14‏/03‏/2014

الأنوار الفرنسية الأولى ( !)



"كانت بلدان أوروبا متصلة بالشعوب التي احتفظت ببعض الأنوار أو التي تنورت حديثا.  ففرنسا كانت تتواصل مع هؤلاء الموريين (العرب-الأمازيغ) الذين كانوا يَرْعون الفنون والأدب والعلوم في إسبانيا؛ وكانت رحلات الحج تقود عددا لا يستهان به من اللاتينيين إلى الاتصال بـالعرب المسلمين الذين يقطنون بفلسطين؛ وكان الباباوات يخوضون نقاشات من حين إلى آخر مع الإغريقيين؛ وقد ساعدت التجارة البحرية التي كانت مزدهرة في مدن إيطاليا المتوسطية على تكاثر هذه العلاقات التي وسعتها الحروب الصليبية فيما بعد. فلم يكن بإمكان الشعوب المتحاربة، حتى مع ضوضاء السلاح، أن يظل بعضها غريبا عن البعض الآخر... ولم يكن بإمكان الصليبيين أن يمروا خفافا بهذه الأرض التي كانت لا تزال تزخر بالمعالم الحضارية من دون أن يغرفوا، حتى لو لم يقصدوا إلى ذلك، بعض الأنوار التي يُفترض فيها أن تُثمر لاحقا".


Joseph-Marie Degérando. Histoire comparée des systèmes de philosophie. Tome IV. Paris : A. Eymery. 1823 (2 éd.), p. 380-381.

11‏/03‏/2014

معرفة بلا تفكير


تصدت الفلسفة الحديثة لألغاز كثيرة. هذا الكتاب الجماعي يتناول بالدرس والتحليل أهم هذه الألغاز وأشدها صعوبة، ويتعلق بتفسير الكيفية التي تستطيع بها الكائنات البشرية أن تتفاعل مع العالم من دون أن تكون في الغالب الأعم في حاجة إلى إعمال فكرها (هذا الأمر يصدق على جميع الناس في أحوال كثيرة، لكن يمكنكم أن تلاحظوه في أجلى صوره لدى الرياضيين مثلا: تحركات اللاعب ميسي وسط الزحام في اللحظات الأخيرة قبل تسجيل الإصابة). كيف يتأتى للاعتقادات والأفكار والرغبات أن تحضر إلى ذهننا قبل أن يقع إفراغها في الكلمات؟ وكيف يتسنى للأفعال التي تصدر عنا أن تأخذ مجراها قبل أن يقع إعلام الذات بصدورها؟ وكيف يتأتى للمحتويات والبواعث الذهنية على الفعل أن تتولد من دون مفاهيم في العقل تُذكر أو تمثيلات في الذهن تُحسب؟ الاتجاهات الرائجة اليوم في بحث هذه الأمور ذات الصلة بالسلوك البشري ترتكز على الشعور وعلى التفكير، وتغض الطرف عن كل ما لا يمكن أن يَخضع للآليات العقلانية. فهي اتجاهات تسلم بأن الأفكار تقبل المراقبة الشعورية، وأن الأفعال لا تصدر إلا عن رَوِية، وأن السلوك ينتج في أساسه عن ضرب من التخطيط القضوي. فهي اتجاهات لا تستطيع لهذه الأسباب مجتمعة أن تعرض رصدا ملائما لما هو تَلْقائي ومَهاري وضمني وغير شعوري وغير تصوري.


يحاول المشاركون في هذا الكتاب أن يقتحموا هذا اللغز ويفسروا بعض جوانبه باللجوء إلى مفهوم رئيس هو مفهوم الخلفية (Background). إنهم يرون أن الخلفية هي الهادي الضمني واللامفكر فيه للإنسان في تعامله مع العالم، الهادي الذي يرسم مجالا لأفعالنا الممكنة قبل أن تعرف 'الذات' ما عليها أن تفعل وكيف يتعين عليها أن تفعله، أي قبل أن يتسنى لها أن تعيَ فعلها الخاص وهي تفعله. الفكرة الرئيسة التي تفضي بها الخلفية في هذا الكتاب هي أننا نستطيع أن نقوم بأكثر مما نعرفه بكيفية صريحة؛ وأن ما نعرفه يتعدى كثيرا ما يمكن أن يعالجَه شعورنا ولغتنا ونتوصل إليه بإعمال رَويتنا العقلانية. أغلب الباحثين المشاركين في الكتاب يستوحون الإطار الفلسفي الذي طوره جون سورل في كتابه الشهير عن القصدية 1983، والإطار الفلسفي الناقد لأطروحات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها في العلم المعرفي الذي طوره هيوبير دريفيوس (المقال الافتتاحي للكتاب كتبه دريفيوس نفسه). الخلفية عند هذا الأخير تتميز بالشمول (holistic) وتبقى متوارية محجوبة. بيد أنها ليست ركاما من الحالات القصدية (أي المعرفية)، بعضها مستقل عن بعض كما ذهب إلى ذلك هوسيرل مثلا؛ بل هي 'جو' كما ذهب هايدغر أو 'حقل قُوى' كما ذكر بورديو. إنها حسب دريفيوس لا تعد شرطا للنشاط الماهر الذي يصدر عن جسمنا فقط، بل تعد شرطا لتفكيرنا في العالم من حولنا أيضا.


Zdravko Radman (Editor). Knowing without Thinking: Mind, Action, Cognition and the Phenomenon of the Background (New Directions in Philosophy and Cognitive Science). Palgrave Macmillan ( 2012). 280 pages.

تاريخ الديمقراطية



ينطلق هذا الكتاب من أن التاريخ عموما أنتج في تعاقب مراحله وتوالي أحداثه ثلاثة أنماط من الديمقراطية: الديمقراطية الأثينية، والديمقراطية الليبرالية التمثيلية، والديمقراطية الاشتراكية. أغلب مُنظري الديمقراطية الليبرالية يلاقون حرجا في قبول هذه الخلاصة، خصوصا القبول بالحديث عن وجود ديمقراطية اشتراكية، لأنهم يعتقدون أن الديمقراطية الليبرالية التمثيلية تعد الصورة الديمقراطية الوحيدة والحقيقية، وغالبا ما يربطون اعتقادهم هذا بالفكرة المتنازع عليها أيضا التي لا ترى أن هناك فرقا دالا من الناحيتين الفكرية والسياسية بين الماركسية الكلاسيكية والنزعة الستالينية. كاتب الكتاب يقر بأن هناك فرقا بينهما، ويقدم جردا تاريخيا يكشف فيه عن جذور وتجليات تَكوُّن هذه الأنماط الثلاثة من الديمقراطية ليخلص في النهاية إلى أن الصيغ الديمقراطية المتصارعة اليوم تعود في جذورها التاريخية إلى هذه الأنماط الثلاثة.
لا نستطيع في نظر الكاتب أن نتساءل ونجيب عن إمكان قيام عالم أكثر ديمقراطية من الذي نعيش فيه إلا بالانكباب على دراسة تاريخ الديمقراطية. وفي سياق تحليله المفصل لهذا التاريخ يتناول الباحث بإسهاب القُوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لعبت في الماضي دورا رئيسا في ظهور وتطور هذه الأنماط من الديمقراطية؛ كما يكشف في تحليله المفصل أيضا الطابع المتغير والانتقالي الذي عرفته الصور الديمقراطية المتباينة خلال التاريخ. فالديمقراطية الأثينية، والجمهورية الرومانية، والتجربة الثورية الأولى التي عرفتها الديمقراطية الجمهورية في فرنسا، وكذا المحاولة التي لم يكتب لها النجاح في إنشاء ديمقراطية تشاركية في روسيا، هي محاولات انتهت كلها إلى انهيار تراجيدي. بل إن الديمقراطية الليبرالية نفسها التي انتشرت في الدول الرأسمالية المتقدمة تظل، إذا نحن نظرنا إليها في هذا السياق التاريخي الإنساني الموسع وفي أعقاب حربين عالميتين مدمرتين، هي ذاتها ديمقراطية غير مستقرة وبالغة الهشاشة.
غرض الباحث من هذا الكتاب ينصب على استثمار تاريخ الديمقراطية لتشخيص البدائل الديمقراطية الممكنة وإيضاحها لمواجهة عالم تحكمه الرأسمالية النيوليبرالية وتسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية. فهو يرى أن الديمقراطية الاشتراكية التي تقوم على التشارك (Socialist participatory democracy) تعد البديل، المرغوب فيه والعملي والممكن من الناحية الواقعية، عن الرأسمالية وعن الديمقراطية التمثيلية. فالديمقراطية الاشتراكية تأخذ مزايا الديمقراطيتين الأثينية والتمثيلة وتُجاوزهما من ناحية تسهيل مشاركة المواطنين المباشرة في حكم المجتمع.



Brian S. Roper. The History of Democracy: A Marxist Interpretation. 2013. Pluto Press. 328 pp.