05‏/03‏/2007

مراجعة كتاب مناقشات حول الشعور




سوزان بلاكمور باحثة مستقلة تعيش من عائدات كتاباتها، تلقي محاضرات وتخرج برامج إذاعية وتلفزيونية، تحاضر باعتبارها أستاذة زائرة في جامعة ويست إنجلند، ببريسطول. مجال بحثها هو علم النفس والفيسيولوجيا، تابعت دراستها العليا في جامعة أكسفورد، وحصلت على الدكتوراه في الباراسيكلوجيا من جامعة سيوري (1980). اهتماماتها متشعبة تتوزع بين علم الميمات (memetics) والنظرية التطورية والشعور ووسائط الإعلام. تكتب في عدة صحف ومجلات. وقد تعاقدت مؤخرا مع صحيفة الغارديان البريطانية للكتابة في مدونة تابعة للصحيفة. كتبت مقالات علمية كثيرة في المجلات والدوريات المتخصصة، وشاركت في كتب جماعية كثيرة. من كتبها ما وراء الجسد (1982)، نموت لنحيا (أو تجارب قاب قوسين أو أدنى من الموت، 1993)، سيرة ذاتية بعنوان بحثا عن النور (1996). وأشهر كتبها الآلة الميمية (1999)، الذي ترجم إلى أكثر من 13 لغة. ويعد كتابها الموطأ في دراسة الشعور الصادر عن مطابع أوكسفورد الجامعية سنة (2003)، من أحسن وأسلس ما كتب عن مسألة الشعور في السنين الأخيرة. وقد صدر لها في نوفمبر 2005 بالمملكة المتحدة، ويناير 2006 بالولايات المتحدة، كتاب هام عن الشعور أيضا، بعنوان مناقشات حول الشعور؛ وعنوان فرعي: ما الذي تقوله أفضل العقول عن الدماغ وعن حرية الإرادة وعما يعنيه أن يكون الكائن إنسانا. ويقع الكتاب في 274+ viii صفحة، ويتضمن صورا بيانية ورسوما (ذات طابع كرتوني) تشرح بعض القضايا والتجارب المعقدة بكيفية مبسطة ومسلية.

يتضمن هذا الكتاب مقدمة وثبتا بالمصطلحات يتوسطهما عشرون حوارا مطولا عن مسألة الشعور مع أبرز الفلاسفة وعلماء الأعصاب وعلماء النفس، وهم بالترتيب كما وردوا: برنار بارس، نيد بلوك، ديفيد شالمرز، باتريشيا وبوول شورشلاند، (وهما زوجان يشتغلان معا)، فرنسيس كريك (الحائز على جائزة نوبل والذي وافته المنية مؤخرا في يوليوز 2004)، دانيال دينيت، سوزان غرينفيلد، ريتشارد غريغوري، ستيوارت هاميروف، كريستوف كوش (عاش في المغرب فترة وحصل على الباكالوريا من ليسي ديكارت)، ستيفان لابيرج، طوماس ماتزينغر، كيفين أوريغن، روجيه بينروز، ولايانور راماشاندران، جون سورل، بيترا ستوريج، فرانسيسكو فاريلا (الذي وافته المنية قبل سنتين أيضا)، ماكس فيلمانز، دانيال فيغنر.

ميزة كتاب بلاكمور ترجع في المقام الأول إلى أن صاحبته مطلعة على تفاصيل نظريات من تحاورهم ودقائقها. بل إن لها مواقف خاصة بشأن الدراسات الجارية عن الشعور عبرت عنها في الكتب التي ألفتها، سواء أكان ذلك في الموطأ في دراسة الشعور أم في الآلة الميمية أم في مقالاتها العلمية الكثيرة الأخرى، وعبرت عنها بكيفية موجزة ونقدية، كما سنرى باختصار، في مقدمة هذا الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته. فالأسئلة التي طرحتها بلاكمور على المحاورين لا تدخل في باب الأسئلة التي يضعها في العادة خالي الذهن، بل أسئلة تصدر عن مطلعة مساهمة في البحث ومتمكنة منه أيضا.

تتحدث بلاكمور عن الظروف التي قادتها إلى محاورة كريك، وتُرجع الفضل في ذلك إلى كوش، الذي حاورته في توسكن. تقول بلاكمور: "حين أنهيت الحوار مع كوش، سألني لماذا لم أفكر في محاورة كريك أيضا، فأجبته بأنني وددت أن يتم لي ذلك؛ لكنني علمت أن الرجل بلغ من الكبر عتيا، 88 سنة، وهو مريض. وأخشى أن أزعجه..." (ص 2-3). لكن كوش أصر على أن يكلمه في الموضوع. تقول بلاكمور: "قال لي كوش سأكلم كريك في الموضوع، وأنا على يقين من أنه سيوافق. حقا إنه يكره الاستجوابات التي تتناول اكتشافه للـ الأدنة (DNA) قبل خمسين عاما خلت. لكنني أعلم أنه سيسعد كثيرا بالإجابة عن أسئلتك" (ص 3).

احتارت بلاكمور في ترتيب الحوارات. فكرت في أن تبدأ بالأصغر سنا (ديفيد شالمرز)، وتنتهي بالتدريج إلى الأكبر (فرنسيس كريك)، لكنها عدلت عن هذه الخطة، واستقر رأيها في الأخير على الترتيب الألفبائي بوصفه ترتيبا صوريا ومحايدا.

تعمدت بلاكمور أن تسأل محاوريها جميعا عن الأسباب التي قادتهم إلى الاهتمام في أعمالهم بدراسة الشعور. واكتشفت في أجوبتهم قصصا مشوقة. فشالمرز مثلا بدأ مشواره العلمي باحثا في مجال الرياضيات؛ بينروز بدأ أيضا في الرياضيات ولا يزال. كيفين أوريغن بدأ مشواره باحثا في مجال الفيزياء؛ كريك اشتغل ابتداء في الوظيفة العمومية موظفا عاديا...الخ

سألت بلاكمور محاوريها عن أعمالهم ونظرياتهم الخاصة. تقول "من الرائع جدا أن تتاح لك الفرصة وتقعد مع أصحاب النظريات أنفسهم وتسألهم عما يقصدونه على وجه التحديد" (ص 3). وتقول معبرة عن رأيها الناقد فيما سمعته من محاوريها: "بعض تلك النظريات مستغلق جدا، وعصي على الفهم؛ أما بعضها الآخر فكان دائما يبدو لي أخرق... في بعض الحالات كنت أشعر بأنني بدأت أفهم الأمور حقا، لكنني في الحالات الأخرى شعرت بأنني مازلت في حيرة من أمري كما كنت في السابق" (ص 3).

الإشكالات التي تناولتها بلاكمور في حواراتها هي نفسها الواردة في العنوان الفرعي للكتاب: الدماغ، حرية الإرادة، ما معنى أن يكون الكائن إنسانا. وهذه الإشكالات مجتمعة هي ما يتناوله باختصار مجال البحث المسمى دراسات الشعور (Consciousness Studies).

كل الحوارات التي يتضمنها كتاب بلاكمور تروم تحديد الموقف الذي يتخذه المحاورون من السؤال الآتي: هل الشعور أمر مفصول عن العمليات الدماغية التي يتوقف عليها أم شيء موصول بها؟ "فهذا السؤال، كما تقول بلاكمور، يعد بمعنى من المعاني السؤال الرئيس الذي تؤدي الأجوبة المتباينة عنه إلى التمييز بين النظريات الكبرى عن الشعور... فبقدر ما يحصل من تطور في العلم العصبي ومن معرفة عن الدماغ نتوصل بالتدريج إلى فهم وظائف كالإبصار والتعلم والذاكرة والتفكير والعواطف. لكن، عندما يكتمل فهمنا لكل هذه الوظائف، ألا يبقى هناك شيء – الشعور ـ خارج دائرة الفهم يحتاج إلى تفسير؟ روجيه بينروز يعتقد ذلك. وديفيد شالمرز يعتقد ذلك أيضا. إنه يرى أننا عندما نحل كل المشاكل السهلة، يبقى هناك المشكل العويص المتمثل في الشعور. وهذا ما ينفيه نفيا قاطعا كل من بوول شورشلاند وباتريشيا شورشلاند، ودانيال دينيت، وفرنسيس كريك" (ص 6). كل الذين حاورتهم بلاكمور يقبلون التوزيع والاندراج في أحد الفريقين: إما الفريق الذي يقول بوجود مشكل عويص لا يقبل الحل بمجرد فهم العمليات الدماغية، وإما الفريق الذي لا يرى أن هناك مشكلا عويصا بعد فهم العمليات الدماغية على الوجه الصحيح.

أهمية الكتاب ترجع إلى كونه يبسط كثيرا من القضايا التي تبدو معقدة حين نقرأها في مقالات هؤلاء الفلاسفة والعلماء أو في كتبهم. وقد لعب حس بلاكمور الصحفي دورا رئيسا في هذا التبسيط غير المخل. فعلى الرغم من كونها عارفة بتفاصيل نظريات من تحاورهم، نلفيها تصطنع في كثير من الأحيان موقف من لا يعرف. وقد ساهم هذا الموقف "التاكتيكي" في تيسير كثير من الحجج التي تكتسي طابع الاستغلاق حين عرضها في الكتب والمقالات المتخصصة.

سوزان بلاكمور