العودة إلى الواقعية*
هنري كيسنجر
المصدر:
*Kissinger, H. (2007) « Back to Realism » in New Perspective Quarterly. Winter, Vol. 24, issue 1, pp 43- 45.
النصيحة بشأن العراق
ينبغي لكل سياسة خارجية أن تنبني على ثلاثة مكونات. يتعين عليك في المقام الأول أن تبدأ بتحليل يتناول الوضع كما هو؛ أي عليك ألا تعمدَ إلى خلق وضع مثالي لا وجود له إلا في ذهنك. وينبغي في المقام الثاني أن يكون للسياسة الخارجية هدف استراتيجي عندك؛ أي عليك أن تُحكِم خططك، وتحدد ما يرمي إليه مخططك. وعليك في المقام الثالث والأخير أن تحدد الإجراءات التي تحتاج إليها حتى تنتقل مما أنت فيه، إلى ما عقدت العزم على الوصول إليه.
لا يمكنك أن تقف على فراغ وتعلن في الناس أن الوضع كان سيكون أفضل مما هو عليه لو لم نكن الآن في العراق. فأنت مقيد إلى حد معين بالمحيط الموضوعي من حولك. يمكن للناس، بالطبع، أن يختلفوا في تقويمهم للمحيط الموضوعي. إذ يمكن للصحفيين والأساتذة أن يركزوا على النتيجة الجيدة ويُطْنِبوا. أما صانعو السياسات فَهُم مسئولون أيضا عن النتيجة السيئة. لهذا السبب توجد بعض التجارب التي يجب على صانعي السياسات أن لا يجربوها البتة، ليس لأن الهدف منها غير مرغوب فيه، بل لأن انعكاسات الفشل التي قد تترتب على تجريبها يمكن أن تكون مأساوية إلى أبعد حد.
هذا في نظري هو الإطار الذي ينبغي أن ننظر فيه إلى السياسة (policy). إننا باختصار نحتاج إلى اعتماد مقاربة مزدوجة. فنحن في وضع صعب للغاية؛ لأننا نحارب تمردا يجري في قلب حرب أهلية. ما من شك في أن أخطاءً كثيرة قد ارتُكبت؛ لكن التركيز عليها الآن لن يفيدنا في شيء. لهذا ينبغي لنا أن نتجنب إمكان ظهورِ فريق في العراق يشبه طالبان، أو ظهورِ نظامٍ أصولي جهادي، حتى لو لم يكن شبيها بنظام طالبان، ولا بنظام إيران أيضا. ويتعين علينا أيضا أن نتجنب وضعا نكون فيه وحدنا الجهة التي تطفئ النار في البلد، ولا تنتبه إلى مصدر الحريق. فهذا ـ لعمري ـ عمل عسير وقاس للغاية.
يتعين علينا أن نضع مسألة العراق في سياق دولي. وكنتُ من جهتي قد دعوتُ، منذ سنتين خلتا، إلى تأسيس مجموعة اتصال دولية. ومازلت إلى يوم الناس هذا أعتقد أن هذه المجموعة تمثل عنصرا من عناصر المقاربة التي ستفرض على الناس أن يحددوا أهدافهم وينظروا فيما إذا كان بالإمكان أن يتوافقوا عليها ويتوحدوا لتحقيقها. وعلى هذه المجموعة، إذا شُكِّلت يوما، أن تتضمن سوريا وإيران. بل يجب علينا أن ندعو للانضمام إليها بلدانا كالهند وباكستان، وروسيا أيضا. وهذا في حد ذاته أمر سيخلق إطارا يسمح إلى حد معين بتدويل المسألة العراقية. لن يَحُلَّ التدويلُ المشكلَ، لكنه سيساعدنا حتما في حصره وتحديده.
عن الديمقراطية والاستقرار
لقد وصلنا إلى نقطة يتعين على الإدارة أن تتنازل فيها عن بعض طموحاتها بشأن العراق، وأن تواجه الاختيار بين الديمقراطية والاستقرار. من الملائم لأمريكا أن تكون بجانب الديمقراطية. إذ لا يمكن لأمريكا أن تذهب إلى منطقة معينة وتقول لأهلها إن كل ما نريده هو الاستقرار. لكن الحقبة الزمنية التي يستغرقها تحقيق الأهداف، والدرجة التي يمكن لأمريكا أن تتدخل مباشرة في كل مرحلةٍ مرحلةٍ منها، يجب أن تُعَدَّلا ويعاد ضبطهما حتى تتلاءما مع التجربة وتتوافقا مع الظروف.
فالعراق لا يمثل أمة بالمعنى التاريخي للكلمة. العراق شُكِّلَ من ثلاث مناطق كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، ولم يسبق له أن حُكم قط ككيان موحد. لهذا السبب تمثل الأمة العراقية ظاهرة مختلفة عن الأمم التي عهدناها في تجربتنا. والنتيجة التي يجب أن نستخلصها من هذا هي أن المسلسل الانتخابي في بلد كالعراق ـ حيث التجربة الغالبة للناس فيه هي العنف الطائفي، وحيث كل الناس باستثناء السنة يرون في الدولة أداة للقمع ـ محكوم عليه بأن ينتج أحزابا طائفية تواصل إعادة إنتاج الصراعات التي تعودت عليها تاريخيا. فمن الخطأ الفادح إذن أن تَظنَّ أنك قد تحصل على الشرعية ابتداء من خلال المسلسل الانتخابي. ومهما تكن نوايانا حسنة، فإن التركيز على الانتخابات، كما يمكننا أن نسترجع ذلك الآن، لم يعمل إلا على تأجيج الصراع الطائفي وإذكائه. وليس من العدل في شيء مطالبة حكومة انبثقت من حمأة هذا المسلسل بالسلوك على نهج الحكومات الوطنية التي عهدناها. فتطور الديمقراطية، حتى في الغرب، غالبا ما عانى وتَعثَّر في المرحلة التي شهدت ولادة الأمة. غَضُّ الطرف عن هذه المسألة من شأنه أن يشوه أهدافنا النبيلة ويجعلها على النحو الذي نراه الآن.
العراق يختلف عن ألمانيا واليابان
احتلال ألمانيا واحتلال اليابان ليسا نموذجين كما ظَنَّ بعض الناس. ففي البلدين معا بقيت الإدارة هي هي، ولم يشمل التغيير إلا نسبة 10 بالمائة من قيادتها، بل لم يصل التغيير في اليابان حتى إلى هذه النسبة. ولم يكن هناك مشكل أمني، لا في ألمانيا ولا في اليابان. لهذا السبب لا يمكن الاستناد إلى ما جرى في ألمانيا واليابان وجَعْله نموذجا مثاليا للوضع في العراق.
وينبغي أن أوضح هاهنا أنني ساندتُ غزو العراق. وكنت في الأصل مؤازرا للإدارة. وهذه الانتقادات التي أسجلها ليست إلا انتقادات صديقٍ للإدارة يُحسن الظن بالرئيس. بعض الناس يحاولون اليوم أن يتهموني بأنني كنت صامتا منذ البدء. إنني كنت صديقا للإدارة كما أسلفت. أختلف معها في بعض القرارات التاكتيكية؛ لكنني أتفق تماما مع الأهداف التي سطرتها.
النتيجة الختامية
أظن أن النتيجة هي السعي إلى بلوغ دولة كونفيدرالية ذات سلطة محدودة جدا، وتتمتع باستقلال ذاتي جوهري. هذه فيما أعتقد هي النتيجة المحتملة. والسبب الذي يدفعني دفعا إلى تأييد عقد مؤتمر دولي هو أن مصلحة عدد من البلدان، لدواع قد تختلف، تقضي بتجنب الاضطراب الذي يمكن أن ينتشر بسهولة فائقة ويسري سريان النار في الهشيم. فإيران لا ترغب في وجود صيغة تشبه طالبان في العراق. أما تركيا فتخشى من جهتها قيام دولة كردية مستقلة. لا أحد يريد بروز دول مستقلة استقلالا تاما. والسؤال الذي يثار هنا هو كيف يمكننا أن نُدير ونُدبِّر هذا كله بإحكام؟ الأمر لا يتصل هاهنا بتمرين في علم السياسة. إنه بالأحرى أمر يتطلب معالجة تعكس بعضا من توازن القوى وبعضا آخر من توازن المصالح. النتيجة الراجحة في اعتقادي هي قيام كونفيدرالية ضعيفة، تضم كيانات ذات استقلال ذاتي واسع.
