13‏/06‏/2011

هل قال أحدكم إن حسن الدردابي قد مات..؟!








الراحل حسن الدردابي


راك جيتي ثاني تشعل نار . . . ما صدقت طفات
العربي باطما


جالت بخاطري ذكريات وأنا مع الحشود التي شيعتك في جنازتك... ذكريات امتدت في الزمان من نهاية السبعينات، حين كنا يافعين نتلمس أحلامنا، إلى آخر لقاء، قبل أيام معدودات من تشييعك، حين تحدثنا في باب 'الزهرة' على عجل عن ربيع الديمقراطية في العالم العربي وعن حركة 20 فبراير بالمغرب. سنوات مرت وأحداث جرت، وأنت كما كنت على الدوام ودودا سمحا يقظا، قلمك في يد، وفي اليد الأخرى كتاب أو كتابان ملفوفان في الغالب بمجلة... تلك صورتك النمطية الرائعة في ذهني.. صورة لم يشاركك فيها أحد من الأصحاب. جل أصدقائنا الذين خاضوا تجربة السياسة مثلك، خاضوها بصدق، لكن بزاد فكري ومتاع نقدي متواضعين.. أكاد أقطع بأنك أتيت إلى اليسار من باب نقد اليسار، أي أتيت إلى الماركسية من باب ما بعد الماركسية كما يقال في الاصطلاح اليوم... لقد كنت دائما صعب الانقياد، عسير الترويض على كل من يخاطبك بالجاهز من الأفكار.
قبل أن نجتاز الباكالوريا كنتَ تقرأ بوعي ورصانة لافتين سوسير وبينفنيست وباطاي ولاكان وفوكو وبارط وألتوسير ودولوز وديريدا وكريستيفا ...الخ هؤلاء لم أعرفهم أو ألمس كتبهم (المنشورة في بايو، وغاليمار، ومينوي، والمطابع الجامعية الفرنسية، وسوي) إلا حين زرتك في محرابك المكتض بالكتب في بيتك العتيق بالمضيق أول مرة سنة 1980، وكنا يومئذ، كما تذكر، نستعد للسفر إلى الرباط بحثا عن مسكن يأوي أشلاءنا لمتابعة الطلب بالجامعة. لقد كنتَ أكبر من سنك بعقدين أو يزيد. ألم تكن تراسل مثقفين من الكبار باسم مستعار لكي لا يكتشفوا أنك لم تلاعب بعد عقدك الثاني؟ هل تذكر رسالة (إ.خ) أيام الحرب الأهلية اللبنانية، التي أطلعتني عليها حين توصلت بها والتي يقول لك فيها "إنهم يريدون قتلي.."؟
أمضينا سنة كاملة (1980-1981) تحت سقف واحد بالرباط، وكنا في العدد يومئذ ثمانية. كنت أنت من يحدد للآخرين ما ينبغي لهم أن يقرأوه من كتب، أو يشاهدوه من أفلام، أو يحضروه من ندوات، أو يزوروه من معارض. حضرتُ برفقتك الندوة الشهيرة عن كتاب نحن والتراث للجابري في قاعة اتحاد كتاب المغرب الضيقة جدا بزنقة سوسة، وكنا كطلاب وجمهور أقل في العدد من الأساتذة العارضين (المرحوم الجابري، المرحوم جمال الدين العلوي، الوقيدي، يافوت، المرسلي...الخ ). وحضرنا معا أيضا العرض الرائع الذي ألقاه الراحل ديريدا بمدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب بالرباط عن الترجمة وتدريس الفلسفة وهجوم الدولة عليها. تدافعنا لكي نحظى بالجلوس على مقربة من المرحوم الخطيبي، والذي كنا ننتظر منه أن يعقب على ديريدا فلم يفعل (تدخل حميش وتحدث عن إشكال ترجمة القرآن، وتبعه بعد ذلك سعيد بنسعيد وتحدث عن قضية ذات صلة بصراع الكليات عند كانط).
أَتذْكُر حين كنتَ تضيق ذرعا بدروس الفلسفة وتحن إلى الشعر فتحضر معي صباح الثلاثاء إلى درس الشاعر محمد بنيس عن الثلاثي الخالد درويش/أدونيس/سعدي يوسف؟ هل نسيت أنه كان يلح علينا، أنا وأنت، حتى نبقى بعد انتهاء الحصة، ونحن في السنة الأولى، لنستمع إلى الملاحظات التي كان يسجلها على بحوث طلبة الإجازة..؟ تذكر لا شك غضبه الشديد وهجومه العنيف على الطالب الفلسطيني المسكين، ذي الشعر الأسود الطويل، الذي كان يكتب كلمة 'مناضل' بالظاء لا بالضاد... يا للهول !
حين قررتَ أن تنزل سنة 1982- 1983 إلى ساحة النضال الطلابي، في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، لم تفعل ذلك من موقع من استُقطب أو غُرر به. كنتَ على بينة من الوضع السياسي العام، ومن الأزمة التي كان يجتازها اليسار في العالم وفي المغرب بوجه خاص (البيانات التي كانت تخرج من السجن كبيان العَشرة، الذي عقدنا له جلسة بالبيت، واللقاءات التي كان ينظمها الخارجون من السجن آنذاك في المدائن والقرى حول فشل التجربة وحول ما سمي بالتياسر...الخ ) ومن سعي الدولة إلى القضاء المبرم على الفلسفة، وقودِ اليسار آنذاك، وإحلال الدراسات الإسلامية محلها (عرض ديريدا الذي تحدثنا عنه أعلاه تناول هذا الموضوع أيضا). نزلتَ إلى ساحة النضال في سياق تجربتك الخاصة وأنت على علم بهذه الأمور كلها. كنت في المظهر مع الجموع، لكنك في المخبر كنت وحدك... بل 'كم كنت وحدك' يا حسن ! لم تكن في يوم من الأيام سياسيا محترفا، أو ذلولا منقادا انقيادا أعمى لحزب أو حتى لجماعة. حدثتني بإسهاب، وبنبرة نقدية عالية لمّا ناقشتك في الأمر حين خرجنا في منتصف الليل من سينما النهضة (ربيع 1983)، عن الأطروحة 11 لماركس حول فيورباخ، وعن البعد الاجتماعي للإبستمولوجيا، وعن المكون المادي/المراسي اللازم لاستقامة كل نقاش نظري حول السياسة. لم تعرج على السياسة وأنت خالي الذهن. لقد قادك الفكر نفسُه إليها. كنت تريد أن تُحدث بفعلك السياسي الثوري خلخلة في النظام الرمزي للفكر، أو أن تقفز على عدم الاتساق المحايث له. انخرطت في السياسة ولسان حالك يقول إن الحركات الثورية التي ثبت فشلها (اللينينية، الستالينية، التروتسكية، الماوية) تحتاج منا إلى مراجعة شاملة وجذرية، في الفكر والممارسة، لكي نتمكن من فصل جوهرها التحرري والثوري عن القشور التوتاليتارية التي علقت بها في سياق التجارب التاريخية. هذا المشروع ملك عليك نفسك، وأخذ بلبك، فَرُحت تطارده كخيط دخان بعناد في ساحات النضال تارة وبين الكتب تارة أخرى. فعلت ذلك وسط الاستخفاف الليبرالي المريع الذي يدعي أصحابه أن تحقيق هذا المشروع ضرب من المستحيل. لكنك واصلت عنادك بإصرار من دون أن تفارق محياك ابتسامتُك الرائعة.
عشت عزلتك في السجن (لم تحدثني أنت عنها، بل رفيقك في الأسر مشروحي الذهبي)، واعتدتَ عليها حين خرجت. لم يكن صمتك (الضاج بالحياة كما قال بحق الصديق البازي) انكفاء على الذات أو هروبا، بل كان موقفا محسوبا، ولو بمقاييس اللاشعور، إزاء كل صنوف الرداءة من حولنا في النضال والفكر والفن. ألهذا السبب كنت تعرض عن الخلائق وتفضل أن تغرق في النصوص (بما في ذلك اللوحات والأفلام) وتبتسمَ للبحر..؟ ألهذا ارتأيت أن تضرب صفحا عن الكلام...؟ ألهذا آثرتَ أخيرا أن تُشيَّع إلى تلك الربوة بين الجبال لتواصل اعتزالك...؟ ! لن أبكيك يا حسن، ولن أرثيك...سأواصل السؤال مستنكرا، كاظما غيظي: هل قال أحدكم إن حسن قد مات؟!


الراحل والبحر