30‏/06‏/2006

مفهوم الرأسمال الاجتماعي

الرأسمال الاجتماعي

يدور مفهوم الرأسمال الاجتماعي على ثلاثة مفاهيم رئيسة: الثقة، ومعايير التجاوب (norms of reciprocity)، والشبكات. من هذه الناحية يفهم الرأسمال الاجتماعي بوصفه ظاهرة بنيوية (الشبكات الاجتماعية)، كما يفهم أيضا بوصفه ظاهرة ثقافية ترتبط بالمواقف (التجاوب والثقة).

يلعب الرأسمال الاجتماعي دورا كبيرا في تشجيع المواطنين على أن يصبحوا مستهلكين بارعين للسياسة، ومؤثرين وازنين في مسيرها. فانخراطهم المكثف في الجمعيات والهيئات، والشبكات عموما، في أجواء من الثقة والتجاوب، يقود حتما إلى الرفع من مستوى الوعي السياسي لديهم، بفعل الفرص المواتية التي يتيحها لهم هذا الانخراط لكي يناقشوا القضايا السياسية والاجتماعية المختلفة التي تعنيهم في فضاءات الظهور المفتوحة على الملأ. إن الرأسمال الاجتماعي يشيع بين الأفراد الالتزام بالخير العمومي ويشجع على الإعلاء من شأنه، كما يساعد على تجديد التضامنات وعقلنتها وتحديثها، ويساهم بكيفية فعالة في شيوع قيم الوفاق وثقافة عقد التسويات. إنه يلعب دورا رئيسا في نقل أذواق الجماعة من استعذاب تحقيق المصالح الخاصة (مثل كيف أغدو غنيا؟)، إلى استعذاب تحقيق مصالح الجماعة (مثل كيف يمكن الرفع من مستوى الجوار؟). فبعث رغبات تتصل بالخير العمومي لدى المواطنين، أو تطوير "الأنا" في إطار " النحن" كما يقول بوتنم (1995: 67)، يبين الكيفية التي يشجع بها الرأسمال الاجتماعي المواطنين مثلا على رفع مطالب تخص الجماعة وليس الأفراد. وللأسباب نفسها أيضا يمكن للجماعة، إذا كان مخزون رأسمالها الاجتماعي وافرا، أن تتخلى عن مطالب المدى القصير، ذات البعد الاستهلاكي الزائل، وتشايع المشاريع وأنواع الاستثمار التي تعود في المدى البعيد بالخير العميم على كل أعضائها وترفع من مستوى عيشهم.

Putnam Robert D. (1995) “ Bowling Alone: America’s Declining Social Capital” Journal of Democracy 6 (January). p.67

28‏/06‏/2006

مفهوم السلطة بين المجتمعين السياسي والمدني

مفهوم السلطة بين المجتمعين السياسي والمدني

يروم هذا المقال، الذي يمثل في الأصل قسما من مقال طويل كتبته ونشرته منذ سنوات، رفع بعض الالتباسات التي تحيط ببعض المفاهيم المتداولة بين الناس الذين يهتمون بقضايا الشأن العام مثل: السلطة، والمجتمع المدني، والمجتمع السياسي، والفضاء العمومي، والإرادة العامة، ودور المثقفين...الخ. لا يدعي المقال بالطبع الحسم في الالتباس الذي يكتنف هذه المفاهيم. هذا أمر لا يمكن أن يدعيه الإنسان، أيا كان، إلا إذا كان مجنونا فقد عقله. المقصود برفع الالتباس هاهنا هو اقتراح إطار تحليلي يضفي بعض الانسجام على هذه المفاهيم مجتمعة، بحيث تصبح دالة وذات معنى في هذا الإطار وليس في غيره. وهذا يعني أن بإمكان المرء أن يقترح أطرا أخرى تضفي على هذه المفاهيم نفسها ضروبا مختلفة من الانسجام. الأجزاء الرئيسة التي تشد إليها الإطار الذي يصدر عنه المقال هي أجزاء مستوحاة من التصور الذي طوره الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هابرماس؛ وبالمقال أجزاء أخرى تعود إلى مفكرين آخرين أبرزهم عبد الله العروي وحنا آرنت، وريتشارد رورتي. غير أننا لم نعمد في المقال إلى استعمال الاصطلاحات نفسها التي نعثر عليها عند هؤلاء المفكرين إلا نادرا. فهذا أمر يتطلب منا تذييل اصطلاحاتهم كلها بشروح وحواشي توضحها. ومن شأن هذا أن يخرج بنا تماما عن الغاية التي رسمناها لهذه المدونة. لهذا السبب عمدنا إلى استعمال اصطلاحات في المتناول، سهلة المأخذ في الغالب.

1- السلطة السياسية والسلطة المدنية

نستطيع التمييز في السلطة بين مستويين اثنين: مستوى أول تجسده الدولة بمؤسساتها المختلفة، وهو مستوى يعبر عنه الحاكمون أو الحكومة بخطبها وأفعالها وقراراتها. ومستوى ثان يجسده المجتمع المدني من خلال جمعياته ومنظماته ونواديه، ويعبر عنه التواصل العمومي الذي تعكسه هذه الهيآت والجمعيات والمنظمات والنوادي في مبادراتها وأنشطتها المدنية المختلفة، وفي تدخلاتها التي تنشطها وسائط الإعلام المتباينة وتعممها.

يمكن أن نصطلح مؤقتا على هذين المستويين في السلطة بالسلطة السياسية والسلطة المدنية. ويلوح أن وضع الأحزاب ضمن هذا التصور للسلطة وضع ملتبس. لكننا نقول، اختصارا، إن الأحزاب بحكم الغايات التي ترمي إلى تحقيقها تندرج ضمن مستوى السلطة السياسية. إنها تندرج ضمن هذا المستوى بصيغتين: صيغة الفعل عندما تكون في الحكومة، وصيغة القوة عندما تكون في المعارضة. فهي لا تعارض في نهاية التحليل إلا من أجل الوصول إلى الحكومة وتسلُّم السلطة. وعلى الرغم من أن الأحزاب المعارضة تلتقي في أنشطتها مع أنشطة منظمات المجتمع المدني، فإنها لا تلتقي معها في الغايات. غايات الأولى تتجه إلى تحصيل السلطة السياسية كما ذكرنا سالفا؛ أما غايات الثانية فتنحصر في مراقبة الحكومة، أيا كانت الأحزاب المكونة لها، والتأثير فيها وتوجيهها جهة المصلحة العامة، والبقاء حيث هي في المعترك المدني. بعبارة أوضح يمكن أن نميز بين الأحزاب والمنظمات المدنية بقولنا إن الأحزاب جماعات ذات مصالح لها صلة وثقى بها من حيث إنها جماعات تروم الوصول إلى السلطة (وهذا لا ينقص من قيمتها، لأن الأحزاب لا تنظر إلى مصالحها إلا بوصفها تحقق المصلحة العامة أو تتناغم معها)، أما المنظمات المدنية فمنظمات تطوعية خالصة لها مصلحة واحدة هي المصلحة العامة (هذا أيضا لا يعلي من شأن منظمات المجتمع المدني، لأنها يمكن أن تخطئ الطريق إلى المصلحة العامة، إما عن قصد وإما عن سهو أو خطأ).

من هنا يكتسي مفهوم المجتمع المدني أهميته بوصفه مرصدا للمراقبة ومرآة يقرأ فيها المجتمع السياسي نفسه. ومن هنا نتبين، في مستوى أكثر تعميما، أن المجتمع السياسي، بما أفرزه من مؤسسات، لم يتشكل تاريخيا إلا لكي يحفظ الحيز الأكثر اتساعا لما ليس سياسيا، أي للمجتمع المدني. وحتى تتضح أهمية المجتمع المدني ويشتد بيانها، ينبغي لنا أن نعرج على مفهوم آخر شديد الصلة به، هو الفضاء العمومي. فالمجتمع المدني لا يكتسي معناه النقدي إلا إذا تهيكل ضمن الفضاء العمومي، وهذا ما سنحاول بيانه الآن بشيء من التفصيل خفيف.

2-الفضاء العمومي وسلطة الرأي

نقصد بالفضاء العمومي ذلكم الحيز الوسيط الذي ينشأ بين المجتمع المدني والدولة. إنه، بعبارة أوضح، المكان الذي يجتمع فيه جمهور المواطنين لصوغ رأي عمومي. ويكون هذا المكان مفتوحا من الناحية المبدئية في وجه كل المواطنين المعترف لهم بالحق في التجمع والتعبير الحر عن آرائهم. وصفة العمومية المنسوبة إلى هذا الفضاء ليست من جنس العمومية التي تُنسب إلى الدولة أو المجتمع السياسي. العمومية المنسوبة إلى هذا الفضاء تُعد بالأحرى وسيلة لنقد ممارسة الدولة للسلطة ومراقبتها.

حقا، إن الفضاء العمومي يُعد صورة جديدة من صور إضفاء المشروعية على السلطة السياسية ( أي على الفعل السياسي (العمومي) للدولة )، لكنه يعد من جهة أخرى وسيلة ناجعة، في نطاق الديمقراطية، لتحويل طبيعة هذه السلطة؛ أي تحويلها في أفق عقلنتها وتوجيهها والتأثير فيها لتتلاءم أكثر فأكثر مع طموحات المواطنين وتطلعاتهم ومطالبهم. والعُمْلة أو الوسيط الذي يحكم المعاملات في الفضاء العمومي هو الفعل التواصلي Communicative action) ). (يرى هابرماس إن هناك ثلاث عملات أو ثلاثة وسائط: الدولة أو المجتمع السياسي يستعمل وسيط السلطة، النسق الاقتصادي يستعمل وسيط المال، والمجتمع المدني المهيكل في الفضاء العمومي يستعمل وسيط الفعل التواصلي). لهذا لا يوجد قيد أو شرط يمكن أن يمنع المواطن من ولوج الفضاء العمومي والمساهمة فيه. إذ إن القدرة على التواصل بواسطة اللغة تكون كافية وحدها لولوج هذا الفضاء والضرب بسهم فيه. بيد أن الفعل (التواصلي) في نطاق الفضاء العمومي لا يكتسي مشروعيته من حدود المصالح الخاصة أو الفئوية للأفراد أو الجماعات، بل يكتسيها من حدود المصالح القابلة للتعميم والتي تتعالى عن المصالح الخاصة والجزئية للأفراد والجماعات المتنافسة. لذلك عدّه بعض المفكرين (أبرزهم هابرماس) المكان الذي تتكون فيه الإرادة العامة على نحو عقلاني. وعندما نستعمل مفهوم الفضاء العمومي بهذا المعنى في التحليل، لا يمكننا الركون مثلا إلى التعريف الذي طوره روسو Rousseau) ) عن الإرادة العامة، أي التصور الذي يسلم بأنها موجودة سلفا، قبل كل تكوين للإرادة عن طريق النقاش العمومي. بعبارة أوضح، إن مصدر المشروعية، كما استدل على ذلك هابرماس في عدد من كتبه، لا يوجد في إرادة الأفراد الموجودة والمحددة سلفا، بل في مسلسل تكوُّنها، أي في المشاورة ذاتها. فالقرار المشروع إذن، ليس القرار الذي يمثل إرادة الكل، بل القرار الذي يكون نتيجة لمشاورة الكل.

حسب هذا المنظور إذن، يصبح الفضاء العمومي شرطا رئيسا لتكوين رأي جمهور المواطنين وإرادتهم. وعندما نتحدث عن رأي المواطنين أو ما يسمى بالرأي العمومي، لا نقصد به مجموعة من الآراء الفردية التي تنشأ هكذا بكيفية معزولة وتصاغ في سياق خصوصي. بعبارة أوضح، ينبغي أن لا نخلط بين الرأي العمومي وبين النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها بوسائل السبر والاستطلاع السطحية. الاستطلاع السياسي للرأي لا يكون عاكسا الرأي العمومي حقيقة إلا إذا تحقق في فضاء عمومي مُعَبَّأ، وكان مسبوقا سلفا بتكوين للرأي متصل بالأمور المعروضة. وهنا تحديدا يظهر دور وسائط الإعلام بمختلِف أشكالها، ودور المثقفين والشخصيات البارزة والخبراء الملتزمين (نقصد بالخبراء الملتزمين هنا مجموع الخبراء الذين تمردوا على فئة الخبراء التقنوقراط، واعتنقوا قيم التضامن وكرسوا قسطا من وقتهم للتدخل في قضايا الشأن العام، وتبسيط الأمور المعقدة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها من الميادين المتخصصة، والمستغلقة أحيانا، وشرحها قصد تنوير المواطنين والرفع من مستوى الرأي العمومي في المجتمع بصفة عامة). فهؤلاء جميعا يساهمون بأشكال متفاوتة وبطرائق متباينة وبأقساط مختلفة في تعبئة المواطنين وتنوير الرأي عندهم بخصوص المسائل المعروضة للنقاش.

ويكتسي الرأي العمومي أهميته من كونه طاقة للتأثير السياسي. إنه رأي يفرزه المجتمع المدني في الفضاء العمومي، ويصبح قابلا للاستثمار في التأثير في المجال السياسي وفي السلوك الانتخابي للمواطنين. وهنا تحديدا تكمن سلطة المجتمع المدني. وإذا كان هذا التأثير لا يتحول إلى سلطة سياسية ( أي لا يتحول من سلطة مدنية إلى سلطة سياسية ) إلا بمقدار ما يؤثر في قناعات الأعضاء ذوي النفوذ في النسق السياسي ( الحكومة )، فإن الأعضاء النافذين في النسق السياسي يعرفون بدورهم أن سلطتهم (السياسية) لا تكون مشروعة إلا إذا كانت تُمثِّل السلطة التي تتولد بكيفية تواصلية في الفضاء العمومي (السلطة المدنية). إنهم، بعبارة أوضح، يُلْفون أنفسهم مضطرين إلى الإنصات مليا إلى المطالب التي يرفعها المجتمع المدني في الفضاء العمومي والاستجابة لها. إذ لا يمكن للسلطة السياسية، التي تخول لها أدبيات دولة القانون الديمقراطي حق اتخاذ القرارات الملزمة للجماعة، أن تكون سلطة مشروعة إلا إذا كانت مسنودة ومؤيدة بسلطة المجتمع المدني المؤسسة على التواصل. بعبارة أخرى، إن المجتمع ينبغي أن يرى في القرارات الملزمة التي تصدر عن السلطة السياسية تجسيدا لحقوقه المنصوص عليها في الدستور وإحقاقا لها، وليس إخلالا بها أو هتكا لها.

وفي هذا الإطار يكون الفضاء العمومي ميدانا تعبره السلطتان معا وتتقاطعان فيه: سلطة سياسية نسقية نازلة من أعلى، وسلطة مدنية منبعثة بكيفية تلقائية من النسيج التواصلي الذي يحبكه المواطنون في الفضاء العمومي. وهذا العبور والتقاطع يُضْفِيان على الفضاء العمومي طابعي الحيوية والتجدد. لكنهما يسِمانه بطابعي التوتر والصراع أيضا. سنحاول أن نبرز في الفقرة الموالية بعض مظاهر هذا التوتر والصراع.

3-الفضاء العمومي ومسألة الهيمنة

إن سلطة الدولة، من حيث إنها تنظيم، تعد نسقا. وبما أنها نسق، فإنها تملك كل خصائص النسق. فهي كيان يتصف بالكلية، ويتمتع بالضبط الذاتي، ولا يمكن أن يتحول ويخرج عن طوره ويصبح شيئا آخر مخالفا لنفسه. (هيغل كان يقول إن الدولة دائما تختلف عن التصور الذي يكونه الفرد عنها، ويقصد بالفرد طبعا الفرد الذي يعيش في المجتمع المدني). منطق هذه السلطة الداخلي تلخصه النجاعة والفعالية. أما العقلانية التي يندرج ضمنها هذا المنطق فعقلانية أداتية خالصة. إنها باختصار سلطة تحدد نفسها عن طريق القانون بوصفها سلطة سياسية مؤسسية تنـزع إلى الأمر والفرض والقيد والهيمنة. وهذه السمات التي تتصف بها هذه السلطة لا تزول حتى في الأنظمة الديمقراطية العريقة، حيث تستند مشروعية السلطات كلها إلى السيادة الشعبية المعبر عنها بالاقتراع العام.

أما السلطة المدنية فلا تعد نسقا. إنها بالأحرى سلطة مائعة وسيالة، تنتج بكيفية تلقائية عن التواصل الحر الذي ينسجه المواطنون فيما بينهم بخصوص القضايا والمشاكل التي تتصل بالشأن العام. منطق هذه السلطة الداخلي لا يندرج تحت مقولتي النجاعة والفعالية، بل تحت مفهوم عام هو التفاهم المتبصر حول أحسن السبل المُفضية إلى العيش الكريم بالمعية في المجتمع. عقلانيتها ليست أداتية، بل تواصلية شديدة الصلة بالعقل العملي البعيد كل البعد عن العقل النظري-التقني الذي تستلهمه السلطة السياسية. المهد الذي تتشكل فيه هذه السلطة هو الفضاء العمومي، وهو فضاء غير مؤسسي على عكس الفضاء العمـومي النسقي ( كالبرلمان واللجان المتفرعة عنه…) الذي تعمل فيه السلطة السياسية. إنه فضاء غير مؤسسي لأن الفاعلين فيه لا يعملون تحت ضغط استعجال اتخاذ القرار كالفاعلين السياسيين في الفضاء المؤسسي للدولة. الوقت في الفضاء العمومي هو الوقت الذي تستغرقه المشاورات والمناقشات، لا يخضع للحساب أو للاختصار اللهم إلا إذا أراد هذا الفضاء أن يقوض ذاته وينقلب على نفسه.

إن الصعوبة هنا تكمن في تحمل هذا التوتر البنيوي الحتمي الذي ينشأ بين المظهر النسقي للسلطة، اللازم لاشتغالها الفعلي ( والذي يرمي بطبيعته ذاتها، السلطة المدنية إلى الأرباض، لأنه يرى فيها عاملا مشوشا على انضباطه الذاتي )، وبين مظهرها المدني الذي يمثل من جهته المصدر الوحيد للديمقراطية والمشروعية، والذي ينبغي له، وهذا داخل في طبيعته، أن يمارس حق التدخل في النسق السياسي. (الإرادة العامة، بالمناسبة، لا تهدأ أو تستريح بمجرد وضع المواطنين الأوراق في صناديق الاقتراع). وكلما مال التوتر بين المظهرين أو السلطتين في دولة ما إلى اللين استطعنا أن نتحدث عن استقرار سياسي، وكلما احتد التوتر بينهما واشتد، صح الحديث عن أزمة سياسية في الدولة. والحقيقة الأساس التي لا ينبغي إغفالها هنا هي أن السلطة السياسية النسقية المولِّدة للقرارات الملزِمة لا يمكن أن تأخذ بناصية الإرادة العامة التي تمثلها إلا إذا ظلت متابعة ومنصتة ومنفتحة على المطالب والقيم والمحاور المتداولة بكيفية تلقائية وحرة في الفضاء العمومي. آنذاك، وآنذاك فقط، تكون قراراتها مجسدة للحقوق وملبية للطموحات ومحققة للآمال والتطلعات.

... المثقفون

لا يمكننا ونحن نتحدث عن المجتمع المدني أن ننسى الدور الحاسم الذي تلعبه النخبة المثقفة في إشاعة القيم، وتنوير الرأي العمومي والرفع من مستواه. ونحن إذ نطرح دور النخبة المثقفة في هذا السياق، نعول على المثقف الذي لا يفصل الالتزام النظري بالحقيقة عن الالتزام الأخلاقي- السياسي بالعدالة. نعول على المثقف الذي ينتقد الرؤى النسقية التي يقترحها السياسيون للعالم. نعول على المثقف الذي يجري التعديلات اللازمة على الحلول الآلية والصماء التي يقترحها الخبراء الخُلص (غير الملتزمين) لمشاكل الناس. نعول على المثقف الذي مازال يؤمن أو يحلم بأن في الإمكان دائما أبدع مما كان. ونعول في الأخير على المثقف الذي يؤمن بأسبقية الديمقراطية على الفلسفة، وبأسبقية التضامن على الموضوعية.

27‏/06‏/2006

الثقافة والأمن في المتوسط

الثقافة والأمن في المتوسط

تذهب رافاييلا ديل سارتو(2005: 320)، في الأجندة الثقافية التي تقترحهاللفضاء المتوسطي، إلى أنه على الرغم من التنوع الثقافي الذي تتميز به المنطقة الأورومتوسطية، ينبغي أن لا ننساق ونسجن أنفسنا في التعاريف الضيقة والمحصورة الشائعة حول "ثقافات" هذه المنطقة. فالتنوع الحاصل بين شعوب هذا الفضاء لا يلغي اقتسام هذه الشعوب عددا من القيم المشتركة (قيم العيش المشترك كالديمقراطية وحقوق الإنسـان والتسامح...الخ). ليس هناك، في نظرها، غرب متجانس وموحد تستغرقه ثقافة واحدة خاصة ومنغلقة؛ كما أنه ليس هناك عالم عربي في الضفة المقابلة للغرب متجانس وموحد تهيمن عليه ثقافة واحدة موحدة. بل إن "الإسلام" نفسه دين يقع على تأويلات شتى وعلى مذاهب لا حصر لها، تمضي من طرف مسرف في الترخيص والانفتاح، إلى طرف موغل في التشدد والتزمت، مثله في ذلك مثل اليهودية والمسيحية. لهذا السبب يتعين الفصل في المنطقة الأورومتوسطية بين الخرائط التي تُعلّم الحدود السياسية، والخرائط التي ترسم الحدود الثقافية. بعبارة أوضح ينبغي إعادة رسم الخرائط الثقافية على نحو يراعي اشتراك المجموعات التي تعيش في هذه المنطقة في الدفاع عن القيم نفسها. إعادة رسم الخرائط الثقافية من هذا المنظور يعد، في نظر ديل سارتو، أمرا رئيسا في تقريب الرؤى بين الضفتين وفي إسناد الشراكــــة المعطوبة التي تنظر إلى المنطقة من منظور سياسي أمني خالص. فالأصوليون أو المحافظون الفرنسيون والمغاربة والإيطاليون والجزائريون والأتراك يتقاسمون فيما بينهم قيما كثيرة لا يتقاسمها كل منهم مـع مجموع أهل بلده. والشيء نفسه يقال عن المعتدلين في هذه البلدان أو الليبراليين. فالنظرة إلى المنطقة الأورومتوسطية من هذا المنظور المتحرر من شأنها أن تؤثر تأثيرا حاسما في السياسة الدولية لجهة التفاهم واستتباب السلم وقيام الرفاه في المنطقة. إنها ستخرجنا من ضيق التعاريف المتوارثة التي تعمد إلى استعمال كلمات مبهمة وملتبسة كـ "الغرب" أو "العرب" أو "الإسلام" وتضع تحتها الأخضر واليابس دون أدنى تمحيص أو تقييد. فالإصرار على تعريف الثقافات في المنطقة الأورومتوسطية من منظار التضارب بين الإسلام والغرب، أو بين الشمال والجنوب، سيفاقم مشكل الإقصاء المتبادل، وسيزيد من تكريس انغلاق ثقافات المنطقة على نفسها.

Del Sarto, R. A (2005) « Setting the (Cultural) Agenda: Concept, Communities and Representation in Euro-Mediterranian Relations», in Mediterranean Politics. Vol. 10, No. 3, November, pp. 313- 330

الكلام والمعنى


الكلام والمعنى

تقول حنا آرنت:

"كل ما يمكن للناس أن يفعلوه أو يعرفوه أو يجربوه لا يصبح ذا معنى إلا بالقدر الذي يستطيعون الكلام عنه. يمكن أن تكون هناك حقائق تتخطى الكلام، وقد تكون لهـذه الحقائق أهمية بالغة بالنسبة إلــى الإنسـان فــي صيغة المفرد، أي الإنسان من جهة كونه كائنا غير سياسي... لكن الناس بالجمع، أي الناس من زاوية كونهم يحيون في هذا العالم ويتحركون ويفعلون، لا يمكنهم أن يجربوا المعنى إلا لكونهم يستطيعون الحديث الدال إلى بعضهم ومناجاة أنفسهم".


Arendt, H. The Human Condition (Chicago, 1958), p. 4. Quoted from:
Robinson, B. (2003 ) “The Specialist on the Eichmann Precedent: Morality, Law, and Military Sovereignty”. in Critical Inquiry, 3 (Autumn), p.72

25‏/06‏/2006

الحداثة والأصالة

الحداثة والأصالة

ألقي هذا النص في فقرة "فسحة رأي" بالإذاعة الوطنية المغربية.

كانت المجتمعات السابقة على الحداثة تعيد إنتاج نظامها الاجتماعي استنادا إلى نمط أو روح جماعي في الحياة. فقد كان الفرد في هذه المجتمعات يُنشَّـأُ اجتماعيا، ليصبح ذا هوية شخصية متميزة تقترن بدور اجتماعي مخصوص، يكمل من جهته أدوارا اجتماعية أخرى، ليَنشَأَ عن ذلك كله نسق اجتماعي عام يتمتع بتجانس نسبي يسمح باستمرار الحياة واتصال وجودها. وكانت هذه الخلفية الاجتماعية توازي البنيات الميتافيزيقيةَ التي تحكم صيغ الفلسفة السياسية التقليدية. فهذا التنظيم الاجتماعي المنضود والتراتبي هو الذي مكن تلك الفلسفةَ من الحديث عن لائحة الفضائل والقيم والشيم الكلية والثابتة التي لا يأتي عليها التغيير. إنها حددت المبادئ التي تجعل العلاقات بين الأفراد علاقات أخلاقيةً في ذاتها من جهة، ووظيفية فيما يخص ضمانها للاستقرار الاجتماعي من جهة أخرى أيضا. لكن هذا التلاحم بين النظرية والممارسة تفكك وشرع في الانهيار عند ظهور الصور الحديثة للمجتمع وبروز البنيات الفكرية التي تطابق هذه الصور وتوازيها. فالإعلاء من شأن الحرية الفردية وإعمال العقل وانتشار التعليم والحث على قيم المواطنة والمشاركة في الحياة العامة... إلى غير ذلك من القيم الجديدة، كلها أمور أظهرت الحاجة إلى مناهج جديدة لتوليد النظام الاجتماعي وإعادة إنتاجه. وهذه المناهج لا يمكن العثور عليها أو اشتقاقها من تصانيف الفلسفة السياسية السابقة على الحداثة. ولعل هذا هو الذي يجعل بعض الناس يرون في مسلسل التحديث المتعثر الذي تعيشه بلداننا مسلسلا للانحطاط والتدهور؛ ويدافعون عن التمسك بأصالتنا وجذورنا. إنه لخوف مشروع، لكن البقاء عند مستوى الخوف والمناداة بالتمسك بالأصالة لا يحل أي مشكل. فمسلسل التحديث جار على قدم وساق لا يمكن لأحد أن يوقفه، الخوف كل الخوف هو أن لا يكون لنا عليه سلطان. ويجب أن لا ننسى أن المجتمعات الحديثة كلَّها عاشت في فترات تحديثها الأولى ما نعيشه نحن اليوم. لكن هذه المجتمعات أدركت، بعد طول معاناة وتأمل، أن أصالتَها وجذورَها لا توجد في الماضي الذي كف عن الوجود، بل في المستقبل المشرق الذي تستطيع أن تبنيَه، لقد أدركت أن جذورها أمامها لا خلفها. لن ننجح في الإقدام على الحداثة إلا إذا أجرينا هذا القلب في تصورنا لمفهومي الأصالة والجذور. وقد أصبح هذا القلب اليوم امتحانا للمواطنة أكثر منه إشكالا لعلم الاجتماع.


الإفراط في التاريخ

الإفراط في التاريخ

ألقي هذا النص ضمن فقرة "فسحة رأي" بالإذاعة الوطنية المغربية.

إننا نحيا وضعا فيه إفراط في التاريخ على العكس تماما مما ذهب إليه بعض الباحثين الأمريكان الذين قالوا بنهاية التاريخ. لا نقصد بالإفراط في التاريخ هنا ما يقع في العالم من أحداث تاريخية فقط، بل نقصد بذلك أنه في قلب هذه الأحداث التاريخية التي تحدث أصبحت القدرة الإنسانية على فعل التاريخ بدورها موضوعا تاريخيا. ومعنى هذا أن تاريخيتنا، أي قدرتنا على فعل التاريخ، أصبحت هي أيضا موضوع ممارسة. فنحن كما لا يخفى لا نصنع التاريخ ولا نملكه إلا لكوننا نملك لغة ونملك قدرة على الفعل. وهاتان الملكتان، أي ملكة الفعل وملكة اللغو، اللتان تمثلان شرطي التاريخ، أصبحتا المادة الخام التي ينهض عليها الاقتصاد المعولم. فالعامل في هذا الاقتصاد ينبغي أن يكون مرنا فيما يتصل بملكته على العمل، وينبغي أن يكون دربا على التواصل فيما يتصل بملكته على اللغو. فعوض الحديث عن نهاية التاريخ ينبغي أن نتحدث عن الإفراط في التاريخ. بالطبع، إننا لا نملك أخلاقا وسياسة ملائمتين لهذا الإفراط في التاريخ. وهذا هو ما يجعلنا في وضع نحس فيه كأننا وصلنا إلى نهاية التاريخ. هناك ارتياب شديد في الصور السياسية القائمة في العالم؛ كما أن هناك أزمةً خانقة يحياها مفهوم الدولة الوطنية. لم يلح في الأفق بديل بعد إلى حد الآن. فالإفراط في التاريخ الذي نحياه يتعارض مع عاداتنا وأخلاقنا ومقولاتنا المحافظةالتي درجنا على الاتكال عليها في الاجتماع وفي السياسة وفي التفكير.