مراجعة مختصرة
لكتاب دارين والهوف:
Darren Walhof. The Democratic
Theory of Hans-Georg Gadamer. Palgrave-Macmillan 2017. 156 pages
توجد أسباب
كثيرة حالت ولا تزال دون تعويل الباحثين على الفيلسوف هانز جيورج غادامر في مجال
النظرية السياسية. الراجح أن هابرماس وديريدا في نقاشيهما الشهيرين، كل على حدة،
مع غادامر رسخا الاسترسال في غض الطرف عن أعمال هذا الأخير في مجال النظرية
السياسية. فهيرمنوطيقا غادامر الفلسفية تبلورت في اشتباك نقدي مع أفكار فلاسفة
التنوير. إنها هيرمنوطيقا محافظة، أو هكذا تبدو، في جوانب كثيرة منها بسبب تعويلها
على التراث أو التقليد ونقدِها أفكارَ الأنوار.
فكر الأنوار،
في نظر غادامر، ورط الناس في ثنائية العقل والتراث المغلوطة، وحثهم على ألا
يطمئنوا إلا إلى الأمور والحقائق التي يمكن البرهنة عليها بمناهج موضوعية ومحايدة.
وعلى العكس من هذا، دافع غادامر عن أن الإنسان لا يمكن أن يهرب أو يتخطى اندارجه
في التاريخ. فالمسبقات التي ورثناها عن التراث تُكَيف سلفا رؤيتنا إلى العالم،
وتعد في نهاية المطاف الشرط الذي لا يمكننا أن نتلافاه في كل فهمٍ نَبْنيه. هناك
أفقان يتشابكان ويمتزجان عندما نسعى إلى الفهم: الأفق الذي يندرج فيه الشيء المراد
فهمه (النص، الحدث التاريخي، العمل الفني، موضوع النقاش...الخ)، والأفق الذي تندرج
فيه الذات الساعية إلى الفهم. من هذه الزاوية لا يكون الفهم نتيجة منهاج محايد أو
موضوعي، بل يكتسي الفهم هنا طابع الحدث الذي يَحصُل تَلقائيا في وعينا، الحدث الذي
يحصل كالشرارة جراء اشتباك الآفاق وامتزاجها.
على الرغم من
إلحاح غادامر، في نظريته عن امتزاج الآفاق، على الطابع اللغوي الذي يميز الوجود
الإنساني، وهو ما يوافقه عليه هابرماس، يرى هذا الأخير أن غادامر لم يُعنَ أو
بالأحرى لم يلتفت إلى أن اللغة ذاتها يمكن أن تكون إيديولوجية، مما يستدعي
مراجعتها باستمرار وإخضاعها على الدوام للفحص النقدي، وهو ما تفتقر إليه أعمال
غادامر. ديريدا من جانبه رأى أن تصوير الفهم عند غادامر بوصفه تداخلا أو مزجا بين
الآفاق أخفى عنه إرادة القوة التي يمكن أن تحركَ الذات وتدفعَها إلى أخذ الآخر كما
لو كان مجرد أداة في يد هذه الذات الساعية إلى الفهم، وهو ما يعني أن غادامر ينزع
عن الآخر غيريته المميزة. هيرمينوطيقا غادامر بالنسبة إلى هابرماس وديريدا، تظل
باختصار، عاجزة عن أن تكون موطأَ قدمٍ صالحاً لنقد الممارسات اللغوية
والإيديولوجية والسياسية القائمة. من هذا الباب انصرف الباحثون المشتغلون بالنظرية
السياسية وبقضايا الديمقراطية عن أعمال غادامر وتركوها وراء ظهورهم.
يرى والهوف،
في كتابه الذي نحن بصدده، أن هناك باحثين اثنين تناولا غادامر من منظور سياسي:
فْريد ديلماير، وجورجيا وارنْكي. الأول استثمر في كتابيه (وراء [أو بعيدا عن]
الاستشراق (1996)) و (التعددية الشاملة (2010)) مفهوم غادامر عن امتزاج الآفاق
ليعالج استنادا إليه العلاقات أو المحاورات العابرة للثقافات، كما استثمر في كتاب
آخر (الرؤى البديلة (1998)) مفهوم التكوين أو التربية (Bildung) الغادامري ليشرح الصلة القائمة بين الثقافة والتنمية
الاقتصادية. (لا يذكر والهوف كتاب ديلماير (الديمقراطية الآتية. المنشور ضمن مطابع
أوكسفورد الجامعية 2017) لكونه حديث الصدور حيث يواصل فيه ديلماير استثماره
لغادامر ويوسع من نقاشه للرؤى البديلة ليتناول جانبا من الفكر العربي. انظر الفصل
الرابع من هذا الكتاب الذي خصصه لمحمد عابد الجابري ص 82- 102). أما وارنكي
فاستلهمت أفكار غادامر لإلقاء الضوء على عدد من القضايا تخص السياسات الداخلية.
ففي كتابها (الاختلافات المشروعة (1999))، استثمرت أفكار غادامر عن الفهم لتستدل
على أن الخلافات التي تنشأ عن نقاش عدد من القضايا الاجتماعية الشائكة (الإجهاض،
البورنوغرافيا، التمييز الإيجابي، تأجير الأرحام) هي في الأساس خلافات تأويلية
وليست مبدئية. في كتابها الثاني (ما بعد الهوية (2008)) استندت إلى مجموعة من
الدراسات التي تناولت فيها حالات مخصوصة لتدافع عن مقاربة تأويلية بالمعنى الغادامري
لمسألة الهوية.
والهوف في
كتابه هذا يواصل ويوسع هذا النهج الذي شرعه ديلماير ووارنكي في استثمار أفكار
غادامر في التنظير السياسي. إنه يوسعه لكونه يرى أن أفكار غادامر، إذا أُحسِن
استثمارها، تَعرض مقاربة فريدة لمسألة الديمقراطية. ويدافع عن رأيه هذا باصطناع
مواجهة حوارية شيقة بين الأعمال السياسية التي تناولت الديمقراطية وأعمال غادامر.
ويتميز الكتاب بكونه يوظف أعمال غادامر كلها تقريبا: أعماله الأولى عن أفلاطون
وأرسطو، كتابه الرئيس (حقيقة ومنهج) الذي طور فيه هيرمينوطيقاه الفلسفية، نقاشه
الخلافي مع كل من هابرماس وديريدا، وكذا أعماله الأخيرة وخطاباته عن العلم،
والتكنولوجيا، والعقل، والتضامن، والصداقة. إن والهوف يصطنع في كتابه الهام هذا
نوعا من تشابك الآفاق وامتزاجها بين فكر غادامر والاتجاهات المعاصرة في التنظير
للديمقراطية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق