20‏/02‏/2007

النـزعة الشمولية

هذا مدخل من مداخل القاموس الفلسفي المعاصر الذي نعده


إن أول من نحت لفظ الشمولholism هو الفيلسوف سموتس Smuts، في كتابه الشمول والتطور (منشورات ماكميلان (1926)). وقد عرف الشمول بأنه نزوع الكل وميله ميلا إلى أن يكون أكبر من مجموع أجزائه.

من بين الإشكالات الرئيسة التي يضعها الشمول الإشكال المتصل بما ينطوي عليه هذا الكل من زيادة تجعله أكبر من أجزائه. في الاصطلاح المعاصر، نستطيع القول إن للكل خصائص مترتبة، أي خصائص لا تقبل الرد إلى خصائص الأجزاء. فملح الطعام مثلا يقبل الأكل، ويتخذ شكلا كريسطاليا، وله طعم مالح. كل هذه الخصائص التي ذكرناها تختلف كليا عن خصائص مكونات الملح الكيميائية: الصوديوم (Na) الذي يعد معدنا مرنا شديد رد الفعل، والكلورين (C1) الذي يعد في الأصل غازا ساما. الشيء نفسه يمكن أن أن يقال عن المقطوعة الموسيقية. فالمقطوعة تتمتع بخصائص الإيقاع، والنغم، والهارمونيا. وهذه الخصائص لا توجد في النوتات المفردة التي تتألف منها المعزوفة. السيارة أيضا تتمتع بخاصية قبول القيادة. لكن مكوناتها كالمحرك أو العجلات أو الإطار أوالبطاريات تفتقد هذه الخاصية. ثم إن للسيارة ثقلا؛ وهو لا يعدو أن يكون مجموع ثقل أجزائها. وعندما نعمد إلى الفحص عن لائحة الخصائص التي تتميز بها السيارة التي نود شراءها، نلاحظ أن "سرعة" السيارة "القصوى" تمثل خاصية مترتبة، بينما ثقلها ليس كذلك.

ويقترن مذهب الشمول بأعمال عدد كبير من الفلاسفة. وقد أوجز فودور ولوبور(1992: X) Fodor & Lepore المقصود بهذا المذهب في الدلاليات (Semantics)حين قالا: إن الشمول الدلالي يشير إلى المذاهب العامة التي تقضي بأن "اللغات بوصفها كلا، أو النظريات بوصفها كلا، أو أنساق الاعتقادات بوصفها كلا، هي وحدها الأمور التي يصح أن نقول عنها إنها ذات معنى. أما معاني الوحدات الصغرى – كالكلمات أو الجمل أو الفروض أو الخطابات أو الحوارات أو النصوص أو الأفكار أو ما شاكل- فلا تعدو أن تكون معاني مشتقة من معنى الكل".

ونستطيع القول إن أعمال فيتجنشتاين هي التي لفتت الانتباه أول مرة إلى هذاالأمر وناقشته بكثير من التركيز والإبداع. فأعمال فيتجنشتاين تتميز بميل شديد وواضح إلى تصور اللغة تصورا شموليا. حتى في كتابه الرسالة المنطقية الفلسفية- الذي عُدَّ برنامجا للتصور الذري المنطقي، وهو تصور مناقض تماما للتصور الشمولي - نجد الإحالة صريحة على مبدأ السياق الفريجي (نسبة إلى فريجه G. Frege)، القائل إن الأسماء لا تكتسي معانيها إلا في سياق الجملة (انظر الرسالة3.3). أما عندما ننظر إلى فيتجنشتاين في كتاباته اللاحقة فإننا نلاحظ أنه عمم بالتدريج مبدأ السياق هذا حتى أصبح المحدد الرئيس للمعنى عنده. فقد استشهد فيجنشتاين بمبدأ فريجه في مطلع كتابه أبحاث فلسفية ليستدل به على أن الكلمات لا تكون ذات إحالة إذا استعملت منفردة، ولا تصبح محيلة إلا عندما ترد مستعملة في قلب لعبة لغوية. وإذا كانت الجملة هي النقلة الرئيسة في اللعبة اللغوية، مثلها في ذلك مثل نقل القطعة في لعبة الشطرنج، فإن اللعبة اللغوية بدورها تكون بمثابة الوحدة الرئيسة للفاعلية اللغوية بوجه عام. يقول فيتجنشتاين: "يعني فهم الجملة فهم اللغة. ويعني فهم اللغة التمكن من تقنية" (الأبحاث:199§).

فَهِم كواين وديفدسن، مِن بعده، جملة فيجنشتاين الأخيرة هذه من حيث إنها تعبير عن موقف شمولي جذري؛ فأورد كواين الجملة في كتابه الكلمة والشيء (1960: (§16، وشدد على التعلق الجذري القائم بين أي جملة مفردة واللغة كلها. ودافع ديفدسن، بعد كواين، عن الموقف الشمولي نفسه أيضا في مقاله الهام "الصدق والمعنى" حين قال بضرب من التعميم: "لا نستطيع أن نُسند إلى الجملة (أو الكلمة) معنى إلا إذا أسندنا معنى إلى الجمل (والكلمات) كلها. وحينما قال فريجه إن الكلمة لا تكتسي معنى إلا في سياق الجملة؛ كان عليه أن يمضي رأسا في الاتجاه نفسه ويقول إن الجملة (والكلمة بالتبعية) لا تكتسي معنى إلا في سياق اللغة" (ص:22).

تركز الانتقادات الموجهة إلى النظريات الشمولية على أنها نظريات تترك مسائل كالفهم والترجمة والتواصل وتغيير المرء لآرائه واعتقاداته دون حل يذكر. فلكي يشترك شخصان في حيازة مفهوم معين، يتعين عليهما، حسب التصور الشمولي، أن يشتركا في كل مفاهيمهما الأخرى؛ بل في كل أنماط الروابط التي تربط بين تلك المفاهيم لدى كل واحد منهما؛ أي أن على الشخصين باختصار أن يصيرا شخصا واحدا بالعدد لكي يشتركا في حيازة المفهوم نفسه. وهذا ـ لعمري ـ محال. فالصورة التي يفضي بها الشمول الدلالي، كما عبر عن ذلك داميت في كتابه الأسس المنطقية للميتافيزيقا (1991: 237) "تترك في نطاق الإلغاز الكيفية التي نسلك بها في التواصل مع الآخرين ونحقق النجاح في ذلك".

زد على هذا، إننا لا نستطيع في إطار التصور الشمولي أن نفسر ترجمة ما يرد على لسان شخص إلى لسان شخص آخر. فبما أنه ليس هناك شخصان يشتركان في كل الاعتقادات، يصبح القول إن ما يعنيه الشخص بحدوده يتوقف على كل اعتقاداته الأخرى قولا يمنع من أن يعني شخصان الشيء نفسه بأي حد من حدود لغتهما. فإذا كان ما يعنيه الشخص بـ "قِط" مثلا، يتوقف على كل اعتقاداته بشأن القطط، فإن شخصا يؤمن بأن "للقط أرواحا كثيرة"، سيعنى بلفظ "القط" شيئا مختلفا عما يعنيه من لا يؤمن أو لا يعتقد بأن للقط أرواحا كثيرة. ويترتب على هذا الموقف امتناع المقارنة أو المقايسة (incommensurability) بين الأشخاص ذوي الاعتقادات المتباينة. فقبل أن يشترك شخصان في كل الاعتقادات لا يمكنهما أن يشتركا في أي اعتقاد بعينه. بعبارة أكثر تفصيلا، إذا كان زيد يعتقد على سبيل المثال أن للقط أرواحا كثيرة، وكانت هند لا تعتقد ذلك، فإن ما قد يبدو للوهلة الأولى مشتركا بينهما – اعتقادهما معا، مثلا، بأن القطط أليفة- لا يكون كذلك في الواقع، لأن محتوى الاعتقاد متباين بمقتضى إسنادهما معنيين مختلفين إلى لفظ "القط". ويترتب على هذا الاختلاف امتناعُ قيام الترجمة بين لغة أحدهما ولغة الآخر، بل حتى إسناد الواحد منهما اعتقادات إلى الآخر سيكون إسنادا باطلا، لأن إطلاق العبارة المفيدة للاعتقاد ونسبتها إلى الآخر يكون إطلاقا ليس في محله، ونسبة ليست صحيحة، بسبب تباين المعنى المترتب على عدم الاشتراك في كل الاعتقادات. ولا يمكننا والحالة هذه أن نتحدث عن إمكان قيام تواصل ناجح بينهما. وإذا صح هذا، لن يكون بإمكان أحد من الناس أن يمسك بمحتوى كلمة أحد غيره أو فكرته.

لكن الأدهى من هذا كله هو أن المشكل يواجه الشخص نفسه في علاقته بماضيه. فبما أن مجموع اعتقاداتنا لا تكف عن التغير والتجدد، فإن صاحب الموقف الشمولي سيُضطر إلى القول إن معاني حدودنا كلَّها ومحتوياتِ اعتقاداتنا جميعَها لا تكف هي أيضا عن التغير والتجدد. فلا يمكن للترجمة أن تكون ممكنة حتى بين لغة الشخص في وقت معين، ولغة الشخص نفسه في وقت معين آخر. بل إن الشخص سيتخطى المقصود وهو يسند إلى نفسه اعتقادا معينا اليوم كان يعتقده أو يؤمن به في الماضي.

ليست هناك تعليقات: