نص المقال:
فتجنشتاين ومؤولوه
ملاحظات حول اللغة الخصوصية واتباع القاعدة والكيفيات[1]
مصطفى الحداد
منشور بمجلة 'المخاطبات'. العدد التاسع- يناير 2014
تقديم
نتناول في هذا
المقال بعض القضايا الإشكالية التي ناقشها فتجنشتاين في كتاب التحقيقات.
سنركز بكيفية خاصة على تحليله المتميز لإشكال اللغة الخصوصية، ولقضية اتباع
القاعدة، ولمسألة الكيفيات (Qualia)[2].
سننظر في الطريقة التي أوله بها بعض دارسيه. لهذا سنعرض بعض معالم القراءة
المتميزة والمثيرة للجدل التي قدمها صول كريبكه (1982) لاتباع القاعدة ولجانب من
إشكال اللغة الخصوصية، كما سنعرض في مستوى آخر جانبا من الخلاف في فهم نصوص
فتجنشتاين المتصلة بما يسمى في فلسفة الذهن المعاصرة بالكيفيات أحيانا أو بالشعور
الظاهري أحيانا أخرى. وسنناقش هنا بعض مواطن الخلاف بين الفيلسوفين طوماس نيجل
(1974، 1979أ، 1979ب، 1986) ودانيال دينيت (1990) في قراءتهما وفهمهما لأبعاد
استدلالات فتجنشتاين المتصلة بالكيفيات في التحقيقات. وسنقف في خاتمة
المقال عند بعض الإشكالات ناقشها مفكرون عرب قدماء (شهاب الدين القرافي على الخصوص)
تقترب أو تشبه من وجوه الإشكالات التي تناولها فتجنشتاين. وسنعرض في سياق هذه
المناقشة جملة ملاحظات تتصل بالمشاكل التأويلية التي تثيرها علاقات الشبه بين
القديم والحديث أو بين السابق واللاحق في الفكر.
1- عن اللغة الخصوصية واتباع القواعد
1-1 الاستبطان وعوائقه
عندما ننخرط في عمل من الأعمال، غالبا ما يُخيل أو يُهيأ إلينا أننا نتبع
قاعدة محددة في القيام به. يُهيأ إلينا مثلا أننا نتبع قاعدة في إطلاق لفظ 'الألم'
على ما نحس به، إذا كان ألما؛ ونتبع قاعدة الضرب أو القسمة الحسابية عندما نقوم
بعملية الضرب أو القسمة. يحصل ذلك على الأقل عندما يُهيأ إلينا أننا لم نخلط بين
الدغدغة والألم مثلا، أو لم نرتكب خطأ في الحساب.
إن هذه الفكرة، التي تقول إننا نتبع القواعد، جعلها الفيلسوف فتجنشتاين هدفا
لسيل من الانتقادات في كتابه تحقيقات فلسفية وفي كتابات أخرى تُحسب
على أعمال المرحلة الأخيرة من حياته (لن نتعرض في مقالنا هذا لفلسفة فتجنشتاين
المتصلة بـ الرسالة المنطقية الفلسفية، التي تندرج ضمن فلسفة
المرحلة الأولى من حياته). لا شيء يبرهن لنا في نظره على أننا نتبع حقا تلك
القواعد. فما نعنيه بكلمة "ألم"، أو بأي كلمة أخرى غيرها، لا يمكن أن
نستدل عليه أو نمسك به أو نبرهن عليه باللجوء إلى أي واقع بعينه من الوقائع.
ويترتب على هذا أن الأنشطة كلها التي ننخرط فيها لا تكون محددة بالقواعد.
لنبدأ أولا بالفحص عن الكيفية التي نتوصل بها عادة إلى ضبط وتسمية ظواهرنا
النفسية كالإحساسات، والعواطف، وما كان يسميه راسل بالمواقف القضوية كالاعتقادات
والرغبات وما إلى ذلك. فهذه الظواهر نمسك بها، كما يذهب دوكيك (1998: 1)[3]، من طريق
الاستبطان. وهذا الأخير، في معناه المحايد والعام، يعني تلك المعرفة المباشرة (غير
الاستدلالية) التي نصل إلى حيازتها بشأن ظواهرنا النفسية، أي بشأن الحالات
والأحداث الذهنية التي تعترينا وتعتمل في وجداننا. وإذا نظرنا إلى الاستبطان من
هذه الزاوية فإن من الصعب علينا الإقرار بوجود نظرية موحَّدة عنه. أوصاف الحالات التي يُمكِّننا منها الاستبطان ليست
أوصافا موضوعية أو محايدة كما قد نظن بادئ الرأي، بل تحمل طيها التزاماتٍ كثيرةً
ومتنوعة. فلكي يفهم الرواة المُستبطِنون تجربتَهم ويصفوها يتعين عليهم أن
يستعملوا المفاهيم والمقولات. وقد بين جاك وشَلايس (2001: 177) أن الروايات
الاستبطانية عموما تكون نتيجةَ عاملين اثنين: المعطيات الخام التي تكون في متناول
الراوي من طريق الاستبطان؛ ثم الإطار التصوري أو النموذج الذي يستعمله هذا الراوي
في تأويل تلك المعطيات تمهيدا لروايتها. فصحة ما يرويه الراوي تتوقف على صلاحية
نموذجه الذي يؤول استنادا إليه المعطيات الخام.
وإذا نظرنا مليا إلى الظواهر النفسية
ألفيناها تعرض نفسها على صاحبها الذي تعن له في صور متباينة جدا. فمن جهة، هناك
الإحساسات، وهي ظواهر تكلم عنها الفلاسفة منذ القدم، وجعلوا ضمنها الإحساسات
الإدراكية (البصر والسمع...الخ)، والإحساسات الجسمانية (الرعشات والدغدغات والآلام...الخ).
وهناك من جهة أخرى سمات شخصية لها صلة وثيقة بالاستعدادات، كالخجل مثلا، والتواضع
وما شاكلهما. أما باقي الظواهر النفسية الأخرى فتوجد أو تقع بين هذين الحدين أو
الطرفين القصيين، خصوصا العواطف والأحاسيس والمواقف القضوية كالاعتقادات والرغبات.
فإذا أخذنا سماتنا الشخصية (كالتواضع والخجل...الخ) ونظرنا إلى الكيفية التي
نتوصل بها إلى معرفتها فإن من الصعب علينا، كما يرى كثير من الباحثين، أن ندعي أننا
نعرفها بكيفية مباشرة من طريق الاستنباط. ظهور هذه السمات في السلوك يكون معقدا
وغير مباشر ومتنوعا إلى حد يستعصي على الفرز والبت. وعندما تحصل لنا معرفة بهذه
السمات، فإنها تكون مبنية على استدلالات مستخلصة في الغالب الأعم من أحكام الآخرين
علينا، أو مبنية أحيانا على الأحكام التي يمكن أن نُكوِّنها نحن لاحقا عن ذواتنا
في الماضي.
بل إننا يمكن أن نتساءل أيضا عما إذا كان مفهوم الإدراك الباطني أو الاستبطان[4] مفهوما سائغا
حتى بشأن الإحساسات. حسب التأويل التقليدي، الديكارتي خاصة، تكون موضوعات إدراكي
الباطني موضوعاتٍ خصوصيةً. الخصوصية هنا نفهم منها أنني أنا الوحيد (أو وحدي) الذي
أستطيع مبدئيا أن أعرف هذه الموضوعات. لكن هذه الأطروحة التي تقضي بخصوصية الظواهر
النفسية، الإحساسات خاصة، تواجه عقبات كأداء شتى تناولها فتجنشتاين بتفصيل في التحقيقات.
فهذه الأطروحة تقول بإمكان تثبيت معاني الحدود التي تُمسك أو تعين أنماط
الإحساس عن طريق إجراء صلة دلالية بين تلك الحدود وموضوعات محددة يبلغها الاستبطان.
وقد اعترض فتجنشتاين على هذه الأطروحة وناقشها مناقشة مستفيضة وموسعة في الكتاب
المذكور. يقول في هذا الشأن: "لنتصور
هذه الحالة: أريد أن أمسك كراسا أسجل فيه الرجوع الدوري إلى إحساس معين. لهذا
الغرض أقرن هذا الشعور بالحرف 'ح' وفي كل يوم ينتابني فيه هذا الشعور أكتب هذه
العلامة في روزنامتي. - أريد أن ألاحظ قبل كل شيء أنه لا يمكن إيجاد تعريف لهذه
العلامة – لكن بإمكاني أن أقدم هذا التعريف لنفسي ويكون نوعا من التعريف
بالإشارة ! – كيف؟ أيمكنني أن أعين الأحاسيس؟-
ليس في المعنى العادي، لكنني أنطق بالعلامة أو أكتبها، وبهذا أركز اهتمامي على
الإحساس، - وكأنني هكذا أشير إليه باطنيا. – لكن ما هو الغرض من هذه الطقوس؟ إذ إن
هذا يبدو طقسا من الطقوس لا أكثر من ذلك ولا أقل ! فالتعريف
يصلح في تحديد مدلول علامة ما. – حسنا ! هذا يحدث بفضل تركيز الاهتمام؛
وبهذه الطريقة إذاً أطبع في ذهني التعالق بين العلامة والإحساس. – لكن 'أطبعها في
ذهني' يمكنه أن يعني فقط: هذه العملية تجعلني أتذكر في المستقبل هذه العلاقة
بالطريقة الصواب. لكن، لا أملك معيار الصواب، في حالتنا هذه. نود أن نقول
هنا: كل ما يبدو لي دائما صوابا، سأعتبره صوابا. وهذا يعني فقط أنه لا مكان للحديث
هنا عن 'صواب' " (فق: 258، صع: 265)[5].
هب أن الإحساس الذي يتحدث عنه فتجنشتاين هنا هو الألم. لكي أتمكن من الإمساك
بألمي الخاص ولا أخلطه بغيره الذي قد يشبهه ضروبا من الشبه، يتعين علي أن أكون
قادرا على الإمساك بقاعدة تسمح لي باستعمال الحد العام "ألم" مثلا، عن
طريق زعم من نوع " أسمي هذا ألما"؛ أي أسمي هذا الذي أحس به هنا
والآن ألما. المشكل الذي يثور هنا، في نظر فتجنشتاين أعلاه، هو أن الحد الإشاري
"هذا"، أو اسم الإشارة "هذا"، لا يكون مقرونا
بحركة إصبعي المادية التي تومئ أو تشير إلى المكان الذي أحس فيه بالألم، بل يكون
مقرونا أو مصحوبا بفعل ذهني مجرد ("تركيز الاهتمام" كما قال) يركز على
ألمي كما أحسه من جهة الباطن. فالحد الإشاري "هذا" لا يقبل، كما
يقول فتجنشتاين في فقرة أخرى، أن يتحول إلى اسم (فق: 45، صع: 154). القاعدة التي
بمقتضاها يعين الحد "ألم" الخصائصَ الظاهرية لألمي على نحو مستقل عن كل
تجل خارجي هي قاعدة تَنشأ في نظر فتجنشتاين عن "لغة خصوصية". إذ
"يجب، كما يقول فتجنشتاين، ألا تحيل ألفاظ هذه اللغة إلا على ما يعرفه
المتكلم فقط؛ أي على أحاسيسه الشخصية [نفضل هنا: الخصوصية]. وهكذا لا يمكن لشخص
آخر أن يفهم هذه اللغة". (فق: 243، صع: 260). إنها لغة خصوصية لأن المتكلم
وحده الذي يعرف هذه اللغة، ولا يمكنه إذا أخطأ أو سها أو مال عن جهة الاستقامة أن
يعرف ذلك. فكل ما سيبدو له صوابا أو صحيحا سيكون صحيحا، لأن سلوكه اللغوي لا يكون
في هذه الحالة معرضا للتصحيح والتقويم والنقد.
يعرض فتجنشتاين في التحقيقات، كما بين ذلك دوكيك (1998: 4)، حجتين
متميزتين لإبطال إمكان التوصل إلى قواعد من هذا الطراز، أي إلى قواعد تستند إلى
استبطان الموضوعات الخصوصية:
الحجة الأولى تقول:
إن الاستبطان لا يستطيع أن يحدد معنى الحدود التي تُعين الإحساسات الخصوصية.
فلكي يُفضيَ الزعم "أسمي هذا ألما" إلى قاعدة تُثبِّت التمييز
بين استعمال صائب أو صحيح للحد "ألم"، واستعمال خاطئ للحد نفسه، يتعين
على ذلك الزعم أن يستند إلى تقنية في استعمال هذا الحد يستطيع المرء أن
يتبعها وينجح في اتباعها، أو يسيء اتباعها فيخطئ ويميل عن جهة الاستقامة. بيد أننا
إذا عدنا إلى التصور المبني على الاستبطان (كتصور ديكارت مثلا[6]) لا نلفيه يُدخل
في حسبانه إمكان الزلل وارتكاب الخطأ في استعمال حد يعين الإحساس. التصور المبني
على الاستبطان لا يميز فيه صاحبه بين ما يبدو للذات وما هو واقع. بعبارة فتجنشتاين:
إن صاحب هذا التصور لا يرى في مثل هذه الأحوال إمكان قيام تطبيق سيء للقاعدة. الأورد
عنده صحة التطبيق فقط لا غير. لهذا السبب اعترض فتجنشتاين قائلا: "لكنـ [ني] لا
أملك معيار الصواب، في حالتنا هذه... كل ما يبدو لي دائما صوابا، سأعتبره صوابا.
وهذا يعني فقط أنه لا مكان للحديث هنا عن 'صواب' " (فق: 285، صع: 265). يقصد
هنا بعبارته الأخيرة أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الصواب أو الصحة إلا إذا كان
بإمكاننا أن نخطئ ونميل عن جهة الاستقامة، أما وأننا نزعُم أننا معصومون لا نخطئ
ولا نميل، فإن الحديث عن الصحة لا يصح !
حجة
فتجنشتاين هذه، إذا نحن تأملناها مليا، لا تقضي، كما يشير دوكيك (1998: 4)، بأن تعريفا
إشاريا خصوصيا ينشئُ قاعدة لا يستطيع المرء أن يتبعها، بل تقضي بأن هذا التعريف
المزعوم لا تترتب عليه أي قاعدة على الإطلاق. لذلك قال في ملاحظات حول فلسفة
علم النفس:"لا يمكن للاستبطان أن يقود أو يُفضي إلى تعريف
أبدا". (1980: فق: 212، ص 43)..
الحجة الثانية تقول:
لا يلعب الاستبطان دورا يذكر في تحديد دلالة الحدود العادية المتصلة
بالإحساسات. تَعلُّم هذه الحدود لاحقا واستعمالها ينبنيان على معايير خارجية،
وخاصة على السلوك، في السياقات المختلفة. فنحن نتعلم هذه الحدود عندما نعاني هذه
الإحساسات ونجربها، ونكون بحضرة آخرين يراقبوننا. وقد عبر فتجنشتاين عن
هذا المعنى بوضوح في الفقرة 244 من التحقيقات حين كتب يقول:
"كيف يتعلم المرء دلالة أسماء ما يعن له من إحساسات؟ [كـ] دلالة كلمة
"ألم" مثلا؟ إليكم أحد الأجوبة الممكنة: تكون الكلمات مقرونة بالتعابير
الأصلية الطبيعية عن الإحساس، فتُستعمل هذه الكلمات بدلا من تلك التعابير أو عوضا
عنها. يُجرح الطفل فيصرخ؛ ثم يهرول إليه الراشدون يكلمونه ويعلمونه طرقا في
الاندهاش ثم يعلمونه الجمل بعد ذلك. إنهم يعلمون الطفل الذي يتألم طريقة جديدة في
السلوك الآلم (new pain-behaviour)". (فق: 244، صع: 260، صج: 95. ترجمة معدلة). ما يومئ إليه فتجنشتاين
هنا هو أن قول القائل "أتألم" ليس إظهارا أو إشهارا لألمه، أو ليس دليلا
خارجيا على شيء يحصل في مكان ما من الباطن، بل هو جزء لا يتجزأ من سلوك هذا القائل
الآلم. إنه تعبير عن الألم بالطريقة نفسها التي يكون فيها الصراخ والأنين تعبيرين
عن الألم[7].
من هذه الزاوية، نستطيع القول إن الاستبطان لا
يؤسس معاني حدود الإحساسات ولا يضمن استقرارها ودوامها في الزمان.
إن هاتين الحجتين تشيران، معا، إلى أنه على خلاف ما قد يبدو في الظاهر، ليس
لدينا أي مفهوم متسق عن إحساس خصوصي تام الخصوصية، أي عن إحساس لا يمكن لأحد آخر
غيري أن ينفذ إليه. لا نستطيع أن نكتسب هذا المفهوم عن طريق الاستبطان (الحجة
الأولى)، وعندما نصل إلى بناء المفهوم الذي نملك عن الإحساس من الطريق العادي، فإن
هذا المفهوم لا يكون حينئذ مفهوما خصوصيا كما قد نتوهم (الحجة الثانية) (راجع
دوكيك 1998: 4).
1-2 تأويل كريبكه أو المفارقة الشكية
نحن هنا أمام أسلوب جديد في التفلسف طوره فتجنشتاين. وهو أسلوب تعرض له
الفيلسوف والمنطقي كريبكه في كتابه القواعد واللغة الخصوصية عند فتجنشتاين
(1982)، وناقش مظهرا من مظاهره مناقشة مستفيضة في إطار ما أسماه بالمفارقة الشكية.
وتشير هذه المفارقة إلى صيغة من صيغ الأطروحة التي تقول إن خاصية التمثيل
الدلالية، أو معنى الكلمة، أو محتوى المفهوم، أو صدق الاعتقاد، أمور تدخل كلها في
عداد الخصائص المعيارية. أو باختصار تقول هذه الأطروحة إن القصدية شأن معياري
خالص.
مدار القصدية (القصدية هنا بالمعنى الذي حدده برينطانو[8]، وليس بمعنى
النية أو القصد !) حسب هذا التصور
يتصل بما ينبغي أن يكون، لا بما هو كائن. فعندما نخبر عن معنى رمز، أو نسند معنى
إلى دليل، فإننا حسب المفارقة الشكية لا نكون بإزاء وصف واقع دلالي محدد؛ لأن
الوقائع الدلالية باختصار لا وجود لها. عندما نقوم بذلك نكون بصدد التعبير عن عادة،
أي أننا إذا أخبرنا عن معنى رمز معين، أو عن محتوى مفهوم معين...الخ، فإننا نكون
قد أخبرنا عما ينبغي أن يكون عليه معنى هذا الرمز أو محتوى هذا
المفهوم، لا عما هو عليه فعلا. فهو، إذا شئتم، ليس على شيء..!
إن هذا النقاش يقترن من الجهة التاريخية بالفيلسوف التجريبي هيوم. فهو الذي
برهن في الأصل على أن السعي في اشتقاق الواجب الأخلاقي (ما ينبغي أن يكون) من
قضايا تتناول الواقع (ما هو كائن)، سعي يُدخل المرء في بابٍ من الكلفة شاقٍّ ويوقعه
في المغالطات (انظر في هذا الشأن بيلي 2000: 125-126). وقد جدد مور، في مطلع القرن الماضي، هذا النقاش في نطاق ما أسماه
بـ "المغالطة التطبيعية" (naturalistic fallacy)، وهي مغالطة تقوم على السعي في
تعريف معنى الكلمة المعيارية "حسن" أو "خير" استنادا إلى حدود
وصفية (غير معيارية) خالصة[9].
ما يصدق على الأخلاقيات يصدق أيضا على الدلاليات. فإذا كانت الخصائص الدلالية
هي أيضا خصائص معيارية خالصة، كما تثبت المفارقة الشكية ذلك، فإن كل من ينخرط في
مشروع يروم من ورائه رد الخصائص الدلالية إلى خصائص أخرى غير دلالية، يُعرِّضُ
نفسه هو أيضا للوقوع في صيغة أخرى من صيغ المغالطة التطبيعية.
للإمساك بالمفارقة التي نبه إليها فتجنشتاين وفَهْمِها، اقترح كريبكه مثالا
رياضيا بسيطا جدا يقبل التعميم على أي نشاط آخر نقوم به. ويدور المثال على عملية
الجمع الأريثميطيقية. فمعظم الناس يستعملون كلمة "زائد" أو العلامة '+'
للدلالة على عملية الجمع. لكن، بما أن الناس لم يقوموا في حياتهم إلا بعدد نهائي
ومحصور من عمليات الجمع، فإن هناك على الدوام أعدادا أعلى من كل الأعداد التي
تعامل معها الناس في عمليات الجمع التي قاموا بها في حياتهم.
هب، للتسهيل، أنك لم يسبق لك أن قمت في حياتك بعمليات جمع تتخطى أعدادُها أو
تعلو على العدد 57. فإذا طُلب منك الآن أن تنجز العملية : "57+ 68"،
فإنك لن تتردد لحظة في القول إن النتيجة هي "125". يقول كريبكه: "إنني
واثق... من أن العدد '125' هو الجواب الصحيح. إنه الجواب الصحيح بالمعنيين معا:
بالمعنى الأريثمطيقي: حيث يكون العدد '125' هو مجموع العددين '68' و'57'، وبالمعنى
الميتا لغوي: حيث إن 'زائد' كلمة تحيل، كما عهدتُ استعمالَها في الماضي، على
الدالة (function) التي إذا طُبقت
على العددين '68' و '57' قادتْ إلى القيمة '125' "(1982: 8).
السؤال الذي يثور هنا، يتناول هذا الوثوق (أو اليقين) الذي يمكن أن يُعبِّرَ
عنه كل واحد منا أقدم على حساب هذه العملية البسيطة. ومُفاد هذا السؤال هو الآتي:
ما الذي يضمن أنك استعملتَ في هذه العملية القاعدةَ نفسها التي استعملتها سابقا في
العمليات التي أنجزتها؟ يقول كريبكه مشككا في نفسه: "ربما كنتُ أستعمل في
الماضي الكلمة 'زائد' و العلامة '+' للإحالة على دالة يمكن أن أصطلح عليها 'يائد' [كريبكه يسميها (quus)] وأرمز لها بـ '*'. وتُعَرَّفُ
هذه الدالة على النحو الآتي:
س
* ص= س + ص، إذا س، ص < 57 . أما في الحالات الأخرى: س * ص =
5.
فمن ياترى يستطيع أن ينفي أن هذا هو ما
كنت أعنيه في الماضي بـ '+' ؟" (1982: 8-9).
لا شيء، كما يوضح كريبكه هنا، يمنع من أن تكون قد استعملتَ في العمليات
السابقة قاعدة لا تشبه قاعدة الجمع إلا في العمليات التي تقل أعدادها عن العدد 57،
لكنها تختلف عنها في العمليات الأخرى التي تزيد أعدادها عن 57. وهذه القاعدة
المفترضة تسمى "اليَمْع" وليس الجمع. وهي قاعدة مفترضة لا تشبه الجمع
إلا بالنسبة إلى جمع الأعداد التي تقل عن 57، أما جمع الأعداد التي تتخطى هذا العدد
فيكون "يمعا" لا جمعا، أي أن جمع هذه الأعداد تكون نتيجته دائما '5' كما
يقضي بذلك التعريف أعلاه. إن هذا الأمر ممكن في الواقع طالما أنك، حسب الافتراض،
لم يسبق لك أن أنجزتَ عملية بأعداد تربو على 57.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الأمر أدخلُ في العبث منه في المعقول. فالفكرة
التي تقول إنك كنت تستعمل في الماضي قاعدة "اليمع" وليس قاعدة "الجمع"،
تبدو في واقع الأمر فكرة شاذة. فأنت متيقن تمام اليقين من أنك كنت تستعمل عملية
الجمع (وليس اليمع !) في العمليات
التي أنجزتها سابقا، بالقدر الذي أنت متيقن من أنك تستعمل الآن عملية الجمع في هذه
الحالة الأخيرة أيضا. فأن تكون على غير بينة مما كنت تقوم به في الحالات السابقة
يعد أمرا محيرا ومقلقا بالنسبة إليك. لكن المشكك الذي يتكلم على لسانه كريبكه ليس
شخصا سهل الانقياد. إنه أشد عنادا وأثقب نظرا وألطف في الأمور تدخلا مما تتصور. إنه
يملك من الدلائل ما لا تستطيع رده باليسر الذي قد يراودك أو يجول بخاطرك. يقول
كريبكه: "يدعي المشكك ... أنني الآن في وضع لم أُحسِنْ فيه تأويل استعمالي
السابق لـ '+'. إنه يروم إقناعي بأنني في استعمالاتي السابقة حين كنت أستعمل 'زائد'،
إنما كنت دائما أقصد 'يائد'؛ وأنا الآن أسيء تأويل استعمالي السابق
بسبب مَسٍّ لحقني أو بسبب تناولي حبات من إل. إس. دي (LSD)". (1982: 9). ويستدرك كريبكه
محذرا: "على الرغم من أن فرضية المشكك تبدو مضحكة وعجيبة، تظل مع ذلك فرضية
ممكنة، ولا يمكن بحال الطعن فيها من الزاوية المنطقية". (1982: 9).
إذا تأملنا مليا الاعتراض الأخير الذي أورده كريبكه على لسان مشككه نلفيه لا
يشكك في العملية التي أنت بصدد إنجازها الآن فحسب، بل في العمليات التي سبق لك أن
أنجزتها كلها أيضا. وهو عندما يشككك في القاعدة التي كنت تتبعها في العمليات
الحسابية السابقة، يبين لك بذلك أن القاعدة التي اتبعتها في كل عملياتك الماضية،
وتتبعها في العمليات الحاضرة، يتناولها الشك ويأتي عليها. وبالفعل، فإذا كنتَ قد
استعملت في الماضي قاعدة اليمع عوض قاعدة الجمع، وسُئلتَ الآن عن قيمة "57 +
68"، تعين عليك لكي تنسجم مع العمليات التي أجريتها في الماضي أن تجيب بـ
" 5"، وليس بـ "125". لكن بما أنك في حيرة من أمرك بخصوص العمليات
التي أنجزتها في الماضي، لا يجوز لك أبدا أن تفضل جوابا على جواب. فقد صرت كائنا
لا يعول البتة على ما يصدر عنه. أو كما قال شهاب الدين القرافي (1973: 423- 424): "الذي
اختلط عقله في بعض الأوقات، يُخشى أن يكون ما يرويه لنا الآن مما سمعه في تلك الحالة"،
أي مما حصّله في حالة الاختلاط تلك. ومن الصعب عليك أن تقنع المشكك، أو تقطع شكه
باليقين، بالاستناد إلى أي واقع يتصل بكونك كنت في الماضي تجمع ولا
"تيمع"؛ لأن يقينك الذي تدعيه لا يكون قائما إلا على تجاربك وتمثيلاتك
الذهنية الماضية. فالواضح لديك هو أنك عندما تخلص إلى أن "57 + 68 =
125"، تَستعمل للوصول إلى هذه النتيجة عملية الجمع وليس عملية اليمع. لكن هذا
لا يُنبئ أو يؤكد أنك كنت تستعمل "زائد" بالفعل في الماضي حين كنت تجمع
مثلا "2 + 2 = 4"؛ لأن "2 * 2 = 4" أيضاً ! وبما أن
ما قمت به من عمليات في الماضي يقبل من الناحية المبدئية التلاؤم مع ما لا حصر له
من القواعد، وليس مع الجمع واليمع فقط، فإن الشك يصبح شاملا وكليا. والنتيجة التي
تترتب على هذا الوضع تكون فادحة. فإذا لم يكن هناك واقع بعينه في الماضي يسمح ببت
القاعدة التي كنتَ قد اتبعتها في حساباتك، فإنه يستحيل عليك أن تقطع بماهية
القاعدة التي تتبعها في حساباتك الآن. وإذا لم يكن هناك واقع يبرهن على أنك تتبع
هذه القاعدة أو تلك، فإن اتباع قاعدة دون أخرى لا يعود أمرا ذا معنى على الإطلاق.
فيصبح من باب التوهم الادعاءُ أن القاعدة تسبب السلوك، ويغدو من باب الخطأ الفادح
التعويل عليها في التماس التفسيرات.
استنادك إلى حالاتك الذهنية وإلى تجاربك الخصوصية (أي تعويلك على ظنونك
واعتقاداتك) للبرهنة على ما تفعله الآن، أو على ما فعلته في السابق، لن يسعفك في
شيء. يقول فتجنشتاين: "أن يظن المرء أنه يتبع (أو يمتثل) قاعدة، لا يعني
البتة أنه يتبع القاعدة. إذ لا يمكن للمرء أن يتبع قاعدة معينة 'بكيفية خصوصية'؛
وإلا كان ظنُّ المرء أنه يتبع القاعدة مماثلا هو نفسه لاتباعها" (فق: 202، صع، 248،
صج، 87-88، ترجمة معدلة).
1-3 حل كريبكه
يلجأ كريبكه في
الفصل الثاني من كتابه إلى اقتراح الحل الذي يراه مناسبا لهذه المفارقة الشكية
التي عرضها فتجنشتاين. ويعود في هذا الصدد إلى الموقف الشكي الذي صاغه هيوم بشأن
السببية. فقد سبق لهذا الأخير أن بين أن استدلالاتنا المتصلة بالأسباب والنتائج
تعد في الأصل استدلالات مشتقة كلها من العادة، وأن اعتقادنا المتصل بالعلاقة
السببية هو فعل ألصق بالجانب الحسي في طبيعتنا منه بالجانب المعرفي (انظر الفصل
المعنون بـ 'عن الحرية والضرورة' القسم الأول، ضمن هيوم 2007: 75). واستنادا إلى
هذا التصور يرى كريبكه أن مشكلة هيوم المتصلة بالسببية شبيهة بمشكلة فتجنشتاين
المتصلة بالمعنى. إنهما تشتركان معا في فكرة الاقتران السببي الذي يَفرض فيه
الاستعمال السابق السير على منواله في الحاضر والمستقبل. وهذا الاقتران السببي لا
شيء يفسره غير العادة. لهذا السبب تكون استدلالاتنا الاستقرائية استدلالات محكومة
بالمواضعة والاعتياد. فهذه الفكرة المشتركة بين هيوم وفتجنشتاين تسمح لنا بالإفلات
من النتيجة الشكية القاضية بأن الكلمات ليس لها معان تدل عليها، وكل تطبيق أو
استعمال لكلمة من الكلمات لا يزيد عن كونه ضربا من القفز في الظلام، وكل قصد يكون
حاضرا في ذهننا عند التطبيق يمكن أن يُؤوَّل على نحو يوافق فيه أي شيء نريد أن
يوافقه (كريبكه 1982: 55). (كريبكه يريد أن يضرب عصفورين بحجر واحد في تأويله
لفتجنشتاين: يريد أن يساند المشكك في اعتراضه، ويريد أيضا أن يفسر كيف أننا نستعمل
اللغة بسلاسة ويفهم بعضنا بعضا على الرغم من وجود هذه الاعتراضات !).
الحل حسب
كريبكه يستلزم منا أن نتخلى عن النزعة الواقعية الكلاسيكية وندافع عن صيغة ميكائيل
داميت اللاواقعية. لهذا يدعي أن فتجنشتاين يقبل في التحقيقات
المسلمة الشكية، أي أن فتجنشتاين في نظره يتفق مع المشكك المزعوم الذي ينفي وجود
واقع مخصوص يتصل بذهننا، ويكون بمثابة المعنى المسبق لدالة الجمع قبل إتياننا
بالجواب. غير أن الحل الشكي الذي ينسبه كريبكه إلى فتجنشتاين لا يرمي إلى الوقوف
في وجه المشكك وإبطال ما يدعيه. إن كريبكه يقبل في هذا الحل كما ألمعنا مسلمة
المشكك، ويحاول في الوقت نفسه أن يعثر على مسوغات تفسر ممارساتنا الاعتيادية. يقول
كريبكه في هذا الشأن: "إن الحل الشكي للمشكل الفلسفي الشكي يبدأ على العكس من
التسليم بأن الاستدلالات السلبية التي يتذرع بها المشكك لا تقبل الرد. لكن هذا لا
يمنع من القطع بأن ممارستنا العادية أو اعتقادنا سائغ. إنه سائغ لأنه -على خلاف ما
قد يبدو- لا يحتاج لكي يكون كذلك إلى التسويغ الذي بين المشكك أنه مردود"
(1982: 66).
لكي يوضح
كريبكه الحل الذي يقترحه فتجنشتاين يشير إلى أن هذا الأخير عرض قيدين يمكن
بمقتضاهما تحديد المعنى: الأول، ضمن أي شروط يمكن لهذه الصورة الكلامية أو تلك أن
تُثبت أو تُنفى بطريقة ملائمة؟ والثاني، ما هو الدور الذي يلعبه في حياتنا العملية
إثباتُ أو نفيُ هذه الصورة الكلامية ضمن تلك الشروط؟ (1982: 73). ويتعين علينا أن
ننبه هنا إلى أن الحديث عن الشروط بهذا المعنى يشير إلى الإعراض التام عن دلاليات
الشروط الصدقية، والدفاع عن نظرية في المعنى تستند إلى شروط الإثبات أو التسويغ.
لهذا السبب إذا لم تكن هناك شروط صدقية مستقلة عن أقوالنا نستطيع أن نحتكم إليها،
فإن الإثباتات المشروعة تصبح هي تلك التي ترد ضمن سياقات محددة، وإثباتها ضمن هذه
السياقات المحددة يلعب دورا محددا في حياتنا. من هنا يرى كريبكه أن نظرية المعنى
التي اقترحها فتجنشتاين تقصي إمكان قيام لغة خصوصية. يقول كريبكه "فهذا الدور
وهذه الشروط تتطلب الإحالة على الجماعة، لأنها لا تقبل الانطباق على الشخص المنفرد
المعزول عن الآخرين. لهذا رفض فتجنشتاين 'اللغة الخصوصية' كما سبق أن قلنا باكرا
في الفقرة 202" (1982: 79).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المشكك الذي يتحدث عنه كريبكه لا يشبهُهُ، كما بين
ذلك هيل (1997)، أحد في لائحة الشكاك التقليديين. فعلى الرغم من أن شكية كريبكه
تبرهن على أنه يستحيل علي أن أدعي أنني أعني عملية الجمع في المثال الذي ناقشناه
أعلاه، فإن النتيجة التي ينتهي إليها لا تقضي بأنه على الرغم من إمكان وجود واقع
معين يُحدِّد ما أعنيه فإنه يظل خارج دائرة قدرتنا المعرفية، بل تقضي باختصار بأن
هذا الواقع الذي يحدد ما أعنيه غير موجود (راجع هيل 1997: 371). لهذا
السبب جاء الحل الذي اقترحه كريبكه في صيغة شكية هو أيضا، ونسبه إلى فتجنشتاين
كذلك. إنه حل يستند إلى التصور الجماعي الذي يقضي بأن القصدية (المعنى) شأن
اجتماعي خالص. وقد اكتسى الحل صفة الشكية لأن كريبكه لم يشغل نفسه فيه بالكشف عن
المقدمة الكاذبة التي تُستعمل في الاستدلال الذي يؤدي إلى المفارقة. ولعل هذا ما
جعل بعض الباحثين يرى أن الحل الشكي الذي عرضه كريبكه ظل، في نهاية المطاف، يسبح
في مسبح فتجنشتاين، وجاء كأن الغرضَ منه إقناعُنا بأن نتعلم العيش صاغرين جنبا إلى
جنب مع النتيجة المفارقة ونتحمل تبعاتها. أي أن الحل الذي يعرضه كريبكه يمكننا،
كما يقول هيل، من ترميم حديثنا عن المعنى (القصدية) من دون أن ندعي أن هناك وقائعَ
تكون بمقتضاها العبارات التي نسند فيها المعنى عبارات صادقة أو كاذبة (راجع: هيل 1997: 370).
ويمكن أن نُلخِّص مُوجِزين الحل الشكي الذي اقترحه كريبكه لمفارقة فتجنشتاين
ونرده إلى قسمين اثنين: القسم الأول من هذا الحل يتفق مع ما يدافع عنه المشكك، أي
ليس هناك وقائع موصوفة أو غير موصوفة يحيل عليها إسناد المعنى. فالعبارات التي
نسند بواسطتها المعنى لا ترنو إلى تقرير وقائع، بل ترنو إلى هدف آخر مختلف. إن
دورها يقوم على تقرير عدم وجود وقائع. وقد استدل كريبكه على أن هذا الموقف هو
الموقف الذي دافع عنه فتجنشتاين، وربطه أساسا بتخلي فتجنشتاين عن نظرية المعنى المستندة
إلى شروط الصدق التي نعثر عليها في كتابه الرسالة ودفاعه في أعماله
المتأخرة عن التصور الذي يربط المعنى بالاستعمال. أما القسم الثاني من الحل الشكي
فهو القسم الذي يستند إلى الجماعة. فالشروط التي تكون ملائمة لكي نقول فيها أشياء
مثل "يعني زيد بـ '+' الجمع" تعد شروطا جماعية في جوهرها. فقولنا هذا
يكون ملائما عندما نجد أن العبارات المحتوية لـ '+' التي يستعملها زيد أو عمرو
تتوافق تماما مع الأشياء التي نميل نحن أنفسنا إلى استعمالها.
2_ فتجنشتاين، فلسفة الذهن
ومسألة الكيفيات
يعد فتجنشتاين نقطة ارتكاز
رئيسة في كثير من القضايا التي تتناولها فلسفة الذهن المعاصرة. سأحاول أن أبين هذا
الأمر بالتعريج على النقاش الذي دارت رحاه بين فيلسوفين معاصرين بارزين حول مسألة
الكيفيات هما دانيال دينيت وطوماس نيجل، وسأبرز باختصار شديد الصراع بينهما حول
تأويل فتجنشتاين. لكنني أريد قبل ذلك أن أُذكّر باختصار بماضي هذا الاصطلاح عند ك.
إرفين لويس. فعلى الرغم من أن اصطلاح الكيفيات (Qualia) ورد عند بورس، وعند ويليم جيمس بعده، كما أشرنا في الهامش (2)
أعلاه، فإنه يبقى، كما هو رائج اليوم في فلسفة الذهن، مقرونا بإبستيملوجيا كلارينس
إرفين لويس الوارد تفصيلها في كتابه الذهن ونظام العالَم (1929).
ففي سياق سعيه إلى تمييز "العنصر المعطى في التجربة" من العنصر التأويلي
الذي يصوغه فيه الاستدلال التصوري، كان لويس من بين الفلاسفة الأوائل الذين توسعوا
في الحديث عن "الكيفيات" وساهموا في توجيه النقاش في الموضوع ورسم
حدوده. يقول
لويس
في هذا الخصوص: "تكون الكيفيات ذاتية؛ لا اسم لها في الكلام العادي، إنما تقع
الإشارة إليها بعبارات مثل "تشبه كذا" أو "يلوح كأنها كذا".
إنها لا تقبل الصوغ في العبارة (ineffable)؛ لأنها يمكن أن تكون على نحوين مختلفين في ذهنين من دون أن
نستطيع كشف الأمر، ومن دون أن يكون عدم الكشف هذا مخلا بمعرفتنا بالأشياء أو
بخصائصها. كل ما يمكن القيام به للإحالة على كيفية (quale)
معينة ينحصر في تحديد مكانها في التجربة، أي الإحالة على شروط تواردها أو على
علاقاتها الأخرى. فالعبارات كالتي أتينا على ذكرها [أي: "تشبه
كذا" أو "يلوح كأنها كذا"] لا تمسك بالكيفية في ذاتها... الكيفية
في حد ذاتها لا تعد أمرا جوهريا بالنسبة إلى التفاهم والتواصل، ما هو جوهري في هذا
الشأن هو نسق علاقاتها الثابتة الذي يميز التجربة، أي ما يوجد متضمنا في التجربة
عندما تكون هذه الأخيرة علامة على خاصية موضوعية" (انظر لويس 1929: 124-125)[10].
إن هذا النص (بهامشه) الذي كتبه لويس
سنة 1929 أسند إلى الكيفيات الخصائص الجوهرية التي ما زالت تسند إليها اليوم في
النقاش الفلسفي؛ وأقصد بهذه الخصائص: المباشرة، والذاتية، والتمنع عن الصوغ في
العبارة. وهذا ما سنحاول بيانه ومناقشته أدناه لدى كل من دينيت ونيجل.
2-1 دينيت ومسألة الكيفيات
لقد تصدى دينيت لمسألة
الكيفيات في مقال هام حرره سنة 1990 وجعل له عنوانا موحيا تعسُر ترجمته إلى
العربية دون ذيل يكمله أو بيان يشرحه. عنوان المقال الأصلي هو " Quining qualia
". لفظ (qualia) لفظ
لاتيني، وهو اسم في صيغة الجمع، مفرده (quale). أما
معناه فيرادف تقريبا كما أشرنا ما عبر عنه المفكرون العرب القدامى باصطلاح
الكيفيات، أو الكيفيات الوجدانية، أو الوجدانيات. أما اللفظ (Quining) الذي
يوهم بتركيبه الصوتي المحكم أنه لفظ ينتمي إلى اللغة الإنجليزية، فلا وجود له في
هذه اللغة. وقبل أن نشرح هذا اللفظ ونحدد معناه، نستطرد قليلا لنشير إلى أن دينيت
ألف قاموسا فلسفيا غريبا لا نعلم له نظيرا فيما وقفنا عليه من قواميس (انظر دينيت
1987). قاموس دينيت المشار إليه يحوي عددا كبيرا من المداخل لا ينتمي إلى اللغة،
بل اشتق اشتقاقا من أسماء الفلاسفة القدماء والوسطويين والمحدثين والمعاصرين الذين
برعوا وذاع صيتهم وانتشرت مقالاتهم. أما المعاني التي أسندها إلى هذه المداخل
المشتقة فقد استنبطها دينيت واستخرجها من الأطروحات التي اشتهر بها هؤلاء الفلاسفة
أصحاب الأسماء مصدر الاشتقاق وعرفوا بها. وقد عرّف دينيت الفعل (to quine) المشتق
من اسم الفيلسوف المعروف (V.O. Quine W.) بأنه فعل يدل على "الإنكار التام لوجود أو أهمية شيء واقعي أو دال.
مثال ذلك قولُنا: إن بعض الفلاسفة أنكروا (quinned) وجود الفئات، وبعضهم ذهب
به الأمر إلى إنكار (quinned)
الموضوعات الفيزيائية نفسها" (راجع مدخل (quine) في
قاموس دينيت 1987). وقد
استوحى دينيت هذا المعنى من الموقف الفلسفي العام الذي وقفه كواين بإزاء مسألة
المعنى في أعماله، خصوصا في مقاله: "عقيدتا المذهب التجريبي" (1951)،
وفي الفصل الثاني من كتابه الكلمة والموضوع "الترجمة
والمعنى" (1960) اللذين كرسهما لتقويض مفهوم المعنى وانتقاد الأطروحات التي
سلمت بوجوده (أطروحتي فريجه وكارنب على الخصوص)[11].. فالاشتقاق الذي أجراه دينيت
على اسم كواين يدخل إذن في سياق نقدي عام يحاول فيه دينيت أن يقوض أبرز مفهوم في
فلسفة الذهن (وهو الكيفيات) كما قوض كواين وراجع قبله أبرز مفهوم في فلسفة اللغة
(وهو المعنى).
يعرض
دينيت في مقاله المذكور هذا (دينيت 1990) جملة من الحجج يبين فيها أن الكيفيات
كيانات وهمية لا وجود لها أصلا. والغاية من نفي وجود الكيفيات إبطالُ الآراء التي
يدافع عنها الفلاسفة المرتابون، بهذا القدر أو ذاك، في صحة النـزعة الفيزيائية
أمثال نيجل وجاكسن وبلوك وشالمرز وسورل وسواهم.
يتساءل
دينيت في المقال المذكور أعلاه قائلا: "ما هي الفكرة التي أود اقتلاعها بخصوص
الكيفيات؟" ثم يجيب موضحا رأيه: "إن لكل شيء واقعي خصائصَ تميزه، وبما
أنني لا أنكر واقع التجربة الشعورية، فإنني أوافق على أن للتجربة الشعورية خصائصَ
تميزها. بل إنني لأذهب إلى أبعد من هذا وأوافق على أن لحالات البشر الشعورية خصائصَ
تميزها بمقتضى حملها للمحتوى الوجداني الذي تحمله. وهذا يعني أن الشخص كلما جرب
شيئا ما بطريقة وجدانية معينة، حصلت لديه تلك التجربة بمقتضى حدوث خاصية ما من
خواص ذلك الشيء فيه في تلك اللحظة. بيد أنني أرفض رفضا قاطعا عد هذه الخصائص في
مجموعة الخصائص التي جرى الناس على نسبتها إلى الشعور منذ القديم. وسأرتكب خطأ جسيما
إذا أنا تلاهيتُ وأطلقت اسم الكيفيات المضلل على هذا الضرب من الخصائص. فالكيفيات،
كما ترسخ لدى الناس في الاستعمال، تشير إلى خصائص فريدة يعسر حدها. أما الرأي الذي أنوي الدفاع عنه هاهنا - وهو
الرأي الذي سيتضح بالتدريج في تحليلنا هذا- فينفي نفيا قاطعا أن تكون للتجربة
الشعورية خصائص فريدة بأي وجه من
الوجوه التي قيل ويقال فيها إن الكيفيات تتميز بخصائص فريدة" (1990: 382).
بيد
أن دينيت لا يتصدى لتقويض الكيفيات بواسطة الحجج كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن
لأول وهلة، بل يلجأ كعادته إلى التجارب الفكرية (الذهنية) أو مضخات الحدس (intuition pumps) كما
يسميها. يقول في هذا الشأن: "لا تنفع الحجج الصارمة في مناقشة أمر من الأمور
إلا عندما تكون المعطيات المتصلة بذلك الأمر محددة ومضبوطة. وبما أن غرضي هاهنا
ينحصر في التصدي بالنقد لتشبثنا المفرط بمفهوم غير نظري أو 'حدسي'، فإن الوسائل
الملائمة التي سأعتمدها لتحقيق هذا الغرض هي مضخات الحدس وليس الحجج الصورية"
(1990: 383).
يلخص
دينيت الصفات التي نسبها الفلاسفة عبر العصور إلى الكيفيات في الصفات الأربع الآتية:
(1) كونها لا تقبل الصوغ في العبارة، أو داخلة في باب ما لا ينقال (ineffable)، (2)
كونها أصلية غير مشتقة (intrinsic)، (3)
كونها خصوصية (private)، (4)
كونها تدرك شعوريا بطريقة مباشرة (directly or immediatly apprehesible in consciousness)
(1990: 385).
فكون الكيفيات لا تقبل الصوغ في العبارة أمر يرجع إلى أن الواحد منا لا
يستطيع أن يحدد على نحو دقيق ويُفصِّل القول تفصيلا فيما تكون عليه صورة الحمرة أو
طعم الحلوى أو الإحساس بالألم أو الانتشاء بسماع معزوفة موسيقية. وكون الكيفيات
أصلية فأمر يرجع إلى أنها شديدة الصلة بالتجربة الشعورية لا تنفك عنها، فلا يمكن
تقسيمها إلى أجزاء أو تقطيعها إلى مكونات ثم النظر في هذه المكونات أو في تلك
الأجزاء ورصد خصائصها واحدة واحدة. وكونها خصوصية فأمر تابع لكونها لا تقبل الصوغ
في العبارة، لأننا لا نستطيع إبلاغ الآخرين بها وإجراء المقارنة بين الناس الذين
يجربونها وتحديدها على النحو الذي يقتضيه العلم[12].
أما كونها تُدرَك شعوريا بطريقة مباشرة فراجع إلى أن الذات التي تعانيها وتجربها
تبلغها مباشرة من دون وسيط. إن دينيت لا يركز في مقاله المذكور أعلاه إلا على
خاصيتين من هذه الخصائص الأربعة: يركز على كونها أصلية وعلى كونها تدرك على نحو
مباشر.
ما يهمنا هنا في المقام الأول هو أن دينيت يصف موقفه بخصوص
الكيفيات بأنه أكثر جذرية من موقف فتجنشتاين، بمعنى أننا أمام تأويل جذري لما سبق
لفتجنشتاين أن تعرض له بطريقة يشوبها اعتدال. يقول في هذا الشأن: "سأختار من
بين المواقف إزاء الكيفيات موقفا أكثر جذرية من موقف فتجنشتاين. لذلكم أقول: إن الكيفيات
في اعتقادي ليست من جنس "الشيء الذي لا يمكن أن نتحدث عنه" [ كما قال
فتجنشتاين]، بل هي، في رأيي، اصطلاح ابتكره الفلاسفة لا ينطوي على شيء أخر غير
الخلط، ولا يحيل في نهاية المطاف على خصائص أو سمات بعينها على الإطلاق"
(1990: 387). يستند دينيت هنا إلى نصين شهيرين لفتجنشتاين في التحقيقات.
يقول فتجنشتاين في النص الأول متحدثا عن الإحساس واصفا إياه بأنه: "ليس بشيء، وليس بعدم، [فـ] كانت النتيجة.. أن العدم يمكن
أن يصلح كالشيء الذي لا
يمكن أن نتحدث عنه" (فق: 304، صع: 279-280، صج:
109، ترجمة معدلة). أما
النص الثاني فيقول فيه فتجنشتاين: "الشيء الموجود في الصندوق [إشارة هنا إلى
الكيفيات] لا ينتمي بأي حال إلى اللعبة اللغوية؛ ولا حتى باعتباره شيئا ما:
لأن الصندوق يمكن أن يكون فارغا- لا، بواسطة هذا الشيء الموجود في الصندوق،
بالإمكان أن نختصره، مهما كان ذلك الشيء، وبالإمكان إلغاؤه". (فقرة 293، صع
276).
الغاية التي يريد أن يصل إليها دينيت
بالاستناد إلى فتجنشتاين هي تقويض الحجج التي طورها بعض الفلاسفة لنفخ الروح من
جديد في مفهوم الكيفيات وإعادة الاعتبار إليه في سياق البحث الجاري اليوم على قدم
وساق اليوم في ظاهرة الشعور[13].
ومن أبرز هؤلاء الفلاسفة طوماس نيجل وجون سورل وفرانك جاكسون وديفيد تشالمرز. لن
نتعرض هنا إلا لإحدى الحجج التي كان قد صممها طوماس نيجل لهذا الغرض والتي تعرف
بحجة الخفاش في مقاليه "كيف يكون حال الذي يكون خفاشا" و "الذاتية
والموضوعية". ميزة هذه الحجة أن صاحبها يدافع بواسطتها عن وجود الكيفيات
بالاستناد إلى فتجنشتاين. وهذا – لعمري- غريب ! وهو ما سأحاول أن
أقف عنده فيما بعد بشيء من التفصيل خفيف.
2- 2 حجة نيجــل
والكيفيات
لقد
طور ط. نيجل حجته في سياق نقاش حامي الوطيس في فلسفة الذهن المعاصرة يروم من
ورائها إبطال أطروحة المطابقة بين الوقائع المادية والوقائع الشعورية. ففي مقال له
شهيرٍ بعنوان "كيف يكون حال الذي يكون خُفاشا" (1974: 165- 180) ، أجرى تمييزا صارما بين الوقائع الموضوعية والوقائع
الذاتيـة. فالصنف الأول من الوقائع هو الصنف الذي يتناوله العلم بالدرس ليكشف عـن
النحو الذي تكون عليه الوقائع المندرجة فيه كما هي، أي على نحو مستقل عـن الكيفية
التي ندرك بها تلك الوقائع. فالتخصيص العلمي أو الموضوعي لحدث مـن الأحداث يلزمنا
بالتعالي عن سماته الظاهرية وفصله فصلا عن الكيفية التي يُدرك بهـا في سياق
خصوصيات الملاحظ الفردي وعن نمط العملية الإدراكية التي استعملناها في إدراكه.
ميزة الرصد الموضوعي إذن قائمة في أنه رصد براني أو منفصل. إنه كما يذهب إلى ذلك
نيجل طريقة في النظر إلى العالم ليس من مكان قائم فيه بل من لا مكان، أي ليس من
صورة للحياة خاصة (انظر المقدمة في نيجل 1986).
أما الوقائع
الذاتية، أي تلك المتصلة بالتجربة الظاهرية الشعورية، فيصفها نيجل بأنها وقائع
مقرونة أشد ما يكون الاقتران بزوايا النظر الخاصة. فتجربة كتجربة التألم، على سبيل
المثال، تعد تجربة ظاهرية يشعر بها المتألم على نحو مباشر؛ ولن نستطيع أن نميز
فيها بين التجربة في حد ذاتها، أي من حيث إنها شأن موضوعي، والكيفيـة أو النحو
الذي تظهر عليه. وجود التجربة (الموضوعي) يطابق تمام المطابقة النحو الذي تظهر
عليه لمن يجربها. وبما أن النحو الذي تظهر عليه لا يمكن أن نمسك به إلا من زاوية
نظر مخصوصـة هي زاوية ضمير المتكلم، فإنها لا تكون تجربة ظاهرية شعورية إلا بالنسبة إلى ذات
تظهر لها وتشعر بها. يقول نيجل في هذا الشأن: "إن من العسير أن نفهم من
الطابع الموضوعي للتجربة شيئا آخر غير منظور الذات المدرِكة الخاص" (نيجل
1974: 173). ما يريد نيجل أن يقوله هنا هو أن الوقائع الذهنية الذاتية لا تكتسي
صفة الوجود إلا إذا نظرنا إليها من زاوية خاصة هي زاوية ضمير المتكلم أو زاوية
الذات التي تكون مسرحا تعتمل فيه تلك الوقائع. لذلك لا يمكن للرصد الموضوعي كما هو
متعارف عليه أن ُيمسك بالخصائص الذاتية التي تميز الوقائع الذهنية، لأن هذا الرصد
لا يستطيع أن ينفذ إلى تلك الخصائص ويمسك بها[14].
لقد اعتمد نيجل
في شرح حجته وبيانها مثالا طريفا استقاه من عالـم الخفافيش. فهذه الثدييات تتميز
من الثدييات الأخرى، بـما في ذلـكم الإنسان، بكونها تحدد مواقع الأشياء، وتصطاد
فرائسها، وتنتقل من مكان إلى آخر…الخ عن طريق السونار، وهو شبيه بالسمع عندنا.
بعبارة أخرى يمكن القول: إن ما يصنعه جهاز السونار للخفافيـش تصنعـه العين للثدييـات
الأخرى كالإنسان. قد نتصور أن الـمُدركات التي تحصل عليها الخفافيش من طريق السونار
شبيهة جدا بالـمُدركات التي نحصل عليها نـحن من طريق الإبصار. لكننا لا نستطيع أن
نبرهن على ذلك؛ لأننا لا نستطيع اصطنـاع منظـور الخفافيش حتى نحكم على الشبه أو
عدمه. فامتـلاك تجارب الخفاش الذي يـحدد
مواقـع الأشياء وينتقل بين الأمكنة على نحو يحدد فيه الصدى المكانَ أمر لا يمكن أن
يُفهم إلا انطلاقا مـن منظور الخفاش نفسـه. وبما أن منظور الخفاش يختلـف كليا عن
منظورنا فإن كل الوقائع الموضوعية التي يمكن أن تكـون في متناولنا عن تجارب
الخفافيش، حتى لو زعمنا أن معرفتنا بالفسيولوجيا العصبية لهـذه الثديـيات تامة غير
منقوصة، ستكون ناقصة لكونها لا تتضمن بعض الوقائع الذاتـية اللصيقة بمنظور هذه
الثدييات الخاص. فالسعي في طلب الموضوعية في هذه الحالة لن يوصلنا إلى المراد؛ لأن
المراد غـير موجود في الوقائع الموضوعية المعروضة أمامنا، بل مطوي طيا في الوقائع
الذاتية الـتي لا سبيل لنا إليها. ونستطيع القول إن حجة نيجل تتجه إلى جهتين: جهة
معرفيـة؛ وجهة أخرى يمكن أن نطلق عليها اصطلاح الجهة المنظورية.
فيما يتصل
بالجهة الأولى، يريد نيجل أن يبين لنا ما يلي: إننا، حتى عندما نكون عارفين بالفسيولوجيا
العصبية للخفاش وبالأنحاء التي يتفاعل بـها هذا الحيوان الثديي مع العالم المحيط،
سنبقى مع ذلك جاهلين جهلا مطبقا بالكيفية التي يكون عليهـا الخفاش وهـو يستقبل من
طريق السونار ما نستقبله نحن من طريق الإبصار؛ أي سنبقى جاهلـين بالطابع الأصيل
الذي يتميز به إحساسه وهو يحدد بالسونار ما لا نبلغـه نحـن إلا بالعين.
أما بخصوص
الجهة الثانية المتصلة بالمنظور، فإن نيجل يرمي إلى بيان ما يلي: إذا كنا لا
نستطيع أن نمسك بالطابع الذاتي الذي يميز التجربة الظاهرية إمساكا تاما إلاّ من
منظور فريد ووحيد (منظور ضمير المتكلم)، وكنا نستطيع الإمساك بالعمليات التي تجري
في الدماغ من منظورات موضوعية متعددة (منظور الضمير الغائب)، فإننا سنُضطر إلى
استخلاص ما يلي: عندما يكون المراد إدراكَ الطابع الذاتي المميز للتجربة، فإن
الهرولة وراء تحقيق الموضوعية لن يقربنا من الطبيعة الحقيقية للظاهرة بل سيزيدنا
بعدا عنها.
وقد لخص نيجل
حجته بجهتيها في مكان آخر حين كتب يقول: "توجد أشياء تتصل بالعالم، وبالحياة،
وبنا جميعا لا يمكن أن نفهمها فهما ملائما انطلاقا من منظور موضوعي خالص، مهما تكن
قدرة هذا المنظور على توسيع فهمنا المباشر الذي انطلقنا منه ابتداء. فهناك كـمٌّ
من الأشياء كبيرٌ يقترن اقترانا شديدا بزاوية النظر الخاصة، أو بنمط خاص من زاوية
النظر، بحيث إن السعي في طلب تحليل تام غير منقوص للعالم ضمن حدود موضوعية مفصولـة
عن زوايا النظر تلك، سيجرنا حتما إلى إجراء ردود خاطئة (false reductions)، أو إلى الطعن الصريح في وجود ظواهر معينة لا يمكن لامرئ منصف أن
يشك في وجودها لحظة" (1986: 7)[15].
يذهب نيجل في سياق هذا النقاش أيضا إلى
أن الطابع الذاتي للتجربة أمر لا يمكن تثبيته إلا بالإحالة الباطنية، أي بالإحالة
على ما يوجد في مكان ما من باطن الشخص المُحيل، من دون أن يعرف الآخرون هل توفق
المحيل في إحالته أم لا. والإشكال الذي يعترض الإحالة الباطنية هنا هو أن "كل
ما سيبدو [للمُحيل] صوابا سيكون فعلا صوابا" كما قال فتجنشتاين في التحقيقات
(فق: 258، صع : 265) معترضا في سياق آخر على هذا الضرب من التحليل، أي لن يكون في
متناولنا مقياس عمومي يسمح لنا بتقويم الوضع وبَتِّه. وإذا كان الأمر كما ذكرنا،
فإن حديث نيجل عن الخصائص الأصلية المميزة للتجارب الباطنية سيكون ضربا من العبث
غير ذي معنى.
إن نيجل يعي جيدا المفارقات التي يُفضي
إليها تحليله. ويعي جيدا أن المفارقة الكبرى التي تنجم عن هذا التحليل هي الإقرار بوجود
خصائص نستطيع أن نحيل بطريقة باطنية عليها من دون أن نستطيع صوغها صوغا صريحا في
العبارة[16].
غير أنه على الرغم من ذلك، لا يرى فيما يذهب إليه مفارقة البتة. بل إن القارئ قد
يُفاجأ، وهذا ما يهمنا نحن هنا، عندما يسمع من نيجل كلاما يقول فيه: "لا
أستطيع أن أتوسع هنا في مناقشة حجج فتجنشتاين عن عمومية القواعد والمفاهيم. وأعتقد
أنه كان على حق فيما ذهب إليه من أن مفاهيمنا الفينومنولوجية الضاربة في
الذاتية تُعد هي أيضا مفاهيم عمومية بهذا المعنى" (نيجل 1979أ: 207).
فهذا الكلام، وخصوصا القسم الذي شددنا عليه خطا، يناقض في منطوقه ومفهومه ما قاله
نيجل قبل قليل في حجته. إذ من باب الانسجام كان يتعين على نيجل أن ينفي صفة
العمومية عن المفاهيم الذاتية ويستبدل بها صفة الخصوصية، لأن نعت العمومية يلحق
المفاهيم الذاتية عند فتجنشتاين، ومن لف لفه، من جهة الإفصاح عنها لغة لا من جهة
أخرى غيرها. وإذا كان نيجل ينفي إمكان الإفصاح لغة عن تلك المفاهيم، فمن أين يا
ترى استحقت مفاهيمنا الذاتية صفة العمومية؟
الغريب أن نيجل لا يستسلم لخصومه، بل
يناور ليجعل فتجنشتاين في صفه ويفك الارتباط بينه وبين من يدعون أنهم أتباعه
كدينيت. يقول، موضحا رأيه بخصوص العمومية: "يتعين علينا أن ننتبه إلى أن
المفاهيم الذاتية تكون عمومية بمعنى يخالف العمومية المنسوبة إلى المفاهيم
المستعملة في وصف العالم الفيزيائي. فتنسيق جهات النظر التي يصدر عنها أفراد كُثرٌ
نحو تجاربهم الخاصة يختلف اختلافا كليا عن تنسيق جهات النظر التي يصدرون عنها نحو
العالم الخارجي. فليس هناك في الحالة الأولى شيء واحد مشترك يتقاسمه الأفراد
المشترِكون في نظرتهم إلى الأشياء نفسها. فالإحساسات في نظر فتجنشتاين لا تخرج عن
كونها مظاهر (appearences)، أي أن خصائصها ليست خصائص موضوعات تظهر لكل من يكون مالكا إياها.
والشبه القائم بين خصائص [التجارب الذاتية] لا يدخل في جنس الشبه القائم بين
الأشياء المادية [الموضوعية]، بل هو شبه قائم بين المظاهر؛ أي شبه
قائم بين ظواهر ذاتية لا تقبل الرد إلى شيء آخر.
وإذا نحن طرحنا جانبا الطابع الذاتي المميز للإحساسات فإننا لن نستطيع أن نفهم كيف
تكون هذه الإحساسات متشابهة من دون أن تكون خصوصية. فالرؤية التي تصدر عن الموضوع
الخصوصي أو عن المعطى الحسي، كما لو كان شيئا محددا، ليست إلا نزعة تروم إضفاء
الموضوعية كرْها على أمور ذاتية صرفة" (نيجل 1979أ: 207). إن نيجل يحاول
بكلامه هذا أن يتجنب اعتراض فتجنشتاين المتصل بـ "حجة اللغة الخصوصية"؛
لذلك ينفي الخصوصية عن التجارب الذاتية من دون أن يُنـزِّلها منـزلة التجارب
الموضوعية. فيمكن للأفراد أن يتقاسموا التجارب الذاتية نفسها، لكن من دون أن نجزم
أو نقطع بأن هناك شيئا معينا ومخصوصا واحدا هو ما يتقاسمه هؤلاء الأفراد كما نقطع
بذلك في أثناء التجارب الموضوعية. فالتجارب الذاتية تجارب عمومية لا يمكن الاعتراض
عليها بحجة اللغة الخصوصية؛ لكنها ليست تجارب موضوعية. إن نيجل، إذا شئتم، يتجنب
نسبة صفة الخصوصية إلى التجارب الذاتية وينسب إليها درجة من العمومية أقل قليلا من
عمومية التجارب الموضوعية.
إذا عدنا إلى دينيت نلفيه لا يقبل تفسير
نيجل للأمور، ولا يقبل تحايله على فتجنشتاين. وبالفعل، فسرعان ما ينتبه نيجل إلى أن
تصور فتجنشتاين العام لا يمكن أن يسعفه في الدفاع عن أمور كرس فتجنشتاين القسم
الأخير من حياته لتقويضها. ويلوح التذبذب في قراءة نيجل لنصوص فتجنشتاين جليا
عندما يقول بأسى عميق :"إن حالات الشعور الذهنية هي حالات شيء واقعية، سواء
أكانت حالاتي أنا أم حالات مخلوق آخر غريب. ويمكن لتصور فتجنشتاين أن يسمح برصد
هذا الحدس. غير أنني لا أرى كيف يمكن أن يحصل ذلك في الوضع الراهن للأمور"
(نيجل 1979ب : 193). والحق أن فتجنشتاين لا يمكن أن يسمح برصد هذا الحدس الذي
يتعلق به نيجل ويلح عليه ويصر على إقناع القراء به. فهذا الحدس الذي يؤرق نيجل تحدث
عنه فتجنشتاين وشبهه في التحقيقات بـالزر الذي "يبدو وكأنه
لتشغيل جزء من المحرك، لكن يتضح أنه مجرد زينة، لا علاقة له بآلية المحرك"
(فق: 270، صع: 268). إن دينيت لا يكف عن تذكير نيجل بهذا النص الصريح الذي يرفض
فيه فتجنشتاين كل حديث عن الحالات الشعورية كما يفهمها نيجل؛ أي من حيث إنها خصائص
أصلية لا يمكن لنظرية الذهن أن تقفز عليها. فدينيت يذهب إلى أننا نستطيع أن نبني
نظرية تفسيرية للذهن من دون أن نلتفت إلى الحالات الشعورية بوصفها خصائص أصلية، لا
لشيء سوى لأنها ليست جزءا من "الآلـة" تماما كالزر الذي يدور من دون أن
يدور معه شيء له صلة بعمل الآلة. إن التفسير في نظر دينيت ينبغي ألا يقول لنا ما
إذا كانت هذه الحالات موجودة أم لا، بل ينبغي أن يقول لنا لماذا نعتقد أنها موجودة
ونتحدث عنها كما لو أنها كذلك. بعبارة أخرى يرى دينيت أننا عندما نفسر لماذا نعتقد
أن الحالات الشعورية موجودة (على الرغم من أنها غير موجودة)، فإننا نكون، في
نظره، قد فسرنا ظاهرة الشعور برمتها.
2- 3 حجة دينيت والكيفيات
عمد دينيت في
سياق تقويضه مفهوم الكيفيات إلى صوغ مجموعة من التجارب الفكرية في مقاله (1990:
389، وما بعدها) المذكور آنفا. سأكتفي هنا بإيراد إحدى هذه التجارب ملخصة لكي نقف
على البعد الجذري الذي يميز موقفه إزاء الكيفيات قياسا إلى موقف فتجنشتاين. تقضي
التجربة الفكرية أو الذهنية التي صاغها دينيت بما يلي: تصوروا شخصين، زيدا وعمرا،
متخصصين ماهرين في تذوق القهوة يعملان عند إحدى الشركات الكبرى (دينيت يتحدث عن
شركة ماكسويل هاوس، لكننا لن نهتم باسم الشركة أو أسماء الأعلام هنا)، التي تبيع
قهوة مخصوصة وتحرص الحرص كله على أن لا يتغير طعمها حفاظا على سمعتها في السوق. إن
زيدا وعمرا أمضيا في هذه الشركة سنوات طويلة، ولم يحدث قط أن تقاعسا في عملهما أو
تبرما منه أو تهاونا. في يوم من الأيام التقيا مصادفة في مقصف الشركة، وقعدا جنبا
إلى جنب وشرعا يتباثان ويتكاشفان ويُظهران على لسانيهما ما يجول في خاطريهما.
وفجأة قادتهما أطراف الحديث إلى الكلام عن بعض العراقيل التي أصبحت تعترض حياتهما
المهنية. وفي هذا النطاق أفضى زيد إلى زميله بسر طال تلجلجه في صدره حتى أصبح
يؤرقه ويقض مضجعه، وهو أنه لم يعد يحب طعم القهوة التي يراقبان جودتها معا،
وذلك على الرغم، يقول زيد، من أن طعم القهوة لم يتغير.
وبينما كان زيد يتحدث، كانت علامات الاستغراب والدهشة تعلو محيا عمرو. فرد عمرو
قائلا: غريب، إنني شعرت منذ أيام بعكس ما شعرت به أنت تماما. فأنا ما زلت
شغوفا بطعم القهوة كما كان، بيد أنه أصبح يغلب على ظني أن حُليماتي الذوقية تدهورت
أو ربما فسدت، لأن طعم القهوة لم يعد بالنسبة إلي كما كان في السابق.
(وتجدر الإشارة هاهنا إلى أن الروائز الكيميائية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن
القهوة ظلت هي هي من الناحية الموضوعية).
السؤال الذي
يثار هنا هو: هل يتعين علينا أن نصدق الروايتين معا؟ بإمكاننا أن نقول إننا لا
نستطيع أن نشك في أن الأمر يبدو لهما على نحو ما روى كل منهما. ونستطيع أن نقول مع
القرافي: "صاحب القضية إذا رواها كان أعلمَ بها وأبعد عن الذهول والتخليط
فيها، بخلاف ما إذا روى غيره" (1973: 423). بيد أننا يجب أن ننتبه إلى أن ما
يرويه زيد وعمرو، كل بطريقته، لا يتصل فقط بانطباعاتهما الراهنة حال مناقشتهما، بل
يتعدى ذلك إلى صوغ أحكام تتصل بما تغير وبما لم يتغير. ويمكن في هذا الصدد
أن نتصور إمكانات كثيرة في فهم موقفيهما:
1-
إن كيفيات زيد الوجدانية ظلت بالفعل كما كانت، والذي تغير هو ردات فعله
العاطفية.
2-
إن زيدا مخطئ فيما روى، إذ إن الذي
تغير فعلا هو كيفياته الوجدانية. إنها تغيرت في غفلة منه على نحو تدريجي؛ أما
استعداداته العاطفية فلم تتغير قيد أنملة. وإذا صح هذا، صح أن الوضع الذي يوجد فيه
زيد هو الوضع الذي يقول عمرو إنه فيه.
3-
يمكن أن يكون عمرو في الوضع الذي
يعتقد أنه فيه، كما يمكن أن لا يكون كذلك ويكون في الوضع الذي يقول
زيد إنه فيه.
4-
يمكن أيضا أن يكون كل من زيد وعمرو
في أي وضع من الأوضاع الوسيطة اللانهائية التي يتفاعل فيها قدر من التغيير معينٌ
في الذوق مع قدر من التغيير معينٍ أيضا في ردات الفعل العاطفية في الوقت نفسه،
ويكونا في وضع عام، يشمل الوضع السابق، تخونهما فيه ذاكرتهما بهذا القدر أو ذاك،
أعني في وضع كلما وقفا فيه على شيء أخذتهما سِنة السهو فذهب عن خاطرهما ما قبله
وهكذا دواليك وهلم جرا.
إننا في هذه
الأحوال كلها لا نكون إزاء مسائل تقبل البت، لا بطريق العلم المعرفي أو العرفاني (cognitive science) ولا بطريق الفينومنولوجيا؛ ذلك
لأننا حتى لو قدرنا أن زيدا وعمرا انصاعا وقبلا الخضوع للتجارب العصبية في
المختبر، فإن ما ستكشف عنه هذه التجارب لن يفيدنا في شيء. إذ لكي تكون هذه التجارب
مفيدة لنا، يتعين عليها أن تُبنى على موازنات تروم إحداث ضروب من المطابقة بين
التجربة الذاتية التي يرويها زيد وعمرو كل على حدة، والوقائع العصبية القائمة في
دماغ كل منهما. والحال أن هذه الموازنات ليست ممكنة، لأنها تقتضي، في المقام
الأول، بتَّ الإمكانات التي أتينا على تعدادها أعلاه، وهو أمر ممتنع قطعا كما
بينا.
يستخلص دينيت
من هذه التجربة الفكرية خلاصته الجذرية التي تقضي بأن حديثنا عن
الكيفيات الوجدانية يعد في واقع الأمر حديثا عن العدم. (وليس عن شيء لا يمكن أن نتحدث عنه كما
رأينا أعلاه مع فتجنشتاين (فق: 304، صع:
279-280، صج: 109، معدلة)). فليس هناك كيفيات حتى نبحث لها عن تحديد. لذلك يكون
القول بوجود كيفيات وجدانية، في نظر دينيت، قولا لا يدخل في باب الوهم فحسب، بل
يضرب بسهم في باب الهلوسة الفينومنولوجية الحقة أيضا. فالكيفيات وساوس تغلب على
أمزجتنا وتقودنا إلى المبالغة والإفراط في الحس. والأدلة التي يمكن أن نأتي بها
لإثبات وجودها يعارض بعضها بعضا كما رأينا، فلا يمكن ترجيح أحدها على الآخر، لأن
في كل دليل منها مقدارا هو معارض أو مخالف لما في الأدلة الأخرى؛ لذلكم تسقط كلها
ولا يبقى إلا مجرد الرجحان، ومجرد الرجحان ليس بدليل. ولما كانت المعرفة لا
تُستطاع إلا بالدليل، فإننا لا نستطيع الحديث عن المعرفة بالكيفيات. فليس هناك إذن
شيء اسمه 'كيفيات'، وما كثرة الأدلة وتكافؤها إلا دليل على عدم وجودها. ونستطيع أن
نختم ونقول إن حديث الناس عن الكيفيات هو في النهاية اصطلاح منهم جروا عليه منذ
القدم وهتفوا بنشره ولهجوا بذكره حتى ألفوه وصار عالقا بأوهامهم راسخا في عقولهم.
إنه إذا شئتم حديث يرجع في أصله إلى التواطؤ والتشاعر ويرتد إلى الاصطلاح والتنادي
لا حقيقة له في واقع الأمر ولا دليل عليه.
3- خاتمة
لا أعتقد أن قراءة فتجنشتاين في سياق
الفكر العربي ستجعل منه نصا معزولا أو غريبا عن الثقافة الفلسفية العربية. فعدد لا
يستهان به من القضايا والإشكالات التي تناولها في التحقيقات على
الخصوص نجد لها سوابق في الفكر العربي القديم. لا أريد في هذا السياق أن أفعل كما
يفعل بعض الكتاب العرب عندما يصادفون شيئا جديدا
وافدا فيعودون القهقرى إلى الماضي، كيفما اتفق، ويقولون إن هذا الجديد موجود عندنا
في القديم. هذا النوع من القراءة أخرق، وغير مجد في نظري، ولا يمكن الاطمئنان إليه
والذهاب فيه بعيدا. ما أريد أن أشير إليه هنا هو أن بعض القضايا التي ناقشها
فتجنشتاين في سياق إبستمولوجي معاصر توجد على نحو ما من الأنحاء في الفكر العربي
أيضا، وإن كان ذلك في سياق إبستمولوجي قديم. وإثبات هذا الأمر لا يدعو إلى
الاطمئنان والاكتفاء بما سبق أن وُجد لدينا، بل يحثنا على استئناف البحث والنقاش
في هذه القضايا وإعادة النظر فيها وترجمة القوي من الاستدلالات القديمة إلى السياق
المعاصر. استئناف هذا البحث هو القيمة المضافة الكبرى التي يمكن لنص فتجنشتاين أن
يساهم بها في الثقافة الفلسفية العربية. لهذا السبب أريد في هذه الخاتمة أن أركز
على هذا الأمر بإيراد مثال واحد هو مثال شهاب الدين القرافي الذي كنت أشير إليه
قصدا أعلاه من حين إلى آخر. ولن أبتعد عما كنا فيه بخصوص مناقشة الكيفيات. فقد
تعرض القرافي للكيفيات في سياق تعليقه على نص للرازي (فخر الدين) يتناول فيه هذا
الأخير الطرق المحصِّلة للعلم غير التواتر. ومن بين هذه الطرق ناقش القرافي طريقا
أطلق عليه الأصوليون "إخبار الجمع عن الوجدانيات"، ويقصدون به
إخبار الجماعة من الناس عن تجاربهم الذاتية اللصيقة بهم. ففي سياق التعليق على
النص الآتي للرازي: "كون المُخبَر عنه معلوما بالضرورة أو الاستدلال، وخبر
الله تعالى، وخبر الرسول، وخبر الأمة أو الجمع العظيم عن الوجدانيات في نفوسهم
أو القرائن عند إمام الحرمين والغزالي والنظام خلافا للباقين" (التشديد خطًّا
مَزيدٌ)، يقول شهاب الديـن القـرافي معلقا: "ومثال إخبار الجمع عن الوجدانيات
أن يُخبِر كل واحد أنه وجد هذا الطعام شهيا أو كريها، فنقطع أن ذلك الطعام كذلك.
فإن متعلق أخبارهم واحد وإن لم يحصل القطع بما في نفس كل واحد من تلك الكراهة، لأن
كراهة كل واحد منهم لم يُخبِر عنها غيره، وإخبار الآخر إنما هو عن كراهة أخرى قامت
به. فمُخبراتهم متعددة وفي كل مُخبر عنه خبر واحد فلا يحصل القطع به، بخلاف متعلق
تلك الكراهات أو اللذات فإنه واحد، وهو كون ذلك الطعام كذلك، فإن إخبارات الجميع
اجتمعت فيه فحصل القطع" (1973: 354). يظهر من هذا النص أن القرافي يقبل، مثل
نيجل تماما، نسبة العمومية إلى التجارب الذاتية من دون أن يُنـزِّل هذه التجارب
منـزلة التجارب الموضوعية. فالكراهة التي يخبر عنها كل امرئ في مثال القرافي لم
يخبر عنها غيره أو سواه، فتكون الكراهة من هذه الجهة شأنا ذاتيا صرفا. لكن، كونها
شأنا ذاتيا لا يمنعها من أن تكون شأنا عموميا، ذلك لأن أخبار الجماعة كلها تتعلق
بأمر واحد هو أن هذا الطعام كريه أو شهي. بعبارة أخرى لا نستطيع القطع، حسب شهاب
الدين، بأن المُخبرين عن كراهة الطعام يتقاسمون فيما بينهم شيئا معينا واحدا
ومخصوصا كالمخبرين المبصرين الذين يخبرون من نافذة في البيت، مثلا، عن هطول المطر
أمام أعينهم. فهؤلاء يتقاسمون فيما بينهم مشهد المطر الذي يهطل، أما أولئك فلا
نستطيع أن نمسك بما يشتركون فيه "لأنه لم يحصل القطع بما في نفس كل
واحد" منهم. فكل فردٍ فردٍ من هؤلاء يكون أمام مظهر لا
يراه إلا هو. وعندما يخبر فإنما يخبر عن ذلك المظهر الذي يراه هو لا غيره. لكن
عندما تُجمِع الأخبار على المظاهر نفسهـا، وهي المظاهر التي تقيدها اللغة وتضعها
تحت "كريه" أو "شهي"، يحصل القطع، لا لأن "كريه" أو
"شهي" تشير إلى حالة محددة واحدة قائمة في كل من تلفظ بها، بل لأنها
تتعلق بالطريقة نفسها بالشيء الذي يوصف بها وهو الطعام في مثال شهاب الدين.
وعلى الرغم من أن هذا النقاش، كما
أسلفت، يندرج في سياق إبستمولوجي قديم، أي في سياق مختلف عن السياق المعاصر الذي
يحفل بالمحدثات وخصوصا ما يعرف بالاستعارة الحاسوبية التي تقضي بأن الذهن حاسوب،
والتي توجه عددا لا يستهان به من الأعمال المعاصرة في فلسفة الذهن والعلم المعرفي
أو العرفاني (انظر الفصل الثالث في مصطفى الحداد 1995: 57- 90)، فإننا مع ذلك
نستطيع أن نعثر على شيء من هذا في السياق الإبستمولوجي القديم. فالقرافي لم يعرج
في نظري على مناقشة الكيفيات على نحو يقترب كثيرا مما نجده لدى المعاصرين إلا
لكونه كان شغوفا بصيغة من صيغ الذكاء الاصطناعي التي سمح بها عصره. قال القرافي في
"نفائس الأصول"(1 / 441- 442): "وكذلك بلغني أن الملك الكامل وُضِع
له شَمْعدان، كلما مضى من الليل ساعة انفتح باب منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة
السلطان، فإذا انقضتْ عشر ساعات، طَلَع شخص على أعلى الشمعدان، وقال: صبَّح الله
السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد طلع. وعَمِلْتُ أنا هذا الشمعدان، وزِدْتُ
فيه أن الشمعة يتغيَّر لونها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغيَّر عيناه من السواد
الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمْرة الشديدة، في كلِّ ساعةٍ لهما لون،
فيُعْرف التنبيه في كل ساعةٍ، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره،
ويُغْلق بابٌ ويُفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في
أذنه يشير إلى الأذان، غير أني عجزْتُ عن صنعة الكلام...".
غير أني عجزت عن صنعة الكلام.. !
مراجـــــــــــــــــــــــــــــــــع
العربية:
· ابن سينا (1952). الشفاء.
المنطق (المدخل). تحقيق الأب قنواتي، محمود الخضيري، فؤاد الأهواني. مراجعة د.
براهيم مدكور، تصدير د. طه حسين باشا. نشر وزارة المعارف العمومية. القاهرة.
· الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد (دون تاريخ) المواقف في علم الكلام. عالم
الكتب، بيروت، لبنان.
·
الحداد مصطفى (1995) اللغة
والفكر وفلسفة الذهن. منشورات الأعمال الاجتماعية والثقافية لكلية الآداب.
تطوان. المغرب. (الطبعة الثانية صدرت 2013، عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع)
· فتغنشتاين لودفيك (2007) تحقيقات
فلسفية. ترجمة وتقديم وتعليق د. عبد الرزاق بنور. المنظمة العربية للترجمة.
بيروت، لبنان.
·
القرافي شهاب الدين الصنهاجي المصري (1973) شرح
تنقيح الفصول. تحقيق طه عبد الرؤوف. دار الفكر مصر.
·
القرافي شهاب الدين الصنهاجي المصري (1995) نفائس
الأصول في شرح المحصول (9
أجزاء). تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض. مكتبة نزار مصطفى الباز. مصر.
· الكفوي
أبو البقاء (1998) الكليات:
معجم في المصطلحات والفروق اللغوية. تح عدنان درويش ومحمد المصري. مؤسسة الرسالة. بيروت،
لبنان.
الأجنبية:
·
Armstrong, D. (1968) A Materialist Theory of Mind. London:
Routledge & Kegan Paul.
·
Baillie, J. (2000). Hume on morality. London : Routledge.
· Block, N. (1994)."Consciousness." In S. Guttenplan (Ed.), A
Companion to Philosophy of Mind . Oxford: Blackwell, pp. 210- 219.
· Brentano, F. (1874). Psychology from an Empirical Standpoint. Edited
by McAlister, L. London: Routledge, 1995.
·
Chalmers, D. J. (1996). The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory.
Oxford University Press.
·
Dennett , D. C. (1987 ). The philosophical lexicon , (8th ed.). Copy available
from the American Philosophical Association , University of Delaware, Newark ,
DE.
·
Dennett, D. C. (1990). “Quining qualia” in Goldman Alvin I. (ed)
(1993)., pp. 381- 414.
·
Dokic, J. (1998). “La perception interne et la critique du langage privé”. Revue
de Théologie et de Philosophie. 130. 1998, p.1-19.
·
Frege. G. (1951) « On Concept and Object». Mind, New Series, Vol. 60, No. 238, pp. 168-180. ( P. T.
Geach; M. Black (trans)).
·
Goldman, A. I. (ed) (1993) Readings in Philosophy and Cognitive Science. MIT
Press.
·
Grayling, C. A. (1988) Wittgenstein. Oxford University Press.
·
Hale, B. (1979). “Rule-following, objectivity and meaning” in Wright, Crispin
& Hale, Bob (ed)., pp. 369- 396.
· Hume, D. (2007) An Enquiry Concerning Human Understanding. Edited
by S. Buckle. Cambridge University Press.
·
Jack, I. A &
Shallice, T. (2001) “Introspective physicalism as an approach to
the science of consciousness” in Cognition. Vol. 79, issue 1- 2,
pp. 161- 196.
·
Jackson, F. (1982) « Epiphenomenal Qualia ». Philosophical
Quarterly, Vol. 32 Issue 127.
· Kripke. S.
A. (1982) Wittgenstein on Rules and Private
Language: An Elementary Exposition. Cambridge, Mass.: Harvard
University Press.
· Lewis, Clarence.
Irving. (1929) Mind and the World Order: Outline
of a Theory of Knowledge. New York: Dover Publications.
· Livingston, M. P. (2004) Philosophical History and the Problem of Consciousness.
Cambridge: Cambridge University Press.
·
Moore, G. E. (1903). Principia Ethica. Prometheus Books (1988).
·
Nagel, Th. (1974). “What is it like to be a bat?” in Nagel Thomas (1979),
pp. 165- 180.
·
Nagel, Th. (1979a).“Subjective and Objective” in Nagel Thomas (1979), pp.
196- 213.
·
Nagel, Th. (1979b). “Panpsychism” in Nagel Thomas (1979),
pp. 181- 195.
·
Nagel, Th. (1979). Mortal Questions. Cambridge University
Press.
·
Nagel, Th. (1986). The view from Nowhere. Oxford University Press.
·
Putnam, H. (1988). Representation and Reality. Cambridge:
MA., MIT Press.
· Quine, W. V. O. (1951). “Main Trends in Recent Philosophy: Tow Dogmas of Empiricism”. The
Philosophical Review, Vol. 60, No.1, 20-43.
·
Quine,W. V. O. (1960) Word and Object. MIT, Cambridge, Mass.
· Quine, W. V. O. (1962) « Le Mythe de la
Signification » in La Philosophie Analytique (Collectif). Cahiers de Royaumont. Paris: Minuit.
·
Searle, John R. (1992) The Rediscovery of the Mind (Representation and
Mind). A Bradford Book. MIT Press.
·
Wittgenstein, L. (1980) Remarks on The Philosophy of Psychology:(Volume
I). Trans. G.E.M. Anscombe. Ed. G E.M. Anscombe & G.H. von Wright.
Blackwell Publishers.
· Wittgenstein, L. (1953) Philosophical Investigations 4th edition (The
German-English edition). Translated by . G. E. M. Anscombe, P. M. S. Hacker and Joachim Schulte. Blackwell Publishing 2009.
·
Wright, C. &
Hale, B. (ed). (1997) A companion to the
philosophy of language. Blackwell Publishing.
[1] -
هذا المقال صيغة معدلة وموسعة لعرض ألقي بجامعة برلين
الحرة بألمانيا، في إطار ورشة بعنوان 'قراءة فتجنشتاين بالعربية' (Reading Wittgenstein in Arabic) نظمها مركز (Zukunftsphilologie) وانعقدت يومي 11-12 ماي 2012.
[2] - نستعمل لفظ الكيفيات (أو الوجدانيات أو الكيفيات
الوجدانية) هنا بنوع من التجوز ترجمةً للاصطلاح الغربي (qualia) الذي
يُنطق (كْواليا). الكيفية في الاصطلاح العربي كلمة تدل على معان شتى
يكتنفها قدر لا يستهان به الغموض لأنه "قد يراد بها ما يقابل الكم والنسب وهو
المعنى المشهور، وقد يراد بها معنى الصفة" (انظر الكفوي 1998: 751-752). وقد
خصص الإيجي في كتابه المواقف في علم الكلام (الإيجي دون تاريخ: 120-
161) حيزا كبيرا لمناقشة الكيفيات، وقسمها إلى أربعة أقسام (الإيجي: 121):
المحسوسة، والنفسانية، والمختصة بالكميات (أي الكيفية التي تعرض للكم كالزاوية
التي هي إحاطة الضلعين بالسطح بالنسبة إلى من لا يُدرج الزاوية في الكم (الإيجي
دون تاريخ: 160))، والاستعدادات (إما نحو القَبول وإما نحو الدفع (الإيجي:
161)). وهذا الغموض يصدق أيضا على
الاصطلاح في اللغات الغربية. لهذا السبب ضربنا صفحا في هذا المقال عن الخوض في
الأمور الاصطلاحية خشية التطويل، واستندنا إلى التعريفات المتداولة عند المعاصرين
من الغربيين، أي استندنا إلى تعريف كلارينس إرفين لويس (1929) (لم نلتفت إلى بورس
الذي كان أول المُحدثين الذين استعملوا اصطلاح (qualia) ولا إلى وليم جيمس (انظر ليفينستون 2004: 6)) الذي أثر ووَجه
تعريفُه تعريفاتِ الفلاسفة المعاصرين لنا أي: دينيت ونيجل وسورل وجاكسن وتشالمرز.
[3] - لقد عولنا أساسا في تصنيف هذه الحالات الذهنية، في سياق مناقشة إشكال اللغة الخصوصية
عند فتجنشتاين، على مقال جيروم دوكيك (1998: 1- 19).
[4] - يُنظر إلى الاستبطان عموما من
حيث إنه إدراك متجه إلى الباطن. الاستبطان بهذا المعنى هو ضرب من الإدراك . وقد
أشار آرمسترونغ إلى هذا الأمر حين قال:
"نغدوا شاعرين بما يجري حولنا من أشياء في العالم الفيزيائي عن طريق الإدراك
الحسي. فالإدراك حسب هذا التصور حدث ذهني موضوعه (القصدي) هو الأوضاع القائمة في
العالم الفيزيائي. أما الاستبطان فيُمكِّننا من الشعور بالأشياء التي تحدث في
ذهننا. الاستبطان بهذا المعنى يكون حدثا ذهنيا موضوعه (القصدي) هو الحوادث الذهنية
التي تعد جزءا من الذهن نفسه الذي يلجأ صاحبه إلى الاستبطان. وعلى الرغم مما بين
الإدراك الحسي والاستبطان من تباين فإننا نستطيع مع ذلك أن نقارن بينهما. فكانط لم
يجانب الصواب عندما وصف الاستبطان بأنه 'حس باطن' " (آرمسترونغ 1968: 123).
[5] - أستعمل الرمز (فق) للإشارة إلى
الفقرة، والرمز (صع) للإشارة إلى الصفحة في الترجمة العربية، وحين أعدل عن هذه
الترجمة، أضع الرمز (صج) للإشارة إلى الصفحة في الترجمة الإنجليزية.
[6] - انظر الحداد، مصطفى (1995: 6-7).
[7] - يذهب غرايلين (1988: 91- 92)،
استنادا إلى الفقرة 441 من التحقيقات إلى أن فتجنشتاين يطبق هذا
التحليل المبني على مفهوم التعبير على الحالات الأخرى أيضا كالرغبة والتمني
والتوقع... الخ. فكما أن لنا استعدادا طبيعيا لإظهار ألمنا عندما نتألم، فإن لنا
استعدادا طبيعيا لإظهار رغبتنا أو أمنيتنا أو توقعاتنا عندما نرغب أو نتمنى أو
نتوقع. فالعبارة "أتوقع مفاجأة في أي وقت" هي نفسها تعبير عن التوقع، أي
أنها جزء لا يتجزأ من التوقع. إنها كالصراخ أو كقول القائل الذي يتألم "إني
أتألم". يمكن أن يعبر المرء عن التوقع بطرق أخرى كأن يحس بتوتر أعصابه،
أو بالذهاب والإياب، أو بالنظر بين الفينة والأخرى إلى الساعة، لكن قوله
"أتوقع مفاجأة في أي وقت" على الرغم من تعقيده، لكونه سلوكا لغويا، يظل
هو نفسه جزءا لا يتجزأ من التوقع.
8- القصدية هنا لا تعني
القصد أو النية بل تشير إلى ظاهرة عامة ترادف 'المعنى' أو 'الدلالة' عموما. والنقاش
المعاصر الدائر حول القصدية يعود في أصله إلى فقرة شهيرة وردت في ثنايا الفصل
المعنون بــ "الفرق (أو التمييز) بين الظواهر الذهنية والظواهر الفيزيائية (ص: 59- 77)"
من كتاب فرانز برينطانو (1838-1917) علم النفس منظورا إليه من
الزاوية التجريبية. يقول برينطانو ( 1874: 68) في هذه
الفقرة : "إن ما يميز الظاهرة النفسية مما عداها يتلخص في ما سماه علماء
العصر الوسيط بالوجود القصدي الباطني (intentional inexistence)، أو الذهني؛ وهو ما يمكن أن نشرحه نحن هنا… بالعلاقة بمحتوى معين
أو بالاتجاه نحو موضوع معين (من دون أن نفهم من الموضوع واقعا موجودا) أو نحو
موضوعية ماثلة. فكل الظواهر الذهنية تتضمن طيها موضوعا معينا، على الرغم من أن ذلك
لا يكون دائما بالطريقة نفسها. ففي العرض يكون الشيء معروضا، وفي الحكم يكون الشيء
مثبتا أو منفيا، وفي الحب يكون الشيء محبوبا، وفي الكراهة مكروها، وفي الرغبة مرغوبا
فيه [أو عنه]. ويعد هذا الوجود القصدي سمة مميزة مقصورة على الظواهر الذهنية. فليس
هناك ظاهرة فيزيائية تكشف عن شيء شبيه بهذا". هذا المعنى الذي أسنده برينطانو
إلى القصدية (برينطانو في الحقيقة لم يستعمل 'القصدية' في صيغة الاسم، بل استعملها
في صيغة الوصف. لم تُستعمل الكلمة في صيغة الاسم إلا لاحقا مع هوسيرل (انظر في هذا
الشأن باتنم (1988: الهامش 1 على الفصل الأول، ص 127 )) هو معنى مستوحى من مفكري
القرون الوسطى. ويذهب أغلب الباحثين إلى أن لهذا الأمر صلة بترجمة كتب ابن سينا
إلى اللاتينية، حيث استقر رأي المترجمين في
القرون الوسطى
على ترجمة كلمة 'معنى' العربية باللفظ 'intentio'
اللاتيني (انظر ابن سينا 1952: 144، وانظر ضمنه أيضا الهامش 1: 125). لهذا السبب
ألح برينطانو على أن استعماله للقصدية شديدُ الصلة بالاستعمال الذي كان شائعا في
القرون الوسطى، لكي ينبه القارئ إلى تجنب الخلط بين هذا الاستعمال الذي يستفاد منه
الدلالة على المعنى بصفة عامة والاستعمال المتداول للقصد الذي يراد به النية.
القصدية عند برينطانو ظاهرة عامة تميز الحالات الذهنية من الحالات المادية أو
الفيزيائية. بهذا المعنى تكون حالات الاعتقاد والرغبة والتمني والخشية والقصد
(النية) والإدراك.. كلها حالات قصدية في اصطلاحه. الباحثون المعاصرون يرادفونها
أحيانا بالدوران (aboutness)، لأن هذه الحالات تدور على
موضوعات أو قضايا موجودة أو مقدرة في العالم، وهذا الدوران هو ما يميز هذه الحالات
من الحالات المادية التي لا تدور على شيء آخر.
[9] - نقع في المغالطة التطبيعية عندما
نخلط بين مفهوم أو حد غير طبيعي كالـ 'خير' مثلا، الذي يعد حدا معياريا يندرج في
إطار ما ينبغي أن يكون، ومفهومٍ أو حد يحيل على موضوع طبيعي يندرج في إطار ما هو
كائن، أيا كان هذا الموضوع. "في هذه الحالة، يقول مور، نكون بإزاء مغالطة
تطبيعية.. وقد استحق هذا الخطأ اسما خاصا يدل عليه لأنه خطأ شائع ومنتشر بين
الناس" (انظر مور 1903: 13).
[10] - يميز
لويس بين خصائص الموضوعات بصفة عامة والكيفيات التي تعرض للحس. يقول في هذا الخصوص
"ما يحيل عليه المفهوم أو أي صفة مثل 'أحمر' أو 'دائري' هو أمر أكثر تعقيدا
من كيفيةٍ حسية (sense-quale) مُمَيَّزة. ينبغي للموضوع الذي يحيل عليه المفهوم أن يتحلى ببعض
الدوام في الزمان لكي يتسنى له أن يمتد إلى ما وراء عَيِّنَة الحاضر. فهذا الأمر
[أي الامتداد] يُعد جوهريا بالنسبة إلى دلالة المفهوم المعرفية. أما كيفيات الحس (sense-qualia) بوصفها أمرا معطى،
فلا تحتاج إلى أن تتحلى بهذا الامتداد الزمني. زد على هذا أن مثل هذه الكيفيات على
الرغم من كونها تتكرر في التجربة، ويقع تعرفها تعرفا أصليا، فإنها لا تملك أسماء
تدل عليها. إنها تختلف
اختلافا كليا عن 'كليات' المنطق وعن المشاكل التقليدية التي اقترنت بهذه
الكليات" (1929: 60-61). إنها في نظره ضرب آخر من الكليات يختلف عن كليات
المنطق. يقول في هذا الشأن: "توجد خصائص كيفية مُدرَكة يتميز بها المعطى تقبل
التكرار في التجارب المختلفة فتكون بهذه الصفة نوعا من الكليات. وهي ما أسميه بـ
'الكيفيات' (Qualia).
بيد أنه على الرغم من أنها كليات، من جهة كونها تُدرَك في التجارب المختلفة، يتعين
التمييز بينها وبين خصائص الموضوعات. الخلط بين الاثنين فاش ومطرد في كثير من
التصورات القديمة وفي كثير من النظريات المعاصرة التي تعول على مفهوم الجوهر (essence-theories ).
الكيفية يقع حدسها مباشرة، إنها معطاة، ولا يمكن أن تكون موضوعَ خطأ، لأنها شأن
ذاتي صرف. وعلى العكس من هذا تكون خاصية الموضوع خاصيةً موضوعية، وإسناد الخاصية
الموضوعية يكون حكما يجوز أن يَعرِض له الخطأ؛ وما يُثْبته حَمْل الخاصية
الموضوعية يعد أمرا يتعالى عما يمكن أن يكون معطى في أي تجربة مفردة" (1929:
121). أوردنا هذه النصوص على الرغم من طولها لكي يتضح للقارئ مدى تأثير لويس في
فلاسفة الذهن المعاصرين وخصوصا دينيت ونيجل كما سيتبين لاحقا.
[11] - انتقد كواين عقيدتي النزعة
التجريبية (أي عقيدة التمييز بين الأقوال التحليلية والأقوال التركيبية، وعقيدة
الرد التي تقضي بأن الأقوال المعتمدة في نظرية من النظريات تقبل الرد إلى أقوال
أولية تدور على التجربة أو تتناولها) لا لأنه كان يرفض هذه النزعة، كما قد يتبادر
إلى الذهن، بل لأنه كان يرى أن النزعة التجريبية بهاتين العقيدتين (كما هي ممثلة
عند كارنب) ليست تجريبية بما يكفي؛ لذلك أراد تخليصها من العقيدتين. هذا هو السبب
الذي جعله يركز في مقاله (1951) على كارنب على الرغم من أنه تجريبي مثله وأستاذه
أيضا. لكن دفاعه عن النزعة التجريبية خالصة من العقيدتين المذكورتين يجعل نقده
ينصرف أيضا، وإن بطريقة غير مباشرة، إلى تصور فريجه للمعنى. فهذا الأخير دافع عن
تصور للمعنى أفلاطوني المنحى مجاف تماما للنزعة التجريبية. يقول فريجه: "لقد
أصبح الناس في أيامنا، بمقتضى المبالغة في تقدير أهمية الجملة والإعلاء من شأن الحَرْفية،
يميلون إلى الاعتقاد بأن العبارات المتباينة في لغة معينة لا تكون أبدا متعادلة
تماما، وبأن الكلمة لا يمكن نقلها نقلا دقيقا إلى لغة أخرى. بل إنهم ليذهبون إلى
أبعد من ذلك ويَزعُمون أن الكلمة الواحدة لا تُفهم أبدا بالطريقة نفسها لدى متكلمي
اللغة الواحدة. إنني لا أنوي الفحص هاهنا عن مدى صحة هذه المواقف. سأكتفي فقط
بالإشارة إلى أنني أعتقد جازما أننا نستطيع العثور على عنصر مشترك بين العبارات
المتباينة، وهو ما أسميه بالمعنى (sense) وأسميه في حالة الجمل بالفكرة (thought). بعبارة أوضح، ينبغي أن لا يغرب
عن بالنا أننا نستطيع التعبير عن المعنى نفسه بطرق مختلفة، لكن هذا الاختلاف لا
يكون متصلا بالمعنى بل بالطريقة التي ننظر بها إليه وبالكيفية التي نلح بها عليه
وبالتلاوين التي نصبغها عليه، وهذه كلها أمور لا يلتفت المنطق إليها ولا يوليها أدنى
اهتمام... فعلى الرغم من كثرة اللغات تتقاسم البشرية مخزونا من الأفكار
واحدا وتشترك فيه (a common stock of thoughts)" (فريجه 1951: هـ 2، ص 171).
نزعة
كواين التجريبية فرضت عليه في الفصل الثاني من كتاب الكلمة والموضوع
(1960: 26- 79)
دراسة حالة متطرفة من حالات الترجمة وصفها بـ 'الجذرية' (وكأنه يرد على نص فريجه المذكور
أعلاه لأنه هو أيضا يتحدث عن الترجمة !).
فالمترجم الذي تصوره كواين غريب عن الجماعة التي حل بها ليترجم لغة أهلها. إنه
سيسعى، ببذل جهد استثنائي، إلى اقتناص المعنى من الأوضاع العمومية ومن السلوكات
والسياقات المكشوفة للعيان لا من تقديرات أو مُثُل أو مجعولات معلقة في الهواء. والأسلوب الذي اتبعه كواين في
هذا الفصل الذي خصصه لهذا الضرب من الترجمة أسلوب تجريبي (ما صدقي بالتعبير
الصوري). فقد حلل وضعا (وضع الترجمة) لا بد من اللجوء فيه إلى فكرة المعنى، لكنه
عدل عن فكرة المعنى (كفكرة فريجه أعلاه التي تقول 'إن البشرية تتقاسم مخزونا من
المعاني/ الأفكار') وبحث عن سبل أخرى (تجريبية وما صدقية وسلوكية) أعفته من اللجوء
إلى فكرة المعنى الأسطورية. (كما عبر عن ذلك كواين نفسه حين اختار 'أسطورة المعنى (أو الدلالة)' (Le mythe de la signification) عنوانا
للعرض الذي كان قد ألقاه في ندوة الفلسفة التحليلية
بمركز روايومون بفرنسا، قبل أن يتحول العرض لاحقا إلى الفصل الثاني من كتاب الكلمة
والموضوع. انظر كواين 1962: 139- 169).
[12] - أشار
الإيجي (د. ت: 14) في حديثه عن الاشتراك في الوجدانيات إلى أمر قريب من هذا حين
قال: "إنها [أي الوجدانيات] قليلة
النفع في العلوم، لأنها غير مشتركة فلا تقوم حجة على الغير". وتعرف هذه
الحجة التي أومأ إليها الإيجي في المواقف بحجة امتناع الاشتراك
الظاهري (argument
of impossibility of phenomenal sharing). وهي حجة يصعب على المرء تلافيها؛ لأن قسما من مفهومنا عن الشعور
الظاهري أو عن الكيفيات الوجدانية يصدنا عن الإقرار بأن الحالة أو الحدث الشعوري
الواحد يقبل الحصول في ذهنين شاعرين مختلفين. حصول الحالة في ذهنين، أي اشتراك
الذهنين في تجريبها، يمنعها من أن تكون خصوصية. وكونها شأنا خصوصيا يجعلها قليلة
النفع في العلوم؛ لأن العلم لا ينهض على الخصوصيات.
[13] - للإيضاح أشير إلى أن المعنى
الذي نسنده هنا إلى الشعور هو المعنى الرائج فيما يسمى اليوم بـ 'دراسات الشعور' (Consciousness Studies). وسنركز بكيفية خاصة هنا على الشعور في شقه التجريبي الظاهري أو الذاتي. فعندما نصف الشخص بأنه
شاعر، إنما نقصد بذلك أن لهذا الشخص تجربةً ظاهرية. نقصد ما أشار إليه ط. نيجل (1974:
166) حين قال: "تكون للجهاز العضوي حالات شعورية، إذا وفقط إذا كان هذا الجهاز
بإزاء كيفيات وجدانية تنبؤه بأنه جهاز في تلك الحالة". وقد درج الباحثون في
إطار 'دراسات الشعور' على التمييز بين مستويين اثنين كثيرا ما يحصل الخلط بينهما
لشدة اتصالهما وعسر إدراك الفرق بينهما. ومن بين هؤلاء الباحثين نذكر، على سبيل
المثال لا الحصر، الفيلسوف نيد بلوك Block. فقد كتب هذا الأخير سلسلة من
المقالات ميز فيها بين صنفين من الشعور: الشعور الظاهري (phenomenal consciousness)،
(وهو الذي سنركز عليه هنا) والاستشعار (access consciousness). فيما يتصل بالشعور الظاهري يقول بلوك (1994: 210- 211):
"ليس هناك من تعريف غير دوري يمكن أن نورده في هذا الشأن. وأحسن ما يمكن أن
نقوم به هنا هو إيراد مرادفات أو أمثلة أو غير ذلك مما قد يشير إلى الظاهرة المراد
تعريفها... فالمرادفان اللذان يمكن أن أوردهما هنا لبيان الشعور الظاهري هما
'التجربة الذاتية' و 'ما نكون عليه عندما نكون نحن'. وفي سياق تفسير الشعور
الظاهري يمكننا أيضا أن نعتمد الخصائص الشعورية أو الكيفيات، أي الأنحاء التي تبدو
بها الأشياء لنا، أو الكيفيات الفينومنولوجية المباشرة التي تعن لنا؛ كما يمكننا
أيضا أن نلجأ إلى الأمثلة ونقول: النحو الذي تظهر به الأشياء لنا أو تُسمع، والنحو
الذي نحس به الألم، أو بصفة عامة الخصائص التجريبية التي تتميز بها الإحساسات (sensations) والأحاسيس (feelings) والتجارب الإدراكية (perceptual experiences). ولا أتردد في أن أزيد هنا أن للأفكار والرغبات والعواطف مظاهر
شعورية مُميَّزة أيضا...". أما الاستشعار عند بلوك فيشير، كما يقول، إلى
الجانب "المعرفي أو القصدي أو الوظيفي" من مفهوم الشعور (ص 213).
فالحالة تكون حالة استشعار حسب بلوك إذا كان وجودها، أو تَمثُّل محتواها (1) يقبل
الاستعمال الاستدلالي، أي يقبل دون عناء أن يكون مقدمة في استدلال معين، و(2) أن
يكون في متناول المراقبة العقلانية للفعل، و(3) أن يكون في متناول المراقبة
العقلانية للكلام. (ص.214). وفي نطاق رصد
الشعور دائما، يميز د. تشالمرز (1996) D. Chalmers بين مستويين في
الشعور أيضا: مستوى يصفه بالمستوى الظاهري، ويقصد به المعنى نفسَه الذي يقصده بلوك
بالشعور الظاهري، ويعد هذا المستوى في نظر تشالمرز المستوى الذي يستحق أن نطلق
عليه اصطلاح الشعور؛ أما المستوى الثاني فيصفه بالنفسي (1996: 25 وما بعدها).
ويتميز هذا المستوى من الأول حسب تشالمرز بكونه واقعا بكيفية مباشرة في متناول
المراقبة الشاملة (direct
availability for global control) (انظر تشالمرز 1996: 225). فهو من هذه الناحية لا
يختلف في الحقيقة إلا من جهة الاسم عن الاستشعار في اصطلاح بلوك. ويشترط فيه تشالمرز
أن يكون موضوعيا قابلا للرصد والقياس. لن نتعرض هنا لهذا الشق
الاستشعاري أو النفسي من الشعور.
[14] - إن هذا الموقف
نجده أيضا لدى سورل. فهذا الأخير على الرغم من أنه من مشايعي النزعة الفيزيائية (المادية) ومن المدافعين عن المنظور الذي تصدر
عنه العلوم الطبيعية، أي المنظور الذي يجعل من الشعور ومفاعيله، كالكيفيات
الوجدانية، ظواهر بيولوجية تظهر في مستوى من مستويات انتظام الكائن الحي، نُلفيه
يذهب مثل نيجل إلى أن "للعمليات الذهنية خاصية ضاربة في التفرد، لا توجد في
الظواهر الطبيعية الأخرى؛ وهذه الخاصية هي الذاتية. وهذا المظهر الذي يكشف عنه
الشعور يضع عند دراسته عقبات كأداء شتى أمام المناهج المتعارف عليها في البحث
البيولوجي والنفسي، ويعد مشكلا بالنسبة إلى التحليل الفلسفي" (1992: 93-94).
ويعتقد سورل، في سياق مراجعته للأدبيات، أن السمة الطاغية على دراسة الشعور اليوم
هي أن الباحثين لا يأخذون هذا المظهر الرئيس الذي يميز الشعور مأخذ الجد. يقول في
هذا الشأن: "يؤسفنا أن نبالغ في تقدير الآثار الكارثية التي لحقت البحث
الفلسفي والنفسي في نصف القرن الأخير من جراء عدم الاعتراف بالطابع الذاتي المميز
للشعور. فالفشل الذي مني به قسم لا يستهان به من الأبحاث التي أنجزت في نطاق فلسفة
الذهن، والعقم الذي أصاب علم النفس الأكاديمي في الخمسين سنة الماضية، وأصاب حياتي
الفكرية في مجموعها، هما نتيجتان للعجز المزمن عن الاعتراف بأن الأنطلوجيا الذهنية
تعد أنطلوجيا لا تقبل أن تزاح عن ضمير المتكلم. فهناك بواعث عميقة، وأكثرها محفور
في تاريخنا اللاشعوري، تجعلنا لا نستطيع القبول بالفكرة القائلة إن العالَم
الواقعي، أي العالم الذي تصفه الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، يحوي طيه عنصرا
ذاتيا لا يقبل الطرح أو التنحية" (1992: 95).
[15] - لقد طور فرانك جاكسون حجة أخرى للغرض نفسه تشبه (من الناحية المعرفية وليس
المنظورية) حجة نيجل، ألح فيها على تميز الشعور الظاهري، ورام بإيرادها فضلا عن
ذلك الاستدلالَ على تهافت النزعة الفيزيائية وفسادها. تقول الحجة: هب أن هندا
عالمة مبرزة لا يُشق لها غبار، اضطُرت لأسباب نجهلــها أن تُجري أبحاثها وهي
محبوسة في غرفة ليس فيها لون آخر غير اللونين الأبيض والأسود. حتى الشاشة التي
تستعملها في أبحاثها لا تُظهر لونا آخر غـير اللونين المذكورين، أي الأبيض والأسود.
هند عالمة متخصصة في الفيسيولوجيا العصبية للرؤية. هب أنها توصلت إلى كل المعلومات الفيزيائية التي يمكن التوصل إليها بخصوص ما يقع عندما نرى طماطم
ناضجة، أو عندما نرفع بصرنا إلى السماء ونرى زرقتها، أو عندما نستعمل حدودا
مثل" أحمر" أو " أزرق"…الخ. ماذا سيحصل لهنـد
عندما ستخرج من غرفتها هذه أو عندما سنمكنها من شاشة تعمـل بالألوان؟ هل ستتعلم شيئا جديدا
أم لا؟ واضح أنها ستتعلم شيئا عـن العالم وعن التجربة البصرية التي نملكها نحن.
وإذا صح أنها ستتعلم شيئا جديدا صح أن المعرفة التي كانت في متناولها قبـل أن تخرج
أو أن تتسلم شاشة بالألوان كانت معرفة ناقصة، على الرغم من أنها كانت متمكنة من
المعلومات الفيزيائية كلها. والحاصل هو أن هناك، فضلا عن هذا الكم الهائل من
المعلومات الفيزيائية، شيئا ما آخر تجهله هند. لهذا نقول إن النـزعة
الفيزيائية نزعة خاطئة (انظر جاكسن 1982: 130).
[16] - ديفيد تشالمرز لا يرى هو أيضا
حرجا في الإلحاح على ضرورة العناية بهذا الضرب من التجارب الشعورية حتى وإن كانت
ضاربة في الحدسية وكنا عاجزين عن الإفصاح عنها وتحديدها. يقول في هذا الشأن منتقدا
منكري هذه التجارب: "إن
الحدس البارز هاهنا هو أننا بحضرة شيء يتطلب التفسير، أي بحضرة ظاهرة مقرونة على
نحو وثيق بتجربة ضمير المتكلم، تضع مشكلا لا نلاقيه عندما ننظر إلى أمور العرفان (cognition) من
منظار الضمير الغائب … والطريقة المتسقة الوحيدة لتجنب الحدوس هنا والالتفاف عليها
هي نكران المشكل والظاهرة معا" (1996: 110).