النزعة الاقترانية
تشير النزعة الاقترانية إلى نزعة يرى أصحابها أنها بديل يقابل الأنموذج الحاسوبي الكلاسيكي الذي يعتمد هندسة فون نيومن (von Neumann architecture). وقد استلهمت هذه النزعة في نشوئها نموذج شبكات الخلايا البيولوجية، والنحو الذي ينتظم به الجهاز العصبي. ويركز العاملون في إطارها على رصد عناصر المعالجة الصغرى وتحليلها عوض الانسياق وراء التصورات العامة للمعالجة كما هو الحال عليه في المقاربة الحاسوبية الكلاسيكية. فالباحثون الذين يصدرون عن هذه النزعة يعتقدون أن عناصر المعالجة الصغرى على الرغم من كونها لا تقوم إلا بحسابات محدودة وبسيطة، تتمتع بدرجة عالية من المرونة الاقترانية فيما بينها أثناء اشتغالها الموزع والمتوازي.
أحيانا يجري استعمال اصطلاحات كـ: "النزعة الاقترانية" و"المعالجة الموزعة المتوازية" و"الشبكات العصبية" كأنها اصطلاحات مترادفة. وهذا صحيح من الجهة العامة إلى حدود معينة. لكن عند التدقيق نكتشف فروقا بين هذه المفردات (الاصطلاحات). فالشبكة العصبية اصطلاح مضلل؛ لأننا إذا وضعنا جانبا استلهام الاقترانيين بعض المفاهيم من البيولوجيا في بداية ظهور هذا الاتجاه في البحث، فإن الشبكة الموصوفة بالعصبية لا تشتمل على أي شيء ذي طبيعة عصبية. وهناك أيضا ما يدعو إلى إقامة تمييز فلسفي بين المعالجة الموزعة المتوازية والنزعة الاقترانية. فالمعالجة الموزعة المتوازية على سبيل المثال كانت دائما تسعى إلى أن تكون نماذجها متلائمة وكافية من الناحية البيولوجية. ويبدو هذا واضحا في تركيز أصحاب هذه المعالجة على دراسة الأنشطة الموجهة نحو التعلم وإيلاء الأسبقية للمقاربة التجريبية. مجال الشبكات العصبية أصبح أغنى من المجال الذي تغطيه المقاربة التقليدية التي تعتمدها المعالجة الموزعة المتوازية.
النزعة الاقترانية من جانبها تميز نفسها من المقاربتين الشبكية والمتوازية لكونها تنظر إلى نموذج الشبكة من حيث إنه هندسة حاسوبية. وهذا الموقف يغطي حقلا واسعا من البنيات الشبكية التي لا يُلتفت في تحليلها إلى الكفاية البيولوجية، كما لا يجري التركيز فيها بكيفية استثنائية على عمليات التعلم.
من هذه الجهة يمكننا أن نذهب إلى أن النزعة الاقترانية تحتوي المعالجة الموزعة المتوازية؛ أي أن الباحثين الذين يطبقون هذه المعالجة يقبلون الاندراج في الإطار الاقتراني. لكن الاقترانيين من جانبهم لا ينظرون إلى أنفسهم من حيث إنهم يندرجون في إطار المقاربة المتوازية.
يقول كروز (1998: 326): "على الرغم من أن مكونات النزعة الاقترانية وإلماعاتها ظهرت منذ أربعينات القرن العشرين (ماكلوتش وبيتس 1943، هيب 1949، روزنباط 1962، مينسكي وبابير 1969)، فإن النزعة الاقترانية لم تتبلور بكيفية واضحة المعالم إلا في ثمانينات القرن العشرين. ففي هذا العقد تحديدا بدأت المعالجة المتوازية الموزعة للنشاط العرفاني (أو المعرفي) [وهي المعالجة التي تميز النزعة الاقترانية] ترفع تحديا واضحا في وجه التصور الذي ينظر إلى الذهن بوصفه آلة للتحكم المتسلسل في الرموز (serial symbol manipulator). وتنبني الهندسة الاقترانية على شبكة تتكون من مجموعة عقد بسيطة تُحقق وظائف منقولة. وتقبل هذه الوظائف دخولا من المحيط أو من عقد أخرى، وتُنتج خروجا تتلاءم طبيعتُها مع درجة التنبيه التي تنشأ عن الروابط القائمة بين العقد. وبهذه الطريقة تستطيع الشبكة توليد كمية موجَّهة عامة من النشاط تكون مقرونة بدرجات ارتخاء أو اشتداد الاقترانات بين العقد المتباينة في الشبكة. وتكون الكمية الموجهة العامة مقرونة من الناحية الوظيفية بدخل معين. ويمكن للشبكة أن تُدرَّب عن طريق قواعد الإرجاع (feedback rules) –التي يكون بعضها معقدا من الناحية الرياضية وبعضها بسيطا- على إخراج كمية نشاط موجهة معينة تتناسب مع دخل معين. ويمكن لتوتر الاقترانات أو ارتخائها أن يُجدَّد ويُتصرفَ فيه لإنتاج خرج بعينه يناسب الدخل الجديد، مع الحفاظ على الصلات دخل-خرج للمعطيات المدربة السابقة. وعلى هذا النحو تصل الشبكة إلى إحداث نوع هام من التعلم".
يذهب فودور وبيليشين في مقالهما المنتقد للنزعة الاقترانية، "النزعة الاقترانية والهندسة العرفانية" (1988)، إلى أن الشبكات العصبية ليست أنساقا عرفانية بأي معنى من المعاني (اللهم من حيث إنها تحقيقات للأنساق الكلاسيكية). فهما يريان أن النماذج الاقترانية تعجز عن رصد نسقية الفكر. غير أن هذا النقد الذي يوجهه فودور وبيليشين يعد في نظر فلاسفة آخرين نقدا قويا، "ويخفي وراءه، كما يقول كامينز وزميلاه (2004: 308)، ميلا إمبرياليا في تفسير ما تعنيه عبارة 'نسق عرفاني' "؛ أي أن النسق العرفاني هو ما يقبل الرصد في إطار النماذج الكلاسيكية غير الاقترانية التي يعتمدها فودور وبيليشين، أما ما تصفه النماذج الأخرى فلا يدخل في عداد الأنساق العرفانية. ويذهب كامينز وزميلاه إلى أن الأجدر بفودور وبيليشين أن يقولا إن الأنساق الاقترانية لا تتلاءم مع النسق العرفاني لقصورها عن تمثيل ما يكشف عنه هذا النسق من فكر ومن عمليات كالاستدلال وغيره. والنقد الذي يوجهه كامينز وزميلاه إلى فودور يستمد قوته من أن فودور (1983) يرى أن أنساق الدخل ليست منتجة وليست نسقية، لهذا السبب كان عملها سريعا، لكن فودور لا يرى مع ذلك أنها ليست أنساقا عرفانية بمعنى من المعاني.
Cruz, J.L.H ; (1998) « Mindreading : Mental State Ascription and Cognitive Architecture » In Mind & Language. Vol.13. No.3 September, pp 323-340.
Cummins, R. Poirier, P.& Roth, M (2004) « Epistemological Strata & The Rules Of Right Reason » in Synthese 141, pp 267- 331
Fodor, J (1983) The Modularity of Mind. Bradford Book (Cambridge, MA: MIT Press
Fodor, J., & Pylyshyn, Z. (1988). «Connectionism and cognitive architecture: A critical analysis». Cognition, 28, pp. 3-71