29‏/10‏/2017

أنا الآن مشغول بأن أجعل الأمر أكثر إرباكا




بيكاسو وفرانسواز جيلو

"سألتُه [بيكاسو] عما إذا كان يرى أن الأخضر يعثر على توازنه عند امتزاجه بالبنفسجي. فأجابني قائلا


' ليس المشكل قائما ههنا. لا أريد أن أعرف ذلك. فأنا لا أسعى إلى أن أجعل هذا المقترح الأولي الذي أنا بصدده أكثر انسجاما. أنا الآن مشغول بالضبط بأن أجعل الأمر أكثر إرباكا. بعد ذلك سأشرع في البناء- من دون أن أسعى وأنا أبني إلى خلق الانسجام. سأجعله أشد ارتباكا وأكثر دمارا. المسألة هنا، كما ترين، أشد التصاقا بالغريزة منها بشيء آخر [...] المشكل هو كيف لي أن أعيد ترتيب هذا المقترح؟ كيف لي، من دون أن أقوضه تماما، أن أجعله أكثر دمارا؟ كيف لي أن أجعله فريدا –لا أقصد هنا أن أجعله جديدا فقط، بل أن أجعله مختصرا أشد الاختصار وممزقا كلَّ مُمَزق. ترين إذن أن الصباغة بالنسبة إلي فعل درامي، فعلٌ يعثر فيه الواقع على نفسه وقد أصبح مفككا. هذا الفعل الدرامي يحظى عندي بالسبق على كل ما عداه من الاعتبارات الأخرى. الفعل التشكيلي الخالص لا يعدو أن يكون شيئا ثانويا بالنسبة إلي. ما يُهِمُّني في المقام الأول هو دراما الفعل التشكيلي نفسها، أي اللحظة التي يخرج فيها الكون عن ذاته أو طوره ويعثر رأسا على دماره' ".


Francoise Gilot & Carlton Lake. Life With Picasso. McGraw-Hill Book Company (1964), p. 59

عن مفهوم 'اليسار'



يري ميشيا، في نطاق نقده مفهوم 'اليسار'، أن الاستعمال المنهجي لاصطلاح 'اليسار' لا نعثر عليه عند ماركس في السياسة بل في الفلسفة (التمييز بين اليمين الهيجلي المدافع عن 'النسق' واليسار الهيجلي المدافع عن 'المنهج'). ويرى ميشيا في هذا السياق أن ماركس وإنجلس لم يُعرِّفا نفسيهما سياسيا بإنهما يساريان (يصدق هذا أيضا على الشخصيات البارزة المؤسسة للحركة الاشتراكية والفوضوية). ففي نظر ماركس وإنجلس- خصوصا حين كانا يعمدان إلى استعمال لغة يسار/ يمين التي تعود في أصولها إلى القاموس البرلماني كما أوضح ذلك دي توكفيل في مذكراته سنة 1850- كان اليمين يدل على مجموع تلك الأحزاب التي يفترض فيها تمثيل مصالح الأرستقراطية الزراعية (المتناقضة أحيانا) والدفاع عن التراتبية التي تفرضها المسيحية الكاثوليكية. أما اليسار من جانبه فكان شديد الانقسام، وكان يشكل نقطة تلاق سياسية لفصائل وشرائح مختلفة من الطبقة المتوسطة، والتي تمضي من البورجوازية الصناعية والليبرالية الكبيرة إلى البورجوازية الصغيرة الجمهورية والجذرية التي كانت لا تزال آنذاك متأثرة بالتراث اليعقوبي. أما الحركة العمالية الاشتراكية – بالنظر إلى كونها كانت ملزمة بمقاومة الهيمنة الفيودالية وسطوة الرأسمال- فظلت دائما محافظة على استقلالها السياسي والتنظيمي إزاء المعسكرين معا (وهو الموقف الصعب الذي استمر عليه النقابيون الثوريون حتى الحرب العالمية الأولى). 



Jean-Claude Michéa. Les mystères de la gauche : De l'idéal des Lumières au triomphe du capitalisme absolu . Climats 2013


غادامر والسياسة (مراجعة مختصرة)- مصطفى الحداد

مراجعة مختصرة لكتاب دارين والهوف:



Darren Walhof. The Democratic Theory of Hans-Georg Gadamer. Palgrave-Macmillan 2017. 156 pages


توجد أسباب كثيرة حالت ولا تزال دون تعويل الباحثين على الفيلسوف هانز جيورج غادامر في مجال النظرية السياسية. الراجح أن هابرماس وديريدا في نقاشيهما الشهيرين، كل على حدة، مع غادامر رسخا الاسترسال في غض الطرف عن أعمال هذا الأخير في مجال النظرية السياسية. فهيرمنوطيقا غادامر الفلسفية تبلورت في اشتباك نقدي مع أفكار فلاسفة التنوير. إنها هيرمنوطيقا محافظة، أو هكذا تبدو، في جوانب كثيرة منها بسبب تعويلها على التراث أو التقليد ونقدِها أفكارَ الأنوار.

فكر الأنوار، في نظر غادامر، ورط الناس في ثنائية العقل والتراث المغلوطة، وحثهم على ألا يطمئنوا إلا إلى الأمور والحقائق التي يمكن البرهنة عليها بمناهج موضوعية ومحايدة. وعلى العكس من هذا، دافع غادامر عن أن الإنسان لا يمكن أن يهرب أو يتخطى اندارجه في التاريخ. فالمسبقات التي ورثناها عن التراث تُكَيف سلفا رؤيتنا إلى العالم، وتعد في نهاية المطاف الشرط الذي لا يمكننا أن نتلافاه في كل فهمٍ نَبْنيه. هناك أفقان يتشابكان ويمتزجان عندما نسعى إلى الفهم: الأفق الذي يندرج فيه الشيء المراد فهمه (النص، الحدث التاريخي، العمل الفني، موضوع النقاش...الخ)، والأفق الذي تندرج فيه الذات الساعية إلى الفهم. من هذه الزاوية لا يكون الفهم نتيجة منهاج محايد أو موضوعي، بل يكتسي الفهم هنا طابع الحدث الذي يَحصُل تَلقائيا في وعينا، الحدث الذي يحصل كالشرارة جراء اشتباك الآفاق وامتزاجها.

على الرغم من إلحاح غادامر، في نظريته عن امتزاج الآفاق، على الطابع اللغوي الذي يميز الوجود الإنساني، وهو ما يوافقه عليه هابرماس، يرى هذا الأخير أن غادامر لم يُعنَ أو بالأحرى لم يلتفت إلى أن اللغة ذاتها يمكن أن تكون إيديولوجية، مما يستدعي مراجعتها باستمرار وإخضاعها على الدوام للفحص النقدي، وهو ما تفتقر إليه أعمال غادامر. ديريدا من جانبه رأى أن تصوير الفهم عند غادامر بوصفه تداخلا أو مزجا بين الآفاق أخفى عنه إرادة القوة التي يمكن أن تحركَ الذات وتدفعَها إلى أخذ الآخر كما لو كان مجرد أداة في يد هذه الذات الساعية إلى الفهم، وهو ما يعني أن غادامر ينزع عن الآخر غيريته المميزة. هيرمينوطيقا غادامر بالنسبة إلى هابرماس وديريدا، تظل باختصار، عاجزة عن أن تكون موطأَ قدمٍ صالحاً لنقد الممارسات اللغوية والإيديولوجية والسياسية القائمة. من هذا الباب انصرف الباحثون المشتغلون بالنظرية السياسية وبقضايا الديمقراطية عن أعمال غادامر وتركوها وراء ظهورهم.

يرى والهوف، في كتابه الذي نحن بصدده، أن هناك باحثين اثنين تناولا غادامر من منظور سياسي: فْريد ديلماير، وجورجيا وارنْكي. الأول استثمر في كتابيه (وراء [أو بعيدا عن] الاستشراق (1996)) و (التعددية الشاملة (2010)) مفهوم غادامر عن امتزاج الآفاق ليعالج استنادا إليه العلاقات أو المحاورات العابرة للثقافات، كما استثمر في كتاب آخر (الرؤى البديلة (1998)) مفهوم التكوين أو التربية (Bildung) الغادامري ليشرح الصلة القائمة بين الثقافة والتنمية الاقتصادية. (لا يذكر والهوف كتاب ديلماير (الديمقراطية الآتية. المنشور ضمن مطابع أوكسفورد الجامعية 2017) لكونه حديث الصدور حيث يواصل فيه ديلماير استثماره لغادامر ويوسع من نقاشه للرؤى البديلة ليتناول جانبا من الفكر العربي. انظر الفصل الرابع من هذا الكتاب الذي خصصه لمحمد عابد الجابري ص 82- 102). أما وارنكي فاستلهمت أفكار غادامر لإلقاء الضوء على عدد من القضايا تخص السياسات الداخلية. ففي كتابها (الاختلافات المشروعة (1999))، استثمرت أفكار غادامر عن الفهم لتستدل على أن الخلافات التي تنشأ عن نقاش عدد من القضايا الاجتماعية الشائكة (الإجهاض، البورنوغرافيا، التمييز الإيجابي، تأجير الأرحام) هي في الأساس خلافات تأويلية وليست مبدئية. في كتابها الثاني (ما بعد الهوية (2008)) استندت إلى مجموعة من الدراسات التي تناولت فيها حالات مخصوصة لتدافع عن مقاربة تأويلية بالمعنى الغادامري لمسألة الهوية.

والهوف في كتابه هذا يواصل ويوسع هذا النهج الذي شرعه ديلماير ووارنكي في استثمار أفكار غادامر في التنظير السياسي. إنه يوسعه لكونه يرى أن أفكار غادامر، إذا أُحسِن استثمارها، تَعرض مقاربة فريدة لمسألة الديمقراطية. ويدافع عن رأيه هذا باصطناع مواجهة حوارية شيقة بين الأعمال السياسية التي تناولت الديمقراطية وأعمال غادامر. ويتميز الكتاب بكونه يوظف أعمال غادامر كلها تقريبا: أعماله الأولى عن أفلاطون وأرسطو، كتابه الرئيس (حقيقة ومنهج) الذي طور فيه هيرمينوطيقاه الفلسفية، نقاشه الخلافي مع كل من هابرماس وديريدا، وكذا أعماله الأخيرة وخطاباته عن العلم، والتكنولوجيا، والعقل، والتضامن، والصداقة. إن والهوف يصطنع في كتابه الهام هذا نوعا من تشابك الآفاق وامتزاجها بين فكر غادامر والاتجاهات المعاصرة في التنظير للديمقراطية.