21‏/09‏/2012

موضع الخلاف بين الدين والعلم والنزعة الطبيعية


صورة غلاف الكتاب


طوماس ناجل
المقال الآتي من مجلة (The New York Review of Books) كتبه الفيلسوف الكبير طوماس ناجل (Thomas Nagel) يراجع فيه كتاب الفيلسوف الكبير أيضا إلفين بلانتينكا (Alvin Plantinga) الذي يهتم إلى جانب الفلسفة (نظرية المعرفة أساسا) بمسألة الإيمان بالله. وبلانتينكا من أحذق الغربيين وأقواهم حجة في الدفاع عن الإيمان. أطروحته المركزية في كتابه (موضع الخلاف بين الدين والعلم والنزعة الطبيعية) الذي يراجعه ناجل تقول: هناك تضارب سطحي وتناغم عميق بين العلم والإيمان الديني؛ لكن هناك تناغما سطحيا وتضاربا عميقا بين العلم والنزعة الطبيعية. ويقصد بلانتينكا بالنزعة الطبيعية النزعة التي تقول إن العالَم الذي يقبل الوصف استنادا إلى العلوم الطبيعية هو كل ما يوجد، وليس هناك ما يسوغ الإحالة على وجود الله. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بلانتينكا لا يدافع عن أطروحته الإيمانية بإيراد نصوص الإنجيل والاستناد إلى النقليات، كما هو رائج مُتْلئب بين ضعاف العقول، بل يدافع عنها بالحجج العقلانية اللائحة والمحايدة التي يمكن للآخرين الذين لا يؤمنون أن يقبلوها. وهذا هو ما يميز بلانتينكا من الفلاسفة الدراويش. إنه فيلسوف بارز وليس درويشا  !

إلفين بلانتينكا


وعلى الرغم من أن ناجل لا يقبل النتائج التي ينتهي إليها بلانتينكا فإنه لا يمضي من دون أن يعترف له في آخر المقال برجحان انتقاده للنزعة الطبيعية. يقول ناجل: "لكن حتى الذين لا يمكنهم أن يقبلوا البديل الإيماني [يقصد داوكينز ودينيت وغيرهما] الذي يعرضه بلانتينكا لا يستطيعون أن ينكروا عليه أن نقده للنزعة الطبيعية يتجه إلى المشكل العميق الذي تنطوي عليه هذه الرؤية..". قراءة ممتعة..

الرابط:





20‏/09‏/2012

عن حنا آرنت ومسألة السلطة


حنا آرنت



تميز حنا آرنت، في سياق تنظيرها للسلطة، بين تقليدين أو تراثين اثنين: أحدهما تناول السلطة من منظار الهيمنة، والثاني تبنيه هي نفسها، بالاستناد إلى لحظات عابرة ونصوص هامشية في معظمها أهملها التراث الأول، لا ترتبط فيه السلطة بالهيمنة. التراث الأول نجد أصوله النظرية الأولى لدى أفلاطون وأرسطو اللذين ميزا بين صور الحكم المختلفة استنادا إلى الهيمنة: هيمنة الواحد (الملكية) أو هيمنة القلة (الأوليغاركية) أو هيمنة الأفاضل (الأرستقراطية) أو هيمنة الأغلبية (الديمقراطية) (أو هيمنة أخرى حديثة تضيفها آرنت وهي هيمنة المجهول (البيروقراطية)). وقد تكرس هذا التراث وترسخ في فرنسا القرن 16 مع جان بودان، وفي إنجلترا القرن 17 مع هوبز. أما تجليات هذا التراث في القرن العشرين فتوجد واضحة لائحة في أعمال مفكرين كثيرين يمينيين ويساريين على حد سواء (رايت ميلز، ماكس فيبر، ماو تسي تونج..الخ). السياسة عند هؤلاء صراع عارٍ ومفتوحٌ على السلطة، والسلطة في نهاية المطاف لا تزيد عن كونها عنفا. (حديث فيبر عن 'العنف المشروع' لا يزيد في نظر آرنت عن كونه تناقضا صارخا في الألفاظ !).
التراث أو التقليد الذي تستوحيه آرنت هو تراث فلاسفة عصر الأنوار ومفكري الثورتين الأمريكية والفرنسية، ولا تقف عند هؤلاء بل تعود إلى الماضي الإغريقي واللاتيني أيضا، أي تعود إلى النصوص واللحظات التي يحيل عليها هؤلاء الفلاسفة والمفكرون، والتي يعرض عن ذكرها أو استثمارها أو تطويرها أقطاب التراث الأول. ويمكن باختصار أن نقول إن آرنت تستوحي تصورها عن السلطة من العدالة الإغريقية، ومن المواطنة الرومانية، ومن الفكر الجمهوري الذي شيده المفكرون الثوريون (الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية). بالنسبة إلى القرن العشرين تعول آرنت على حركات المطالبة بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان عامة، وعلى حركات الانشقاق عن الأنظمة الشمولية (ربيع براغ وغيره). ولو تسنى لها أن تعيش لكانت استشهدت بما جرى في ساحة تيان آن مين بالصين، وبسقوط جدار برلين وبالأحداث الأخرى التي عرفها الربع الأخير من القرن العشرين (هل كانت ستستشهد بربيع العرب المقرف؟ ! لا أدري..). في كل المظاهر التي لجأت إليها آرنت لتبني فكرتها عن السلطة نكون إزاء فضاء عمومي يعاود الظهور بكيفية مفاجئة ويكون محلا لانبثاق سلطة منسية لا صلة لها بالهيمنة التي استند إليها التقليد الأول. فالسلطة التي تنبثق في هذا الفضاء لا تستند إلا على اتفاق المواطنين، وهذا الاتفاق يُبرم بكيفية تلقائية خارج كل هيمنة. لهذا السبب تنفي أن تكون السلطة خاصية فردية. إنها في نظرها "تنتمي إلى الجمع من الناس وتبقى منتمية إلى هذا الجمع طالما ظل جمعا قائما لم ينقسم على نفسه". وعلى هذا النحو ترى آرنت أننا عندما ننظر إلى المبدأ الرئيس الذي تنهض عليه الديمقراطية الدستورية التمثيلية نلفيه يقضي بأن السلطة السياسية (ما سيسميه هابرماس لاحقا بالسلطة الإدارية) سلطةٌ تُسْتَلم أو تُستقبَل. وبهذا المعنى فإننا عندما نقول إن السلطة في يد أحد ما أو في يد هيئة معينة فإن المقصود بذلك هو أن هذا الفرد أو هذه الهيئة استَقبلت أو تَسَلمت من الجمع من الناس سلطة للفعل والتصرف باسمهم.
أهمية آرنت قائمة في كونها نبهت إلى أن السلطة في الأصل هي سلطة المواطنين على الفعل بالمعية، يمارسونها في الفضاءات العمومية عن طريق الاحتجاج والتواصل والتعبير والتصويت والاستنكار والتظاهر...الخ. أما سلطة الدولة (النسقية بلغة هابرماس) فتعد سلطة مشتقة من الأولى وتابعة لها في المقام. وهذا يعني أن سلطة الدولة، في حالة الديمقراطية، لا تكون شرعية إلا إذا أحالت على سلطة المواطنين واستندت إليها.
إن السردية التي قدمتها آرنت حول السلطة هي السردية الرئيسة التي فتحت المجال لكلامنا اليوم عن الأدوار التي تلعبها مفاهيم مثل المجتمع المدني والفضاء العمومي والتواصل...الخ سرديتها باختصار لا مناص من التعريج عليها والوقوف مطولا أمامها لفهم الفلسفة السياسية التي تنهض عليها السياسة في الأزمنة المعاصرة...

19‏/09‏/2012

الفِطْرية



يقول محمد علي خالدي (2001: 193):

"لا يمكن أن نكتفي في وصف الحالة الذهنية الفطرية بقولنا إنها تلكم الحالة التي وجدت لدى العارف عند الولادة، لأن الكل يعرف أن عددا من الحالات الفطرية يكشف عن نفسه بعد الولادة بوقت. كما أن الحالات الفطرية لا يمكن استخلاصها من جينات الإنسان، لأن من المشكوك فيه أن نستطيع استخلاص شيء بعينه من الجينات مباشرة، خصوصا إذا كان هذا الشيء قدرة معرفية (أو عرفانية) معقدة أو حالة ذهنية ذات محتوى. بل إننا لا نستطيع أن نميز الحالة الذهنية الفطرية من غيرها بقولنا إنها 'باطنية'، لأن صفة الباطنية تصدق بمعنى من المعاني على الحالات الذهنية كلها. كيف باستطاعتنا إذن أن نخصص الحالات الذهنية الفطرية؟ المسعى الواعد أكثر من غيره هو الرصد الاستعدادي، أي الرصد الذي يقضي بأن الحالة الذهنية تكون فطرية إذا كان ظهورها ناتجا عن تنبيه مُفْقر من المحيط. فالحالة الذهنية أو القدرة المعرفية المخصوصة التي تكون فطرية هي القدرة التي يمكن للمحيط أن يزندها. وكلما كان الزند ضعيفا كلما كانت الحالة فطرية. فإذا كان محتوى الخَرْج يتخطى بوضوح محتوى الدَّخْل، صح أن نقول عن العارف إنه هو الذي يخلق التوازن. وإذا لم يكن في تاريخ الشخص التطوري ما يمكنه من رصد الباقي الذي يتضمنه الخرج، تعين على الموهبة المعرفية أن تتضمن طيها مكونا فطريا"...

محمد على خالدي


Khalidi, M. A. (2001) « Innateness and Domain Specificity ». Philosophical Studies 105: 191–210.
.

الحياة الاصطناعية



يصدر المبحث المسمى بالحياة الاصطناعية (Artificial Life) أو اختصارا بـ(ALife) عن تصور يقضي بأن الحياة آلية وعملية في متناول المعرفة البشرية. وقد تأسس هذا المبحث في سبتمبر 1987، حين بادر كريستوفر لانغتون Christopher Langton، الذي كان يعد بحثا لنيل شهادة الدكتوراه آنذاك، بتنظيم ندوة بلوس ألاموس في نيو ميكسيكو عن موضوع "تركيب الأنساق البيولوجية ومحاكاتها" (Synthesis and Simulation of Biological Systems)، التي نشرت أعمالها كاملة سنة 1989. وبحدود مختصرة يمكن تعريف الحياة الاصطناعية بأنها مجال يدرس البيولوجيا من زاوية تروم خلقها أو تصنيعها. فمعظم الباحثين في هذا المجال يعتقدون أن مخلوقاتنا الاصطناعية (التركيبات الكيميائية، والروبوطات، وخصوصا الحواسيب...) تطورت وبلغت حدا من التعقيد يجعلنا نتطلع إلى صناعة الحياة وتخليقها. وقد عرف لانغتون (1989) الحياة الاصطناعية قائلا: "تُعنى الحياة الاصطناعية بدراسة الأنساق التي تبنيها يد الإنسان والتي تكشف عن تصرفات تتميز بها في مستقر العادة الأنساق الطبيعية الحية. فالحياة الاصطناعية مبحث يكمل ويتمم العلوم البيولوجية التقليدية التي تدرس الأجهزة العضوية الحية، ويسعى إلى تركيب السلوكات الشبيهة بسلوك الحي عن طريق استعمال الحواسيب وغيرها من الحوامل الاصطناعية الأخرى. والحياة الاصطناعية إذ توسع الأسس التجريبية التي تقوم عليها البيولوجيا التي تدرس الحياة القائمة على الكربون التي تطورت في الأرض، تساهم مساهمة فعالة في البيولوجيا النظرية بإدراج الحياة كما نعرفها في فضاء أكثر رحابة واتساعا، أي الحياة كما بإمكانها أن تكون".


أما هدف الحياة الاصطناعية فقد سطره لانغتون (1986) قائلا: "هدف الحياة الاصطناعية الأسمى هو أن تخلق 'الحياة' في حامل أو سند آخر غير السند الطبيعي، ويُستحب أن يكون سندا افتراضيا يسمح بفصل جوهر الحياة عن تفاصيل تحققه في أي سند كان. فنحن نصبوا إلى بناء نماذج تكون شبيهة إلى حد بعيد بالحي إلى الحد الذي تكف فيه عن أن تكون مجرد محاكات للحياة لتصبح أمثلة أو شواهد عليها".
 وقد تحدث الفيلسوف دانيال دينيت (1998) عن الطاقة التي يختزنها مبحث الحياة الاصطناعية هذا، وعن الآفاق المذهلة التي يفتحها أمام البحث الفلسفي قائلا: "إن الحياة الاصطناعية باختصار تُعنى بالإبداع الاصطناعي لتجارب فكرية مراقبة، تتمتع بدرجة عالية من التعقيد... ولا شك أن الفلاسفة، الذين أتيح لهم أن يشهدوا في زمانهم هذه الفرصة، سيهرعون إلى المجال ليستفيدوا منه في أي مستوى تجريدي يلبي أغراضهم ويحصن أجهزتهم المفهومية ويشحذها بما تقدمه الحواسيب من مزايا محاكاتية"..

Dennett C. D, Brainchildren: Essays of Designing Minds. Cambridge, Mass.: MIT Press, 1998, p. 261- 262.
LANGTON C.G., « Studying Artificial Life with Cellular Automata », Physica D, Volume 22, Issues 1–3, October–November 1986, pp. 120- 149, p. 147.
LANGTON C.G., Artificial Life I, Addison-Wesley, 1989, p. 1.