إن إطلاق لفظ العقل على جهة العموم دون تخصيص أصبح أمرا لا معنى له تقريبا. ومن أبرز المفكرين الذين حوَّلوا لفظ العقل في القاموس الفلسفي ونقلوه من الاستعمالات المبهمة القديمة إلى الاستعمالات الحديثة الأقل إبهاما، من ناحية السبر والتقسيم على الأقل، الفيلسوف الألماني كانط في ثلاثيته الشهيرة: نقد العقل الخالص (العقل العِلمي)، ونقد العقل العَملي (الأخلاق والسياسة والقانون)، ونقد ملكة الحكم (شؤون الحس والحكم على أمور الجمال، وتقاسُم الأحاسيس). إن لهذا التقسيم أصولا قد نجدها مبثوثة عند أرسطو؛ وقد نجد بعضا منها عند ابن رشد؛ وقد نُدخل أنفسنا في باب من الكلفة شاق ونتأول ما يشبهها عند شهاب الدين القرافي في الفروق...الخ. لكن العلة في نسبة التقسيم نسبة صريحة إلى كانط أمر يرجع إلى أن هذا الأخير استقرت عنده التقاسيم القديمة واستوت معالمها على نحو مهذب ومصقول غير مسبوق، وصارت مقرونة، وهذا هو الأهم، بجدل تاريخي على أرض الواقع في نطاق ما يعرف بمشروع الحداثة. فالكلام على العقل يقتضي، إذن، تحديد الجهة التي يجري في نطاقها الحديث. العقل العِلمي تختلف دعاواه عن دعاوى العقل الأخلاقي والسياسي، ودعاوى العقلين السالفين تختلف عن دعاوى ملكة الحكم في مجال الإحساس. لم يكن بالإمكان أن تتطور نظريات العلوم على نحو مستقل عن نظريات السياسة والأخلاق والقانون، وعن نظريات الآداب والفنون، ولا أن يقع الفصل بين المعاهد والجامعات التي تُدرِّس كلا منها، في غياب هذا التقسيم الذي أجرته الأزمنة الحديثة مع كانط وصار راسخا في أعقابه. العقل العِلمي عقل أداتي يتجه إلى الموضوعات بوصفها مفصولة عن الذات العالمة، وهو عقل يقترن بسجل كلامي تهيمن عليه اللعبة اللغوية الوصفية؛ أما العقل العَملي فعقل علاقي أو تذاوتي يربط ذواتٍ عددا ببعضها، تسيطر عليه في الخطاب اللعبة اللغوية المعيارية. والعقلان يختلفان عن ملكة الحكم من حيث إن هذه الأخيرة مشدودة شدا إلى الذات. مدار ملكة الحكم الإفصاح والتعبير عما يخالج النفوس. إن هذه الملكة، إذا شئتم، ملكة استعراضية من جهة المنتج، وانفعالية من جهة المتلقي، لذلكم تهيمن عليها في اللغة لعبة البوح والإفشاء وعرض الذات. بعبارات مختصرة نستطيع القول إن العقل العِلمي يتجه إلى العالم الموضوعي، والعقل العَملي يتجه إلى العالم التذاوتي، وملكة الحكم تتجه إلى العالم الذاتي. دعاوى العقل العِلمي تتصل اتصالا وثيقا بالصدق (بمعناه المنطقي)، أي أن الرهان في هذا العقل هو أن تكون لمحتويات الأقوال العلميةِ القَضويةِ وقائعُ تجريبية تطابقها. والتطابق هنا لا يعني ضرورة التطابق مع واقع موجود سلفا فعلا، لأن الواقع في العلم الحديث غالبا ما يكون واقعا مبنيا بأدوات نظرية. لذلكم يعني التطابق هنا تطابقا مع الواقع كما تشيده النظرية، لا كما قد يوجد في خارج مطلق. وعندما ننتقل من نظرية إلى أخرى ننتقل من واقع إلى آخر، ونخرج من محتوى تجريبي إلى محتوى آخر. أما دعاوى العقل العَملي فلا يجري التركيز فيها على المحتويات القضوية أو على إشكال المطابقة الإبستملوجي، بل يقع التركيز فيها على القُوى الإنجازية أو الإنشائية للأقوال أو لأفعال الكلام كما ذهب البلاغيون العرب (السكاكي وغيره) والأصوليون (الفخر الرازي والغزالي والشاطبي وغيرهم) والفلاسفة المعاصرون (أوستين وسورل وهابرماس وغيرهم). فعندما يأمرني أحد بفتح النافذة، لا يكون الإشكال قائما هنا في محتوى الأمر القضوي، أي في مطابقة محتوى القول المعبر عن الأمر للواقع أو عدم مطابقته له، بل يكون قائما فيما إذا كان الأمر الصادر إلي مشروعا أم غير مشروع، أو بعبارة أخرى يكون الإشكال قائما فيما إذا كان الوضع الذي صدر فيه الأمر يستجيب، كما يقول سورل، لشروط مؤسسة الأمر أم لا يستجيب (هل الآمر ممن يجوز له أن يطلب إيقاع الفعل على جهة الاستعلاء، هل المأمور ممن يستطيع أن يقوم بالفعل؟ هل الخطاب مصوغ في لغة يفهمها المأمور؟ هل الآمر يقصد فعلا ما يقول ويريده؟ هل الأمر صادر على التراخي أم على الفور؟ المرة أم التكرار؟...الخ). عقلانية العقل العملي عقلانية مؤسسية معيارية، تُقوَّم فيها الأفعال، سواء أكانت أفعالا كلامية أم غير كلامية، من حيث استجابتُها أو خرقها للضوابط المؤسسية. (ينبغي أن نشير هاهنا إلى أن الكف عن الفعل يكون بدوره فعلا إذا كان تَرْكا. بعبارة أخرى، يتناول العقل العملي التروك أيضا، لأنها أفعال). أما دعاوى ملكة الحكم فيحوم الخطاب فيها حول أصالة الفعل ونزاهته وصدقه (بالمعنى الفني للصدق لا بالمعنى المنطقي المشار إليه في العقل العِلمي). فعندما أقرأ شعرا أو رواية أو قصة...الخ لا أسأل، وأنا أقرأها، عن الشخوص هل توجد في الواقع أم لا؟ أو عن الصور الشعرية هل تناسب الواقع كما أراه أم لا؟ ولا ألتفت إلى الخروقات المعيارية التي يحدثها الشعراء في أشعارهم أو القصاصون في مروياتهم. ما أركز عليه يتخطى كل هذه الأمور إلى أصالة فعل التعبير نفسه وصدقه الفني ومقدار إمكان تقاسمه ومدى هذا الإمكان. وإذا حصل أن ركزت على مطابقة الرواية مثلا للواقع، فإنني سأكون قد تحولت من مقتضيات لعبة لغوية إلى مقتضيات لعبة لغوية أخرى، وسأكون قد قوضت مبدأ السرد، أو بعبارة ربما أوضح: سأكون كمن طفق يلعب وحده كرة القدم في ملعب يلعب اللاعبون فيه كرة السلة. (بالطبع ما نقوله هاهنا عن الرواية والشعر يصدق على الموسيقى والتشكيل وغيرهما من الفنون التي تلجأ إلى لغات أخرى ضاربة بسهم في الحس على نحو أشد غورا مما هو الحال عليه في "اللغة اللفظية" كما يسميها الفنان محمد شبعة).
إن هذا التوزيع غير المسبوق لما كان يسمى عقلا على جهة العموم، عند القدماء ولا يزال كذلك حتى لدى بعض المعاصرين، كان يمشي جنبا إلى جنب مع توزيع آخر في البنيات الاجتماعية وفي أساليب الكلام والاستدلال والسلوك في نطاق هذه البنيات. فلم يعد بالإمكان مثلا الحديثُ عن الصدق (بمعناه المنطقي) الذي تدور عليه دعاوى العلم، في الأخلاق مثلا أو في السياسة أو في الفنون والآداب. كما أن الحديث عن المشروعية خارج مجال الأخلاق والقانون والسياسة لم يعد ممكنا، من الناحية المبدئية على الأقل. إذ لا معنى للتساؤل عن مشروعية قانون سقوط الأجسام أو قانون دوران الإلكترون. كما أنه لا معنى للتساؤل عن مشروعية ارتكاب جريمة قتل في إحدى روايات نجيب محفوظ أو غيره، والهرولة إلى المحاكم ورفع الدعوى على المؤلف وفتح التحقيق. والشيء نفسه يقال على التساؤل عن مدى أصالة قانون سقوط الأجسام من الناحية الفنية أو التعبيرية، أو عن مدى الصدق الجمالي في الالتزام بقانون السير أو الوقوف في الصف لاستلام عقد الازدياد من الإدارة. (إنني أتحدث هنا وأنا مدرك أن هناك مستوى معينا يصح فيه المزج بين هذه المجالات. هولتن تحدث عن الأصول الجمالية للمعايير الإبستملوجية، وتحدث طوماس كون عن الأساس الممزوج والميتافيزيقي للأنموذجات، وبين فايراباند أن هناك صلة وثقى بين النظريات العلمية والأساطير. كل هذا صحيح. لكن النقاش في هذا المستوى نقاش ميتا فلسفي، أو ميتا نظري، لا صلة له البتة بما نحن فيه).
أعود فأقول إن الخلط بين هذه المجالات محظور من الناحية المبدئية. مما يعني أن هناك رخصا قد تقضي بالتداخل. وهنا تختلف المجتمعات في مدى اتساع أبواب الترخيص هذه. ففي مجتمعاتنا مثلا، ليس هناك تقسيم لأقاليم العقل في هذا المستوى الذي تحدثنا عنه، أو أن هذا التقسيم ضعيف جدا. لذلك تلاحظ عندنا من يلعب لعبة الأخلاق باستدلال علمي، أو يلعب لعبة الفن باستدلال أخلاقي، أو يلعب لعبة العلم باستدلال بَوْحِي. المجتمعات التي تضيق فيها إمكانات الترخيص كالمجتمعات التي قطعت شوطا كبيرا في التحديث، هي المجتمعات التي تمايزت فيها البنيات وانفصلت عن بعضها، وهي مجتمعات لا يقع الخلط فيها إلا في قضايا محدودة شائكة كقضايا الاستنساخ أو الجينوم أو قضايا الموت الاختياري...الخ لكنك لا تستطيع أن تجد في هذه المجتمعات شخصا عُمدة يبوح بما يخالج صدره في مجال العلم، أو يرفع يده اليمنى ليُقسم في الرياضيات بأن معادلة ما صحيحة، أو يهرول برفع دعوى تدين شاعرا بسبب كناية أو ناثرا بسبب جِناس أو مجاز، أو يأخذ نصا منـزلا من السماء لا يعلم تأويله إلا الله على جهة القطع، ويشرع في ربطه بعلم نسبي يتغير في كل وقت وحين.
إن هذا التصور القطاعي للعقل كان له تأثير بالغ في المجتمعات الغربية. فقد ساعد على تأسيس العلوم على أسس ومبادئ متينة غير مدخولة، وسمح بتشييد القوانين والدساتير على معايير تنـزع باطراد إلى الكونية، وفتح المجال أمام فن حر خلاق ومستقل. وقد ترتب على هذا تحرير الطاقات المعرفية الكامنة في هذه الميادين من صورها الرمزية والميتافيزيقية والوقفية، فصارت قابلة للاستعمال في الممارسة اليومية، مما أحدث تحولا عقلانيا غير مسبوق في شرائط الوجود والحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق