12‏/12‏/2009

عقلانية الفعل

يقول جون سيتون في كتابه هابرماس والمجتمع المعاصر (2003: 42- 43):

نصف الفعل عادة بأنه فعل عقلاني عندما ينبري فاعله وينتقى من بين الوسائل الموجودة والمتاحة أمضاها وأنجعها لتحقيق الهدف الذي يصبو إليه. الصورة التي ترتسم في ذهننا هنا هي صورة شخص يسعى إلى التدخل بنجاح في العالم لكي يحدث فيه تغييرا بأقل كلفة وأدنى جهد ممكنين. فالعقلانية كما تبدو لنا هاهنا، وكما أشار ماكس فيبر إلى ذلك أيضا، تقترن في جانب منها على الأقل بفكرة النجاعة. وقد ذهب هابرماس إلى أن هذا البعد الذي تنطوي عليه العقلانية – البعد الأداتي، أو العقلانية الأداتية _ كان له الأثر الكبير في الفكر الحديث.
بيد أن هابرماس يرى أن الاكتفاء بالصورة التي تقتصر على الفاعل المنفرد الذي يحدث بمفرده أثرا في العالم بواسطة فعله، هذه الصورة تحد من فهمنا للعقلانية من وجوه شتى. فالاقتصار على نجاح الفعل لا يكفي وحده لجعل هذا الفعل عقلانيا. النجاح يمكن أن يحالف الفعل مصادفة؛ إذ يمكن لفاعل أن يختار ورقة يناصيب بعينها، ويتبين بعد إجراء القرعة أن الورقة المختارة هي الورقة الرابحة. فيكون فعل الفاعل المتمثل هاهنا في الاختيار ناجحا، من دون أن يكون فعلا عقلانيا على الإطلاق. الشيء نفسه يقع في الأفعال التي تقوم بها الأجهزة العضوية ردا على منبهات المحيط. فهذه الأفعال على الرغم من نجاحها في تكييف الجهاز العضوي بالمحيط وتمكينه من البقاء لا تزيد عن كونها ردات فعل سلوكية على منبهات خارجية. فلا يمكننا أن نرتب العقلانية على النجاح ونربطها حصرا به. وعلى الرغم من أن الحالات التي تشبه هذه الحالة الأخيرة تقبل التأويل على أنها عقلانية، يرى هابرماس أنها لا تقبل هذا التأويل إلا على جهة المجاز، لأن الفعل في مثل هذه الحالات لا يكون منقادا لقصد.
المشكل الثاني الذي يعترض الفاعل المنفرد هو أن العقلانية في حالة هذا الفاعل تحديدا لا يمكن تصورها إلا من جهة كونها محصورة في القيمة التي تكتسيها الوسائل بالنسبة إلى بلوغ الغاية. أما الغاية من جهتها فتكون أمرا معطى سلفا، لا يخضع بالتعريف لأي نقاش عقلاني يصححه أو يتحداه. ففي هذا النموذج يبدو كما لو أن اختيارات الفاعل لأهدافه اختيارات تحكمية لا تخضع لأي فحص أو تمحيص.
لا يمضي هابرماس من دون أن يشير إلى أن فيبر نفسه أشار في نقاشه إلى أن الحكم على عقلانية الفعل يجري في ثلاثة مستويات. الأول، وهو ما وقفنا عليه أعلاه حين قلنا إن الفعل العقلاني يقتضي اختيار الوسائل الملائمة أو الفضلى لبلوغ الأهداف. فالتركيز في هذا المستوى يقع على الوسائل الموصلة إلى الغايات. في المستوى الثاني يمكن للفاعل أن يختار الغايات التي تلبي أو تتناغم مع القيم التي يؤمن بها ويصبو إلى الانسجام معها. وهنا ينبغي لاختيار المرء لأهدافه ألا يكون مقيدا بما هو اعتيادي فقط. ففعل الفاعل لا يكون عقلانيا في هذه الحالة إلا إذا اختار هذا الفاعل أهدافا تتوافق مع اقتناعاته التي عنها يصدر ومبادئه التي إليها يركن. التركيز في هذا المستوى يقع إذا على الأهداف دون الوسائل. في المستوى الثالث نشير إلى أن القيم ذاتها تلعب دورا في إضفاء العقلانية على الفعل متى أمكن تعميمها وصوغها في صورة مبادئ تقبل الانطباق في ميادين الحياة المختلفة، مكونة بذلك ما سماه فيبر بـ "التوجيه العقلاني المنهجي للحياة". في الرصد الذي عرضه فيبر يجسد المذهب الكالفيني كل هذه المستويات من العقلانية التي أتينا على تعدادها: انتقاء الوسائل، اختيار الأهداف، الانقياد للمبادئ.(الترجمة تمت بتصرف طفيف).


ماكس فيبر

عن الحق والخير


ي.هابرماس


يقول هابرماس (2005: 27)


"إن 'الحق' في وعي المواطن العلماني ذي المتاع الميتافيزيقي المحدود، والذي يمكنه أن يقبل بتسويغ 'محايد' أخلاقيا للديمقراطية وحقوق الإنسان، إن الحق في وعي هذا المواطن يقبل بسهولة ويسر فائقين أن يكون له السبق على 'الخير'. فضمن هذا الفهم لا يثير تعدد طرق الحياة الذي يعكس رؤى إلى العالم متباينة أي تنافر معرفي مع القناعات الأخلاقية التي يمكن أن يعتنقها المواطن. فمن هذه الزاوية لا يزيد ما تجسده صور الحياة المختلفة عن كونه توجهات قيمية مختلفة. والقيم المختلفة لا يقصي بعضها بعضا كما هو الحال مع الحقائق المختلفة. لهذا السبب أيضا لا يجد الوعي العلماني إشكالا أو غضاضة في الاعتراف بأن الأخلاق المخالفة التي يصدر عنها الآخر تتمتع بالأصالة نفسها لدى هذا الآخر وتحظى بالسبق نفسه تماما كحظوة الأخلاق العلمانية لدى صاحبها الذي يؤمن بها".