08‏/11‏/2007

فلسفة الحق عند هابرماس


هابرماس



نظمت مجموعة فلسفة الحق الأخلاقي والسياسي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديناور، أيام 25 ، 26، 27 اكتوبر مائدة مستديرة بمدينة مراكش عن فلسفة الحق عند هابرماس. وقد شاركتُ فيها ببحث عنوانه "التأسيس التواصلي للديمقراطية عند هابرماس" (انظر ملخص العرض أدناه).

ورقة المائدة المستديرة: فلسفة الحق عند هابرماس

تعتبر مسألة الحق مسألة جوهرية بالنسبة للمجتمعات المعاصرة على اختلاف مستويات نموها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. من أجل هذا حظيت ـ ولا زالت ـ باهتمام قوي من لدن الفلاسفة والمفكرين والسياسيين والفاعلين في حقول المجتمع المدني. وقد أفضى هذا الاهتمام الفكري والعملي الشامل إلى انعقاد الإجماع على اعتبار الحق أساساً جوهريا في تنمية الفرد والمجتمع المعاصر.وإذا كانت فلسفات الحداثة، منذ القرن السابع عشر، قد أوْلت عناية كبرى لعلاقة الحق بالأخلاقية، فإن الفلسفات المعاصرة وجهت اهتمامها خاصة نحو علاقة الحق بالمدينة (الديمقراطية السياسية). وهذا ما سمح لهذه الفلسفات بتوسيع وإثراء مجال مقاربتها للحق بالتفكير في إشكاليات جديدة تمخضت عن ملابسات الوجود الفردي والاجتماعي للإنسان المعاصر، كإشكاليات التواصل، وأخلاقيات الحوار، والنقد الفلسفي والتفاوض، والبناء المشترك للخبرات الاجتماعية، والفضاء العمومي، والتوافق، والدين، والأخلاق، والتكنولوجيا، والبيئة، والحرب، والعولمة، والتنمية، والتغيير الاجتماعي، والتنوير...وتشكل فلسفة يورغن هابرماس لحظة أساسية داخل حقل الاهتمام بالحق في علاقاته بالديمقراطية والتنوير والحداثة، أولاً لكونها استحدثت أوراشا غنية من الحوارات مع مختلف تيارات الفلسفة الحديثة والمعاصرة ؛ وثانيا لكونها قدمت أدوات ومفاهيم جديدة، وصاغت قضايا وإشكاليات طريفة من شأنها أن تسمح لنا، نحن في العالمين العربي الإسلامي على الخصوص، بالقيام بمقاربات متعددة التخصصات (فلسفية، سوسيولوجية، تاريخية...) لمسألة الحق والديموقراطية ؛ وأخيرا لكونها قدمت رؤية جديدة لعالمنا المعاصر.ونظرا لأهمية هذا الفيلسوف في إسهامه في نظرية الحق وتأثيره القوي على الفكر الفلسفي المعاصر، تنظم »مجموعة فلسفة الحق«، التابعة لشعبة الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس-أكدال الرباط، بالتعاون مع مؤسسة أديناور، مائدة مستديرة حول فلسفة الحق عند هابرماس.ويمكن للسادة الأساتذة أن يستأنسوا بالمحاور الآتية للإسهام في هذه المائدة :المجال العمومي: صراع الديني والسياسيالحق وأخلاق الحوار والتواصلالحق في الفلسفة السياسية (السيادة، الشرعية، الشعب، الديمقراطية...)التكنولوجيات الجديدة وفلسفة الحق (المعلوميات، والتواصل، والبيولوجيا، والطب ...)الحق في الحياة: مشاكل البيئة، إشكالية الإرهاب...تلقي فلسفة هابراماس في العالم العربي.

برنامج مائدة :
فلسفة الحق عند هابرماس

يوم الخميس 25/10/2007على الساعة 18 مساءً استقبال المساهمين في المائدة

يوم الجمعة 26/10/2007
الجلسة الأولى برئاسة الأستاذ عبد الرزاق الدواي


البعد العقلاني لفلسفة الحق عند هابرماس
من الساعة 30. 8 إلى 10

مصطفى حنفي : من كانط إلى هابرماس نحو استيعاب نقدي للإرث الكانطي في فلسفة الحق عند كانط

رشيد العلمي: العلاقة بين العقلانية ومفهوم الحقعز العرب لحكيم بناني: حياد الفلسفة أمام تعدد القيم

الجلسة الثانية برئاسة الأستاذ: ادريس المنصوري


البعد السياسي لفلسفة الحق عند هابرماس

من الساعة 30. 10 إلى 30. 12

محمد المصباحي: حدود الليبرالية ما بعد الحداثية

مصطفى الحداد : التأسيس التواصلي للديمقراطية عند هابرماس

الذهبي المشروحي: الحق في العنف


الجلسة الثالثة برئاسة الأستاذ محمد الشيخ


البعد التواصلي في فلسفة الحق عند هابرماس


من الساعة 15 إلى 18
عبد العلي معزوز: دولة الحق ونظرية المناقشة: قراءة في الفكر السياسي والحقوقي عند هابرماس

ادريس المنصوري: الفضاء العمومي عندهابرماس

* * * * *

السبت 27/10/2007الجلسة الرابعة برئاسة الأستاذ رشيد العلمي


البيوإيتيقا وفلسفة الحق عند هابرماس

من الساعة 30. 8 إلى 10
عبد الرزاق الدواي: هابرماس وإشكالية أخلاقيات الطب والبيوإيتيقا (Bioéthique)

محمد الشيخ: في الطبيعة الإنسانية : السجال بين هابرماس وسلوتردايك

عمر بوفتاس : الحق وعلم تحسين النسل بين يورغن هابرماس وهانس يوناس

الجلسة الختامية : برئاسة الأستاذ محمد المصباحي
من الساعة 15 إلى 18


تقييم ومناقشة عامة مشروع المائدة المقبلة مشاريع مجموعة بحث حول الحق الأخلاقي والسياسي.

********


ملخص العرض الذي ألقيته في هذه المائدة:


التأسيس التواصلي للديمقراطية عند هابرماس

تتميز المقاربة التي اصطنعها هابرماس في نقده للعقل بكونها مقاربة تَعرِضُ عن الصور التي رسختها فلسفة الذات المتعالية، أو ما يُعرف بأنموذج الشعور، وتستبدل بها الصور التي استحدثتها فلسفة التواصل، أو ما يُصطَلح عليه بأنموذج اللغة. سأحاول في هذا البحث أن أناقش هذه النقلة التي أحدثها هابرماس في نقد العقل، أي هذا التحول من وضع الإشكال في نطاق أنموذج الشعور، إلى إعادة وضعه في نطاق أنموذج اللغة. وسأتناول بالتحليل مفهومه الموسع للعقل، الذي يستعيد فيه ثلاثية كانط النقدية (نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم) مؤولة تأويلا يعتمد حدود فلسفة اللغة. وسأركز بكيفية خاصة على الطريقة التي يشتق بها هابرماس تصوره للديمقراطية من حدود فلسفة اللغة. وسأبين في هذا الصدد أن فلسفة هابرماس السياسية لا يستقيم فهم قسم كبير منها إلا إذا نظرنا إليه من جهة كونه مشتقا اشتقاقا من فلسفته اللغوية. سأستند في بحثي هذا، بالطبع، إلى أعمال هابرماس نفسها، وسأستأنس بأعمال بعض مشايعيه ممن يشاركونه الرأي. ولكي يشتد بيان تصوره سأعرض لِماماً لبعض مخالفيه من الذين ناقشوه وانتقدوه خصوصا لوهمان، ورورتي، ورولز.

مفاهيم رئيسة في البحث:العقل، التواصل، الديمقراطية، إعادة البناء، التعالي، شبه التعالي، النزعة التأسيسية، النزعة النسبية، الانعطاف اللغوي، التداوليات الصورية (أو الكلية)، دعاوى الصلاحية، الفعل التواصلي/ الأداتي/الاستراتيجي، المعنى، القوة الإنجازية، التناقض الإنجازي، الفضاء العمومي، المجتمع المدني، الإرادة العامة، النسق، العالم المعيش، الإجماع، النزعة الفردانية، النزعة الجماعية.

19‏/09‏/2007

موسوعة الفقر في العالم/ مراجعة






تقع موسوعة الفقر في العالم، الصادرة سنة 2006 عن دار ساج للنشر Sage Publications بالولايات المتحدة في 1412 صفحة، بالإضافة إلى 31 صفحة (xxxi-i) تضمنت مقدمة، وكرونولوجيا، وفهرسا، ولائحة بأسماء المساهمين، وجدولا لمداخل الموسوعة من الألف إلى الياء، دون احتساب ما يقرب من ثلاثين صفحة أخرى تضمنت ذيلين في خاتمة الموسوعة.


وتتوزع الموسوعة على ثلاثة مجلدات: الأول يحوي المداخل التي تبتدئ بالحرفين (G-A)، والثاني المداخل التي تبتدئ بـ (R-H)، والثالث المداخل التي تبتدئ بـ (Z-S). وقد أشرف على تحريرها وتنسيق أعمالها العالم التركي المرموق محمد أوديكون Mehmet Odekon. وهو باحث يعمل بشعبة الاقتصاد في كلية سكيدمور بنيويورك منذ سنة 1982. وقد وفد على هذه الكلية من فرنسا، وتحديدا من فونطينبلو، حيث كان يعمل باحثا مشاركا في المركز الأوروبي لإدارة الأعمال. ومن بين أعماله التي صدرت في السنوات القليلة الماضية كتابه الهام: كلفة تحرير الاقتصاد التركي الصادر سنة 2005 عن مطابع جامعة Lehigh.


تضم موسوعة الفقر في العالم ما يقرب من 800 مقالة، لم يسبق لها أن نشرت من قبل. وقد حرر هذه المقالات ما يربو على 100 باحث، منهم المستقلون، ومنهم العاملون المرتبطون بمؤسسات. وتضمنت هذه المقالات مقالات عن 191 بلدا، تناولت إحصائيات الفقر فيها، وتوزيعه، وخصائصه، ومعدلات الوفيات، وأنواع الأمراض، ومعدلات الأمية. كما تضمنت هذه المقالات أيضا معلومات عن الخصائص الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل بلد من هذه البلدان. ولم تغفل الموسوعة تحديد الرتبة الراهنة التي يحتلها كل بلد في مؤشر التنمية الإنسانية وفي مؤشر الفقر الإنساني (Human Poverty Index). (رتبة المغرب، حسب الموسوعة، في مؤشر التنمية الإنسانية هي 124، أما رتبته في مؤشر الفقر الإنساني فهي 61) (ص: 731).


وبخصوص مؤشر الفقر الإنساني، ميزت الموسوعة بين مقاييس ترتيب الدول النامية، ومقاييس ترتيب الدول الصناعية المتقدمة. فالمؤشر بالنسبة إلى الدول النامية ينظر إلى الفقر من زاوية ارتباطه بمعدل عمر الأفراد، والتربية، والتغذية، وتوافر الموارد المائية والخِدْمات الصحية. أما بالنسبة إلى الدول الصناعية فقد عمدت الموسوعة إلى مقياس طول مدة بقاء الفرد عاطلا عن العمل، وأقصت مقياس توافر الماء والخدمات الصحية من المؤشر بالنسبة إلى هذه البلدان المتطورة.


يقول أوديكون في مقدمة الموسوعة: "الغرض من الموسوعة هو أن تستعمل مصدرا نافذا ودقيقا لمشكلة الفقر والقضايا ذات الصلة بها. فهي تقدم للقارئ كما هائلا من المعلومات الراهنة والطرية، وتزوده بالإضاءات التي تمكنه من فهم النقاش الراهن الدائر حول مشكلة الفقر... إنها مشروع يتناول راهن الفقر في العالم. فلا ننسى أن سنة 2005 تميزت بالإعلان المتصل بالفقر الذي أصدره قادة العالم في قمة الدول الثماني الأكثر تصنيعا وفي المنتدى الاقتصادي العالمي" (vii).


يشير أوديكون إلى أنه من الصعب على المرء الذي لا يملك تجربة شخصية مع الفقر أن يعرف حقيقة الفقر والشروط القاسية التي يعيش فيها الفقراء معرفة دقيقة. ويستعرض في مقدمة الموسوعة تجربته الشخصية مع الفقر ذات صيف حين كان طالبا في الستينات وتطوع، هو وعدد من زملائه، لمساعدة أهالي قرية فقيرة في الأناضول الأوسط بتركيا على بناء نظام للصرف الصحي وترميم مدرسة آيلة إلى السقوط. الفقر بالنسبة إلى من لم يعشه أو يحتك بمن يعانونه لا يعدو أن يكون نسبة في حساب الإحصاء. "والحقيقة، كما يقول أوديكون، أن الفقر يمكن أن يكون أي شيء ما عدا نسبة في حساب الإحصاء. فمظاهر الفقر وأوجهه لا تقبل التكميم كلها" (vii).


إن أوديكون لا ينفي، بالطبع، أهمية الإحصاء في حساب الفقر، ما ينفيه هو اختزال الفقر بمظاهره وأوجهه المتباينة التي لا تقبل الحساب الكمي، إلى مجرد نسب باردة في جداول الإحصاء. ثم إن الموسوعة لا تتناول الفقر من زاوية التركيز على الدخل والاكتفاء به. الفقر كما تتصوره الموسوعة أوسع بكثير من مجرد انعدام الدخل أو تواضعه. تصور الفقر في الموسوعة مشتق من الفهم الذي طوره الاقتصادي والفيلسوف أمارتيا صن، أي ذلك التصور الذي لا يرى في انعدام الدخل أو تواضعه سوى عامل من عوامل الفقر، على أهميته.


يقول أوديكون معرفا الفقر: "الفقر هو الحرمان من القدرات والحقوق والحريات الأساسية التي تسمح للأفراد بالقيام بالاختيارات الضرورية وتمكنهم من استغلال الفرص التي يحتاجون إليها لكي يحيوا الحياة التي يرغبون فيها. حقا، إن الدخل يعد ركيزة أساسية تقوم عليها الحياة، لكن الدخل بمفرده ليس كافيا. فإذا لم يكن موصولا بالحريات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فإنه لا يكفي لكي يكون حافزا لإذكاء القدرات الفردية. بهذا المعنى لا يكون الدخل غاية في حد ذاته، بل وسيلة لكي يتمكن الفرد من الحياة حياة محصنة من الأمراض، ولكي يحصل على رصيده من التربية، ولكي يشارك مشاركة فعالة في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية حيث يعيش" (viii-vii).


تتضمن الموسوعة كرونولوجيا للفقر، استغرقت 8 صفحات (xxvi-xix)، حررها كيفين جولسن Kevin Golson، تبدأ من القرن العاشر قبل الميلاد، وتنتهي عند سنة 2005 بعد الميلاد. فكلمة "فقر"، كما ورد في الكرونولوجيا، استعملت أول مرة في القرن العاشر قبل الميلاد في العالم اليهودي القديم؛ وكانت تحيل على ملاك الأراضي الذين كانوا يجبرون أهل القرى من الفلاحين على بيع أراضيهم عنوة. وتتوقف الكرونولوجيا عند سنة 2005 التي أعلنت فيها الأمم المتحدة أن بروندي، البلد الذي يوجد في وسط إفريقيا، يعد رسميا البلد الأكثر فقرا في العالم، وهو بلد 68 في المائة من سكانه أو يزيد، يصنفون تحت خط الفقر.


إن الموسوعة جديرة بأن تقتنيها مراكز البحث، ومؤسسات التعليم، والجمعيات المختصة؛ لأنها تتضمن طيها جل المفاهيم والأطر والنظريات ذات الصلة بمشكلة الفقر. ومقالاتها لا تميل عموما إلى التعقيد أو اعتماد الترميز الرياضي إلا نادرا وعند الحاجة. هناك تفاوت بين المقالات أحيانا، وهناك أيضا بعض المعلومات الخاطئة التي ننتظر أن تصحح في الطبعات اللاحقة. ونخص بالذكر هاهنا المقال المخصص للمغرب (ج 2،ص: 731- 732). فكاتب هذا المقال، جيرالد بيتزل G.Pitzl، وقع ضحية ما راج في المغرب عن اكتشاف البترول، وضم المغرب إلى لائحة الدول المصدرة للمنتجات النفطية، قبل أن يتبين أن ما راج عن النفط في المغرب لم يكن صحيحا. يقول بيتزل، على سبيل المثال: "تتضمن صادرات المغرب الملابس، والأسماك، وعددا من المعادن، والفواكه، والخضروات، والمنتجات البترولية petroleum products. احتياطي النفط في المغرب يقدر بـ 300 مليون برميل، أما احتياطي الغاز فيعادل 665 مليون متر مكعب (حسب تقديرات سنة 2004)" (ص:731). لا أظن أن هذه المعلومات صحيحة. ربما وقع الكاتب ضحية هوس راهنية المعلومات. أو ربما التبس عليه الأمر. لكن مثل هذه الأخطاء والهنات توجد في جل الموسوعات، وغالبا ما يقع تجاوزها وتصحيحها في الطبعات اللاحقة. وهي أخطاء، على الرغم من أنها مشينة، لا تحط في شيء من قيمة الموسوعة ومن الجهود التي قام بها محرروها والمشرف عليها.


محمد أوديكون

15‏/09‏/2007

تطوان... والمطر


تطوان... والمطر

14‏/09‏/2007

في الرؤية عن بعد

غالبا ما ننظر إلى التلفزيون بوصفه نافذة مفتوحة على العالم نطل منها، عبر المراسلين والنقل المباشر من عين المكان، على كل ما يقع في العالم من أحداث. هذه النظرة إلى التلفزيون يكرسها الإعلاميون أنفسهم خصوصا في نشرات الأخبار. لا يجلس المذيع الرئيسي للنشرة في الإستديو المركزي بالدوحة أو دبي أو لندن، بل في بيروت، مكان الحدث، تحت القصف؛ ويشرع في بث الأخبار والصور الحية، ويتصل بالمراسلين الموزعين على المواقع الساخنة في البقاع والضاحية الجنوبية وكريات شمونة وحيفا. ويحس المتلقي الملقى على أريكته في بيته أنه هناك في قلب الحدث...


إن هذا الإحساس بالوجود في قلب الحدث لا يعدو أن يكون وهما. إنه نوع من الإيهام بالواقع يلتف به التلفزيون على طبيعته ليبدو على غير ما هو عليه. وهذا لا علاقة له بمهنية الصحافي أو نزاهته. طبيعة التلفزيون هي التي تجعله كذلك. كلمة تلفزيون مكونة من مفردتين غالبا ما لا نلتفت إلى ما تدلان عليه: تيلي تعني بعد، وفيزيون تعني رؤية. التلفزيون هو رؤية عن بعد، في أصل الوجود. فإحساس المشاهد بأنه في قلب الحدث، لا يعدو أن يكون إيهاما (تليفزيونيا) بالوجود في قلب الحدث. الرؤية عن بعد تبقى دائما رؤية انتقائية وناقصة أو مشبعة ومبالغا فيها. والمشكل الأكبر هو أنها رؤية تزداد تحريفا وبعدا عن الواقع بازدياد التقدم التقني الذي يطال وسائل البث وآلياته. فابتلاع الصور إذن، لا يعد مشاركة في الأحداث؛ كما أن الارتعاش من وقع الأحداث وهولها لا يمكن من فهمها وإرداك أبعادها فضلا عن التأثير في مجرياتها. في العالم الذي بات مقلوبا، لم يعد الصدق الذي يدعيه التلفزيون سوى لحظة من لحظات الكذب...

06‏/06‏/2007

عيـــــد الكـــتــــــاب بتطوان


برنامج عيد الكتاب بتطوان


(الدورة العاشرة من 8 إلى 13 يونيو 2007)


المحور العام : نحو ترسيخ مدار قار للتبادل لثقافي بين المغرب و الأندلس

الجمعة 8 يونيو 2007

فضاء المشور السعيد
17:00 الافتتاح الرسمي لعيد الكتاب

دار الثقافة
18 :00
افتتاح معرض فرانسيسكو أيالا: ذاكرة كاتب.
20 :00
عرض فني لمجموعة المعهد الاحترافي للرقص باشبيلية

السبت 9 يونيو 2007

فضاء المعرض
11.00
جلسة نقدية حول موضوع: " هل هناك حياة بعد الأعمال الكاملة؟ "
مع محمد الميموني، محمد عزالدين التازي، الميلودي شغموم، ثريا ماجدولين، عبد الرحيم العلام، هشام العلوي
تنسيق: مخلص الصغير

16:30
تقديم روايات جديدة
·
احتراق في زمن الصقيع، عبد الجليل الوزاني، تقديم محمد بنعياد
·
عندما يبكي الرجال، وفاء مليح، تقديم أحمد المعادي
·
أطياف البيت القديم، لخالد أقلعي، تقديم عبد الرحيم الشاهد
تنسيق: العالية ماء العينين

مدرسة الصنائع والفنون الوطنية
17:00 مائدة مستديرة: " الزمن والمتاهة، التفكير في الزمن المعاصر"
بمشاركة:عبد الصمد الكباص- عبد العزيز البومسهولي – بنعيسى بوحمالة
تنسيق: إدريس كثير

19 :30
أمسية شعرية بمشاركة شعراء مغاربة وأندلسيين

·
إيمان الخطابي
·
فاطمةالزهراء بنيس
·
خوان خوسي تييس
·
خوسيفا بارا


الأحد 10 يونيو 2007

فضاء المعرض
0:301
تقديم الأعمال الفائزة بجائزة المغرب للكتاب برسم سنة 2006
-
البوار، لزهرة المنصوري، تقديم عبد السلام أقلمون
-
ابن الشمس، لحمزة ابن إدريس العثماني، تقديم عبد المجيد بن جلون
-
سيميائية الكلام الروائي، لمحمد الداهي، تقديم سعيد يقطين
تنسيق: عبد الرحيم المودن

16:00
تقديم الأعمال الفائزة بجائزة المغرب للكتاب برسم سنة 2006
-
موكادور- الصويرة، لمينة المغاري، تقديم إبراهيم بوطالب
-
المجتمع والمقاومة في الجنوب الشرقي المغربي ترجمة لأحمد بوحسن، تقديم بلحاج عبد الكريم
تنسيق:الطايع الحداوي

مدرسة الصنائع والفنون الوطنية
17:30 عرض شريط وثائقي ديوان المضيق، تقديم إيمان الخطابي وخوان خوسي ساندوفال

فضاء المعرض
17:30
حكي و دردشة مع فيديريكو أباد و غاييرمو بوسوتيل
18:30
مائدة مستديرة "مستقبل القراءة في الضفتين"
بمشاركة: أحمد شراك، رشيد برهون، خوسي مارتين دي باياس، عبد الفتاح الحجمري
تنسيق: عبد اللطيف البازي

الإثنين 11 يونيو2007
مدرسة خاسينتو بنابنتي
10:30 مائدة مستديرة: " أدب الطفل "
بمشاركة: خوان إكناسيو بالوماريس

فضاء المعرض
11:00
تقديم مؤلفات نقدية جديدة
§
في النظرية السردية، لعبد الرحيم جيران، تقديم شرف الدين ماجدولين
§
تأويل النص الروائي، لأحمد فرشوخ، تقديم مصطفى بوقديد
§
في ضيافة القصيدة، لرشيد برهون، تقديم محمد معتصم
§
سيميائيات التأويل، للطايع الحداوي، تقديم ادريس الملياني
تنسيق: عبد اللطيف البازي

17:00
مائدة مستديرة حول "النشر بين الضفتين"
18 :00
لقاء مهني بين الناشرين المغاربة والأندلسيين

مدرسة الصنائع والفنون الوطنية
17:00 مائدة مستديرة: "الكتابة المرتحلة"
بمشاركة: عبد الرحمان طنكول – محمد الشركي – موليم العروسي
تنسيق: خالد الريسوني
الثلاثاء 12 يونيو 2007
معهد البيلار
10:30
مائدة مستديرة: " أدب الشباب "
بمشاركة:خوسي لويس مايسترو ساريون.


فضاء المعرض
17:00
تقديم وتوقيع إصدارات شعرية جديدة
صيرورات تسمي ذاتها، لمحمد الميموني، تقديم ثريا ماجدولين
§
مرثية الكتف البليل، لمزوار الإدريسي، تقديم محمد العربي غجو
§
بصحبة جبل أعمى، لمحمد أحمد بنيس، تقديم فاطمة الميموني
§
سيرة حذاء، لإدريس علوش، تقديم محمد الفهري
§
المتلعثم بالنبيذ، لمحمد بشكار، تقديم خالد الريسوني
§
مختارات شعرية بين الضفتين، تقديم حسن اليملاحي
§
أطياف مائية، لأحمد زنيبر، تقديم عبد الرحيم العطري

تنسيق: العياشي أبو الشتاء



الأربعاء 13 يونيو 2007

فضاء المعرض
17:00
تقديم دراسات فكرية جديدة
·
الوطنية والسلفية الجديدة بالمغرب، لعثمان أشقرا، تقديم محمد الحيرش
·
السلفية والوطنية، لعبد الجليل بادو، تقديم الطيب بوتبقالت
·
الإصلاح والتحديث في فكر علال الفاسي، لمصطفى الحنفي، تقديم عبد الواحد العسري
·
الجامعة والمحيط ورهان التنمية ، لعبد الوهاب إد الحاج ، تقديم أحمد الصبوح

تنسيق: مصطفى الحداد



18.30
تقديم مجاميع قصصية جديدة
·
طفولة ضفدع لعبد العزيز الراشدي، تقديم إبراهيم أولحيان
·
قبر طريفة، لأحمد المخلوفي، تقديم حسن الغشتول
·
أوان الرحيل، لعلي القاسمي، تقديم محمد مشبال
·
مختارات من القصص المغربية والأندلسية، تقديم محمد الصبان

تنسيق: رضوان أعيساتن

15‏/05‏/2007

جاكندوف ضد تشومسكي

جاكندوف



جاكندوف ضد تشومسكي

Jackendoff, R (2003) “Précis of Foundations of Language:Brain, Meaning, Grammar, Evolution” BEHAVIORAL AND BRAIN SCIENCES . 26, 651–707.pp. 651-655.


هذه ترجمة انتقائية لقسم من مقال جاكندوف أعلاه، ينتقد فيه هذا الأخير مواقف تشومسكي بخصوص المكانة المبالغ فيها التي توليها لسانياته للتركيب. وهو مقال رئيس في مسار جاكندوف العلمي. فجاكندوف ظل لوقت طويل يدافع عن أطروحات تشومسكي. وفي هذا المقال يعلن رفضه الصريح لكثير من تلك الأطروحات، ويُحمل تشومسكي مسئولية التراجع الذي عرفته اللسانيات اليوم إذا ما قورنت بالعلوم المعرفية (أو العرفانية) الأخرى. (والمقال موجه في هذه المدونة أساسا إلى طلبتي).

*****

يتحدث جاكندوف مسترجعا ذكرياته في الستينات حين كان طالبا جامعيا عن المكانة التي كان يحتلها النحو التوليدي في النقاش عند ظهوره، فيقول:

في الستينات حينما صرت طالبا جامعيا أَدْرُس اللسانيات، كان النحو التوليدي يمثل حينئذ الموضوع الجديد الساخن. فالناس، من الفلاسفة إلى علماء النفس إلى الأنثروبلوجيين إلى علماء التربية إلى منظري الأدب، كانوا جلهم يقرأون عن النحو التحويلي ويتابعون ما يجري فيه من نقاش. لكن مع نهاية السبعينات بدأ الاهتمام بهذا النحو يخف ويضعف، على الرغم من أن اللغويين في عمومهم لم يدركوا ذلك. وفي التسعينات أصبحت اللسانيات عمليا على الهامش، بعيدة عن النشاط الذي يقع في العلم العرفاني. إن هذا الخفوت لا يعدو في بعض جوانبه أن يكون راجعا إلى تغير في موضة العصر، وإلى ظهور مناهج جديدة كالنزعة الاقترانية وطرائق تصوير الدماغ. غير أن هناك أسبابا أخرى أعمق من هذه وراء فقدان اللسانيات مكانتها. بعض هذه الأسباب تاريخي، وبعضها الآخر علمي. والأسئلة الرئيسة التي أود مناقشتها هنا هي الآتية:

* ما الذي كان صحيحا في النحو التوليدي إبان الستينات، بحيث كان يجعل من هذا النحو نحوا واعدا؟

* ما الذي كان خاطئا فيه، بحيث حال بينه وبين تحقيق وعوده؟

* كيف بإمكاننا أن نُثَبِّتَه ثانية، ونبرز قيمته من جديد بالنسبة إلى العلوم العرفانية الأخرى؟

إن الهدف هنا هو أن نحدث تكاملا بين اللسانيات والعلوم العرفانية الأخرى، لا أن نضرب صفحا عن النتائج التي توصلت إليها هذه العلوم ونتنكر لها. فلكي نفهم اللغة ونسبر أغوار الدماغ نحتاج إلى كل الأدوات الممكنة. لكن على كل علم أن يأتي بما يستطيع لكي تكتمل الصورة وتستوي.

إن الموقف الذي عرضته في كتابي أسس اللغة Foundations of Language (جاكندوف 2002) يقضي بأن برنامج النحو التوليدي كان في عمومه صحيحا، كما أن الطريقة التي رُبط بها هذا البرنامج بعلم النفس وبالبيولوجيا كانت صحيحة أيضا. غير أن هناك خطأ تقنيا رئيسا يقع في قلب التنفيذ الصوري للبرنامج. ويتمثل هذا الخطأ في الدور المبالغ فيه الذي أسند إلى التركيب. فهذا الإعلاء من شأن التركيب في النحو هو الذي جعل النظرية النحوية عاجزة عن الاقتران على نحو كاف بالنظرية اللغوية وبالحقول الجارة على حد سواء. في أسس اللغة اقترحت بديلا، أسميته الهندسة المتوازية، يعرض فرصا قوية جدا لتحقيق الاندماج في المجال. ولكي نفهم بجلاء الدافع الذي حركني لاقتراح الهندسة المتوازية، لا بد من العودة إلى بعض الأمور التاريخية.

المحاور الثلاثة التي ينهض عليها النحو التوليدي

لقد حدد الفصل الأول من كتاب تشومسكي مظاهر نظرية التركيب برنامج كل ما جرى في النحو التوليدي منذ ذلك الحين. فالمشروع يرتكز إلى ثلاثة أعمدة نظرية هي: النزعة الذهنية، والتأليفية، والاكتساب.

النزعة الذهنية

الرؤية التي كانت شائعة بين اللغويين قبل المظاهر كانت تقول إن اللغة شيء يوجد إما وجودا مجردا في النصوص، وإما يوجد بمعنى من المعاني "في إطار أو حضن الجماعة" (التصور الأخير يعود إلى سوسير). وقد دافع تشومسكي عن رؤية تقضي بأن الموضوع الملائم للدراسة هو النسق اللغوي القائم في ذهن/دماغ المتكلم الفرد. وحسب هذا الموقف لا تكون للجماعة لغة مشتركة إلا لأن المتكلمين الذين ينتمون إليها يملكون النسق اللغوي نفسه ممثلا في أذهانهم/أدمغتهم.

الاصطلاح الذي طغى استعماله للدلالة على هذا النسق اللغوي هو "المعرفة"، وهو اصطلاح غير موفق ربما. بيد أننا إذا رجعنا إلى الخطاب النظري الذي كان سائدا في ذلكم الوقت، وجدنا أن البديل الذي كان يُعرَضُ في مقابل تصور تشومسكي كان يرى في اللغة استعدادا أو مهارة، بالمعنى الذي كان رايل (1949) قد طوره؛ وهو بديل يحمل في ثناياه شحنات من النزعة السلوكية ومن الموقف الذي يربط التعلم بالمنبه والاستجابة، وهو ما كان تشومسكي ينأى بنفسه عنه، ويحتاط احتياطا من الوقوع فيه لأسباب كلها معقولة وراجحة. وينبغي التشديد هاهنا على أننا بغض النظر عن الاصطلاح الذي يمكن أن نستعمله لتعيين هذا النسق اللغوي الذي يوجد في ذهن/دماغ المتكلم، فإنه يظل نسقا ضاربا في اللاشعور ومتمنعا عن البلوغ من طريق الاستبطان، مثله في ذلك مثل العمليات التي تعالج في دماغنا العلامات البصرية. فاللغة إذن خاصية تميز الذهن/الدماغ، يصعب ربطها أو وضعها تحت لفظ "المعرفة" الذي يستفاد من معناه في الاستعمال الشائع الوجود في متناول الاستبطان. في كتابي أسس اللغة عقدت تسوية مع التراث واستعملت بطريقة منهجية اصطلاح "معرفة ـ و" (f-knowledge)، أي معرفة وظيفية، لأسمي به كل ما يوجد في رؤوس المتكلمين مما يمكنهم من الكلام بلغتهم أو لغاتهم وفهمها.

.....

التأليفية

لقد بدأ تشومسكي منذ كتابه بنيات تركيبية (1957)، وهو كتابه الأول من حيث النشر، يلاحظ أن اللغة تحتوي عددا لا يحصى من الجمل. فإلى جانب لائحة الكلمات النهائية إذن، يتعين على التخصيص المضبوط للغة أن يتضمن مجموعة من القواعد (أي نحوا) تصف أو "تولد" جمل اللغة. وقد بين تشومسكي في بنيات تركيبية أن قواعد اللغة الطبيعية لا يمكن تخصيصها استنادا إلى عمليات ماركوف المبنية على الحالة المحدودة؛ كما بين أيضا أن هذه القواعد لا تقبل التخصيص باعتماد النحو المركبي غير المقيد بالسياق. وارتأى حلا يقضي بأن تكون الصورة الملائمة لقواعد اللغة الطبيعة مستندة إلى نحو مركبي غير مقيد بالسياق، مرفوق بقواعد تحويلية. إن الاتجاهات التي أفرزها النحو التوليدي لاحقا (كالنحو المركبي الرأسي لبولار وساغ، أو النحو المعجمي الوظيفي لبريزنان) لم تحافظ كلها على آلية القواعد التحويلية؛ لكنها تضمنت كلها آلية معينة صُممت أساسا لدرء النواقص اللصيقة بالأنحاء المستقلة عن السياق التي شرحها تشومسكي بتفصيل في بنيات تركيبية سنة 1957.

عندما ننقل مفهوم التأليفية إلى الإطار الذهني (من النزعة الذهنية) الذي وضعه تشومسكي سنة 1965 في كتابه مظاهر نظرية التركيب، تكون النتيجة كالآتي: يتعين على متكلمي اللغة أن يمتلكوا في رؤوسهم قواعد لغوية (أنحاء) تكون جزءا من معرفتهم الوظيفية (f-knowledge). وهنا أيضا أثير نقاش حول المقصود بلفظ "قواعد". قواعد النحو كما تُتصور في النحو التوليدي لا تشبه أي نوع من أنواع القواعد أو القوانين المتعارف عليها في الحياة العادية: كقواعد الآداب، أو قواعد الشطرنج، أو قوانين المرور، أو قوانين الفيزياء. قواعد النحو كما يتصورها تشومسكي تعد مبادئ لا شعورية تلعب دورا في إنتاج الجمل وفهمها. ودرءا للخلط أيضا، استعملتُ في كتابي أسس اللغة لفظ "القواعد ـ و" ( (f-rules للإشارة إلى المبادئ التأليفية القائمة في الرأس، بغض النظر عن ماهيتها. إن اللسانيات التوليدية تترك الباب مفتوحا فيما يخص الكيفية التي تعمل بها القواعد الوظيفية؛ إنها لا تقطع برأي في كيفية هذا العمل. لكن اللغويين لا يلتزمون الحيطة والحذر في هذا الشأن. والنظرية التي عرضتُها في الأسس تسمح لنا بأن نقول إن هذه القواعد تلعب دورا مباشرا في تلك العمليات.

إن من أهم الأسباب التي جعلت الناس يستقبلون النحو التوليدي استقبالا حسنا يرجع إلى أن هذا النحو ذهب أبعد من مجرد الادعاء بأن اللغة تحتاج إلى قواعد. إنه تخطى ذلك باقتراحه تقنياتٍ صوريةً دقيقة تمكن من تخصيص تلك القواعد، استنادا إلى مقاربات جرى تطويرها من قبل في أوائل القرن تناولت أسس الرياضيات والحوسبة.

....

الاكتساب

عندما نجمع بين النزعة الذهنية والتأليفية ضمن تصور واحد ننقاد إلى وضع السؤال الآتي: كيف يتوصل الأطفال إلى حيازة هذه القواعد الوظيفية في رؤوسهم؟ وإذا سلمنا بأن هذه القواعد الوظيفية لا شعورية، فإن الآباء والأقارب لا يستطيعون صوغها في الكلام. وحتى إذا سلمنا بإمكان ذلك، فإن الأطفال لن يفهموا عنهم؛ لأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة اللغة. أرقى ما يمكن للمحيط أن يقوم به بالنسبة إلى متعلم اللغة هو أن يعرض عليه أمثلة من اللغة مدرجة في سياق. وهذا ـ لعمري ـ كاف بالنسبة إلى متعلم اللغة لينطلق على رسله وحده في بناء المبادئ، بكيفية لا شعورية بالطبع.

لقد وضع تشومسكي (1965) السؤال الآتي: ما الذي ينبغي أن يعرفه الطفل سلفا لكي يقوم بهذه المهمة (يكتسب اللغة)؟ وقد عبر عن هذا المشكل بحدود "فقر المنبه": فهناك تعميمات مختلفة شتى تكون كلها متلائمة مع المعطيات التي يواجهها الطفل؛ لكن هذا الأخير يتوصل بطريقة من الطرق إلى التعميمات "الصحيحة"؛ أي إلى التعميمات التي تجعله في تناغم تام مع تعميمات المجموعة اللغوية التي ينتمي إليها. أحب دائما أن أضع هذا المشكل على النحو الآتي: إن جماعة اللغويين كلَّها التي تعمل على اللغة منذ عقود باستعمال كل أنواع المعطيات النفسية واللغوية المقارنة التي لا تكون في متناول الأطفال، لم تستطع إلى حد الآن أن تتوصل إلى التخصيص المضبوط لنحو لغة واحدة. وفي مقابل هذا نجد كل الأطفال يصلون إلى تخصيص أنحاء لغتهم في سن العاشرة تقريبا. الأطفال ليسوا ملزمين بالاختيار بين الأنحاء مثلنا. إنهم ليسوا مجبرين على البت فيما إذا كان ينبغي للنحو الصحيح أن يكتسي طابع النحو التحويلي أو البرنامج الأدنى أو النظرية القصوى أو النحو العرفاني أو الشبكات الاقترانية أو بديلا آخر لَمَّا تتضح ملامحه. الأطفال يعرفون النحو (معرفة وظيفية) سلفا قبل أن يواجهوا المعطيات.

أحد أهداف النظرية اللغوية قائم إذن في حل هذه المفارقة، "مفارقة اكتساب اللغة"، بالكشف عن مظاهر المعرفة-و اللغوية غير المتعلمة، والتي تمثل الأساس الذي يستند إليه الطفل في تعلمه. الاصطلاح المعيار الذي استعمل لتعيين هذا المكون غير المُتعلَّم هو النحو الكلي، وهو اصطلاح يحمل طيه أيضا أمورا كثيرة مضللة. فينبغي أن لا نخلط النحو الكلي بالكليات اللغوية. النحو الكلي هو الذي يوجه اكتساب اللغة. وأحب من زاويتي أن أنظر إلى النحو الكلي بوصفه مجموعة من الأدوات لبناء اللغة، أي مجموعة من الأدوات ينتقي الطفل (أو دماغه على الأصح) منها بكيفية وظيفية الأدوات الملائمة أو المناسبة للقيام بما يتعين القيام به. فإذا حصل أن كانت اللغة الموجودة في محيط الطفل تملك نسقا إعرابيا (كالألمانية مثلا)، فإن النحو الكلي سيساعد الطفل على اكتساب الإعراب؛ وإذا كانت اللغة لغة تنغيم (كالصينية) فإن النحو الكلي سيساعد الطفل على اكتساب التنغيم؛ وإذا حصل أن كانت اللغة التي توجد في محيط الطفل هي الأنجليزية، التي لا تعول على الإعراب ولا على التنغيم، فإن الأجزاء المتصلة بالإعراب والتنغيم في النحو الكلي لن تعمل.

....................

من السابق للأوان إنكار فرضية النحو الكلي كما أقدم على ذلك بعض الباحثين (ديكون 1997؛ إيلمان وآخرون 1996)، الذين تذرعوا بأننا لا نعرف كيف يمكن للجينات أن ترمز اكتساب اللغة. وهذه ـ لعمري ـ ذريعة باطلة؛ لأننا لا نعرف أيضا كيف ترمز الجينات شدو العصافير أو السلوك الجنسي أو حتى العطس؛ لكن هذا ليس كافيا للطعن في وجود أساس جيني وراء هذه الظواهر السلوكية كلها.

إخلاف الوعد: البنية العميقة مفتاح الذهن

النقطة الرابعة الهامة التي وردت في كتاب المظاهر وأثرت تأثيرا كبيرا في وعي الجمهور تتصل بفكرة البنية العميقة. فقد ذهب تشومسكي سنة 1965 إلى الدفاع عن صيغة في النحو التوليدي تقول إن هناك إلى جانب الصورة السطحية التي تكون عليها الجمل، أي الصور التي نسمعها، مستوى نحويا آخر يسمى البنية العميقة، يعبر عن الاطرادات التركيبية التحتية التي تتمتع بها الجمل. فالجملة المبنية على غير الفاعل (1) ترتد إلى بنية عميقة مبنية على الفاعل (2):

1) قُتل زيد.

2) قَتل أحد زيدا.

والشيء نفسه بالنسبة إلى الجملة الاستفهامية (3)، التي تعود إلى البنية العميقة الشبيهة جدا بتلك التي تقترن بالجملة الخبرية (4):

2) أي وردة قطف خالد؟

3) قطف خالد هذه الوردة.

في السنوات القليلة التي سبقت نشر كتاب المظاهر، وُضع السؤال عن الكيفية التي تقترن بها البنية التركيبية بالمعنى. وأجابت المظاهر عن هذا السؤال، استنادا إلى فرضية كان قد اقترحها كاتز وبوسطال (1964)، تقضي بأن المستوى التركيبي المؤهل لتحديد المعنى هو البنية العميقة.

إن هذه الدعوى في صيغتها المعتدلة لا تقول أكثر من أن الاطرادات الدلالية التي تكشف عنها الجمل توجد مرمزة بكيفية مباشرة في البنية العميقة. وهذا أمر يمكن ملاحظته في الجمل السالفة. لكن الدعوى كانت تكتسي أحيانا طابعا أكثر إقداما وتطرفا، كأن يقال مثلا إن البنية العميقة هي المعنى، وهو بالمناسبة قول لم يكن تشومسكي يعترض عليه في البداية. وهذا القسم من اللسانيات التوليدية تحديدا، أي القسم المتصل بالمعنى، هو الذي لفت إليه انتباه الجمهور أكثر من غيره. فإذا كانت تقنيات النحو التحويلي تمكننا من الإمساك بالمعنى، فإننا نستطيع أن نطمئن إلى إمكان القبض على طبيعة الفكر البشري. وإذا كانت البنية العميقة بنية فطرية ـ بنية يخولها النحو الكلي ـ فإن النظرية اللغوية تسمح لنا على نحو غير مسبوق بالإمساك بجوهر الطبيعة البشرية. فلا عجب إذن أن ينكب الناس طرا على تعلم اللسانيات ويسارعوا إلى الإفادة منها.

إن الذي حصل بعد هذا هو تشكل فريق من الباحثين التوليديين، في مقدمهم جورج لاكوف، وجون روبيرت روس، وجيمس ماكولي، وبوول بوسطال، أخذ على عاتقه الدفاع باستماتة وعنفوان منقطعي النظير عن الفكرة التي تقضي بأن البنية العميقة هي التي ينبغي أن تُرَمِّز بكيفية مباشرة المعنى. وأسفر القول بهذه الفكرة عن ظهور نظرية الدلالة التوليدية (راجع: لاكوف 1971؛ ماكولي 1968؛ بوسطال 1970) التي ضاعفت من تجريد البنية العميقة وتعقيدها إلى حد جعل بعضهم يقترح ثمان بنيات عميقة للجملة الشهيرة (Floyd broke the glass)، كل بنية من هذه البنيات تطابق سمة من سمات الجملة الدلالية. وأغلب الناس الذين رحبوا بما ورد في كتاب المظاهر عن المعنى، أحبوا الدلالة التوليدية وشايعوا أصحابها وانتصروا لهم. ولهذا السبب انتشرت نظرية الدلالة التوليدية بين الناس كالنار في الهشيم. بيد أن تشومسكي وقف موقف المعارض، وشن رفقة من كانوا آنئذ تلامذته (ومن بينهم كاتب هذه السطور) حملة شعواء على نظرية الدلالة التوليدية. وعندما وضعت الحروب اللغوية أوزارها في سنة 1973، كان تشومسكي هو المنتصر. لكن انتصاره كان مصحوبا بتعديل في الموقف: إذ لم يعد يدافع عن أن البنية العميقة تمثل المستوى الوحيد الذي يحدد المعنى (راجع تشومسكي 1972). وبعد أن ربح تشومسكي المعركة، لم يواصل الاهتمام بالمعنى بل أقلع عن ذلك، وانصرف إلى البحث عن القيود التقنية الموضوعة على تحويلات النقل (راجع تشومسكي 1973؛ 1977).

لقد كان لهذا الانصراف عن الاهتمام بالمعنى أثر سلبي في الصورة التي كونها الناس عن النحو التوليدي. فتشومسكي وعد الناس بإمكان القبض على المعنى، ثم تراجع وأخلف وعده. لقد أدى هذا بكثير من الباحثين اللغويين وغير اللغويين إلى الانصراف عن النحو التوليدي بإحساس مشوب بالمرارة. ولم يتنكروا للبنية العميقة فحسب، بل للنزعتين الذهنية والفطرية أيضا، وأحيانا طال الإنكار حتى خاصية التأليفية ذاتها. وحينما عاد تشومسكي في نهاية السبعينات إلى الحديث مجددا عن المعنى، في نطاق الصورة المنطقية (راجع تشومسكي 1981)، كان الوقت قد فات. ومنذ هذه الفترة لم يعد الجهاز التقني المجرد للنحو التوليدي يثير فضول الناس ما عدا فئة قليلة جدا من العلماء العرفانيين، وفئات قليلة من جمهور المثقفين.

.....

أحس أن أغلب اللغويين عادوا إلى الاهتمامات التقليدية التي كانت طاغية في حقل اللسانيات: وصف اللغات بأقل ما يمكن من المتاع النظري والعرفاني....

الارتكاز على التركيب خطأ علمي

نكتفي من التاريخ بهذا القدر، ونعود إلى ما أعتقد أنه الخطأ الذي يقع في صلب النحو التوليدي. أقصد الخطأ الذي يقف وراء ابتعاد النظرية اللغوية عن العلوم العرفانية واغترابها. فقد برهن تشومسكي على أن اللغة تتطلب نسقا توليديا يسمح بإنتاج ما لا حصر له من الجمل المتنوعة. لكنه دافع دون دليل في كتاب المظاهر عن أن خاصية التوليدية هذه توجد في صلب المكون التركيبي للنحو ـ بناء المركبات من الكلمات ـ وأن الصوتيات (نظام أصوات الكلام) والدلاليات (نظام المعنى) هما مكونان تأويليان فقط؛ أي أن خصائصهما التأليفية لا تعد أصلية، بل مشتقة بكيفية صارمة من تأليفية التركيب.

لقد كانت هذه الدعوى سائغة في سنة 1965. فالهدف في تلكم الأيام كان قائما في الاستدلال على أن اللغة تنطوي على شيء مخصوص ميزته أنه توليدي. وقد مكن التركيب التوليدي من اكتشاف أدوات قوية جديدة قادت إلى تحقيق نتائج مذهلة. ففي ذلك الوقت كان يبدو كما لو أن الصوتيات تقبل المعالجة بوصفها مستوى فرعيا أو أدنى مشتقا من التركيب: التركيب يعرض الكلمات وفق ترتيبها الصحيح، وتتكلف الصوتيات بما يسمح بنطقها على نحو متناغم مع محيطها المحلي. أما الدلالة، فقد كانت المعرفة بها قريبة من الصفر. الأشياء البسيطة التي كانت في المتناول آنذاك هي الاقتراحات التي تضمنها كاتز وفودور (1963)، وبعض الأعمال الواعدة الأخرى التي كان يقوم بها أشخاص مثل بيرويتش (1967؛ 1969) و وينريتش (1966). وهكذا لم يكن الوضع الذي كانت عليه النظرية يعرض أسبابا تسمح بالطعن أو التشكيك في أن التعقيد التأليفي يصدر كله عن التركيب.

إن النقلات اللاحقة التي حدثت في اللسانيات التوليدية الرسمية أحدثت فروقا هامة في المنظور. لكن هناك شيئا واحدا لم يطله التغيير، وظل على حاله كما كان أول مرة، وهو الزعم بأن التركيب يمثل المصدر الوحيد الذي تفيض عنه التأليفية. نجد هذا الزعم في نموذج المظاهر وفي نموذج "المبادئ والوسائط" (أو ما يسمى أيضا بنظرية الربط العاملي)، ونجده أيضا في البرنامج الأدنى.

إن هذه النقلات النظرية أثرت في المكونات التركيبية وفي علاقتها بالصوت والمعنى. لكن ما ظل على حاله فيها كلها هو (أ) أن هناك مرحلة أولى في الاشتقاق يقع فيها التأليف بين الكلمات أو المورفيمات لبناء بنيات تركيبية؛ (ب) وأن هذه البنيات تخضع لعدد من العمليات التركيبية المتنوعة، (ج) وأن بعض هذه البنيات يجري إرساله إلى الواجهة الصوتية ليتحول إلى متواليات منطوقة، وبعضها الآخر يرسل إلى الواجهة الدلالية لكي يتحول إلى متواليات مفهومة. فالتركيب باختصار شديد ظل مصدر النظام اللغوي في تفاصيله كلها.

وأعتقد أن هذا الزعم القاضي بـ مركزية التركيب (syntactocentrism)، الذي لم يقم عليه دليل كما أشرت إلى ذلك أعلاه، هو الذي مثل الخطأ الأكبر في مجال اللسانيات. المقاربة الصحيحة تقضي بأن ننظر إلى البنية اللغوية من حيث إنها ناتجة عن عدد من القدرات التوليدية المتوازية والمتداخلة في الآن نفسه، قدرات صوتية وتركيبية ودلالية. وكما سيتضح لنا ذلك، فإن عناصر هذه "الهندسة المتوازية" كانت دائما موجودة على نحو ضمني في الممارسة اللسانية منذ سنوات. الجديد في هذا العمل هو الخروج بهذه الممارسات إلى العلن، والدفاع عن أنها تمثل المبدأ المؤسس للنظام اللغوي، واستثمار النتائج بعيدة المدى التي تترتب عليها.



تشومسكي

05‏/05‏/2007

العودة إلى الواقعية - هنري كيسنجر

العودة إلى الواقعية*

هنري كيسنجر



نشرتُ هذا المقال في جريدة الصحيفة المغربية. العدد 154، السبت/الأحد 5- 6 ماي 2007. ص 6- 7

المصدر:

*Kissinger, H. (2007) « Back to Realism » in New Perspective Quarterly. Winter, Vol. 24, issue 1, pp 43- 45.

النصيحة بشأن العراق

ينبغي لكل سياسة خارجية أن تنبني على ثلاثة مكونات. يتعين عليك في المقام الأول أن تبدأ بتحليل يتناول الوضع كما هو؛ أي عليك ألا تعمدَ إلى خلق وضع مثالي لا وجود له إلا في ذهنك. وينبغي في المقام الثاني أن يكون للسياسة الخارجية هدف استراتيجي عندك؛ أي عليك أن تُحكِم خططك، وتحدد ما يرمي إليه مخططك. وعليك في المقام الثالث والأخير أن تحدد الإجراءات التي تحتاج إليها حتى تنتقل مما أنت فيه، إلى ما عقدت العزم على الوصول إليه.

لا يمكنك أن تقف على فراغ وتعلن في الناس أن الوضع كان سيكون أفضل مما هو عليه لو لم نكن الآن في العراق. فأنت مقيد إلى حد معين بالمحيط الموضوعي من حولك. يمكن للناس، بالطبع، أن يختلفوا في تقويمهم للمحيط الموضوعي. إذ يمكن للصحفيين والأساتذة أن يركزوا على النتيجة الجيدة ويُطْنِبوا. أما صانعو السياسات فَهُم مسئولون أيضا عن النتيجة السيئة. لهذا السبب توجد بعض التجارب التي يجب على صانعي السياسات أن لا يجربوها البتة، ليس لأن الهدف منها غير مرغوب فيه، بل لأن انعكاسات الفشل التي قد تترتب على تجريبها يمكن أن تكون مأساوية إلى أبعد حد.

هذا في نظري هو الإطار الذي ينبغي أن ننظر فيه إلى السياسة (policy). إننا باختصار نحتاج إلى اعتماد مقاربة مزدوجة. فنحن في وضع صعب للغاية؛ لأننا نحارب تمردا يجري في قلب حرب أهلية. ما من شك في أن أخطاءً كثيرة قد ارتُكبت؛ لكن التركيز عليها الآن لن يفيدنا في شيء. لهذا ينبغي لنا أن نتجنب إمكان ظهورِ فريق في العراق يشبه طالبان، أو ظهورِ نظامٍ أصولي جهادي، حتى لو لم يكن شبيها بنظام طالبان، ولا بنظام إيران أيضا. ويتعين علينا أيضا أن نتجنب وضعا نكون فيه وحدنا الجهة التي تطفئ النار في البلد، ولا تنتبه إلى مصدر الحريق. فهذا ـ لعمري ـ عمل عسير وقاس للغاية.

يتعين علينا أن نضع مسألة العراق في سياق دولي. وكنتُ من جهتي قد دعوتُ، منذ سنتين خلتا، إلى تأسيس مجموعة اتصال دولية. ومازلت إلى يوم الناس هذا أعتقد أن هذه المجموعة تمثل عنصرا من عناصر المقاربة التي ستفرض على الناس أن يحددوا أهدافهم وينظروا فيما إذا كان بالإمكان أن يتوافقوا عليها ويتوحدوا لتحقيقها. وعلى هذه المجموعة، إذا شُكِّلت يوما، أن تتضمن سوريا وإيران. بل يجب علينا أن ندعو للانضمام إليها بلدانا كالهند وباكستان، وروسيا أيضا. وهذا في حد ذاته أمر سيخلق إطارا يسمح إلى حد معين بتدويل المسألة العراقية. لن يَحُلَّ التدويلُ المشكلَ، لكنه سيساعدنا حتما في حصره وتحديده.

عن الديمقراطية والاستقرار

لقد وصلنا إلى نقطة يتعين على الإدارة أن تتنازل فيها عن بعض طموحاتها بشأن العراق، وأن تواجه الاختيار بين الديمقراطية والاستقرار. من الملائم لأمريكا أن تكون بجانب الديمقراطية. إذ لا يمكن لأمريكا أن تذهب إلى منطقة معينة وتقول لأهلها إن كل ما نريده هو الاستقرار. لكن الحقبة الزمنية التي يستغرقها تحقيق الأهداف، والدرجة التي يمكن لأمريكا أن تتدخل مباشرة في كل مرحلةٍ مرحلةٍ منها، يجب أن تُعَدَّلا ويعاد ضبطهما حتى تتلاءما مع التجربة وتتوافقا مع الظروف.

فالعراق لا يمثل أمة بالمعنى التاريخي للكلمة. العراق شُكِّلَ من ثلاث مناطق كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، ولم يسبق له أن حُكم قط ككيان موحد. لهذا السبب تمثل الأمة العراقية ظاهرة مختلفة عن الأمم التي عهدناها في تجربتنا. والنتيجة التي يجب أن نستخلصها من هذا هي أن المسلسل الانتخابي في بلد كالعراق ـ حيث التجربة الغالبة للناس فيه هي العنف الطائفي، وحيث كل الناس باستثناء السنة يرون في الدولة أداة للقمع ـ محكوم عليه بأن ينتج أحزابا طائفية تواصل إعادة إنتاج الصراعات التي تعودت عليها تاريخيا. فمن الخطأ الفادح إذن أن تَظنَّ أنك قد تحصل على الشرعية ابتداء من خلال المسلسل الانتخابي. ومهما تكن نوايانا حسنة، فإن التركيز على الانتخابات، كما يمكننا أن نسترجع ذلك الآن، لم يعمل إلا على تأجيج الصراع الطائفي وإذكائه. وليس من العدل في شيء مطالبة حكومة انبثقت من حمأة هذا المسلسل بالسلوك على نهج الحكومات الوطنية التي عهدناها. فتطور الديمقراطية، حتى في الغرب، غالبا ما عانى وتَعثَّر في المرحلة التي شهدت ولادة الأمة. غَضُّ الطرف عن هذه المسألة من شأنه أن يشوه أهدافنا النبيلة ويجعلها على النحو الذي نراه الآن.

العراق يختلف عن ألمانيا واليابان

احتلال ألمانيا واحتلال اليابان ليسا نموذجين كما ظَنَّ بعض الناس. ففي البلدين معا بقيت الإدارة هي هي، ولم يشمل التغيير إلا نسبة 10 بالمائة من قيادتها، بل لم يصل التغيير في اليابان حتى إلى هذه النسبة. ولم يكن هناك مشكل أمني، لا في ألمانيا ولا في اليابان. لهذا السبب لا يمكن الاستناد إلى ما جرى في ألمانيا واليابان وجَعْله نموذجا مثاليا للوضع في العراق.

وينبغي أن أوضح هاهنا أنني ساندتُ غزو العراق. وكنت في الأصل مؤازرا للإدارة. وهذه الانتقادات التي أسجلها ليست إلا انتقادات صديقٍ للإدارة يُحسن الظن بالرئيس. بعض الناس يحاولون اليوم أن يتهموني بأنني كنت صامتا منذ البدء. إنني كنت صديقا للإدارة كما أسلفت. أختلف معها في بعض القرارات التاكتيكية؛ لكنني أتفق تماما مع الأهداف التي سطرتها.

النتيجة الختامية

أظن أن النتيجة هي السعي إلى بلوغ دولة كونفيدرالية ذات سلطة محدودة جدا، وتتمتع باستقلال ذاتي جوهري. هذه فيما أعتقد هي النتيجة المحتملة. والسبب الذي يدفعني دفعا إلى تأييد عقد مؤتمر دولي هو أن مصلحة عدد من البلدان، لدواع قد تختلف، تقضي بتجنب الاضطراب الذي يمكن أن ينتشر بسهولة فائقة ويسري سريان النار في الهشيم. فإيران لا ترغب في وجود صيغة تشبه طالبان في العراق. أما تركيا فتخشى من جهتها قيام دولة كردية مستقلة. لا أحد يريد بروز دول مستقلة استقلالا تاما. والسؤال الذي يثار هنا هو كيف يمكننا أن نُدير ونُدبِّر هذا كله بإحكام؟ الأمر لا يتصل هاهنا بتمرين في علم السياسة. إنه بالأحرى أمر يتطلب معالجة تعكس بعضا من توازن القوى وبعضا آخر من توازن المصالح. النتيجة الراجحة في اعتقادي هي قيام كونفيدرالية ضعيفة، تضم كيانات ذات استقلال ذاتي واسع.

فالوضع الحالي في شوارع بغداد لا يمكن أن يستمر. فكرة جون ماكين القاضية بتوسيع نشر وحدات الجيش الأمريكي فكرة بغيضة، لكنها ليست خاطئة تماما. يتعين علينا أن نفعل أشياء كثيرة. يتعين علينا أن نتجنب الوضع الذي يُحدث الرعب في الدول المعتدلة، كما يتعين علينا أن نحدث توازنا. لا نستطيع أن نتجنب هذا الأمر. لا يُمكنكَ أن تقيم توازنا في قلب العراق ما لم يكن لديك توازن إقليمي.

هل يستحق بوش التأنيب؟

لقد سبق لي أن عرضت أفكاري بتفصيل على الرئيس. بالطبع، طالما أننا عقدنا العزم على الانتصار، وطالما أن الرئيس قال إننا انتصرنا، فليس هناك سبب يحول دون مواصلة تنفيذ الاستراتيجية. وأنا على يقين من أن الرئيس سيفعل ما يعود بالخير على الأمة. لَسْتَ في حاجة إلى أن تكون عالما متخصصا في القنابل لكي تتوصل إلى أن ما نراه بأعيننا الآن لا يعدو أن يكون مظهرا ناقصا للانتصار. والظن بأنك تستطيع أن تُدرب القوات العراقية بسرعة وعلى نحو كاف، ليس من الناحية التقنية فحسب، بل لتصبح هذه القوات جيشا وطنيا يتخطى كل المشاكل، ظنُُّ جيد. لكننا لن نستطيع تحقيقه في المدى الزمني الذي حددناه.

العودة إلى الواقعية

الأهداف التي عرضها الرئيس في خطابه الافتتاحي للولاية الثانية أهداف صحيحة. ويمكن لأمريكا أن تفخر بالأهداف الوطنية كما وردت على لسان الرئيس. لكن هل يمكن لتلك الأهداف أن تُنجَز في حدود ولاية رئاسية واحدة؟ جوابي عن السؤال هو النفي. يمكن للتوجه أن يُرسَم؛ لكن التنفيذ يتطلب فترة تاريخية أطول.

لم يسبق لي أن وافقت على هذا التمييز بين الواقعية والمثالية. فكل سياسة خارجية واقعية يجب أن تتضمن طَيَّها مكونا مثاليا. فأمريكا لا تستطيع أن تتبع سياسة خالصة مبنية حصرا على توازن القوة. فإذا عدتَ ودرستَ الوجوه التاريخية مثل بيسمارك، الذي يعد نموذجا كلاسيكيا للسياسي الذي استند إلى توازن القوة، ستلاحظ أنه أقام استراتيجيته تلك على مبدأ التفرد البروسي (Prussian uniqueness). وهكذا ستلاحظ أن هناك دائما عنصرا متصلا بالإيمان. والعنصر الذي يؤمن به الأمريكي هو أن مُثُلَنا الديمقراطية مُثُل ذات صلاحية كونية. هذا ركن من أركان الإيمان، وليس واقعا تاريخيا. فهو ليس ضروريا إذا عُدتَ إلى التاريخ البشري وأمعنت النظر مليا فيه. لكنه ركن إيماني لصيق بهويتنا لا ينفك عنها. لذلك تجده حاضرا في سياسة كل رؤسائنا العظام. بيد أنك إذا كنت تصدر عن هذا المكون الإيماني، فإنك بوصفك رجلَ دولة يتعين عليك أن تترجمه إلى الواقع على مراحل زمنية، وليس دفعة واحدة.

كنتُ قد كتبتُ مقالا مرة وقلتُ إن الفرق هنا هو الآتي: هل سَتَتَّبِعُ سياسةً خارجية بوصفك نبيا أم ستتبعها بوصفك رجل دولة؟ من زاوية النبي ستقول: المثال ذو صلاحية كونية، إذن ما علي إلا أن أنفذه فورا. أما من زاوية رجل الدولة، فإنك عندما تقول عن فكرة ما إنها ذات صلاحية، فإنك ستمنح الفكرة فرصتها لكي تنضج في الحدود التي تفرضها الظروف القائمة. المشكل الذي يقع لمن يسلك سلوك الأنبياء في هذه المسائل هو أن سلوكه يمكن أن يحدث تفكيكا وكوارث فظيعة. أما المشكل الذي قد يعترض رجل الدولة فهو أنه بسلوكه يمكن أن يحدث جمودا في الأوضاع. الموازنة بين الطريقتين، تعد في اعتقادي الحيلةَ البارعةَ التي تمكننا من النجاح في مسعانا.