23‏/05‏/2012

في رده على هابرماس: ديريدا عن الأدب والفلسفة




اتفق الصديقان الأستاذ عبد الرحيم جيران والأستاذ محمد العناز (تلميذي القديم) على أمر جميل، حيث بعثا بهذا النص، بعد أن علقته على جدار مجموعة 'بوابة الأدب' بالفيسبوك، إلى جريدة القدس العربي، ونشر يوم الخميس 24 ماي 2012 في صفحتها الثقافية..تحياتي إلى الصديقين العزيزين...

 http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\23qpt899.htm&arc=data\2012\05\05-23\23qpt899.htm

طبعا النص قديم.. كان قد نشر سنة 1993 في جريدة الاتحاد الاشتراكي بالمغرب كاستشهاد طويل في مقال يقارن بين هابرماس وديريدا..


جاك ديريدا


هذا مقتطف من حوار أجرته مجلة (Autrement) مع جاك ديريدا (Jacques Derrida) سنة 1988، يرد فيه ديريدا على الذين اتهموه باختزال الفلسفة وردها إلى الأدب. وأحد الذين اتهموه الفيلسوف الألماني هابرماس في كتابه خطاب الحداثة الفلسفي. ففي هذا الكتاب ذهب هابرماس إلى أن ما يميز ديريدا هو أنه خصم عنيد للتقليد الأفلاطوني –الأرسطي القائل بأسبقية ما هو منطقي على ما هو بلاغي. فديريدا يرمي حسب هابرماس إلى توسيع سيادة البلاغة لتطال حقل المنطق وتهيمن عليه، وذلك للالتفاف على المشكل الذي يواجه النقد الشمولي للعقل. ولعل أبرز ما يترتب على الطعن في أسبقية المنطق على البلاغة أن الحديث عن التناقض يصبح غير ذي معنى، لأن مثل هذا الحديث لا يكون دالا إلا في نطاق شروط الاتساق المنطقي. وعندما تصبح السيادة للبلاغة على المنطق تمسي هذه الشروط فاقدة كل سلطة، أو على الأقل تصبح مدمجة ضمن شروط أخرى أعم قد تكون ذات طبيعة جمالية. وفي هذا الجزء من الحوار يناقش ديريدا هذا الإشكال بعمق لافت، ويرد عنه الاتهام.



*******



السائل:
لقد اقترحتم في مناسبات كثيرة أن النص الفلسفي يجب أن يُتناول كما هو، قبل أن تقع مجاوزته إلى الفكر الذي يتناوله. وهكذا وجدتم أنفسكم منقادين إلى قراءة النصوص الفلسفية بالعين نفسها التي تقرأون بها النصوص التي يُنظر إليها عموما على أنها نصوص "أدبية"، كما وجدتم أنفسكم كذلك تعيدون تناول هذه النصوص الأخيرة في سياق إشكالات فلسفية. فهل هناك كتابة فلسفية خالصة؟ وبأي شيء تتميز عن صور الكتابة الأخرى؟ ألا يحيد بنا الاهتمام المفرط بالأدب عن وظيفة الخطاب الفلسفي البرهانية؟ ألا نجازف، والحالة هذه، بمحو خصوصية الأجناس وبإخضاع النصوص كلها إلى عين القياس ؟

ديريدا:

اعلم أن النصوص كلها مختلفة. وعلى المرء أن يعمل ما بوسعه لئلا يخضعها أبدا "للقياس نفسه"، أو يقرأها بـ "العين نفسها". فكل نص يستدعي، إذا صح القول، "عينا" أخرى. حقا، إن النص في حدود معينة يُجيب أيضا عن انتظار مُرَمَّز ومُحدَّد، وعن عين وأذن تسبقانه وتُمليانه وتوجهانه بطريقة ما من الطرق. بيد أنه بالنسبة إلى بعض النصوص النادرة يمكن القول إن الكتابة في هذه النصوص تنزع نزوعا إلى تعيين بنية وفسيولوجيا عين لَمَّا توجد يتجه نحوها حدث النص، ومن أجلها يخلق هذا النص أحيانا قدره... إلى من يتوجه النص؟ إلى أي مدى يمكن لهذا الأمر أن يُحدَّد، سواء أكان ذلك من جانب "المؤلف" أم من جانب "القراء"؟ لماذا تظل هناك "لعبة" معينة غير قابلة للاختزال أو الرد ولازمة لقيام هذا التحديد ذاته؟ إنها أيضا أسئلة تاريخية واجتماعية ومؤسسية وسياسية.
ولكي أحصر كلامي في النمطين اللذين أثرتهما في سؤالك، أثبت لك أنني لم أماثل أبدا بين نص يقال عنه إنه فلسفي وآخر يقال عنه إنه أدبي. النمطان يبدوان لي مختلفين أشد ما يكون الاختلاف. ويجب أن يُعلَمَ كذلك أن التخوم بين النمطين معقدة جدا (فعلى سبيل المثال، لا أعتقد أنهما جنسان كما ترى أنت) وأقل طبيعية أو لاتاريخية أو بداهة مما نقول أو نعتقد. فالنمطان بإمكانهما أن يتشابكا في المتن نفسه حسب قوانين وصور لا تعد دراستها هامة وجديدة فحسب، بل لازمة إذا كنا لا نزال نرغب في الإحالة على هوية شيء ما بوصفه "خطابا فلسفيا" ونحن على علم بما نقول. ألا يجدر بنا أن نهتم بالمواضعات والمؤسسات والتأويلات التي تُنتِجُ أو تحافظ على هذا الجهاز من التخوم بكل الأعراف وبكل ما تفرضه من إقصاءات؟ لا يمكننا التصدي لهذا الكم من الأسئلة ما لم نتساءل لحظة "ما الفلسفة؟"، و"ما الأدب؟". إن هذين السؤالين عويصان ومفتوحان اليوم أكثر من أي وقت مضى. إنهما في ذاتيهما إذا نحن رمنا الإجابة عنهما ليسا فلسفيين وليسا أدبيين. وفي الأخير، أقول الشيء نفسه في نهاية المطاف عن النصوص التي أكتبُ؛ على الأقل بالنظر إلى كونها نتيجة للغليان الناجم عن هذه الأسئلة الحارقة. لكن هذا لا يعني، أو هذا ما أتمناه على الأقل، أن هذه النصوص ترفض ضرورة البرهنة بأكبر ما يمكن من الدقة، حتى وإن لم تكن قواعد البرهان المعتمدة فيها هي نفسها بالضبط، أو على الدوام، القواعد التي توجد فيما تسميه أنت "خطابا فلسفيا". بل حتى في هذا الخطاب كما تعلم تعد أنظمة البرهنة (
régimes de démonstrativité) إشكالية وكثيرة ومتحركة، وتمثل بذاتها موضوعا قارا لتاريخ الفلسفة برمته. والنقاش الذي دار حولها يختلط بالفلسفة ذاتها. فهل تعتقد أن قواعد البرهنة يجب أن تكون واحدة عند أفلاطون وأرسطو وديكارت وهيجل وماركس ونيتشه وبيرجسون وهايدجر أو ميرلوبونتي؟ وهل الشيء نفسه ينبغي أن يصدق على لغة هؤلاء ومنطقهم وبلاغتهم؟
إن الأمر لا يتعلق هاهنا برد "الخطاب الفلسفي" إلى الأدب بقدر ما يتعلق بتحليله في صورته وصيغ تأليفه وبلاغته واستعاراته ولغته وخيالاته وكل ما يتمنع فيه عن الترجمة... الخ إنه لمن صميم عمل الفلسفة التصدي لدراسة "هذه" الصور التي تعد أكثر من مجرد صور، ودراسة الجهات التي بمقتضاها أَوَّلَت المؤسسة الأكاديمية للفلسفة الشعرَ والأدبَ وأنزلتهما منزلة اجتماعية وسياسية مخصوصة وسعت إلى استبعادهما من (أو ألقت بهما بعيدا عن) متنها مدعية استقلالها الخاص عنهما، متنكرة بذلك للغتها الخاصة، أي لما تسميه أنت بـ "الأدبية" والكتابة عموما، متجاهلة بذلك معايير خطابها الخاص، والعلائق القائمة بين الكتابة والكلام، ومساطر ترسيخ النصوص الكبرى أو النموذجية وتكريسها...الخ . فأولئك الذين يعترضون على كل هذه المسائل وعلى ما تستدعيه أو تفترضه من تغيرات إنما يقصدون من وراء ذلك حماية نوع من السلطة المؤسسية للفلسفة كما جرى تثبيته وتكريسه في وقت معين. وفي هذا الخصوص بدا لي أن هناك فائدة تُرجى من دراسة بعض الخطابات كخطابات نيتشه أو فاليري التي تنزع إلى النظر إلى الفلسفة بوصفها نوعا من الأدب. لكن لم يسبق لي أبدا أن وافقت على ذلك. وقد أوضحت هذا الأمر. أما أولئك الذين اتهموني بأنني أرد الفلسفة إلى الأدب، أو المنطق إلى البلاغة (انظروا مثلا كتاب هابرماس الأخير خطاب الحداثة الفلسفي) فإنهم تحاشوا بوضوح وعناية فائقة قراءة ما قلته.
غير أنني لا أعتقد أن الصيغة "البرهانية" ولا الفلسفة بصفة عامة مجالان غريبان عن الأدب. فبقدر ما توجد أبعاد "أدبية" و"تخييلية" في كل خطاب فلسفي، توجد أيضا وحدات فلسفية (
philosophèmes) تعمل وتشتغل في كل نص يُعرف بأنه نص "أدبي"؛ بل توجد هذه الوحدات في المفهوم الحديث للـ "الأدب" نفسه.
إن هذا الفرز بين "الفلسفة" و"الأدب" لا يعد فقط مشكلا عويصا أحاول جاهدا أن أصوغه كما هو، بل إنه أيضا المشكل الذي يتخذ في نصوصي صورة كتابة تميل ميلا إلى الإبقاء على العناية بالبرهان وبالأطروحات إلى جانب العناية بالتخييل أو شعرية اللغة، حتى لا تكون هذه الكتابة كتابة أدبية خالصة ولا تكون كتابة فلسفية خالصة أيضا.
ولكي أجيب باختصار عن سؤالك بحذافيره أقول لك: إنني لا أظن أن هناك "كتابة فلسفية خالصة" أي لا أظن أن هناك كتابة فلسفية واحدة يكون نقاؤها محصنا على الدوام من كل أنواع العدوى. وبما أن الفلسفة تُتَكلَّمُ وتُكتَبُ بلغة طبيعية وليس بلغة كلية أو بلغة تقبل الصورنة قُبولا جذريا، فإن هذا يعني أنه في قلب هذه اللغة الطبيعية وفي استعمالاتها المختلفة توجد صيغ تفرض نفسها كرها بوصفها صيغا فلسفية (هناك إذاً علاقة قوة). وتعد هذه الصيغ كثيرة ومتصارعة وغير قابلة للانفصال حتى عن المضمون وعن "الأطروحات" الفلسفية. فالنقاش الفلسفي هو أيضا اقتتال من أجل فرض صيغ خطابية ومساطر برهانية وتقنيات بلاغية وبيداغوجية. وإذا حصل أن عارض المرء يوما فلسفة معينة فإنه لا يعارضها فقط بل يكون أيضا شاكا في الطابع الفلسفي الخالص والأصيل لخطاب الآخر.



