ترى ماييف كوك في كتابها (Re-Presenting the Good Society) أن هابرماس سلم في كتاباته الأولى بتراث ماركس ولوكاتش وأدورنو، وبوأ مثلهم فكرة الأيديلوجيا مكانة متميزة بوصفها وعيا خاطئا ينطوي على صفة الضرورة. لكنه ابتعد بالتدريج لاحقا عن مفهوم النقد الأيديلوجي في كتاباته. وتذهب كوك إلى أن هابرماس لم يعد يولي اليوم اهتماما يذكر لهذا النقد. والموقف الذي يصدر عنه راهنا يشي، كما ترى كوك، بأن مفهوم الأيديلوجيا كما يتصوره لم يعد يتساوق مع صور الوعي المميزة الشائعة في المجتمعات الرأسمالية الراهنة. فالأيديلوجيات كلها بالنسبة إلى هابرماس تتخذ لنفسها شكل تصورات كليانية للنظام، وتقدم تأويلا مندمجا للمجتمع بوصفه كلا ذا معنى. ونجاعة التصورات الأيديلوجية، أي قدرتها على فعل فعلها، تتطلب على جهة الوجوب وجود مجال للاعتقاد والفعل يقبل الفهم على أنه "مجال مقدس"، أي يقبل أن يكون محصنا من الآثار المدمرة التي يمكن أن يخلفها الفحص والنقد العقلانيان. إن مجال القداسة هذا الذي تعول عليه الإيديلوجيات كلها، لكي تفعل فعلها، لم يعد موجودا بسبب مسلسل العقلنة الثقافية الذي ميز مسيرة الحداثة. فمسلسل العقلنة هذا كان في الوقت نفسه مسلسلا لنزع القداسة ورفع المهابة عن المجالات كافة، ممكنا النقد من التسرب إلى هذه المجالات والتغلغل فيها. والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن التصورات الشاملة التي تَفرض على المجتمع كلِّه معنى واحدا ترضاه لم يعد بالإمكان الدفاع عنها في مجتمعات أتى فيها التحديث على الأخضر واليابس. وكما يقول هابرماس "إن الممارسة التواصلية في الحياة اليومية لم تعد تمنح جيوبا أو أعشاشا تأوي العنف البنيوي الذي تعيش عليه الأيديلوجيات". فالوعي المتشظي في نظر هابرماس هو الذي حل محل صور الفكر الأيديلوجي التقليدية، وهو الذي أصبح يقوم اليوم بالوظيفة التي كان هذا الفكر يقوم بها في السابق. فهابرماس يرى، حسب كوك، أن عدم إدراك الحاجات والمصالح الحقيقية في المجتمعات الرأسمالية الراهنة التي اختفت فيها القداسة لا يرجع كما كان الحال عليه في السابق إلى اعتناق تأويل مضلل للمجتمع من حيث إنه كل ذو معنى، بل يعود في نظره إلى الوعي المتشظي الذي يهيم على وجهه ويصد الرؤية الصحيحة للأشياء عن الانبثاق. فعدم إدراك الحاجات والمصالح عند هابرماس يشير إلى ما أسماه بالاستعمار الذي لحق العقلانية التواصلية، أي يشير إلى اكتساح العقلانية الوظيفية المميزة لنسقي الاقتصاد والإدارة مجالَ العالم المعيش الذي ينبني على العقلانية التواصلية ويستند إليها.
لهذه الأسباب وغيرها مما له صلة وثقى بها تراجع مفهوم الأيديلوجيا بوصفه وعيا كاذبا له صفة الضرورة وفقد أهميته التحليلية لدى كثير من نظار النقد الاجتماعي، وخصوصا لدى المنتمين إلى تراث مدرسة فرانكفورت والمتأثرين به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق