ديريدا: لا أملك إلا لغة واحدة، وهذه اللغة ليست لغتي
حين قال ديريدا هذا الكلام بدا لأول وهلة كما لو أنه كلام ينطوي على مفارقة. لكن ديريدا كان في 'الحقيقة' يصدر عن خلفية تاريخية تؤكد بالفعل صحة كلامه. فديريدا ينتمي إلى الطائفة اليهودية الجزائرية. وكان أعضاء هذه الطائفة قد حصلوا على الجنسية الفرنسية بمقتضى ظهير كريميو سنة 1870. غير أن التمتع بهذه الجنسية لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما تراجعت الدولة الفرنسية عن سخائها ونسخت ظهيرها هذا في أكتوبر سنة 1940 وسحبت منهم الجنسية، لتعود بعد ذلك سنة 1943 وتتراجع عن السحب وتعيد إليهم الجنسية الفرنسية مرة أخرى.
يذكر ديريدا في أثناء حديثه عن هذا المنح/المنع أن اليهودي في الجزائر لم يكن في متناوله امتلاك الثقافة العربية أو الأمازيغية لأسباب كثيرة معروفة. وعلى خلاف الطوائف اليهودية التي عاشت في أوروبا الوسطى أو الشرقية والتي طورت لغة الييديش للتواصل بها فيما بينها، فإن الطائفة اليهودية الجزائرية لم يسعفها الحظ في تطوير لغة مشتركة مماثلة تتواصل بها. وحين عمدت إلى اصطناع اللغة الفرنسية وسيلة للتواصل، كانت في واقع الأمر تتواصل بلغة المركز (الميتروبول)، أي بلغة تنتمي إلى ضفة البحر الأخرى، ضفة فيها توجد آداب هذه اللغة وروائعها. فإذا أنت تكلمت هذه اللغة وأنت بأرض الجزائر فمعنى ذلك أنك تتكلم لغة تصاغ قواعد الكلام الفصيح بها وأساليب الكتابة الراقية فيها في ربع من العالم غير الربع الجزائري الذي أنت حال فيه بالميلاد والوجدان. لهذا السبب قال: ""لا أملك إلا لغة واحدة، وهذه اللغة ليست لغتي".
لكن على الرغم من أهمية هذا المعنى التاريخي، هناك معنى آخر نكون فيه كلنا في وضع ديريدا، أي نملك لغة واحدة، من دون أن تكون هذه اللغة لغتَنا. فلغتي حسب ديريدا هي دائما مكان لهوية مفارقة. إنها الفضاء الوحيد الذي يمكنني من إثبات ذاتي رمزيا من حيث إنني أنا، لكن بما أن هذا فضاء يسبقني ويأتيني من غيري، فإنه يجعلني على الدوام خارج طوري أو هامشيا بالنسبة إلى نفسي. من هذه الزاوية لا تكون هذه اللغة لغتي لأنها لا تسمح لي بأن أمتلكها امتلاكا كليا. علاقتنا بلغتنا تشبه علاقة النبات بأمعائه. أمعاء النبات، كما قال هيجل، توجد خارجه مدفونة في الأرض...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق