يعد كانط من أكثر مفكري التنوير تأثيرا في الأجيال بعده. فقد دافع دفاعا مستميتا عن أن السياسة، لكي تستقيم، يجب أن تستند إلى العقل وتُبنى في المقام الأول عليه، لا على أحاسيس الانتماء إلى الأوطان أو الجماعات. بعبارة أوضح لقد دافع كانط عن أن السياسة يجب أن تنحو نحوا كونيا صريحا يُبعدها ويَقيها من كل انغلاق أو تورط في الخصوصيات القومية والمحلية. السياسة عند كانط لا تستقيم باختصار إلا إذا كانت نشطة أو فاعلة، وإصلاحية، ومتفائلة...
الراجح أن فهم كانط للسياسة هذا هو الذي جعله هدفا في مرمى انتقادات من تسميهم مارتا نوسباوم (1997) بالمفكرين النيتشيين (نسبة إلى نيتشه)، وتقصد بهؤلاء المفكرين: هايدجر، وبرنار ويليمز، وألسدير ماكينتاير. وقد وصفتهم نوسباوم بالنيتشيين لأنهم تأثروا كلهم بالاستياء الصريح الذي عبر عنه نيتشه إزاء كل سياسة تستند إلى العقل وتركن إلى المبادئ وتعول عليها. إنهم تأثروا بنيتشه تأثرا بالغا فأخذ كل واحد منهم على عاتقه البحث، مثل نيتشه نفسه، عن بديل يعفيه من تأسيس السياسة على العقل. وتذهب نوسباوم في تحليلها الموثق إلى أن هؤلاء المفكرين يعتقدون أن بإمكانهم العثور في المدينة الإغريقية القديمة على أنموذج بديل للسياسة المستندة إلى العقل. ولم يكن هذا البديل عن سياسة العقل شيئا آخر غير السياسة المبنية على التلاحم الجماعي الذي يرفع من شأن وشائج القربى الجماعية ويحط من قيمة المبادئ العامة والكونية. فالسياسة التي دافع عنها هؤلاء تعد سياسة أقل تفاؤلا واحتفاء بالتقدم، وأميل أشد ما يكون الميل إلى التعلق بتناهي الإنسان وضعف قدراته وقصور إمكاناته.
لقد اختلف هؤلاء المفكرون جميعا في تحديد المرجعيات الإغريقية الجيدة التي ينبغي الصدور عنها في إعادة تأسيس السياسة. فنيتشه استخدم مطرقته وراح يضرب بها يمينا وشمالا إلى أن توصل إلى أن الأحوال ساءت لدى الإغريق مع يوريبيديس. هايدجر خَلَص عبر تسآله الجذري إلى أن الأحوال ساءت مبكرا قبل يوريبيديس، وتحديدا بعد وفاة بارمينيديس أو هيراقليطيس. برنار ويليمز رأى فيما رأى أن الأمور لم تتدهور إلا لاحقا مع أفلاطون؛ لكنها أضحت في نظره على درجة من السوء عالية بعد أفلاطون مباشرة. أما ماكينتاير فرأى على خلاف هؤلاء جميعا أن الأمور لم تتدهور إلا بعد ما ذُكر أعلاه بوقت طويل. فقد ظلت الأحوال على أحسن ما يرام في نظر ماكينتاير طيلة حياة أرسطو كلها، وعلى امتداد القرون الوسطى لدى أتباع أرسطو خاصة، ولم تشرع في الميل إلى السوء والتدهور إلا مع هيوم وكانط.
ما يجمع بين هؤلاء المفكرين هو ميلهم إلى معاداة التنوير بهذا المقدار أو ذاك. فالسياسة بالنسبة إلى نيتشه وإلى ويليامز، الذي يشاركه الرأي أكثر مما يفعل المفكران الآخران (أي هايدجر وماكينتاير)، يجب أن تقوم على الاعتراف دون لف أو دوران بأن العالم مُرعب وغير قابل بكيفية جوهرية للاندراج أو الخضوع لمقتضيات العقل. هذه هي الفكرة المثلى التي ينبغي أن تستند إليها السياسة ولا تحيد عنها قيد أنملة. أما الفكرة السيئة التي يجب النأي عنها في السياسة فتتمثل في الادعاء الأخرق بأن للعالم بنيةً عقلانيةً تقبل الفك باستعمال مفاهيم العقل وأساليبه، أو أن العالم ينطوي في أصل بنيته على شيء يسوغ لنا أن نكون مبتهجين فرحين متفائلين بإمكان التقدم والترقي السياسيين.
الفكرة المثلى بالنسبة إلى هايدجر وماكينتاير (ويوجد لدى ويليامز بعض الميل إلى عناصر منها حسب نوسباوم) هي الصدور عن أننا ونحن نعيش في جماعة محكمة الترتيب والانتظام (well-ordred community) لا ننجز أو نؤدي أدوارنا فيها بعد التفكير فيها وإعمال عقولنا؛ بل نتصرف ونسلك عفوا أو بطريقة تلقائية من دون إعمال نظر. لهذا تكون الفكرة السيئة في هذا الشأن هي الاعتقاد بأن الفعل السياسي أيا كان يحتاج إلى تسويغ عقلاني يؤيده لكي يستقيم ويكتسي الصدقية المطلوبة؛ وأن الفعل الذي لا يمكن تسويغه من هذه الجهة لا يمكن أن يكون فعلا سياسيا. الأجدى لنا حسب هايدجر هو أن ننزوي وننتظر انكشاف الوجود فجأة أمامنا، كما ينزوي الشاعر المتيم بشعره وينتظر إلهامه، أو كما يفعل المؤمن الخاشع حين ينتظر شآبيب الرحمة تنزل عليه مدرارا من السماء. أما الأسوء بالنسبة إلينا في نظر هايدجر هو أن نهب ونشمر على السواعد ونأخذ الأمور بأيدينا ونصنع سياستنا صنعا يتلاءم ويستجيب للكيفية التي نتصور بها أغراضنا وحاجاتنا...
راجع مقال مارتا نوسباوم للمزيد من التفصيل:
Nussbaum, C. M “Kant and Stoic Cosmopolitanism” The Journal of Political Philosophy: Volume 5, Number 1, 1997, pp. 1-25
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق