27‏/12‏/2020

بودريار: الدليل والتمثيل وموت الواقع

 


 في هذا الجزء المكثف من الحوار مع بودريار تلخيص لملمح مهم من ملامح تطور فكره يتناول فيه قضايا الموضوع والدليل والواقع والتمثيل والتزييف (أو التمويه أو الاصطناع) والرقمي والافتراضي...

 

 



كنت أعتقد أن هناك موضوعات (objets) وهناك دلائل (signes). ومع المجموعتين نسق لتمثيل الموضوع بواسطة الدليل. ثم في مرحلة لاحقة اكتسح الدليل المجال، وشيئا فشيئا أقصى إحالته (référence) المتمثلة في الموضوع. وهنا دخلنا مرحلة التزييف أو الاصطناع (simulation) التي تستدعي تواري الإحالة. بات الدليل يعمل لحسابه الخاص. في هذه اللحظة جاءت البنيوية فأصبحت الدلائل تعمل عملها متعانقة، بعضها آخذ برقاب بعض، في إعراض تام عن الواقع. لكنني أعتقد أننا الآن تخطينا هذه المرحلة. لقد اختلط علي الأمر كثيرا وأنا أتأمل إشكال التزييف هذا حتى إنني لم أعد أعرف ماذا يتعين علي أن أفعل به غير أن أكف تماما عن التطرق إليه والحديث عنه. لقد قيل الكثير عن أن الدليل يَقتُل الواقع. وللتبسيط تكلمتُ أنا أيضا عن موت الواقع، وعن فقدان الواقع لصالح الدليل والصور، واختصارا لصالح مجال التزييف في مجمله.

بيد أنني أعتقد اليوم أن الأمر بات أخطرَ بكثير مما كان عليه. الدليل ذاته من حيث إنه وسيط التمثيل، أي من حيث إنه لغة، هو الذي فُقِد وتوارى. موت الدليل هو الذي أصبح الرهان اليوم. ففي العالم الافتراضي توارى الدليل. تخطينا موت الواقع لنصل إلى تواري الدليل من حيث إنه تمثيل... ونحن الآن في مرحلة متقدمة جدا من التزييف، مرحلة أجهزت على الدليل ذاته، وقضت على التمثيل. ففي العالم الافتراضي لا وجود لدلائل. لسنا إلا بإزاء أرقام، أو على الأصح إزاء رقمين اثنين هما 0 و1. لم نعد أبدا أمام دال ومدلول. موت الدليل هذا، الذي ما زلنا في حاجة إلى دراسته وتحليله، أدْخَلَنا في طور إجرائية خالصة لم تعد في حاجة حتى إلى التمثيل، بل أصبحت لا تبالي أصلا به. تداعيات هذا التحول ليست إبستيمولوجية أو فلسفية فقط، بل سياسية أيضا. فالسياسي (le politique) اليوم لم يعد يستند إلى التمثيل في اشتغاله. إنه ابتعد عن التمثيل شأنه شأن الافتراضي. يكفي أن يُلقي المرء نظرة على تحصيل الحاصل الذي تقوله استطلاعات الرأي لكي لا يرى في أي فقرة من فقراتها إحالة تكون مدلولا، أو أشخاصا يكونون مُمثَّلين. لكي تكتسي السيادة شرعية يتعين أن توجد دلائل تعبر عن شيء ما يمكن أن يكون له معنى. النسق الراهن أصبح بعيدا كل البعد عن هذا. هل نستطيع أن نقول عنه إنه خاتم الأنساق؟ كل ما فيه مُرقَّم، وكشوف تفك لغز الأرقام. كل شيء فيه يمر عبر المزاوجة بين الصفر والواحد، عبر الرقمي وليس أبدا عبر ما يدل أو ما هو سيميولوجي. الدليل وعِلمُه وأنساقُ التمثيل أمور اختفت كلها، في الوقت الذي اختفى فيه أيضا الاجتماعي (le social) من علم الاجتماع. لصالح ماذا هذا التواري والاختفاء؟ لا أرى من عبارات أخرى غير الإجرائية، والفعالية الآلية، نحن بإزاء كتابة آلية للعالم. لسنا حتى أمام تزييف. هذا الأخير يجذب معه بعض الغنى والتعقيد اللذين، حتى وإن لم يقترنا ضرورة بالوهم الكبير بمعناه القوي، يظلان مع ذلك متناغمين مع 'اللعبة الكبرى' التي يلعبها الواقع مع دليله. على هذا النحو درستُ في البداية المسألة: الدليل، والموضوع الواقعي المفقود، واللعبة التي يلعبانها فيما بينهما. لكن اتضح لي أننا نمضي اليوم بعيدا جدا في التجريد...

 


 

 

Entretien avec Jean Baudrillard.  Réalisé par Raphaël Bessis, Lucas Degryse, in  Le Philosophoire. 2003/1 n° 19 | p, 19-20

 

 

 


ليست هناك تعليقات: