29‏/12‏/2017

رانسيير وهابرماس ومسألة اللغة


رانسيير
يذهب رانسيير إلى إننا لا نستطيع أن نستخلص حلولا سياسة من معطيات أنثروبولوجية.. لا نستطيع أن نستخلص مثلا من المعطى القاضي بأن الناس يشتركون في حيازة اللغة نتيجةً تقضي ببناء سياسة ديمقراطية على المهارات التواصلية، كما يرى ذلك هابرماس..

تعقيب كان في الأصل جوابا عن استفسار


فكرة رانسيير (Jacques Rancière) هنا تقضي بأن مسألة الديمقراطية أعقد من مجرد اشتقاقها من القدرة اللغوية (تشومسكي) أو حتى من القدرة التواصلية (هايمز). هابرماس يعول على هذا المستوى اللغوي ويبني نظرية في الديمقراطية عليه ويسميها بـ 'الديمقراطية التشاورية'، وهذا ما ينتقده رانسيير. غير أننا يجب أن نشير إلى أن رانسيير يعول هو أيضا على اللغة ، لكنه يبني عليها أطروحة في المساواة ويقف عند هذا الحد ولا يتعداه؛ أي أنه يجعل من القدرة على الكلام بمعناها الأنثروبلوجي (وليس السوسيولوجي كما يلوح من تعليقك. رانسيير لا يُدخل مسألة التعدد اللغوي في تحليله، لأن الذين يتكلمون لغات مختلفة بسبب وجودهم في مجتمعات مختلفة أو انتمائهم إلى جماعات مختلفة في المجتمع نفسه، هم متكلمون من الناحية الأنثروبلوجية في النهاية !) أمرا نتساوى فيه جميعا بغض النظر عن اختلاف ألسنتنا. عند هذه النقطة ينتهي تأثير اللغة في أونطولوجيا رانسيير السياسية، أي عند إثبات المساواة مبدأ كونيا. مسألة الديمقراطية عنده تتدخل فيها أمور أخرى من بينها (حتى نبقى في مجال اللغة، لأن الحديث يطول في الأمور الأخرى) الاعتراض على النحو الذي ربطت به الأسماء بالمسميات في العرف اللغوي، وعلى من له الحق في أن يسمي...الخ. من المساواة في الكلام يشتق رانسيير الحق في الكلام بطريقة أخرى عما تكلم عنه الآخرون بطريقتهم. اللغة في نظره تتراكم فيها معان تدفع نحو الإجماع/ الإذعان. لهذا ليس غريبا أن يكون فكر هابرماس فكرا مهووسا بالتفاهم والإجماع. يجب أيضا أن تلاحظي أن هابرماس شديد الحذر من خلط اللغة الشعرية الاستعارية واستعمالها في مجال السياسة والأخلاق والقانون (انظري كتابه: خطاب الحداثة الفلسفي) لماذا؟ لأن اللغة الشعرية (الأدب عموما) تأتي إلى الأشياء التي سبق لها أن سُميت وإلى الأوضاع التي سبق لها أن وُصفت وحُددت فتعيد تسميتها ووصفها وتحديدها بطرق أخرى غير متوقعة. اللجوء إلى لغة شعرية في مجالات كالسياسة والقانون والأخلاق يحول بالنسبة إلى هابرماس دون الوصول إلى التفاهم والإجماع، لهذا انتقد المفكرين الفرنسيين (ديريدا فوكو ليوطار...الخ) الذين ينحون هذا النحو في التفلسف السياسي. رانسيير سليل هؤلاء وسليل ألتوسير أيضا. يرى مثلهم، بل أكثر منهم، أن الديمقراطية تنهض على النكير والمنازعة لا على السعي إلى الإجماع الذي تضمنه لغة سُكت ألفاظها وتحجرت وأصبحت لا تدل إلا على المعاني التي تقود إلى الإذعان. الأمور الأخرى التي يبني عليها رانسيير أونطولوجياه السياسية يمكن العودة فيها إلى كتابه (La mésentente) منشورات غاليلي، باريس 1995.   
هابرماس

10‏/11‏/2017

مصدر الشرعية عن هابرماس



يورغين هابرماس
"... السبب الفلسفي الآخر الذي يحثنا على اختيار المقاربة النظرية المبنية على الخطاب يتصل بحل المفارقة التي ولّدها نمطُ الشرعية الذي سماه ماكس فيبر بـ 'حكم القانون' [أي الشرعية القانونية]: فكيف أمكن للشرعية أن تنبثق من مجرد القانون؟ ما الذي يضفي الشرعية على نسق قانوني وضعي خالص إذا كان كلُّ ما يعد قانونا إنما يجري إنتاجُه استنادا إلى مساطر مُرمَّزة في إطار وضعي؟ الجواب الذي تعرضه النزعة القانونية الوضعية عن هذا الأمر هو الرجوع إلى قاعدة أساسية عرفية أو اعتباطية واتخاذُها أساسا يقوم عليه النسق القانوني؛ أما جواب القانون الطبيعي فيَستند، على عكس الجواب الوضعي، إلى امتيازِ إمكانِ التوصل إلى معرفة القوانين الصالحة من غير الصالحة إما لكونها ترسو على أساس كوسمولوجي وإما لأنها تستند إلى أساس ثيولوجي. التفسير الإرادوي [ أي النزعة الوضعية] لا يلتفت إلى المحتوى المعرفي الذي يقوم عليه الاعتقاد في الشرعية، أما التفسير الطبيعي لأساس القانون فيتأسس على الرؤى الميتافيزيقية إلى العالم التي لا يمكن أن تكون مُقْنعة لكل الناس في مجتمعات تمتاز بالتعددية. في مقابل المقاربتين [الوضعية والطبيعية] تعمد نظرية الخطاب إلى رد قوة الشرعية إلى العمليات الديمقراطية نفسها التي يجري في إطارها تشكيل الرأي وتكوين الإرادة.... فالمصدر المعياري الذي تنساب منه الشرعية في هذا التصور الذي تعرضه نظرية الخطاب هو التأليف بين إدماج كل أولئك المعنيين بالنسق القانوني والمتأثرين به والطابع التشاوري الذي يوجه بناء آرائهم وتكوين إرادتهم".





Jurgen Habermas. The Lure of Technocracy. Polity Press, 2015, p. 47-48

29‏/10‏/2017

أنا الآن مشغول بأن أجعل الأمر أكثر إرباكا




بيكاسو وفرانسواز جيلو

"سألتُه [بيكاسو] عما إذا كان يرى أن الأخضر يعثر على توازنه عند امتزاجه بالبنفسجي. فأجابني قائلا


' ليس المشكل قائما ههنا. لا أريد أن أعرف ذلك. فأنا لا أسعى إلى أن أجعل هذا المقترح الأولي الذي أنا بصدده أكثر انسجاما. أنا الآن مشغول بالضبط بأن أجعل الأمر أكثر إرباكا. بعد ذلك سأشرع في البناء- من دون أن أسعى وأنا أبني إلى خلق الانسجام. سأجعله أشد ارتباكا وأكثر دمارا. المسألة هنا، كما ترين، أشد التصاقا بالغريزة منها بشيء آخر [...] المشكل هو كيف لي أن أعيد ترتيب هذا المقترح؟ كيف لي، من دون أن أقوضه تماما، أن أجعله أكثر دمارا؟ كيف لي أن أجعله فريدا –لا أقصد هنا أن أجعله جديدا فقط، بل أن أجعله مختصرا أشد الاختصار وممزقا كلَّ مُمَزق. ترين إذن أن الصباغة بالنسبة إلي فعل درامي، فعلٌ يعثر فيه الواقع على نفسه وقد أصبح مفككا. هذا الفعل الدرامي يحظى عندي بالسبق على كل ما عداه من الاعتبارات الأخرى. الفعل التشكيلي الخالص لا يعدو أن يكون شيئا ثانويا بالنسبة إلي. ما يُهِمُّني في المقام الأول هو دراما الفعل التشكيلي نفسها، أي اللحظة التي يخرج فيها الكون عن ذاته أو طوره ويعثر رأسا على دماره' ".


Francoise Gilot & Carlton Lake. Life With Picasso. McGraw-Hill Book Company (1964), p. 59

عن مفهوم 'اليسار'



يري ميشيا، في نطاق نقده مفهوم 'اليسار'، أن الاستعمال المنهجي لاصطلاح 'اليسار' لا نعثر عليه عند ماركس في السياسة بل في الفلسفة (التمييز بين اليمين الهيجلي المدافع عن 'النسق' واليسار الهيجلي المدافع عن 'المنهج'). ويرى ميشيا في هذا السياق أن ماركس وإنجلس لم يُعرِّفا نفسيهما سياسيا بإنهما يساريان (يصدق هذا أيضا على الشخصيات البارزة المؤسسة للحركة الاشتراكية والفوضوية). ففي نظر ماركس وإنجلس- خصوصا حين كانا يعمدان إلى استعمال لغة يسار/ يمين التي تعود في أصولها إلى القاموس البرلماني كما أوضح ذلك دي توكفيل في مذكراته سنة 1850- كان اليمين يدل على مجموع تلك الأحزاب التي يفترض فيها تمثيل مصالح الأرستقراطية الزراعية (المتناقضة أحيانا) والدفاع عن التراتبية التي تفرضها المسيحية الكاثوليكية. أما اليسار من جانبه فكان شديد الانقسام، وكان يشكل نقطة تلاق سياسية لفصائل وشرائح مختلفة من الطبقة المتوسطة، والتي تمضي من البورجوازية الصناعية والليبرالية الكبيرة إلى البورجوازية الصغيرة الجمهورية والجذرية التي كانت لا تزال آنذاك متأثرة بالتراث اليعقوبي. أما الحركة العمالية الاشتراكية – بالنظر إلى كونها كانت ملزمة بمقاومة الهيمنة الفيودالية وسطوة الرأسمال- فظلت دائما محافظة على استقلالها السياسي والتنظيمي إزاء المعسكرين معا (وهو الموقف الصعب الذي استمر عليه النقابيون الثوريون حتى الحرب العالمية الأولى). 



Jean-Claude Michéa. Les mystères de la gauche : De l'idéal des Lumières au triomphe du capitalisme absolu . Climats 2013


غادامر والسياسة (مراجعة مختصرة)- مصطفى الحداد

مراجعة مختصرة لكتاب دارين والهوف:



Darren Walhof. The Democratic Theory of Hans-Georg Gadamer. Palgrave-Macmillan 2017. 156 pages


توجد أسباب كثيرة حالت ولا تزال دون تعويل الباحثين على الفيلسوف هانز جيورج غادامر في مجال النظرية السياسية. الراجح أن هابرماس وديريدا في نقاشيهما الشهيرين، كل على حدة، مع غادامر رسخا الاسترسال في غض الطرف عن أعمال هذا الأخير في مجال النظرية السياسية. فهيرمنوطيقا غادامر الفلسفية تبلورت في اشتباك نقدي مع أفكار فلاسفة التنوير. إنها هيرمنوطيقا محافظة، أو هكذا تبدو، في جوانب كثيرة منها بسبب تعويلها على التراث أو التقليد ونقدِها أفكارَ الأنوار.

فكر الأنوار، في نظر غادامر، ورط الناس في ثنائية العقل والتراث المغلوطة، وحثهم على ألا يطمئنوا إلا إلى الأمور والحقائق التي يمكن البرهنة عليها بمناهج موضوعية ومحايدة. وعلى العكس من هذا، دافع غادامر عن أن الإنسان لا يمكن أن يهرب أو يتخطى اندارجه في التاريخ. فالمسبقات التي ورثناها عن التراث تُكَيف سلفا رؤيتنا إلى العالم، وتعد في نهاية المطاف الشرط الذي لا يمكننا أن نتلافاه في كل فهمٍ نَبْنيه. هناك أفقان يتشابكان ويمتزجان عندما نسعى إلى الفهم: الأفق الذي يندرج فيه الشيء المراد فهمه (النص، الحدث التاريخي، العمل الفني، موضوع النقاش...الخ)، والأفق الذي تندرج فيه الذات الساعية إلى الفهم. من هذه الزاوية لا يكون الفهم نتيجة منهاج محايد أو موضوعي، بل يكتسي الفهم هنا طابع الحدث الذي يَحصُل تَلقائيا في وعينا، الحدث الذي يحصل كالشرارة جراء اشتباك الآفاق وامتزاجها.

على الرغم من إلحاح غادامر، في نظريته عن امتزاج الآفاق، على الطابع اللغوي الذي يميز الوجود الإنساني، وهو ما يوافقه عليه هابرماس، يرى هذا الأخير أن غادامر لم يُعنَ أو بالأحرى لم يلتفت إلى أن اللغة ذاتها يمكن أن تكون إيديولوجية، مما يستدعي مراجعتها باستمرار وإخضاعها على الدوام للفحص النقدي، وهو ما تفتقر إليه أعمال غادامر. ديريدا من جانبه رأى أن تصوير الفهم عند غادامر بوصفه تداخلا أو مزجا بين الآفاق أخفى عنه إرادة القوة التي يمكن أن تحركَ الذات وتدفعَها إلى أخذ الآخر كما لو كان مجرد أداة في يد هذه الذات الساعية إلى الفهم، وهو ما يعني أن غادامر ينزع عن الآخر غيريته المميزة. هيرمينوطيقا غادامر بالنسبة إلى هابرماس وديريدا، تظل باختصار، عاجزة عن أن تكون موطأَ قدمٍ صالحاً لنقد الممارسات اللغوية والإيديولوجية والسياسية القائمة. من هذا الباب انصرف الباحثون المشتغلون بالنظرية السياسية وبقضايا الديمقراطية عن أعمال غادامر وتركوها وراء ظهورهم.

يرى والهوف، في كتابه الذي نحن بصدده، أن هناك باحثين اثنين تناولا غادامر من منظور سياسي: فْريد ديلماير، وجورجيا وارنْكي. الأول استثمر في كتابيه (وراء [أو بعيدا عن] الاستشراق (1996)) و (التعددية الشاملة (2010)) مفهوم غادامر عن امتزاج الآفاق ليعالج استنادا إليه العلاقات أو المحاورات العابرة للثقافات، كما استثمر في كتاب آخر (الرؤى البديلة (1998)) مفهوم التكوين أو التربية (Bildung) الغادامري ليشرح الصلة القائمة بين الثقافة والتنمية الاقتصادية. (لا يذكر والهوف كتاب ديلماير (الديمقراطية الآتية. المنشور ضمن مطابع أوكسفورد الجامعية 2017) لكونه حديث الصدور حيث يواصل فيه ديلماير استثماره لغادامر ويوسع من نقاشه للرؤى البديلة ليتناول جانبا من الفكر العربي. انظر الفصل الرابع من هذا الكتاب الذي خصصه لمحمد عابد الجابري ص 82- 102). أما وارنكي فاستلهمت أفكار غادامر لإلقاء الضوء على عدد من القضايا تخص السياسات الداخلية. ففي كتابها (الاختلافات المشروعة (1999))، استثمرت أفكار غادامر عن الفهم لتستدل على أن الخلافات التي تنشأ عن نقاش عدد من القضايا الاجتماعية الشائكة (الإجهاض، البورنوغرافيا، التمييز الإيجابي، تأجير الأرحام) هي في الأساس خلافات تأويلية وليست مبدئية. في كتابها الثاني (ما بعد الهوية (2008)) استندت إلى مجموعة من الدراسات التي تناولت فيها حالات مخصوصة لتدافع عن مقاربة تأويلية بالمعنى الغادامري لمسألة الهوية.

والهوف في كتابه هذا يواصل ويوسع هذا النهج الذي شرعه ديلماير ووارنكي في استثمار أفكار غادامر في التنظير السياسي. إنه يوسعه لكونه يرى أن أفكار غادامر، إذا أُحسِن استثمارها، تَعرض مقاربة فريدة لمسألة الديمقراطية. ويدافع عن رأيه هذا باصطناع مواجهة حوارية شيقة بين الأعمال السياسية التي تناولت الديمقراطية وأعمال غادامر. ويتميز الكتاب بكونه يوظف أعمال غادامر كلها تقريبا: أعماله الأولى عن أفلاطون وأرسطو، كتابه الرئيس (حقيقة ومنهج) الذي طور فيه هيرمينوطيقاه الفلسفية، نقاشه الخلافي مع كل من هابرماس وديريدا، وكذا أعماله الأخيرة وخطاباته عن العلم، والتكنولوجيا، والعقل، والتضامن، والصداقة. إن والهوف يصطنع في كتابه الهام هذا نوعا من تشابك الآفاق وامتزاجها بين فكر غادامر والاتجاهات المعاصرة في التنظير للديمقراطية.