في هذا النص يشرح تشومسكي تصوره للقالبية، ويبين كيف يختلف هذا التصور عن تصور فودور.
يقول تشومسكي:
"توجد تصورات كثيرة مختلفة عن القالبية. فتصور فودور عن القالبية... يقترن بأنساق الدخل. من هذا المنظور تكون القالبية مقصورة على الإدراك البصري، وعلى تأويل العلامات اللغوية وعلى أنساق دخل أخرى قليلة. بيد أن فودور، من الناحية المبدئية، يذهب إلى أن لهذه الأنساق خصائص معينة تتميز بها كخاصية الانغلاق المعلومي. ويرى أن هناك أنساقا أخرى يصفها بالمركزية لا تتمتع في نظره بهذه الخصائص. إلا أن هناك معنى آخر للقالبية يختلف كليا عن المعنى الذي دافع عنه فودور، وهو المعنى الذي كنت أقصده دائما في استعمالي، له اتصال باكتساب القالبية. فمناقشة القالبية التي توجد في كتاب مثل تأملات في اللغة (تشومسكي 1975)، أو في كتبي الأخرى الأولى، كانت تجري في إطار آخر مختلف. السؤال الموضوع في هذه المناقشة التي خضتها في هذه الكتب كان دائرا عما هو نمط الأنساق المعرفية الذي يوجد لدى الجهاز العضوي ويمكنه، بمقتضى تصميمه، من حل المشاكل الخاصة التي يواجهها هذا الجهاز في حياته ووجوده ومحيطه. بهذا المعنى سيكون للحشرة نسق باطني مخصوص يمكنها من الحركة والسياحة في العالم. وسيكون للعصفور المغرد أو الشادي نسق معين ومخصوص يمكنه من تَعَرُّف شدو العصافير. وسيكون للكائنات البشرية نسق مميز يمكنهم من تعرُّف اللغة. ويوجد من هذه الأنساق المعرفية الكثير. المفهوم الرائج عن القالبية في العلوم البيولوجية، والذي جاء إلى هذه العلوم من طريق علم سلوك الحيوان التقليدي، يقضي بوجود غرائز تدفع إلى التعلم بطرق مخصوصة، في مجالات بعينها. والصياغة الأكثر ضبطا فيا عتقادي التي اقترحت لهذا المفهوم هي تلك التي قدمها راندي غاليستيل في كتاب محاورات في علوم الأعصاب المعرفية [الذي أشرف على إعداده كزانيزا 1997]، والتي يذهب فيها إلى أن المقاربة القالبية هي المقاربة "المعيار في علوم الأعصاب"، ويرى أنها المقاربة التي نفحص استنادا إليها عن الملكات المعرفية التي تنمو بطريقة نسقية وتكون محددة ببرامج جينية تمكنها من الوصول إلى حالة مخصوصة تكون محددة سلفا وغير متأثرة بالتجربة إلا في نطاق محدود. ويشبه نمو هذه الملكات نمو أعضاء البدن. لذلك نستطيع أن نتحدث عن هذه الملكات ونقول... عضو الحركة في العالم، وعضو اللغة، وعضو الإدراك البصري وهكذا دواليك. فنحن هنا أمام تصور عن القالبية يختلف عن تصور فودور. إنه تصور لا صلة له بالتمييز الذي أقامه هذا الأخير بين أنساق الدخل والأنساق المركزية.
إن كل هذه الأنساق القالبية تعد في الواقع مركزية. وعلى هذا النحو أنظر من زاويتي إلى ملكة اللغة. إنني أنظر إلى هذه الملكة من حيث إنها نسق محدد من الناحية الجينية، يستطيع أن يعين الأجزاء الواردة من الجهة اللغوية التي تكون في محيط الطفل. وهذا ـ لعمري ـ عمل ليس عبثا. فنحن بالمناسبة لا نعرف كيف نقوم به، ولا نعلم أن هناك في الوجود حيوانا آخر يقوم به. لكن الطفل يستطيع بطريقة ما من الطرق أن ينتقي من محيطه الأجزاء التي تكون واردة من الجهة اللغوية ويعالجها بكيفية تقوده رأسا إلى حيازة اللغة الباطنية التي يستطيع بعد ذلك أن يستعملها. فهذا قالب. إنه ليس قالبَ دخل، بل قالب اكتساب. إنه يتفاعل مع القوالب الأخرى ومع مكونات النسق المعرفي الأخرى على النحو نفسه تقريبا الذي يتفاعل به الكبد والكُلية والجهاز الهضمي والدورة الدموية للوصول إلى اشتغال البدن برمته بوجه عام.
هذه هي المقاربة القالبية للأجهزة العضوية. نستعملها لرصد أشياء كالكُلية والدورة الدموية والجهاز الهضمي وما إلى ذلك. وأظن أن من الحس السليم المُضيَّ في هذا الاتجاه، كما حصل ذلك في العلوم العصبية، والفحصَ عن المكونات الفرعية التي تقوم عليها قدرات الجهاز العضوي المعرفية، والسؤالَ عن طبيعتها، وكيف تنمو، وكيف تتفاعل وهلم جرا. إن هذا نوع مختلف من القالبية. وهو النوع الذي أظن أن السير على نهجه مثمر وواعد بالنسبة إلى البحث. أما الانتقادات التي وجهت إلى القالبية التي طورها فودور... فلا أظن أنها تنال منه. فأنا لا أعتقد أن من السليم القول عن فودور إنه وصف اللغة من حيث إنها نسق دخل. فودور اعتنى بمظاهر اللغة التي يمكن أن تعد نسق دخل. أعني بهذا أن فودور لا يستطيع أن ينفي أنك تتكلم تماما كما تسمع. ولا يمكنك أن تسمع وتؤول اللغة اليابانية وتتكلم وتفهم اللغة السواحلية. فمن الواضح أن هناك ارتباطا ما بين نسق الدخل ونسق الخرج. فقاعدة البيانات الموهوبة هذه، هي التي تعد قالبا في التصور القالبي المختلف الذي يعد المعيار في العلوم العصبية. واسم هذا القالب هو ملكة اللغة. وبما أن هذا الذي أشرت إليه هو القالب، فإنه لا يتلاءم مع الإطار الذي يعمل فيه فودور، أقصد إطار أنساق الدخل والخرج والأنساق المركزية".
« The master and his performance: An interview with Noam Chomsky » by Jozsef Andor
in Intercultural Pragmatics 1-1 (2004), 93–111. pp. 105-107.
هناك تعليق واحد:
ترجمتك يا أستاذ مصطفى رائعة ومُبينة ومُفصحَة عن مفهوم القوْلَبَة أو القالبية عند شومسكي التي ميَّزها عن قالبية فودور، وهو ههنا يستبعد المؤثرات الخارية ويفحص عن أصول القالبية بما هي ملَكَة أولية بيولوجية-فيزيولوجية
شكرا جزيلا لك، كتاباتك ممتعة ومفيدَة
عبد الرحمن بودرع
إرسال تعليق