21‏/02‏/2007

الانعطاف اللغوي

مدخل من مداخل القاموس الفلسفي المعاصر. قيد الإعداد


اقترن الانعطاف اللغوي The linguistic Turn في المقام الأول بالشكوك التي راودت الفلاسفة بشأن الأسبقية التي كانت تُسند إلى الشعور، أي إلى الذات المنعزلة التي تستبطن دواخلها وتعرف ما تعرف عن طريق المناجاة؛ واقترن في المقام الثاني بالأهمية التي أصبح يحظى بها البعد التذاوتي القائم أساسا على التواصل والتخاطب والتفاهم. فالإقلاع عن اتباع أنموذج الشعور، والانعطاف نحو أنموذج اللغة، كان في واقع الأمر ضربا من التشكيك في قيمة الموضوعية التي كانت ديدن فلاسفة الشعور (ديكارت، لوك، هيوم، كانط...) والإقبال على قيمة أخرى عبر عنها رورتي بـ التضامن، والتي تعلي من شأن التواصل مع الآخرين قصد توسيع إحالة الضمير نحن إلى أقصى حد مستطاع. بلغة هابرماس كان الأمر يتعلق بـالإعراض عن أنموذج معرفة الموضوعات، واتباع أنموذج التفاهم بين ذوات قادرة على الكلام والفعل.

والانعطاف اللغوي عبارة وردت عنونا للكتاب الجماعي الذي أشرف عليه ريتشارد رورتي سنة 1967. وهو كتاب أثر تأثيرا كبيرا في النحو الذي أصبح الفلاسفة التحليليون ينظرون به إلى الكيفية التي يشتغلون بها. وقد شرح رورتي في مقدمة الكتاب الهدف من تأليفه قائلا: "إن الهدف الذي يصبو إليه هذا الكتاب يتصل بتقديم معطيات تمكن من التفكير في الثورة الفلسفية التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، أي في الفلسفة اللغوية linguistic philosophy. وأعني بـ 'الفلسفة اللغوية' هنا تلك الرؤية التي تقضي بأن المشاكل الفلسفية هي المشاكل التي يمكن حلها (أو تنحيتها) إما بإصلاح اللغة، وإما بالمزيد من الفهم الذي يمكن أن نصل إليه حول اللغة التي نحن بصدد استعمالها".

وكان آير قد أشار إلى هذا الأمر قبل رورتي، والراجح أنه كان أول من لفت الانتباه إلى الانعطاف اللغوي. فقد قال مباشرة بعد عودته من فيينا متأثرا بما اطلع عليه هناك: "إن الفيلسوف من حيث إنه محلل ليس معنيا بالخصائص الفيزيائية التي تتميز بها الأشياء. هدف الفيلسوف هو أن ينظر في الكيفية التي نتحدث بها عن الأشياء. بعبارة أوضح، قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية factual، بل لغوية في طبيعتها. إنها لا تصف سلوك الأشياء الفيزيائية، ولا حتى سلوك الأشياء الذهنية؛ بل تتناول صوغ التعريفات أو التنائج الصورية التي تترتب على التعريفات" (1936).

وقد أرجع آير هذا التصور في التاريخ إلى بيركلي وهيوم (1936). والمقابلة التي أقامها آير بين تعاريف الكلمات وأوصاف الأشياء، تعادل تقريبا المقابلة التي رسخها هيوم بين علاقات الأفكار وعلاقات الأشياء أو الوقائع matters of fact. فحسب الفيلسوف التجريبي هيوم، لا يمكن لمناهج الفلسفة القبلية أن تمكننا من معرفة الحقائق التركيبية المتصلة بالوقائع ( أي "بسلوك الأشياء الفيزيائية أو حتى الأشياء الذهنية")؛ إنها لا تقودنا إلا إلى الحقائق التحليلية التي مدارها علاقات الأفكار (أي "التعاريف أو النتائج الصورية التي تترتب على التعاريف").

وقد قدم داميت، الذي أعقب آير على كرسي ويكيهام بجامعة أوكسفورد، الصيغة الكلاسيكية للانعطاف اللغوي ناسبا إياها إلى فريجه، مؤسس المنطق الرياضي الحديث. يقول في هذا الشأن (1978): "إن موضوع بحث الفلسفة لم يحدد بصفة نهائية إلا مع فريجه (G. Frege)؛ بحيث تبين (1) أن هدف الفلسفة قائم في تحليل بنية الفكر؛ (2) وأن دراسة الفكر ينبغي أن تتميز عن دراسة عمليات التفكير النفسية، (3) وأن المنهج الأكفى لتحليل الفكر يستند إلى تحليل اللغة[...] والقبول بهذه الركائز يعد موضع إجماع لدى المدرسة التحليلية".

الخاصية الجوهرية التي يتميز بها الفكر، في ضوء هذا التصور الذي يعرضه داميت، هي أنه يقبل التعبير عنه (حتى لو لم يقع التعبير عنه في الواقع) بواسطة اللغة العمومية. واللغة تصفي الفكر من الضجيج الذاتي المقرون بالمظاهر النفسية للتفكير.

في مكان آخر يشير داميت إلى أن هذا الاهتمام باللغة هو ما يميز "الفلسفة التحليلية" عن باقي المدارس الفلسفية الأخرى.. يقول: "لقد ولدت الفلسفة التحليلية عندما حدث "الانعطاف اللغوي". وهذا بالطبع لم يكن قرارا مقصودا اتفقت عليه جماعة من الفلاسفة في وقت من الأوقات. المثال الذي أعرفه في هذا الشأن هو كتاب فريجه أصول الأريثمطيقا سنة 1884" (راجع: داميت 1993). لكن كلامه هنا يختلف قليلا عن كلامه السابق؛ إذ نجده يقول لاحقا في الموضع نفسه: "إذا جعلنا من الانعطاف اللغوي نقطة انطلاق الفلسفة التحليلية، فإننا على الرغم من تقديرنا لأعمال فريجه ومور وراسل التي هيأت الأجواء، لن نستطيع أن نشك في أن الخطوة الرئيسة نحو هذا الانعطاف خطاها فيتجنشتاين في كتابه الرسالة المنطقية الفلسفية سنة 1922" (1993).

غالب الظن أن داميت يعتقد أن الانعطاف اللغوي مع فريجه كان مجرد حدس، أما مع فيتجنشتاين فقد اكتسى بعدا نسقيا واضح المعالم.

20‏/02‏/2007

الحياة الاصطناعية

مدخل من مداخل القاموس الفلسفي المعاصر. في طور الإعداد


يصدر المبحث المسمى بالحياة الاصطناعية Artificial Life، والذي يشار إليه اختصارا بـ ALife عن تصور يقضي بأن الحياة آلية وعملية في متناول المعرفة البشرية. وقد تأسس هذا المبحث في سبتمبر 1987، حينما بادر كريستوفر لانغتون Christopher Langton، الذي كان يعد بحثا لنيل شهادة الدكتوراه آنذاك، بتنظيم ندوة بلوس ألاموس في نيو ميكسيكو عن موضوع "تركيب الأنساق البيولوجية ومحاكاتها" Synthesis and Simulation of Biological Systems، التي نشرت أعمالها كاملة سنة 1989. وبحدود مختصرة يمكن تعريف الحياة الاصطناعية بأنها مجال يدرس البيولوجيا من زاوية تروم خلقها أو تصنيعها.

فمعظم الباحثين في هذا المجال يعتقدون أن مخلوقاتنا الاصطناعية (التركيبات الكيميائية، والروبوطات، وخصوصا الحواسيب...) تطورت وبلغت حدا من التعقيد يجعلنا نتطلع إلى صناعة الحياة وتخليقها. وقد عرف لانغتون الحياة الاصطناعية في كتابه الحياة الاصطناعية-المجلد الأول (1989) قائلا:"تُعنى الحياة الاصطناعية بدراسة الأنساق التي تبنيها يد الإنسان والتي تكشف عن تصرفات تتميز بها في مستقر العادة الأنساق الطبيعية الحية. فالحياة الاصطناعية مبحث يكمل ويتمم العلوم البيولوجية التقليدية التي تدرس الأجهزة العضوية الحية، ويسعى إلى تركيب السلوكات الشبيهة بسلوك الحي عن طريق استعمال الحواسيب وغيرها من الحوامل الاصطناعية الأخرى. والحياة الاصطناعية إذ توسع الأسس التجريبية التي تقوم عليها البيولوجيا التي تدرس الحياة القائمة على الكربون التي تطورت في الأرض، تساهم مساهمة فعالة في البيولوجيا النظرية بإدراج الحياة كما نعرفها في فضاء أكثر رحابة واتساعا، أي الحياة كما بإمكانها أن تكون".

أما هدف الحياة الاصطناعية فقد سطره لانغتون في مقاله "دراسة الحياة الاصطناعية باستعمال الأوتوماتا الخلوية" قائلا: "هدف الحياة الاصطناعية الأسمى هو تخليق 'الحياة' في حامل أو سند آخر غير السند الطبيعي، ويُستحب أن يكون سندا افتراضيا يسمح بفصل جوهر الحياة عن تفاصيل تحققه في أي سند كان. فنحن نصبوا إلى بناء نماذج تكون شبيهة إلى حد بعيد بالحي إلى الحد الذي تكف فيه عن أن تكون مجرد محاكاة للحياة لتصبح أمثلة أو شواهد عليها".

وقد تحدث الفيلسوف دانيال دينيت عن الطاقة التي يختزنها مبحث الحياة الاصطناعية هذا، وعن الآفاق المذهلة التي يفتحها أمام البحث الفلسفي قائلا (1998): "إن الحياة الاصطناعية باختصار تعنى بالإبداع الاصطناعي لتجارب فكرية مراقبة، تتمتع بدرجة عالية من التعقيد... ولا شك أن الفلاسفة، الذين أتيح لهم أن يشهدوا في زمانهم هذه الفرصة، سيهرعون إلى المجال ليستفيدوا منه في أي مستوى تجريدي يلبي أغراضهم ويحصن أجهزتهم المفهومية ويشحذها بما تقدمه الحواسيب من مزايا محاكاتية".

الكيفيات

هذا مدخل من مداخل القاموس الفلسفي المعاصر، الذي نعده



يعود استعمال حد الكيفيات Qualia أو الكيفيات الوجدانية، (مفرده Quale)، في اللغة الأنجليزية إلى كتابات ش.س. بورس، الذي استعمل اللفظ في سنة 1867 ليصف به عناصر التجربة المباشرة أو المعطاة. فالكيفيات عند بورس تشير إلى المكونات الأساس التي تنهض عليها التجربة الحسية. إنها أساس ما يسميه بالأولية Firstness أو المباشرة Immediacy. وتشير الكيفيات عموما إلى الأنحاء التي تكتسيها الأشياء عند إدراكها بالحواس (الإبصار والسمع والشم...)، كما تشير أيضا إلى النحو الذي نحس به الآلام؛ ونستطيع القول بصفة عامة إنها تشير إلى النحو الذي يكون عليه الشخص عندما يكون بإزاء حالات ذهنية ذات صلة بالتجارب الذاتية الظاهرية. فالكيفيات إذن خصائص تجريبية تكشف عنها الإحساسات والأحاسيس والإدراكات، ويرى بعض الفلاسفة أن للأفكار والاعتقادات والرغبات أيضا خصائص كيفية.

وقد استند ويليام جيمس إلى بورس في استعماله هذا اللفظ في مطلع سبعينات القرن التاسع عشر، وقصد به جيمس "معطيات" الإدراك التي "لا تقبل الرد" Irreductible data. كذلك البياض الذي يعد واحدا، سواء أكان الذي أرى الثلج عليه اليوم، أم كان ذاك الذي رأيت السحاب عليه أمس. فهذه المداخل تعد في نظر جيمس واحدة بغض النظر عن التجارب التي ترد فيها. إنها تنطوي على مجموعة من السمات أو الوحدات، تشبه ربما الذرات في الفيزياء، التي تمثل المعطيات الفلسفية القصوى.

الاستعمال الرائج في النقاش المعاصر يقترن أساسا بإبستمولوجيا الفيلسوف الذريعي الظاهراتي ك. آي. لويس. ففي سياق سعيه إلى تمييز "العنصر المعطى في التجربة" عن العنصر التأويلي الذي يصوغه فيه الاستدلال التصوري، كان لويس من بين الفلاسفة الأوائل الذين استعملوا لفظ "الكيفيات" على النحو الذي أصبح دارجا بين الفلاسفة اليوم. يقول لويس في هذا الخصوص: "تكون الكيفيات ذاتية؛ لا اسم لها في الكلام العادي، إنما تقع الإشارة إليها بعبارات مثل "تشبه كذا" أو "يلوح كأنها كذا". إنها لا تقبل الصوغ في العبارة ineffable؛ لأنها يمكن أن تكون على نحوين مختلفين في ذهنين من دون أن نستطيع كشف الأمر ، و من دون أن يكون عدم الكشف هذا مخلا بمعرفتنا بالأشياء أو بخصائصها. كل ما يمكن القيام به للإحالة على كيفية معينة ينحصر في تحديد مكانها في التجربة، أي الإحالة على شروط تواردها أو على علاقاتها الأخرى. فالعبارات كالتي أتينا على ذكر واحدة منها لا تمسك بالكيفية في ذاتها... والكيفية في حد ذاتها لا تعد أمرا جوهريا بالنسبة إلى التفاهم والتواصل، ما هو جوهري في هذا الشأن هو نسق علاقاتها الثابتة الذي يميز التجربة، أي ما يوجد متضمنا في التجربة عندما تكون هذه الأخيرة علامة على خاصية موضوعية".

إن هذا النص الذي كتبه لويس سنة 1929 أسند إلى الكيفيات الخصائص الجوهرية التي مازالت تسند إليها اليوم في النقاش الفلسفي؛ وأقصد بهذه الخصائص: المباشرة، والذاتية، والتمنع عن الصوغ في العبارة (راجع: دينيت 1988).

وعلى الرغم من أن الناس لا يطعنون في وجود تجارب ذاتية، نلاحظ أن لفظ 'الكيفية' – وهو اصطلاح تقني، كما ألمعنا، أكثر من لفظ 'التجربة الذاتية'- يُستعمل في الغالب الأعم عند أولئك الفلاسفة الذين يميلون إلى الطعن في التصور المتداول بين الناس عن التجربة الذاتية. والنقطة الخلافية في موضوع الكيفيات تتصل بما إذا كان الطابع، أو الصفة الظاهرية، التي تتميز بها التجربة قابلة للرصد والتحليل استنادا إلى حدود قصدية أو وظيفية أو معرفية خالصة. الذين يطعنون في وجود الكيفيات (مثل دينيت، وشورشلاند، ورورتي، وفايرابند، وسيليرس) يعتقدون أن ظاهرية التجربة تقبل التحليل بالتمام استنادا إلى حدود محتواها التمثيلي أو القصدي (النزعة التمثيلية)؛ أو أنها تقبل التحليل كاملة استنادا إلى حدود دورها السببي (النزعة الوظيفية)؛ أو أن وجود الشخص في حالة تجربة ذاتية معينة يقبل التحليل كليا بحدود وجوده في حالة مُراقَبةٍ من الناحية المعرفية بطريقة من الطرق، أو مصحوبة بفكرة تنبئ الشخص أنه على تلك الحالة أو فيها. فإذا أدرجنا في تعريف 'الكيفيات' الفكرة القاضية بأن ظاهرية التجربة تستغرق في هذه التحاليل القصدية والوظيفية والمعرفية، فإن وجود الكيفيات يصبح أمرا مشكوكا فيه.

دينيت (1988) على سبيل المثال يرى أن ما يميز الكيفيات هو أنها أصلية (بمعنى أنها ذرية، لا تقبل التحليل، وغير علاقية)، وخصوصية (بمعنى أنها لا تقبل الرصد بالروائز الموضوعية)، ووثوقية (بمعنى أن من يعتقد أنه إزاءها يكون في وضع كأنه فعلا إزاءها)، وغير فيزيائية. لهذه الأسباب يعتقد دينيت أن الكيفيات غير موجودة. وقد شرح موقفه هذا في مقاله (1988) ذي العنوان الشهير: تكوين الكيفيات. (تكوين هنا لفظ مشتق من اسم الفيلسوف كواين، وقد عرفه دينيت في قاموسه بأنه (أي الفعل كوَّن المشتق من اسم الفيلسوف كواين) "الطعن الصريح في وجود أو في أهمية شيء واقعي أو هام".

لكن الذي يؤمن بوجود الكيفيات، مثل سورل أو جاكسن أو ليفين أو شالمرز أو بلوك...الخ، سيفضل تعريفا للـ 'كيفيات' يُمكِّن العلم من الفحص عنها، ويترك الباب مفتوحا أمام إمكان أن تكون الكيفيات كيانات فيزيائية، بل أمام إمكان الكشف عن أن بعض مظاهر الاعتقادات الاستبطانية عن الكيفيات يمكن أن تكون خاطئة. فبلوك مثلا، لا يتصور أن تعمد المقاربة العلمية على نحو مسبق إلى إنكار إمكان الكشف بطريقة تجريبية عن أن الكيفيات خصائص قصدية أو وظيفية أو معرفية. لهذا السبب يميل بلوك في تحاليله إلى تعريف 'الكيفية' بأنها مظهر للتجربة الذاتية لا يمكن أن نبرهن بوسائل قبلية أو من على الأرائك على أنها قصدية أو وظيفية أو معرفية (ويقصد هنا دينيت ورورتي). وهذا التصور الذي يميل إليه بلوك وغيره من الفلاسفة الذين ذكرتهم أعلاه، بشأن الكيفية يعد تصورا إبستيميا وليس ميتافيزيقيا. فهو تصور لا ينطوي على شيء يتعارض مع الدعوى القائلة إن الكيفية حالة فيزيائية، تماما كالحرارة التي تعد طاقة حركية جزيئية، أو الضوء الذي يعد إشعاعا كهرومغناطيسيا. فالأطروحة الردية reductionism التجريبية بشأن الكيفيات أطروحة مشروعة في نظر هؤلاء الفلاسفة. ما ليس مشروعا في نظرهم هو التحليل الردي الذي يقوم به الفيلسوف من على أريكته لينتهي فيه إلى أنها ذات طبيعة قصدية أو وظيفية أو معرفية.


النـزعة الشمولية

هذا مدخل من مداخل القاموس الفلسفي المعاصر الذي نعده


إن أول من نحت لفظ الشمولholism هو الفيلسوف سموتس Smuts، في كتابه الشمول والتطور (منشورات ماكميلان (1926)). وقد عرف الشمول بأنه نزوع الكل وميله ميلا إلى أن يكون أكبر من مجموع أجزائه.

من بين الإشكالات الرئيسة التي يضعها الشمول الإشكال المتصل بما ينطوي عليه هذا الكل من زيادة تجعله أكبر من أجزائه. في الاصطلاح المعاصر، نستطيع القول إن للكل خصائص مترتبة، أي خصائص لا تقبل الرد إلى خصائص الأجزاء. فملح الطعام مثلا يقبل الأكل، ويتخذ شكلا كريسطاليا، وله طعم مالح. كل هذه الخصائص التي ذكرناها تختلف كليا عن خصائص مكونات الملح الكيميائية: الصوديوم (Na) الذي يعد معدنا مرنا شديد رد الفعل، والكلورين (C1) الذي يعد في الأصل غازا ساما. الشيء نفسه يمكن أن أن يقال عن المقطوعة الموسيقية. فالمقطوعة تتمتع بخصائص الإيقاع، والنغم، والهارمونيا. وهذه الخصائص لا توجد في النوتات المفردة التي تتألف منها المعزوفة. السيارة أيضا تتمتع بخاصية قبول القيادة. لكن مكوناتها كالمحرك أو العجلات أو الإطار أوالبطاريات تفتقد هذه الخاصية. ثم إن للسيارة ثقلا؛ وهو لا يعدو أن يكون مجموع ثقل أجزائها. وعندما نعمد إلى الفحص عن لائحة الخصائص التي تتميز بها السيارة التي نود شراءها، نلاحظ أن "سرعة" السيارة "القصوى" تمثل خاصية مترتبة، بينما ثقلها ليس كذلك.

ويقترن مذهب الشمول بأعمال عدد كبير من الفلاسفة. وقد أوجز فودور ولوبور(1992: X) Fodor & Lepore المقصود بهذا المذهب في الدلاليات (Semantics)حين قالا: إن الشمول الدلالي يشير إلى المذاهب العامة التي تقضي بأن "اللغات بوصفها كلا، أو النظريات بوصفها كلا، أو أنساق الاعتقادات بوصفها كلا، هي وحدها الأمور التي يصح أن نقول عنها إنها ذات معنى. أما معاني الوحدات الصغرى – كالكلمات أو الجمل أو الفروض أو الخطابات أو الحوارات أو النصوص أو الأفكار أو ما شاكل- فلا تعدو أن تكون معاني مشتقة من معنى الكل".

ونستطيع القول إن أعمال فيتجنشتاين هي التي لفتت الانتباه أول مرة إلى هذاالأمر وناقشته بكثير من التركيز والإبداع. فأعمال فيتجنشتاين تتميز بميل شديد وواضح إلى تصور اللغة تصورا شموليا. حتى في كتابه الرسالة المنطقية الفلسفية- الذي عُدَّ برنامجا للتصور الذري المنطقي، وهو تصور مناقض تماما للتصور الشمولي - نجد الإحالة صريحة على مبدأ السياق الفريجي (نسبة إلى فريجه G. Frege)، القائل إن الأسماء لا تكتسي معانيها إلا في سياق الجملة (انظر الرسالة3.3). أما عندما ننظر إلى فيتجنشتاين في كتاباته اللاحقة فإننا نلاحظ أنه عمم بالتدريج مبدأ السياق هذا حتى أصبح المحدد الرئيس للمعنى عنده. فقد استشهد فيجنشتاين بمبدأ فريجه في مطلع كتابه أبحاث فلسفية ليستدل به على أن الكلمات لا تكون ذات إحالة إذا استعملت منفردة، ولا تصبح محيلة إلا عندما ترد مستعملة في قلب لعبة لغوية. وإذا كانت الجملة هي النقلة الرئيسة في اللعبة اللغوية، مثلها في ذلك مثل نقل القطعة في لعبة الشطرنج، فإن اللعبة اللغوية بدورها تكون بمثابة الوحدة الرئيسة للفاعلية اللغوية بوجه عام. يقول فيتجنشتاين: "يعني فهم الجملة فهم اللغة. ويعني فهم اللغة التمكن من تقنية" (الأبحاث:199§).

فَهِم كواين وديفدسن، مِن بعده، جملة فيجنشتاين الأخيرة هذه من حيث إنها تعبير عن موقف شمولي جذري؛ فأورد كواين الجملة في كتابه الكلمة والشيء (1960: (§16، وشدد على التعلق الجذري القائم بين أي جملة مفردة واللغة كلها. ودافع ديفدسن، بعد كواين، عن الموقف الشمولي نفسه أيضا في مقاله الهام "الصدق والمعنى" حين قال بضرب من التعميم: "لا نستطيع أن نُسند إلى الجملة (أو الكلمة) معنى إلا إذا أسندنا معنى إلى الجمل (والكلمات) كلها. وحينما قال فريجه إن الكلمة لا تكتسي معنى إلا في سياق الجملة؛ كان عليه أن يمضي رأسا في الاتجاه نفسه ويقول إن الجملة (والكلمة بالتبعية) لا تكتسي معنى إلا في سياق اللغة" (ص:22).

تركز الانتقادات الموجهة إلى النظريات الشمولية على أنها نظريات تترك مسائل كالفهم والترجمة والتواصل وتغيير المرء لآرائه واعتقاداته دون حل يذكر. فلكي يشترك شخصان في حيازة مفهوم معين، يتعين عليهما، حسب التصور الشمولي، أن يشتركا في كل مفاهيمهما الأخرى؛ بل في كل أنماط الروابط التي تربط بين تلك المفاهيم لدى كل واحد منهما؛ أي أن على الشخصين باختصار أن يصيرا شخصا واحدا بالعدد لكي يشتركا في حيازة المفهوم نفسه. وهذا ـ لعمري ـ محال. فالصورة التي يفضي بها الشمول الدلالي، كما عبر عن ذلك داميت في كتابه الأسس المنطقية للميتافيزيقا (1991: 237) "تترك في نطاق الإلغاز الكيفية التي نسلك بها في التواصل مع الآخرين ونحقق النجاح في ذلك".

زد على هذا، إننا لا نستطيع في إطار التصور الشمولي أن نفسر ترجمة ما يرد على لسان شخص إلى لسان شخص آخر. فبما أنه ليس هناك شخصان يشتركان في كل الاعتقادات، يصبح القول إن ما يعنيه الشخص بحدوده يتوقف على كل اعتقاداته الأخرى قولا يمنع من أن يعني شخصان الشيء نفسه بأي حد من حدود لغتهما. فإذا كان ما يعنيه الشخص بـ "قِط" مثلا، يتوقف على كل اعتقاداته بشأن القطط، فإن شخصا يؤمن بأن "للقط أرواحا كثيرة"، سيعنى بلفظ "القط" شيئا مختلفا عما يعنيه من لا يؤمن أو لا يعتقد بأن للقط أرواحا كثيرة. ويترتب على هذا الموقف امتناع المقارنة أو المقايسة (incommensurability) بين الأشخاص ذوي الاعتقادات المتباينة. فقبل أن يشترك شخصان في كل الاعتقادات لا يمكنهما أن يشتركا في أي اعتقاد بعينه. بعبارة أكثر تفصيلا، إذا كان زيد يعتقد على سبيل المثال أن للقط أرواحا كثيرة، وكانت هند لا تعتقد ذلك، فإن ما قد يبدو للوهلة الأولى مشتركا بينهما – اعتقادهما معا، مثلا، بأن القطط أليفة- لا يكون كذلك في الواقع، لأن محتوى الاعتقاد متباين بمقتضى إسنادهما معنيين مختلفين إلى لفظ "القط". ويترتب على هذا الاختلاف امتناعُ قيام الترجمة بين لغة أحدهما ولغة الآخر، بل حتى إسناد الواحد منهما اعتقادات إلى الآخر سيكون إسنادا باطلا، لأن إطلاق العبارة المفيدة للاعتقاد ونسبتها إلى الآخر يكون إطلاقا ليس في محله، ونسبة ليست صحيحة، بسبب تباين المعنى المترتب على عدم الاشتراك في كل الاعتقادات. ولا يمكننا والحالة هذه أن نتحدث عن إمكان قيام تواصل ناجح بينهما. وإذا صح هذا، لن يكون بإمكان أحد من الناس أن يمسك بمحتوى كلمة أحد غيره أو فكرته.

لكن الأدهى من هذا كله هو أن المشكل يواجه الشخص نفسه في علاقته بماضيه. فبما أن مجموع اعتقاداتنا لا تكف عن التغير والتجدد، فإن صاحب الموقف الشمولي سيُضطر إلى القول إن معاني حدودنا كلَّها ومحتوياتِ اعتقاداتنا جميعَها لا تكف هي أيضا عن التغير والتجدد. فلا يمكن للترجمة أن تكون ممكنة حتى بين لغة الشخص في وقت معين، ولغة الشخص نفسه في وقت معين آخر. بل إن الشخص سيتخطى المقصود وهو يسند إلى نفسه اعتقادا معينا اليوم كان يعتقده أو يؤمن به في الماضي.