فالوضع الحالي في شوارع بغداد لا يمكن أن يستمر. فكرة جون ماكين القاضية بتوسيع نشر وحدات الجيش الأمريكي فكرة بغيضة، لكنها ليست خاطئة تماما. يتعين علينا أن نفعل أشياء كثيرة. يتعين علينا أن نتجنب الوضع الذي يُحدث الرعب في الدول المعتدلة، كما يتعين علينا أن نحدث توازنا. لا نستطيع أن نتجنب هذا الأمر. لا يُمكنكَ أن تقيم توازنا في قلب العراق ما لم يكن لديك توازن إقليمي.
هل يستحق بوش التأنيب؟
لقد سبق لي أن عرضت أفكاري بتفصيل على الرئيس. بالطبع، طالما أننا عقدنا العزم على الانتصار، وطالما أن الرئيس قال إننا انتصرنا، فليس هناك سبب يحول دون مواصلة تنفيذ الاستراتيجية. وأنا على يقين من أن الرئيس سيفعل ما يعود بالخير على الأمة. لَسْتَ في حاجة إلى أن تكون عالما متخصصا في القنابل لكي تتوصل إلى أن ما نراه بأعيننا الآن لا يعدو أن يكون مظهرا ناقصا للانتصار. والظن بأنك تستطيع أن تُدرب القوات العراقية بسرعة وعلى نحو كاف، ليس من الناحية التقنية فحسب، بل لتصبح هذه القوات جيشا وطنيا يتخطى كل المشاكل، ظنُُّ جيد. لكننا لن نستطيع تحقيقه في المدى الزمني الذي حددناه.
العودة إلى الواقعية
الأهداف التي عرضها الرئيس في خطابه الافتتاحي للولاية الثانية أهداف صحيحة. ويمكن لأمريكا أن تفخر بالأهداف الوطنية كما وردت على لسان الرئيس. لكن هل يمكن لتلك الأهداف أن تُنجَز في حدود ولاية رئاسية واحدة؟ جوابي عن السؤال هو النفي. يمكن للتوجه أن يُرسَم؛ لكن التنفيذ يتطلب فترة تاريخية أطول.
لم يسبق لي أن وافقت على هذا التمييز بين الواقعية والمثالية. فكل سياسة خارجية واقعية يجب أن تتضمن طَيَّها مكونا مثاليا. فأمريكا لا تستطيع أن تتبع سياسة خالصة مبنية حصرا على توازن القوة. فإذا عدتَ ودرستَ الوجوه التاريخية مثل بيسمارك، الذي يعد نموذجا كلاسيكيا للسياسي الذي استند إلى توازن القوة، ستلاحظ أنه أقام استراتيجيته تلك على مبدأ التفرد البروسي (Prussian uniqueness). وهكذا ستلاحظ أن هناك دائما عنصرا متصلا بالإيمان. والعنصر الذي يؤمن به الأمريكي هو أن مُثُلَنا الديمقراطية مُثُل ذات صلاحية كونية. هذا ركن من أركان الإيمان، وليس واقعا تاريخيا. فهو ليس ضروريا إذا عُدتَ إلى التاريخ البشري وأمعنت النظر مليا فيه. لكنه ركن إيماني لصيق بهويتنا لا ينفك عنها. لذلك تجده حاضرا في سياسة كل رؤسائنا العظام. بيد أنك إذا كنت تصدر عن هذا المكون الإيماني، فإنك بوصفك رجلَ دولة يتعين عليك أن تترجمه إلى الواقع على مراحل زمنية، وليس دفعة واحدة.
كنتُ قد كتبتُ مقالا مرة وقلتُ إن الفرق هنا هو الآتي: هل سَتَتَّبِعُ سياسةً خارجية بوصفك نبيا أم ستتبعها بوصفك رجل دولة؟ من زاوية النبي ستقول: المثال ذو صلاحية كونية، إذن ما علي إلا أن أنفذه فورا. أما من زاوية رجل الدولة، فإنك عندما تقول عن فكرة ما إنها ذات صلاحية، فإنك ستمنح الفكرة فرصتها لكي تنضج في الحدود التي تفرضها الظروف القائمة. المشكل الذي يقع لمن يسلك سلوك الأنبياء في هذه المسائل هو أن سلوكه يمكن أن يحدث تفكيكا وكوارث فظيعة. أما المشكل الذي قد يعترض رجل الدولة فهو أنه بسلوكه يمكن أن يحدث جمودا في الأوضاع. الموازنة بين الطريقتين، تعد في اعتقادي الحيلةَ البارعةَ التي تمكننا من النجاح في مسعانا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق