مفهوم السلطة بين المجتمعين السياسي والمدني
يروم هذا المقال، الذي يمثل في الأصل قسما من مقال طويل كتبته ونشرته منذ سنوات، رفع بعض الالتباسات التي تحيط ببعض المفاهيم المتداولة بين الناس الذين يهتمون بقضايا الشأن العام مثل: السلطة، والمجتمع المدني، والمجتمع السياسي، والفضاء العمومي، والإرادة العامة، ودور المثقفين...الخ. لا يدعي المقال بالطبع الحسم في الالتباس الذي يكتنف هذه المفاهيم. هذا أمر لا يمكن أن يدعيه الإنسان، أيا كان، إلا إذا كان مجنونا فقد عقله. المقصود برفع الالتباس هاهنا هو اقتراح إطار تحليلي يضفي بعض الانسجام على هذه المفاهيم مجتمعة، بحيث تصبح دالة وذات معنى في هذا الإطار وليس في غيره. وهذا يعني أن بإمكان المرء أن يقترح أطرا أخرى تضفي على هذه المفاهيم نفسها ضروبا مختلفة من الانسجام. الأجزاء الرئيسة التي تشد إليها الإطار الذي يصدر عنه المقال هي أجزاء مستوحاة من التصور الذي طوره الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هابرماس؛ وبالمقال أجزاء أخرى تعود إلى مفكرين آخرين أبرزهم عبد الله العروي وحنا آرنت، وريتشارد رورتي. غير أننا لم نعمد في المقال إلى استعمال الاصطلاحات نفسها التي نعثر عليها عند هؤلاء المفكرين إلا نادرا. فهذا أمر يتطلب منا تذييل اصطلاحاتهم كلها بشروح وحواشي توضحها. ومن شأن هذا أن يخرج بنا تماما عن الغاية التي رسمناها لهذه المدونة. لهذا السبب عمدنا إلى استعمال اصطلاحات في المتناول، سهلة المأخذ في الغالب.
1- السلطة السياسية والسلطة المدنية
نستطيع التمييز في السلطة بين مستويين اثنين: مستوى أول تجسده الدولة بمؤسساتها المختلفة، وهو مستوى يعبر عنه الحاكمون أو الحكومة بخطبها وأفعالها وقراراتها. ومستوى ثان يجسده المجتمع المدني من خلال جمعياته ومنظماته ونواديه، ويعبر عنه التواصل العمومي الذي تعكسه هذه الهيآت والجمعيات والمنظمات والنوادي في مبادراتها وأنشطتها المدنية المختلفة، وفي تدخلاتها التي تنشطها وسائط الإعلام المتباينة وتعممها.
يمكن أن نصطلح مؤقتا على هذين المستويين في السلطة بالسلطة السياسية والسلطة المدنية. ويلوح أن وضع الأحزاب ضمن هذا التصور للسلطة وضع ملتبس. لكننا نقول، اختصارا، إن الأحزاب بحكم الغايات التي ترمي إلى تحقيقها تندرج ضمن مستوى السلطة السياسية. إنها تندرج ضمن هذا المستوى بصيغتين: صيغة الفعل عندما تكون في الحكومة، وصيغة القوة عندما تكون في المعارضة. فهي لا تعارض في نهاية التحليل إلا من أجل الوصول إلى الحكومة وتسلُّم السلطة. وعلى الرغم من أن الأحزاب المعارضة تلتقي في أنشطتها مع أنشطة منظمات المجتمع المدني، فإنها لا تلتقي معها في الغايات. غايات الأولى تتجه إلى تحصيل السلطة السياسية كما ذكرنا سالفا؛ أما غايات الثانية فتنحصر في مراقبة الحكومة، أيا كانت الأحزاب المكونة لها، والتأثير فيها وتوجيهها جهة المصلحة العامة، والبقاء حيث هي في المعترك المدني. بعبارة أوضح يمكن أن نميز بين الأحزاب والمنظمات المدنية بقولنا إن الأحزاب جماعات ذات مصالح لها صلة وثقى بها من حيث إنها جماعات تروم الوصول إلى السلطة (وهذا لا ينقص من قيمتها، لأن الأحزاب لا تنظر إلى مصالحها إلا بوصفها تحقق المصلحة العامة أو تتناغم معها)، أما المنظمات المدنية فمنظمات تطوعية خالصة لها مصلحة واحدة هي المصلحة العامة (هذا أيضا لا يعلي من شأن منظمات المجتمع المدني، لأنها يمكن أن تخطئ الطريق إلى المصلحة العامة، إما عن قصد وإما عن سهو أو خطأ).
من هنا يكتسي مفهوم المجتمع المدني أهميته بوصفه مرصدا للمراقبة ومرآة يقرأ فيها المجتمع السياسي نفسه. ومن هنا نتبين، في مستوى أكثر تعميما، أن المجتمع السياسي، بما أفرزه من مؤسسات، لم يتشكل تاريخيا إلا لكي يحفظ الحيز الأكثر اتساعا لما ليس سياسيا، أي للمجتمع المدني. وحتى تتضح أهمية المجتمع المدني ويشتد بيانها، ينبغي لنا أن نعرج على مفهوم آخر شديد الصلة به، هو الفضاء العمومي. فالمجتمع المدني لا يكتسي معناه النقدي إلا إذا تهيكل ضمن الفضاء العمومي، وهذا ما سنحاول بيانه الآن بشيء من التفصيل خفيف.
2-الفضاء العمومي وسلطة الرأي
نقصد بالفضاء العمومي ذلكم الحيز الوسيط الذي ينشأ بين المجتمع المدني والدولة. إنه، بعبارة أوضح، المكان الذي يجتمع فيه جمهور المواطنين لصوغ رأي عمومي. ويكون هذا المكان مفتوحا من الناحية المبدئية في وجه كل المواطنين المعترف لهم بالحق في التجمع والتعبير الحر عن آرائهم. وصفة العمومية المنسوبة إلى هذا الفضاء ليست من جنس العمومية التي تُنسب إلى الدولة أو المجتمع السياسي. العمومية المنسوبة إلى هذا الفضاء تُعد بالأحرى وسيلة لنقد ممارسة الدولة للسلطة ومراقبتها.
حقا، إن الفضاء العمومي يُعد صورة جديدة من صور إضفاء المشروعية على السلطة السياسية ( أي على الفعل السياسي (العمومي) للدولة )، لكنه يعد من جهة أخرى وسيلة ناجعة، في نطاق الديمقراطية، لتحويل طبيعة هذه السلطة؛ أي تحويلها في أفق عقلنتها وتوجيهها والتأثير فيها لتتلاءم أكثر فأكثر مع طموحات المواطنين وتطلعاتهم ومطالبهم. والعُمْلة أو الوسيط الذي يحكم المعاملات في الفضاء العمومي هو الفعل التواصلي Communicative action) ). (يرى هابرماس إن هناك ثلاث عملات أو ثلاثة وسائط: الدولة أو المجتمع السياسي يستعمل وسيط السلطة، النسق الاقتصادي يستعمل وسيط المال، والمجتمع المدني المهيكل في الفضاء العمومي يستعمل وسيط الفعل التواصلي). لهذا لا يوجد قيد أو شرط يمكن أن يمنع المواطن من ولوج الفضاء العمومي والمساهمة فيه. إذ إن القدرة على التواصل بواسطة اللغة تكون كافية وحدها لولوج هذا الفضاء والضرب بسهم فيه. بيد أن الفعل (التواصلي) في نطاق الفضاء العمومي لا يكتسي مشروعيته من حدود المصالح الخاصة أو الفئوية للأفراد أو الجماعات، بل يكتسيها من حدود المصالح القابلة للتعميم والتي تتعالى عن المصالح الخاصة والجزئية للأفراد والجماعات المتنافسة. لذلك عدّه بعض المفكرين (أبرزهم هابرماس) المكان الذي تتكون فيه الإرادة العامة على نحو عقلاني. وعندما نستعمل مفهوم الفضاء العمومي بهذا المعنى في التحليل، لا يمكننا الركون مثلا إلى التعريف الذي طوره روسو Rousseau) ) عن الإرادة العامة، أي التصور الذي يسلم بأنها موجودة سلفا، قبل كل تكوين للإرادة عن طريق النقاش العمومي. بعبارة أوضح، إن مصدر المشروعية، كما استدل على ذلك هابرماس في عدد من كتبه، لا يوجد في إرادة الأفراد الموجودة والمحددة سلفا، بل في مسلسل تكوُّنها، أي في المشاورة ذاتها. فالقرار المشروع إذن، ليس القرار الذي يمثل إرادة الكل، بل القرار الذي يكون نتيجة لمشاورة الكل.
حسب هذا المنظور إذن، يصبح الفضاء العمومي شرطا رئيسا لتكوين رأي جمهور المواطنين وإرادتهم. وعندما نتحدث عن رأي المواطنين أو ما يسمى بالرأي العمومي، لا نقصد به مجموعة من الآراء الفردية التي تنشأ هكذا بكيفية معزولة وتصاغ في سياق خصوصي. بعبارة أوضح، ينبغي أن لا نخلط بين الرأي العمومي وبين النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها بوسائل السبر والاستطلاع السطحية. الاستطلاع السياسي للرأي لا يكون عاكسا الرأي العمومي حقيقة إلا إذا تحقق في فضاء عمومي مُعَبَّأ، وكان مسبوقا سلفا بتكوين للرأي متصل بالأمور المعروضة. وهنا تحديدا يظهر دور وسائط الإعلام بمختلِف أشكالها، ودور المثقفين والشخصيات البارزة والخبراء الملتزمين (نقصد بالخبراء الملتزمين هنا مجموع الخبراء الذين تمردوا على فئة الخبراء التقنوقراط، واعتنقوا قيم التضامن وكرسوا قسطا من وقتهم للتدخل في قضايا الشأن العام، وتبسيط الأمور المعقدة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها من الميادين المتخصصة، والمستغلقة أحيانا، وشرحها قصد تنوير المواطنين والرفع من مستوى الرأي العمومي في المجتمع بصفة عامة). فهؤلاء جميعا يساهمون بأشكال متفاوتة وبطرائق متباينة وبأقساط مختلفة في تعبئة المواطنين وتنوير الرأي عندهم بخصوص المسائل المعروضة للنقاش.
ويكتسي الرأي العمومي أهميته من كونه طاقة للتأثير السياسي. إنه رأي يفرزه المجتمع المدني في الفضاء العمومي، ويصبح قابلا للاستثمار في التأثير في المجال السياسي وفي السلوك الانتخابي للمواطنين. وهنا تحديدا تكمن سلطة المجتمع المدني. وإذا كان هذا التأثير لا يتحول إلى سلطة سياسية ( أي لا يتحول من سلطة مدنية إلى سلطة سياسية ) إلا بمقدار ما يؤثر في قناعات الأعضاء ذوي النفوذ في النسق السياسي ( الحكومة )، فإن الأعضاء النافذين في النسق السياسي يعرفون بدورهم أن سلطتهم (السياسية) لا تكون مشروعة إلا إذا كانت تُمثِّل السلطة التي تتولد بكيفية تواصلية في الفضاء العمومي (السلطة المدنية). إنهم، بعبارة أوضح، يُلْفون أنفسهم مضطرين إلى الإنصات مليا إلى المطالب التي يرفعها المجتمع المدني في الفضاء العمومي والاستجابة لها. إذ لا يمكن للسلطة السياسية، التي تخول لها أدبيات دولة القانون الديمقراطي حق اتخاذ القرارات الملزمة للجماعة، أن تكون سلطة مشروعة إلا إذا كانت مسنودة ومؤيدة بسلطة المجتمع المدني المؤسسة على التواصل. بعبارة أخرى، إن المجتمع ينبغي أن يرى في القرارات الملزمة التي تصدر عن السلطة السياسية تجسيدا لحقوقه المنصوص عليها في الدستور وإحقاقا لها، وليس إخلالا بها أو هتكا لها.
وفي هذا الإطار يكون الفضاء العمومي ميدانا تعبره السلطتان معا وتتقاطعان فيه: سلطة سياسية نسقية نازلة من أعلى، وسلطة مدنية منبعثة بكيفية تلقائية من النسيج التواصلي الذي يحبكه المواطنون في الفضاء العمومي. وهذا العبور والتقاطع يُضْفِيان على الفضاء العمومي طابعي الحيوية والتجدد. لكنهما يسِمانه بطابعي التوتر والصراع أيضا. سنحاول أن نبرز في الفقرة الموالية بعض مظاهر هذا التوتر والصراع.
3-الفضاء العمومي ومسألة الهيمنة
إن سلطة الدولة، من حيث إنها تنظيم، تعد نسقا. وبما أنها نسق، فإنها تملك كل خصائص النسق. فهي كيان يتصف بالكلية، ويتمتع بالضبط الذاتي، ولا يمكن أن يتحول ويخرج عن طوره ويصبح شيئا آخر مخالفا لنفسه. (هيغل كان يقول إن الدولة دائما تختلف عن التصور الذي يكونه الفرد عنها، ويقصد بالفرد طبعا الفرد الذي يعيش في المجتمع المدني). منطق هذه السلطة الداخلي تلخصه النجاعة والفعالية. أما العقلانية التي يندرج ضمنها هذا المنطق فعقلانية أداتية خالصة. إنها باختصار سلطة تحدد نفسها عن طريق القانون بوصفها سلطة سياسية مؤسسية تنـزع إلى الأمر والفرض والقيد والهيمنة. وهذه السمات التي تتصف بها هذه السلطة لا تزول حتى في الأنظمة الديمقراطية العريقة، حيث تستند مشروعية السلطات كلها إلى السيادة الشعبية المعبر عنها بالاقتراع العام.
أما السلطة المدنية فلا تعد نسقا. إنها بالأحرى سلطة مائعة وسيالة، تنتج بكيفية تلقائية عن التواصل الحر الذي ينسجه المواطنون فيما بينهم بخصوص القضايا والمشاكل التي تتصل بالشأن العام. منطق هذه السلطة الداخلي لا يندرج تحت مقولتي النجاعة والفعالية، بل تحت مفهوم عام هو التفاهم المتبصر حول أحسن السبل المُفضية إلى العيش الكريم بالمعية في المجتمع. عقلانيتها ليست أداتية، بل تواصلية شديدة الصلة بالعقل العملي البعيد كل البعد عن العقل النظري-التقني الذي تستلهمه السلطة السياسية. المهد الذي تتشكل فيه هذه السلطة هو الفضاء العمومي، وهو فضاء غير مؤسسي على عكس الفضاء العمـومي النسقي ( كالبرلمان واللجان المتفرعة عنه…) الذي تعمل فيه السلطة السياسية. إنه فضاء غير مؤسسي لأن الفاعلين فيه لا يعملون تحت ضغط استعجال اتخاذ القرار كالفاعلين السياسيين في الفضاء المؤسسي للدولة. الوقت في الفضاء العمومي هو الوقت الذي تستغرقه المشاورات والمناقشات، لا يخضع للحساب أو للاختصار اللهم إلا إذا أراد هذا الفضاء أن يقوض ذاته وينقلب على نفسه.
إن الصعوبة هنا تكمن في تحمل هذا التوتر البنيوي الحتمي الذي ينشأ بين المظهر النسقي للسلطة، اللازم لاشتغالها الفعلي ( والذي يرمي بطبيعته ذاتها، السلطة المدنية إلى الأرباض، لأنه يرى فيها عاملا مشوشا على انضباطه الذاتي )، وبين مظهرها المدني الذي يمثل من جهته المصدر الوحيد للديمقراطية والمشروعية، والذي ينبغي له، وهذا داخل في طبيعته، أن يمارس حق التدخل في النسق السياسي. (الإرادة العامة، بالمناسبة، لا تهدأ أو تستريح بمجرد وضع المواطنين الأوراق في صناديق الاقتراع). وكلما مال التوتر بين المظهرين أو السلطتين في دولة ما إلى اللين استطعنا أن نتحدث عن استقرار سياسي، وكلما احتد التوتر بينهما واشتد، صح الحديث عن أزمة سياسية في الدولة. والحقيقة الأساس التي لا ينبغي إغفالها هنا هي أن السلطة السياسية النسقية المولِّدة للقرارات الملزِمة لا يمكن أن تأخذ بناصية الإرادة العامة التي تمثلها إلا إذا ظلت متابعة ومنصتة ومنفتحة على المطالب والقيم والمحاور المتداولة بكيفية تلقائية وحرة في الفضاء العمومي. آنذاك، وآنذاك فقط، تكون قراراتها مجسدة للحقوق وملبية للطموحات ومحققة للآمال والتطلعات.
... المثقفون
لا يمكننا ونحن نتحدث عن المجتمع المدني أن ننسى الدور الحاسم الذي تلعبه النخبة المثقفة في إشاعة القيم، وتنوير الرأي العمومي والرفع من مستواه. ونحن إذ نطرح دور النخبة المثقفة في هذا السياق، نعول على المثقف الذي لا يفصل الالتزام النظري بالحقيقة عن الالتزام الأخلاقي- السياسي بالعدالة. نعول على المثقف الذي ينتقد الرؤى النسقية التي يقترحها السياسيون للعالم. نعول على المثقف الذي يجري التعديلات اللازمة على الحلول الآلية والصماء التي يقترحها الخبراء الخُلص (غير الملتزمين) لمشاكل الناس. نعول على المثقف الذي مازال يؤمن أو يحلم بأن في الإمكان دائما أبدع مما كان. ونعول في الأخير على المثقف الذي يؤمن بأسبقية الديمقراطية على الفلسفة، وبأسبقية التضامن على الموضوعية.