البنية العميقة بنية فطرية ـ بنية يخولها النحو الكلي ـ فإن النظرية اللغوية تسمح لنا على نحو غير مسبوق بالإمساك بجوهر الطبيعة البشرية. فلا عجب إذن أن ينكب الناس طرا على تعلم اللسانيات ويسارعوا إلى الإفادة منها.
إن الذي حصل بعد هذا هو تشكل فريق من الباحثين التوليديين، في مقدمهم جورج لاكوف، وجون روبيرت روس، وجيمس ماكولي، وبوول بوسطال، أخذ على عاتقه الدفاع باستماتة وعنفوان منقطعي النظير عن الفكرة التي تقضي بأن البنية العميقة هي التي ينبغي أن تُرَمِّز بكيفية مباشرة المعنى. وأسفر القول بهذه الفكرة عن ظهور نظرية الدلالة التوليدية (راجع: لاكوف 1971؛ ماكولي 1968؛ بوسطال 1970) التي ضاعفت من تجريد البنية العميقة وتعقيدها إلى حد جعل بعضهم يقترح ثمان بنيات عميقة للجملة الشهيرة (Floyd broke the glass)، كل بنية من هذه البنيات تطابق سمة من سمات الجملة الدلالية. وأغلب الناس الذين رحبوا بما ورد في كتاب المظاهر عن المعنى، أحبوا الدلالة التوليدية وشايعوا أصحابها وانتصروا لهم. ولهذا السبب انتشرت نظرية الدلالة التوليدية بين الناس كالنار في الهشيم. بيد أن تشومسكي وقف موقف المعارض، وشن رفقة من كانوا آنئذ تلامذته (ومن بينهم كاتب هذه السطور) حملة شعواء على نظرية الدلالة التوليدية. وعندما وضعت الحروب اللغوية أوزارها في سنة 1973، كان تشومسكي هو المنتصر. لكن انتصاره كان مصحوبا بتعديل في الموقف: إذ لم يعد يدافع عن أن البنية العميقة تمثل المستوى الوحيد الذي يحدد المعنى (راجع تشومسكي 1972). وبعد أن ربح تشومسكي المعركة، لم يواصل الاهتمام بالمعنى بل أقلع عن ذلك، وانصرف إلى البحث عن القيود التقنية الموضوعة على تحويلات النقل (راجع تشومسكي 1973؛ 1977).
لقد كان لهذا الانصراف عن الاهتمام بالمعنى أثر سلبي في الصورة التي كونها الناس عن النحو التوليدي. فتشومسكي وعد الناس بإمكان القبض على المعنى، ثم تراجع وأخلف وعده. لقد أدى هذا بكثير من الباحثين اللغويين وغير اللغويين إلى الانصراف عن النحو التوليدي بإحساس مشوب بالمرارة. ولم يتنكروا للبنية العميقة فحسب، بل للنزعتين الذهنية والفطرية أيضا، وأحيانا طال الإنكار حتى خاصية التأليفية ذاتها. وحينما عاد تشومسكي في نهاية السبعينات إلى الحديث مجددا عن المعنى، في نطاق الصورة المنطقية (راجع تشومسكي 1981)، كان الوقت قد فات. ومنذ هذه الفترة لم يعد الجهاز التقني المجرد للنحو التوليدي يثير فضول الناس ما عدا فئة قليلة جدا من العلماء العرفانيين، وفئات قليلة من جمهور المثقفين.
.....
أحس أن أغلب اللغويين عادوا إلى الاهتمامات التقليدية التي كانت طاغية في حقل اللسانيات: وصف اللغات بأقل ما يمكن من المتاع النظري والعرفاني....
الارتكاز على التركيب خطأ علمي
نكتفي من التاريخ بهذا القدر، ونعود إلى ما أعتقد أنه الخطأ الذي يقع في صلب النحو التوليدي. أقصد الخطأ الذي يقف وراء ابتعاد النظرية اللغوية عن العلوم العرفانية واغترابها. فقد برهن تشومسكي على أن اللغة تتطلب نسقا توليديا يسمح بإنتاج ما لا حصر له من الجمل المتنوعة. لكنه دافع دون دليل في كتاب المظاهر عن أن خاصية التوليدية هذه توجد في صلب المكون التركيبي للنحو ـ بناء المركبات من الكلمات ـ وأن الصوتيات (نظام أصوات الكلام) والدلاليات (نظام المعنى) هما مكونان تأويليان فقط؛ أي أن خصائصهما التأليفية لا تعد أصلية، بل مشتقة بكيفية صارمة من تأليفية التركيب.
لقد كانت هذه الدعوى سائغة في سنة 1965. فالهدف في تلكم الأيام كان قائما في الاستدلال على أن اللغة تنطوي على شيء مخصوص ميزته أنه توليدي. وقد مكن التركيب التوليدي من اكتشاف أدوات قوية جديدة قادت إلى تحقيق نتائج مذهلة. ففي ذلك الوقت كان يبدو كما لو أن الصوتيات تقبل المعالجة بوصفها مستوى فرعيا أو أدنى مشتقا من التركيب: التركيب يعرض الكلمات وفق ترتيبها الصحيح، وتتكلف الصوتيات بما يسمح بنطقها على نحو متناغم مع محيطها المحلي. أما الدلالة، فقد كانت المعرفة بها قريبة من الصفر. الأشياء البسيطة التي كانت في المتناول آنذاك هي الاقتراحات التي تضمنها كاتز وفودور (1963)، وبعض الأعمال الواعدة الأخرى التي كان يقوم بها أشخاص مثل بيرويتش (1967؛ 1969) و وينريتش (1966). وهكذا لم يكن الوضع الذي كانت عليه النظرية يعرض أسبابا تسمح بالطعن أو التشكيك في أن التعقيد التأليفي يصدر كله عن التركيب.
إن النقلات اللاحقة التي حدثت في اللسانيات التوليدية الرسمية أحدثت فروقا هامة في المنظور. لكن هناك شيئا واحدا لم يطله التغيير، وظل على حاله كما كان أول مرة، وهو الزعم بأن التركيب يمثل المصدر الوحيد الذي تفيض عنه التأليفية. نجد هذا الزعم في نموذج المظاهر وفي نموذج "المبادئ والوسائط" (أو ما يسمى أيضا بنظرية الربط العاملي)، ونجده أيضا في البرنامج الأدنى.
إن هذه النقلات النظرية أثرت في المكونات التركيبية وفي علاقتها بالصوت والمعنى. لكن ما ظل على حاله فيها كلها هو (أ) أن هناك مرحلة أولى في الاشتقاق يقع فيها التأليف بين الكلمات أو المورفيمات لبناء بنيات تركيبية؛ (ب) وأن هذه البنيات تخضع لعدد من العمليات التركيبية المتنوعة، (ج) وأن بعض هذه البنيات يجري إرساله إلى الواجهة الصوتية ليتحول إلى متواليات منطوقة، وبعضها الآخر يرسل إلى الواجهة الدلالية لكي يتحول إلى متواليات مفهومة. فالتركيب باختصار شديد ظل مصدر النظام اللغوي في تفاصيله كلها.
وأعتقد أن هذا الزعم القاضي بـ مركزية التركيب (syntactocentrism)، الذي لم يقم عليه دليل كما أشرت إلى ذلك أعلاه، هو الذي مثل الخطأ الأكبر في مجال اللسانيات. المقاربة الصحيحة تقضي بأن ننظر إلى البنية اللغوية من حيث إنها ناتجة عن عدد من القدرات التوليدية المتوازية والمتداخلة في الآن نفسه، قدرات صوتية وتركيبية ودلالية. وكما سيتضح لنا ذلك، فإن عناصر هذه "الهندسة المتوازية" كانت دائما موجودة على نحو ضمني في الممارسة اللسانية منذ سنوات. الجديد في هذا العمل هو الخروج بهذه الممارسات إلى العلن، والدفاع عن أنها تمثل المبدأ المؤسس للنظام اللغوي، واستثمار النتائج بعيدة المدى التي تترتب عليها.
تشومسكي