31‏/01‏/2009

الانتخابات التشريعية الأخيرة والانتقال الديمقراطي بالمغرب

نشرت هذه التغطية بصحيفة الملاحظ الأسبوعية المغربية


خصصت مجلة الديمقراطية Journal of Democracy* الشهيرة في عددها الذي صدر في شهر يناير 2008 ملفا خاصا وهاما عن الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في المغرب. وقد شارك في هذا الملف من المغرب الباحثون: محمد الطوزي، وإدريس خروز، وعبده فيلالي أنصاري، وأمينة المسعودي. وشارك في الملف أيضا، من الولايات المتحدة، الباحثان ميكائيل ماكفول (من جامعة ستانفورد) وتمارا كوفمان ويتس (من مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط بمؤسسة بروكينز). مقالات الباحثين المغاربة تناولت بالدرس الانتخابات التشريعية المغربية الأخيرة وملابساتها السياسية والمدنية، والظروف التي أجريت فيها، كما ركزت أيضا على التأويلات التي يمكن أن نسندها إليها، وعلى الأسئلة التي تضعها هذه التأويلات، إذا صحت بالطبع، على الطبقة السياسية المغربية مستقبلا. أما مقال ماكفول وويتس فقد ناقش هذه الانتخابات من زاوية مقارنة، وتحديدا من زاوية الدروس التي يمكن استخلاصها بخصوص مشاركة الإسلاميين في هذه الانتخابات بالنسبة إلى المغرب، وبالنسبة إلى البلدان العربية التي تعرف ساحاتها حركات سياسية إسلامية تتزايد قوتها وتتعاظم. وقد تناول الباحثان في مقالهما سلوك حزب العدالة والتنمية وركزا عليه. سأحاول في هذا المقال أن أعرض بإيجاز أهم ما تضمنه هذا الملف، وسأركز على مقالات أمينة المسعودي، وماكفول وويتس، ومحمد الطوزي. ألخص الجديد الوارد في هذه المقالات مجتمعة، ضاربا صفحا عن الأفكار والمعلومات المتداولة ذات الصلة بالأرقام والتواريخ المعروفة لدينا في المغرب والتي قد لا تُهِمُّ إلا القراء الأجانب.

في مقالها القصير (الطريق إلى الشفافية The Road to Transparency)، الذي أدرج في صورة إطار ضمن مقال محمد الطوزي، تحدثت أمينة المسعودي (جامعة محمد الخامس) عن مجموع الاستعدادات القانونية والسياسية والرقابية التي جرى القيام بها في المستويات كافة قبل الانتخابات أملا في أن يكون يوم الاقتراع حدثا تاريخيا بكل المعاني في مسار تطور المغرب على درب الديمقراطية. وقد استعرضت الباحثة مجموع هذه الاستعدادات (قانون الانتخابات، الحصة التفضيلية للنساء، قانون الأحزاب...الخ) ورصدت بعض المحاور التي تناولها النقاش السياسي الحامي والمتفائل الذي عرفته فضاءات الأحزاب السياسية، وجمعيات المجتمع المدني، وانخرط فيه أكاديميون كُثر عبر وسائط الإعلام... لكن النتيجة كما أكدت الباحثة جاءت مخيبة للآمال وعلى خلاف ما توقعه المراقبون تماما: عزوف كاسح عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع للمشاركة في التصويت، وكم هائل من الأصوات الملغاة... هذه الحيرة التي ركزت عليها أمينة المسعودي وعكستها في مقالها المركز، مثلت الإشكال الذي سعى محمد الطوزي (جامعة الحسن الثاني، وجامعة إيكس أون بروفانس) في مقاله إلى أن يفك ألغازه ويجلي أبعاده ويكشف عما يطويه من أسئلة يتعين طرحها والسعي في الإجابة عنها.

لكن قبل التطرق إلى مقال الطوزي بما يليق به من تفصيل، أقترح التعريج على السمات البارزة التي ميزت الانتخابات التشريعية لـ 7 سبتمبر 2007، كما يراها الباحثان ماكفول وويتس في مقالهما (حدود الإصلاحات القاصرة (أو المحدودة) The Limits of Limited Reforms).



ميكائيل ماكفول

هناك ثلاث سمات رئيسة ميزت انتخابات 7 سبتمبر 2007 في المغرب حسب ماكفول وويتس:

السمة الأولى: حين أتيحت الفرصة للمواطنين المغاربة لكي يصوتوا في انتخابات حرة ونزيهة، لم يعملوا على الإتيان بالإسلاميين إلى السلطة، على الرغم من أن استطلاعات الرأي وجماهير المحللين كانوا يتكهنون بعكس ذلك. فأغلب هؤلاء المصوتين غير الراضين عن الجمود الذي يعرفه الوضع السياسي اختاروا بدائل أخرى – من بينها عدم التصويت أو تمزيق أوراق تصويتهم _ للتعبير عن تبرمهم من الأوضاع. فالتعميم الشائع الذي يقول إن تنظيم انتخابات مفتوحة في العالم العربي سيؤدي حتما إلى فوز الإسلاميين لا يعد تعميما صحيحا في نظر الباحثيْن. ما أظهرته انتخابات 2007 في المغرب هو أن النهج الأوتوقراطي في الحكم يستطيع تصميم قواعد سياسية للعب تحد من قوة الأحزاب السياسية كلها، بما في ذلكم الأحزاب المشكوك في التزامها بالديمقراطية. فقد حد الملك محمد السادس ومستشاروه من مجال التنافس الديمقراطي للوصول إلى البرلمان حتى لا يستطيع أي فعل تشريعي ممكن من تغيير النسق. وقد صمم القصر نظاما في الاقتراع (مبنيا على التمثيل النسبي) لا يسمح لأي حزب، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية الإسلامي، أن يحصل على أغلب مقاعد البرلمان.

يتساءل الباحثان هل في هذا الأمر إجحاف؟ فيجيبان: نعم. ثم يستأنفان سؤالا آخر أهم: هل يخدم هذا الأمر التغيير التدريجي؟ هنا يترددان في الحسم. ويقترحان الجواب باللفظ الضارب في الالتباس والإبهام: ربما. إنهما مرتابان لكونهما يريان أنه إذا كانت الإصلاحات الليبرالية في المغرب تواصل تحسين سلطة المؤسسات الديمقراطية، وتعمل على إنعاش نمو نسق حزبي متعدد، فإن هذه الاحتياطات الرقابية التي يقوم بها الحاكمون لا تمثل، في واقع الأمر، إلا الثمن المؤقت الذي يجري دفعه مقابل الصدقية الديمقراطية المتوخاة. المشكل الذي يظل مطروحا هو أنه إذا فشل الحاكمون في السير قدما على درب الليبرالية السياسية فإن من شأن القيود الموضوعة على سلطة البرلمان أن تشكل إيذانا بضياع الإصلاحات الليبرالية.


تمارا كوفمن ويتس


السمة الثانية في رأي الباحثيْن، هي أن الأحزاب الإسلامية ليست سواءً، أو ليست ذات نهج واحد. فتنامي قوة حزب العدالة والتنمية أثناء الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة الأخيرة التي جرت في المغرب لا يمكن النظر إليه على أنه تهديد للديمقراطية، بل يجب بالأحرى تأويله على أنه خَطْوٌ إيجابي حثيث على درب التنمية الديمقراطية. مقاصد هذا الحزب الحقيقية لن يقع الكشف عنها بجلاء إلا إذا تعرض لامتحان تقاسم سلطة حقيقية. وهذا ـ لعمري، كما يرى الباحثان ـ احتمال من الصعب جدا على المرء أن يتصوره ضمن الحدود التي يسمح بها النسق الراهن الذي تمسك فيه المؤسسة الملكية بالخيوط الضابطة والمؤثرة كلها. زد على هذا أن مشاركة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات وفي البرلمان كان لها فيما يبدو تأثير كبير في مراجعة الحزب لتوجهاته واندفاعه أماما نحو الاعتدال. فقد أذكت مشاركته هذه نقاشات داخلية حامية عن كيفية الموازنة والمواءمة بين المبادئ السياسية الإسلامية، وتكتيكات المعارضة، وقيم الديمقراطية. فالتجربة المغربية تبشر، إذا شئتم، بأن مشاركة الإسلاميين في السياسة لا تسبب صداما بين الديمقراطية والاستقرار، بل يمكن لهذه المشاركة أن تشجع على قيام تناغم بينهما. وهذا وحده يعد في نظر ماكفول وويتس سببا كافيا للفحص عن هذه التجربة المغربية بإمعان، والنظر فيما إذا كان بالإمكان تعميمها على باقي العالم العربي، والسؤال عما إذا كان المغرب يمثل استثناء أم أنه مؤشر كاشف عمَّا يمكن أن يحدث في مناطق أخرى من العالم العربي.

السمة الثالثة في نظر الباحثيْن هي أن الإصلاح المحدود، له في العمر معدلُ حياةٍ قصير. فبفتح الانتخابات البرلمانية أمام تنافس حقيقي نسبيا، يكون القصر قد عَرضَ إحدى المؤسسات السياسية على المساءلة الشعبية، وترك المؤسسات الأخرى في مأمن بعيدا عن هذا التأثير. هذه المؤسسة التي جرى عرضها على المساءلة لا تملك من سلطات الحكامة الأساسية إلا اليسير. إدراك المصوتين لهذا الأمر، واستيعابهم لمغزاه، هو الذي جعلهم يسجلون تبرمهم بالعزوف عن المشاركة أو بالتصويت بالأوراق عذراء كما سلمت إليهم في مكاتب الاقتراع.

هناك في نظر الباحثيْن طائفتان من الأخبار: إحداهما سارة بالنسبة إلى تطور الديمقراطية في المغرب؛ والثانية سيئة أو تحمل طَيَّها نذيرَ شؤم. الأخبار السارة بالنسبة إلى تطور الديمقراطية المغربية هي أن المغاربة – على خلاف المواطنين الذين يعيشون تحت أنظمة أكثر قمعا للحريات – يستطيعون أن يختاروا عدم التصويت، وبإمكانهم أن يسجلوا مواقفهم عن طريق التصويت بأوراق ملغاة. وهذا الاختيار الأخير يمكن أن يكون دليلا على قدر عال من الوعي والمجهود السياسيين (وعي المواطنين، ومجهود الأحزاب والمجتمع المدني والإعلام). أما الأخبار السيئة فتعلن أن النسق الحالي لا يملك مقومات الدوام والاستمرار، وبإمكانه أن يؤدي إلى تأجيج صور من الاحتجاج أكثر حدة (بما في ذلكم دعم الحركات الجذرية والقوى الخارجة عن النسق) إذا لم يقع تدارك الأمور. السؤال الرئيس إذاً هو كيف ستتلقى الملكية وتتعامل مع هذه النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات. هل ستأخذ على عاتقها تفعيل المزيد من الإصلاحات العميقة، أم ستعمد إلى وضع قيود أو حدود جديدة للتطور الديمقراطي؟ اختيارات هذه المؤسسة، في نظر ماكفول وويتس، هي التي ستحدد بقوة المسار السياسي المستقبلي للمغرب.

مقال محمد الطوزي المعنون بـ (الإسلاميون والتقنوقراط والقصر Islamists, Technocrats, and the Palace) مكثف جدا، ومركز إلى حد يصعب معه التلخيص؛ يلتقي في بعض ملاحظاته مع مقال ماكفول وويتس بخصوص مشاركة الإسلاميين في الانتخابات. ميزة مقال الطوزي قائمة في كونه يُحجم عن إصدار الأحكام التقويمية، ويعوض عن ذلك بالمضي عميقا في تشريح الوضع السياسي المغربي ملقيا أضواء كاشفة على الكثير من عتماته. إنه لا يستسهل الحديث عن الانتقال الديمقراطي في المغرب على نحو ما تفعل المقاربات الخطية الجاهزة: استبداد/ لبرلة/ انتقال/ ديمقراطية/ ترسيخ؛ بل ينظر إلى الانتقال من حيث إنه إشكال مستعص في التحليل قبل أن يكون كذلك في معتركات السياسة. ويبدو لي أن الطوزي يلتقي في بعض توجهاته النظرية مع التصورات التي ترى أن الانتقال يكاد يصبح نمطا في الحكم قائما بذاته، لا طورا تُتَوقَّعُ نهايته، خصوصا في التجارب التي عرفتها بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهذا باب يتسع فيه الكلام ويتشعب فيه القول قد نعود إليه في سياق مقال آخر. مقال الطوزي باختصار على الرغم من كونه يتناول الانتخابات التشريعية الأخيرة، تتخطى إرهاصاته النظرية هذا الإطار وتتعداه.


محمد الطوزي

يلقي الطوزي أضواء كاشفة على الالتباس الذي يكتنف التجربة السياسية المغربية في أعين أولئك الذين يقرأونها قراءة تهتدي بمناهج التحليل المتعارف عليها في أدبيات الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية. فهذا الالتباس لا يرجع في نظره إلى أن المغرب لم يعد في طور الانتقال وأصبح الآن في ذمة الديمقراطية (كما يُستشَفُّ من تقرير التنمية الخمسيني الذي كان يأمل أصحابه في أن تكون هذه الانتخابات ترسيخا للديمقراطية، على أساس أن الانتقال قد تحقق)، بل يرجع إلى أن التفسيرات الرائجة التي تتناول الانتقالات من منظار ما تمليه مفاهيم مثل اللبرلة أو الدمقرطة، تبقى تفسيراتٍ عاجزةً عن رصد المؤشرات المتناقضة في الحالات التي تكشف عن وجود تقدم وتراجع في الآن نفسه كما هو الشأن بالنسبة إلى حالة المغرب. لهذا السبب يعتقد الطوزي أن انتخابات 7 سبتمبر 2007 تمثل حقًّا نافذة نستطيع، إذا نحن تأملناها مليا، أن نطل منها على هذه التناقضات التي تعرفها تجربة الانتقال السياسي في المغرب. فمن شأن التفكير في هذه الانتخابات، وإمعان النظر في الميول التي أحاطت بها أن يساعدانا، حسب الطوزي، على اجتراح منهج يستطيع أن يُقوِّم التغيرات الجارية اليوم في المغرب والتي تتخطى، في اعتقاده، مجرد السؤال عما إذا كان الانتقال في المغرب يحقق النجاح أم هائما على وجهه يراكم الفشل.

في سياق استدلاله على حداثة سن التجربة المغربية، يرى الطوزي أن السياسة في المغرب لم يكن لها على امتداد ثلاثة عقود متتالية بعد الاستقلال صلة تذكر أو ربما وثقى بمفاهيم التحديث أو الدمقرطة، بل كان مدارها وقطب رحاها الصراع المحموم حول السلطة بين طرفين رئيسين في البلاد هما الملكية والحركة الوطنية. لهذا السبب لا نستطيع، في نظره، أن نتحدث عن بروز حركة تتطلع حقيقة إلى الديمقراطية والتعددية الكاملة إلا في مطلع التسعينات من القرن الماضي. أما قبل هذا التاريخ فإن ما كان يدور في أذهان بعض أفراد الطبقة السياسية، وبعض المقربين من القصر أيضا، من أفكار تقدمية ذات صلة بالتحديث لم تكن لتلقى صدى في ظل ذلك الصراع المحموم على السلطة وفي سياق مجتمع سمته الأساس هي المحافظة. لم يكن أمام هذه الأفكار من مصير آخر سوى أن تظل مجرد أفكار، تمضي وتعود، تلف وتدور، في أذهان أصحابها دون أن تجد لها منفذا يوصلها إلى الواقع.

منذ التسعينات أخذت الأمور تتغير والعجلات تدور. وهكذا سنلاحظ أن الحزبين الوطنيين الكبيرين، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سينخرطان في مسلسل إقناع الملك الراحل بالتزامهما العمل من 'داخل نسق' الصيغة البرلمانية التي تتحكم فيها الملكية، وأن عهد الانقلابات الثورية التي طالما راودت أحلام البعض قد ولى. وقد كان هذا التوافق بين الطرفين، في نظر الطوزي، إيذانا ببروز ثقافة سياسية في المغرب تعتمد التسوية والتفاوض وتعول عليهما. لذلك سنشهد بين سنتي 1990 و 1996 تأسيس هيئات مثل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وتخصيص وزارة خاصة تُعْنَى بحقوق الإنسان، كما سنكون من الشاهدين أيضا على مراجعتين متتابعتين للدستور لا تفصل بينهما إلا فترة من الزمن قصيرة.

بعد رحيل الملك الحسن الثاني واعتلاء نجله الملك محمد السادس العرش، هيمن على الساحة السياسية المغربية توقع بأن البلاد أضحت على أهبة ولوج مرحلة سياسية جديدة. بل إن بعض المتتبعين والمعلقين صوروا هذه الحقبة السياسية من التاريخ المغربي في صورة تحول تام... تحول يرسم للبلاد مسارا جديدا وخطيا، يمضي بها رأسا إلى بناء نظام ديمقراطي كامل. أي تصوروا الأمر كما لو أن عملية الدمقرطة عملية محايدة، ولا سياسية (apolitical process) في الغالب. وقد عكست وسائط الإعلام في تغطياتها هذه الرؤية، ومالت الآراء فيها ميلا إلى تأويل بعض حلقات هذه المرحلة بأنها تراجعات وشذوذات وانحرافات، تهدد عملية الانتقال الديمقراطي وتتحداها. إن هذه التراجعات، حسب الطوزي، لم تكن في واقع الأمر إلا مؤشرا على مدى التعقيد الذي يلف هذه المرحلة، ولا يمكن فهمها إلا من حيث إنها تعلن عن بداية مرحلة جديدة يتعين فيها على الملكية أن تتكيف مع محيط سياسي متغير...

وقد أثبتت ردات الفعل الاستنكارية والشاجبة للانفجارات الانتحارية التي جرت في الدار البيضاء في 16 ماي 2003، عن أن المغرب أدار وجهه عما يجري في الشرق الأوسط ويممه نحو الغرب بوصفه نموذجا وسندا. ومع تنامي النقد للمذهب الوهابي ذي الصلة الوثقى بالتهديد الإرهابي، ألفى القصر نفسه مستعدا للقبول بربط صلات مع أحزاب وشرائح (حتى تلك التي انتمت في الماضي إلى اليسار الشيوعي) طالما تجاهلها بسبب موقفها السلبي آنذاك إزاء الملكية.

لقد التزم القصر بالسير قدما على درب التحديث. التزم بهذا على الرغم من احتفاظ الملكية بالمبادرة السياسية وبتفوقها على كافة أطياف النخبة، وعلى الرغم أيضا من جمود الساحة السياسية واستغلاقها وضعف الطبقة السياسية (بما في ذلك الأحزاب الوطنية)؛ والتزم به على الرغم كذلك من المجالات المحفوظة التي مازال يراقبها كوزارات السيادة، وعدد من الصناديق والمؤسسات والوكالات.

إن جرعة التغيير باتجاه التحديث التي تجري في هذا النسق المحافظ، ثقيلِ الحركة، هي التي تقف وراء الالتباس الذي يحيط باللاعبين السياسيين المغاربة من كل جانب. فعلى الرغم من أن الهدف من السباق قد جرى تحديده (وهو التحديث والوصول إلى الديمقراطية)، يحس هؤلاء اللاعبون بالقلق وعدم الارتياح. إنهم يُلْفون أنفسهم في منطقة من عدم اليقين حيارى، يتطلعون إلى حركة مجهولة تصدر عن حيز السلطة الحقيقي الذي يمسك بنسيجه الملك محمد السادس والدائرة التي تحيط به. فمأزق السلطة في المغرب يكمن، حسب الطوزي، في رعاية طبقة من القيادات السياسية تشارك في تسيير الشأن العام من دون أن تكون لها الضمانة على أنها تستطيع تغيير التوجه الأساسي للحياة السياسية في البلاد. ذلك لأن مفاصل هذا التوجه شأن تحدده الملكية، ويحدده استطرادا محيط الملكية.

محيط الملكية اليوم، على خلاف ما مضى، ينشد الحصول على دعم الرأي العام ويشجع على المشاركة السياسية. فالخوف المفترض من نتائج انتخابية غير مواتية، تقابله قدرة متزايدة حقيقية على تدبير القلق الاجتماعي والتحكم فيه، وهو يشكل الثمن الذي ينبغي دفعه مقابلا للمزيد من الحرية. وضمن هذا السياق تكون الانتخابات فرصة حقيقية لاحتلال مواقع حاسمة ومؤثرة في مسار عملية الحكامة عن طريق التواجد في البنيات المؤسسية كالبرلمان.

حين يعرج الطوزي على الانتخابات التشريعية (2007) يسجل أن هذه انتخابات، على الرغم مما بُذل فيها من مجهود لكي تكون مفتوحة وذات صدقية مشهود لها في الداخل والخارج، لم تكن على الرغم من ذلك فرصةً حقيقية للمنافسة بين مشاريع سياسية أو بين توجهات مجتمعية يستطيع الناخب أن يختار بينها. فالنسق المغربي يدور، كما يرى الطوزي في مكان آخر، حول لعبة سياسية منزوعة الفتيل أو وقع إبطال مفعولها. وهي لعبة تحتاج في نظره إلى معالجة خاصة، وإلى وضع أسئلة جديدة عن الكيفية التي تعمل بها الانتخابات وعما تعنيه العمليات الانتخابية. فالهدف الرئيس الذي كانت ترومه الانتخابات التشريعية هو إحداث تغيير في المناهج لكي يصير النسق قادرا على التكيف مع الأزمة التي أَلمَّتْ بنُخبه... ويعتقد الطوزي أن إدراك هذا الفرق واستيعابَه يمثل المدخل الأساس الذي يقود إلى استخلاص المغازي مما يجري حقيقة في المغرب.

فهذه الانتخابات، إذا نحن تأملناها مليا، ما كان لها أن تحدث تعديلا يتناول السياسات الاقتصادية في الصميم. لأن القرارات الرئيسة ذات الصلة بالمشاريع الكبرى لتنمية البنيات التحتية والبرامج الاجتماعية (كالمبادرة الوطنية للتنمية الإنسانية) سبق لها أن اتخذت، ولم تحظ بأي نقاش، ناهيكم عن أن تُنتقد، في أثناء الحملة الانتخابية. فإذا استثنينا اليسار المتطرف وبعضا من ذوي الميول الجذرية في حزب العدالة والتنمية الإسلامي كان المتنافسون في الانتخابات يسارعون إلى التماهي مع المشروع المجتمعي الملتبس الذي سبق للملكية أن طرحته، والذي امتاز بكونه مشروعا صادف هوى في نفوس التقدميين، وفي نفوس المحافظين، بل صادف الهوى ذاته حتى في نفوس الأصوليين أيضا.

لكن، على الرغم من هذا الانفصال بين الأصوات والسياسات، أحست الملكية بضرورة وجود علاقة سببية ما، بين الرأي العام والسياسات العمومية. ولعل هذا هو الذي جعل القصر يتخذ قرارا بضرورة إعادة توجيه أو تعديل ما يمكن أن يسمى بأسلوبه في التدبير السياسي؛ وهو القرار الذي تزامن بالمصادفة مع أجندة الحكامة الجيدة التي يضغط بها الشركاء الماليون الدوليون والمانحون على المغرب ويشجعونه على السير في ركابها. ويوجد في قلب هذا الأسلوب الجديد طرق جديدة لاستقطاب نخب جديدة رئيسة.

مسألة النخب هذه مرت في المغرب، حسب الطوزي، بمراحل ثلاث. المرحلة الأولى ابتدأت من سنة 1956 إلى سنة 1983، وقد كان التركيز يجري فيها على نخبة تتشكل من الأعيان التقليديين. المرحلة الثانية والتي تمتد من سنة 1983 إلى سنة 1999، تميزت بتوسع إدارة الدولة وبروز أعيان جدد لا تقترن عينيتهم إلا لِماماً بحسبهم أو بنسبهم، بل أضحت ترتبط أكثر فأكثر بعوامل طارئة كمستوى تعليمهم أو مناصب عملهم. المرحلة الثالثة وتبدأ من سنة 1999 وهي مستمرة إلى يوم الناس هذا، ويجري التركيز فيها على صيغ الحكامة الجديدة، وهي مرحلة شجعت على ظهور المجتمع المدني وجعلت من اليسار أهم مورد تأتي منه القيادات السياسية.

يعتقد الطوزي أن انتخابات 2007 لم تكن اختبارا حقيقيا لقياس قوة الأطراف المتنافسة. إنها لم تكن اختبارا لقياس نجاح الانتقال أو فشله، ولا اختبارا للحكم على التهديد الذي يمثله الإسلاميون، ولا حتى على قدرة النسق على احتواء هذا التهديد. جزء من المسؤولية في هذا يقع على قانون الانتخابات المعقد؛ لكن عزوف واحد من كل خمسة مواطنين عن التصويت أو التصويت بورقة ملغاة يشير، حسب الطوزي، إلى أن المواطنين تملكتهم الحيرة وعجزوا عن الاختيار واتخاذ القرار أمام برامج حزبية هزيلة وفضفاضة، وأمام اختلاط القضايا الوطنية بالمحلية، وفوق هذا وذاك، أمام خلو الحملة الانتخابية تقريبا من أي نقاش للقضايا الكبرى التي تقسم المجتمع المغربي...

حزب العدالة والتنمية الذي يشكل الأداة الرئيسة للتحدي الإسلامي في نظر الكثيرين "خسر" الانتخابات من زاوية التوقعات التي كانت قد تكهنت باكتساحه، لكنه من جانب آخر أهم من هذا كثيرا، استطاع أن يكشف عن مرونة بالغة في التفاعل إيجابا مع الظروف التاريخية التي واجهته حين ضرب صفحا عن الأجندة الإسلامية الجذرية وتوصل إلى تفاهم سياسي مع الملكية. ولكي يجعل برامجه تتناغم مع توقعات القصر وتأخذ بعناقها، سارع الحزب خفافا إلى التخلي عن قسم لا يستهان به من قيادته الأصولية، وحتى من بعض الوجوه الإصلاحية والتحديثية، ليجعل في صدارته شبابا تقنوقراطيين مدربين محليا ذوي ميول إسلامية.

يشير الطوزي في الأخير إلى أننا إذا سلمنا بالتطور الذي ألمعنا إليه بشأن النخبة في المغرب فإن ما كان ينتظر من انتخابات 2007 هو أن تمضي في الدينامية إلى مداها وتَحمِل إلى البرلمان فريقا جديدا. لكن الذي حصل هو أن القيادات الحزبية استعملت مهاراتها في تشكيل لوائح مرشحيها على نحو يلتف ويحول دون الوصول إلى هذا الهدف. لم يقتصر هذا على أحزاب الأعيان القديمة المعروفة، بل أصابت عدواه حتى أحزاب اليسار التي سارعت مهرولة هي الأخرى إلى وضع الأعيان على صدر لوائح أحزابها واستعملت تكتيكات أخرى للتقليل من المخاطر والالتفاف على الضغوط التي مارستها عليها قواعدها وتجنب التهديد الذي يمكن أن يشكله لها حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى. فهذه المناورات الانتخابية في نظر الطوزي هي التي ألقت بظلالها وحددت ملامح البرلمان المغربي في أعقاب انتخابات 2007. وإذا كانت التشكيلة البرلمانية في الديمقراطية كافية لتحديد النحو الذي ستكون عليه الحكومة. فإننا بالمغرب سنرى أن القصر يسارع بالتدخل لكي يفرض فريقه الخاص، دافعا قادة الأحزاب إلى القبول بتقنوقراطيين من ذوي الخبرة والباع في تدبير قضايا الشأن العام والذين يكشفون عن ميول باتجاه أن يصبحوا سياسيين خُلَّصاً.

إن هذا الملف في رأيي يساهم في إعادة تأطير النقاش حول الانتقال الديمقراطي في المغرب ضمن حدود أكثر وضوحا، حتى لا أقول أكثر موضوعية. هناك دينامية سياسية يعرفها المغرب لا ينكرها أحد. لكن هناك عوائق ومشاكل أخرى شتى مازال حلها مستعصيا... يمكن للمغرب أن يمكث طويلا يترنح في هذا الوضع، كما يمكنه إذا أجاد التصرف أن يتخطاه في ظرف معقول نحو الديمقراطية.. عبقرية المغاربة الآن على المحك.....

البرلمان المغربي

*- “Morocco's Elections”. Journal of Democracy. Volume 19, Number 1, January 2008.

El Messaoudi. A “The Road to Transparency” in Journal of Democracy. Volume 19, Number 1, January 2008. pp. 36-37.

Mcfaul, M. & Witts, T.C “The Limits of Limited Reforms” in Journal of Democracy. Volume 19, Number 1, January 2008. pp.19-33.

Tozy, M “Islamists, Technocrats, and the Palace” in Journal of Democracy. Volume 19, Number 1, January 2008. pp. 34- 41.