Derrida, J « Y a-t-il une langue philosophique? Entretien avec J. Derrida » Paru dans Autrement Revue, n° 102 : «À quoi pensent les philosophes?», dirigé par J. Message, J. Roman et E. Tassin, Paris, novembre 1988. pp 30-32

22‏/05‏/2012

The Event of Literature



Terry Eagleton The Event of Literature. Yale University Press 2012. 264 pp.

 







Contents

 
Preface ix
1 Realists and Nominalists 1
2 What is Literature? (1) 19
3 What is Literature? (2) 59
4 The Nature of Fiction 106
5 Strategies 167
Notes 226
Index 240

In this characteristically concise, witty, and lucid book, Terry Eagleton turns his attention to the questions we should ask about literature, but rarely do. What is literature? Can we even speak of "literature" at all? What do different literary theories tell us about what texts mean and do? In throwing new light on these and other questions he has raised in previous best-sellers, Eagleton offers a new theory of what we mean by literature. He also shows what it is that a great many different literary theories have in common.
In a highly unusual combination of critical theory and analytic philosophy, the author sees all literary work, from novels to poems, as a strategy to contain a reality that seeks to thwart that containment, and in doing so throws up new problems that the work tries to resolve. The "event" of literature, Eagleton argues, consists in this continual transformative encounter, unique and endlessly repeatable. Freewheeling through centuries of critical ideas, he sheds light on the place of literature in our culture, and in doing so reaffirms the value and validity of literary thought today.

Terry Eagleton is Distinguished Professor of English Literature, University of Lancaster, UK. He is the author of more than 40 books, spanning the fields of literary theory, postmodernism, politics, ideology, and religion, including the seminal Literary Theory: An Introduction.

See a review of book by Shahidha Bari in Times Higher Education:

http://www.timeshighereducation.co.uk/story.asp?storyCode=419795&sectioncode=26

See a review of book by Stuart Kelly in The Guardian:

http://www.guardian.co.uk/books/2012/apr/06/event-literature-terry-eagleton-review

21‏/05‏/2012

جاكندوف بالعربية



صدرت ترجمة كتاب جاكندوف (Semantics and Cognition) إلى اللغة العربية عن المركز الوطني للترجمة بتونس ضمن منشورات سيناترا. وقد أنجز الترجمة الأستاذ عبد الرزاق بنور بعنوان 'علم الدلالة والعرفانية'. حجم الكتاب 13.5/ 21 سم، عدد الصفحات: 470 صفحة، 2010.



20‏/05‏/2012

فريجة والنزعة النفسية



ج. فريجة

ترتكب النـزعة النفسية (psychologism) في نظر فريجه، إذا شئنا الاختصار، ثلاثة أخطاء: الخطأ الأول قائم في أنها تخلط بين قوانين المنطق التي تتصف بالموضوعية والتجريد وبين القوانين النفسية التي توصف بأنها ذاتية وطبيعية. الخطأ الثاني يتمثل في أنها تخلط بين المعنى وبين الفعل الذهني الحامل لذلك المعنى. بعبارة أخرى إنها تخلط بين القضية التي تزود خبرا بمحتواه مثلا، وبين الفعل الذي يخبر عن صدق تلك القضية. أما الخطأ الثالث فقائم في أنها تخلط بين المباحث والمفاهيم المعيارية (كالمنطق ومفاهيمه مثلا) وبين المباحث والمفاهيم الوصفية الخالصة (كعلم النفس ومفاهيمه).

هوسيرل، فريجة والنزعة النفسية



إ. هوسيرل
 لقد انصب نقد فريجه على الطريقة التي تصور به هوسيرل أسس الأريثمطيقا. فقد دافع هوسيرل في كتابه  أسس الأريثمطيقا (1891)، الذي أهداه إلى أستاذه برينطانو، عن أن الفهم الفلسفي للأريثمطيقا يتطلب إيضاح طبيعة التفكير الأريثمطيقي، أي طبيعة العمليات الذهنية التي تجعل الأفكار المتصلة بالأعداد وتعالقاتها ممكنة بالنسبة إلينا. وانتقد التفسيرات التي اقترحها فريجه للمفاهيم لأنها تفسيرات تفشل في "جعلنا قادرين على الإمساك من جهة الباطن بهذه العمليات الذهنية التي تعد ضرورية لبناء المفهوم". فهوسيرل ذاته كان يروم وصف المفاهيم القاعدية التي يتطلبها التفكير الرياضي البدائي، كما يتجلى ذلك في حساب أعداد صغرى تتصل بالموضوعات المحسوسة، ليبين بعد ذلك أن مفهوم العدد نفسه مشتق من التفكر في أفعال العد البدائية تلك. لذلك خصص كل هذه المفاهيم، بما في ذلكم مفهوم العدد، بوصفها "محتويات" أفعال الفرد الذي يمارس العد، وجعل من مشروع بحثه مشروعا منصبا على الإمساك بـ"الأصل النفسي" الذي يشد إليه مفهوم العدد. أطروحة هوسيرل باختصار تقضي بأن المنطق بوجه عام، بما في ذلكم المنطق الاستنباطي، يعثر على تفسيره الفلسفي في إطار علم النفس. وكان جواب فريجه في هذا الشأن هو أن مشروع هوسيرل يخلط بين المفاهيم التي تعد موضوعية، والأفعال النفسية التي تعد أمورا ذاتية، وهو ما جعله ينقاد، في نظر فريجه، إلى الحكم على الأعداد ذاتها بأنها أمور ذاتية وخصوصية تتصل بالأفراد المفكرين.

ج. فريجة

إن النقد الفريجي زعزع اقتناع هوسيرل بأن هدف الفلسفة الأسمى قائم في تحليل التجربة الباطنية. فاتباع هذا السمت في التفكير من شأنه أن يصرف الفلسفة عن البحث في الوجه الموضوعي غير النسبي للمعرفة والأشياء المعروفة ويجعلها بحثا منصبا على الأوجه الذاتية. وإذا كان هوسيرل قد تأثر بهذا النقد، فإنه لم ينحز مع ذلك انحيازا تاما إلى البرنامج الذي سطره فريجه ودافع عنه. فعلى الرغم من اتفاقه لاحقا مع فريجه بأن المفاهيم والمعاني تعد أمورا موضوعية وتذاوتية، لم يقطع مع ذلك صلته برؤيته التي انتقدها فريجه والقائلة إن المفاهيم والمعاني محتوياتُ أفعال نفسية. فتحليل المفاهيم ظل مقرونا عند هوسيرل بتحليل التجارب. ما أصبح يراه هوسيرل، بسبب فريجه أو بسبب غيره، هو الحاجة الملحة إلى صوغ تصور غير نفسي للمحتوى يكون أكثر ملاءمة لأغراضه الفلسفية. ونستطيع القول على جهة التعميم إن أعمال هوسيرل اللاحقة كان هاجسها الزيادة في إيضاح مشروع هوسيرل الأصلي وفصله عن علم النفس وإدراجه ضمن المبحث الجديد الذي سماه بـ"الفينومنولوجيا"، وتوسيعه لكي يتمكن من دراسة تجارب الموضوعات كلها بغض النظر عن نوعها.

عن المعنى ومعرفة المعنى





ليس هناك في نظر سورل (J. R. Searle) مجال فلسفي مملوء بالمسبقات الإبستيمية اليوم كمجال فلسفة اللغة. ففريجه (G. Frege) على سبيل المثال لم يكن يعبأ في تحليله للمعنى بالقضايا الإبستيمية. لكننا عندما ننظر إلى الأعمال التي كتبها من جاؤوا بعده في القرن العشرين نلفيها أعمالا حولت الأسئلة المتصلة بالمعاني إلى أسئلة تتصل بمعرفة المعاني. إن هذا التحويل كان مدمرا في نظر سورل وفي غير محله. والمشكل هو أن الناس مازالوا مصرين عليه ومستمرين فيه. فهناك تيار جارف في فلسفة اللغة يعتقد أن السؤال الرئيس هو الآتي: ما نوع البرهان الذي ينبغي أن يكون في متناول السامع عندما يسند معنى إلى ما يقوله المتكلم؟ بعبارة أوضح: ما نوع البينة التي ينبغي أن تكون في متناولي لكي أستطيع عندما تنطق أنت بكلمة "أرنب" أن أحكم بأنك تعني ما أعنيه أنا بـ "أرنب"؟

ج. سورل



لم يكتف الفلاسفة في جوابهم عن هذا السؤال بما يمليه الموقف الإبستيمي إزاء مسائل تتصل ببت المعنى، بل تخطوا ذلك إلى طرح قضايا تتعلق بالطبيعة القصوى للمعنى. فقد أمسى تحليلهم للمعنى يستند كله إلى أنواع البراهين التي يمكن أن تكون في متناول السامعين حول ما يعنيه المتكلمون. بعض الفلاسفة الذين ذاع صيتهم (يقصد هنا كواين) ظنوا أن السؤال المعرفي يفتح الطريق أمامنا للجواب عن السؤال الأنطلوجي؛ أي ظنوا أن الوقائع المتصلة بالمعنى تنهض كلها على البراهين التي يمكن أن تكون في متناولنا عن المعنى. بيد أن سورل يعتقد أن هذه الرؤية المنتشرة في فلسفة اللغة وفي العلوم وفي الفلسفة بوجه عام تعد رؤية خاطئة. إنها رؤية يبدو منها كأنها ترى إلى المعرفة في الفيزياء محصورة حصرا في معرفة التجارب وقراءة القياسات؛ لأننا نستعمل التجارب ونقرأ القياسات في أثناء اختبار معرفتنا بالعالم الفيزيائي. وإذا كان هذا المذهب في الإمساك بالمعرفة الفيزيائية خاطئا، فإن من الخطأ أيضا القول إن الوقائع المتصلة بالمعنى تعد وقائع تتصل بالظروف التي يستعمل فيها الناس العبارات. ففي هذه الحالة ننظر إلى الظروف التي يستعمل فيها الناس العبارات ونرى فيها برهانا مكينا للحكم على ما يعنونه بها. إن هذا الانحياز الإبستيمي لا يعدو أن يكون خطأ فلسفيا تسرب إلى عقول الناس وأصبح راسخا في عصرنا هذا الذي نعيش فيه.