جواب موسع عن سؤال بخصوص النص السابق عن 'العراك بين فودور ودينيت' وضعه الصديق الأستاذ شفيق (Chafik Graiguer) حول الفروق القائمة بين الالتزامات الأنطولوجية التي توجه جانبا مع النقاش بين فودور ودينيت.
توجد أمور كثيرة غائبة بإمكانها أن ترفع الالتباس عما كتبته عن العراك بين فودور ودينيت سابقا (لهذا السبب أحرص على عدم مشاركة نصوص من فلسفة الذهن والعلم المعرفي على الفيسبوك لاعتياصها من جهة ولقلة المهتمين بها بين أصدقائي من جهة أخرى. لذلك أشكرك على سؤالك الهام). سأحاول أن أرفع بعض هذا الالتباس عن الالتزامات الأنطولوجية التي تقف خلف الأطروحات المتصارعة في هذا النقاش الذي دارت رحاه وتدور في فلسفة الذهن المعاصرة.
ما ذكرته في النص السابق عن فودور ودينيت مثال فقط عن أحد الموضوعات الحساسة الكثيرة التي اختلف فيها فودور ودينيت، وأعني هنا موضوع الحالات الذهنية والذات أو الأنا الذي تعن له هذه الحالات. إذا شئنا أن نرسم خريطة لنقاش هذا الموضوع لا بد لنا من تحديد أطراف النقاش كاملة. الأطراف هم فودور الذي يدافع عن واقعية مفاهيم علم النفس العادي، بوول تشورشلاند وباتريشيا تشورشلاند اللذان يرفضان واقعية علم النفس العادي وكل مفاهيمه، ثم دانيال دينيت الذي ينحو منحى التوفيق ويبحث عن موقف وسط بين الطرفين، بين فودور والزوج تشورشلاند. وينبغي لنا هنا ألا نفهم من أسماء هذه الأطراف أن الأمر يتعلق بأفراد (فودور، تشورشلاند، دينيت)، الأمر يتعلق في الحقيقة باتجاهات رئيسة في فلسفة الذهن، فوراء كل فرد من هؤلاء جيش من الباحثين يرى ما يراه فودور أو تشورشلاند أو دينيت. (هناك بالطبع اتجاهات أخرى في فلسفة الذهن تركز على التجسيد، أو تميل أكثر نحو التحاليل الفينومينولوجية خاصة في دراسات الشعور، لكنها في العموم تقترن في مستوى من مستويات ما تسلم به بالأطراف المذكورة آنفا)
الإشكال الأنطولوجي في النقاش الدائر بين هذه الأطراف والذي عليه مدار سؤالك مطروح بإلحاح. فما دام الأمر يتصل بالموقف من علم النفس العادي (الذي يسمى في الأدبيات أيضا بعلم النفس الشعبي، أو علم نفس الحس المشترك، أو علم نفس المواقف الجُمْلية) ومفاهيمه (الاعتقاد، الرغبة...الخ) فإن السؤال الأنطولوجي يكون في الواجهة: هل ما يسلم به هذا العلم موجود أم لا؟ أي هل الحالات التي يدعي أنها تحدد سلوك الأنساق القصدية وتصرفاتها حالات واقعية أم لا؟ القول بوجود هذه الأشياء (وهو قول فودور) يعني التسليم بأنطولوجيا يمليها الحس المشترك والالتزام بها. يقول فودور:
"لا أشك في احتمال صدق هذه النظرية (التي أسميها علمَ نفس الحس المشترك المبنيَ على الاعتقادات والرغبات). والسبب الذي يجعلني أعتقد هذا هو أن علم نفس الحس المشترك يتفوق في تفسير ما لا يعد أو يحصى من الوقائع المتصلة بالسلوك على أي نظرية أخرى موجودة" (فودور 1987: x).
لاحظ أن فودور يتحدث عن 'احتمال' صدق النظرية، وليس عن 'صدقها القطعي'. الحديث عن الصدق القطعي في مجال فلسفة الذهن خاصة لا أحد يقول به. وحتى وإن كان فودور أحيانا يوحي بأن إيمانه قطعي بصدق هذه النظرية، خصوصا حين ترد على لسانه تصريحات مثل "إذا لم يكن اعتقادي ورغبتي حرفيا سببيْ سلوكاتي ...فعمليا، كل الأشياء التي أعرفها عن أي شيء كاذبة، وهذه نهاية العالم" (1990: 156). بيد أن فودور في الغالب الأعم يسوغ ركونه وتمسكه بعلم النفس العادي لأسباب برغماتية في المقام الأول لا لأسباب أنطولوجية، لذلك يرى أن "التمسك بنظريات أقل معقولية أفضل من البقاء في العراء بلا نظرية" (1975: 27).
وحتى لا أطيل عليك، أنتقل مباشرة إلى الطرف الثاني الذي تمثله باتريشيا تشورشلاند (وطبعا بوول تشورشلاند). تعلقُ هذه الأخيرة على أطروحة فودور فتقول: "من الناحية المنهجية يُعد كلامُ فودور هذا متخلفا ومحافظا بكيفية ملحوظة. التمسك بنظرية غير واعدة بدعوى أنها الوحيدة التي في متناولنا سيكون بالتأكيد أمرا غير معقول بالنظر إلى أن الوقت الذي نقضيه في المحاولة العبثية لجعل النظرية تُقْلِع يمكننا صَرفُه في البحث عن مقاربة أخرى جديدة. الافتقار إلى النظريات في نهاية المطاف هو ما يَحُثّ تحديدا ويحفز الملكات. النظرية التي نؤجل دفنها، استنادا إلى المبدأ المنهجي القاضي بأن التمسك بالنظريات الأقل معقولية أفضل من البقاء بلا نظرية، لن تعمل إلا على إطالة أمد الإحباط" (1978: 155).
النظرية التي تود تشورشلاند بناءها هي النظرية التي تُبنى على أنطولوجيا العلم العصبي وتلتزم بها. وفلسفة الذهن التي تبشر بها، هي وزوجها بوول، لا يمكن أن تكون إلا فلسفة عصبية (انظر كتابها البرنامجي الضخم Neurophilosophy : Toward a Unified Science of the Mind) (1986). إنها فلسفة تَستبدِلُ بمفاهيم علم نفس الحس المشترك المفاهيمَ المبنيةَ على ما تتوصل إليه الأبحاث في العلم العصبي، أي الفلسفة التي تتطور بتطور الاكتشافات التي يتوصل إليها الباحثون في العلم العصبي. ومفاهيم هذه الفلسفة تلتزم بأنطولوجيا العلم لا بأنطولوجيا الحس المشترك الضبابية. الاسم الذي يطلق على اتجاه تشورشلاند في أدبيات فلسفة الذهن هو النزعة المادية المُنَحِّية أو التي تعتمد التشطيب، أي التشطيب على مفاهيم علم نفس الحس المشترك وتنحيتها تماما.
الطرف الثالث في هذه الخريطة هو الراحل دان (كما يختصر اسمَه أصدقاؤُه) دينيت. هذا الأخير واقع بين نارين: فهو من جهة مغرم بأنطولوجيا العلم إلى حد كبير، وهو من جهة أخرى حساس جدا تجاه القدرة التعميمية الضاربة التي تتميز بها مفاهيم علم نفس الحس المشترك. فهذه المفاهيم (الاعتقادات، الرغبات، التمنيات...الخ) وُجدت منذ القدم ورافقت الإنسان منذ العصور الغابرة وما زالت صامدة حتى يوم الناس هذا. بها نفسر تصرفاتنا وتصرفات أقراننا في حيواتنا اليومية، بل حتى في معظم أحاديثنا الفكرية أيضا. فكما يقول رايل إذا كنت ترغب في شراء سيارة، وأعطيتك نشرات إعلانية عن أفران الطبخ وأخرى عن الثلاجات وثالثة عن السيارات فإنني سأتكهن بتصرفك قبل أن تقدم عليه، أي سأتكهن بأنك ستلتفت إلى النشرات المتصلة بالسيارات قبل أن تفعل ذلك. قدرة مفاهيم علم النفس العادي هذه على التكهن بالتصرفات ضاربة، بل إن تشورشلاند لا تخشى من الذهاب إلى عدها قدرة فطرية، لكنها تحذر فودور ومن لف لفه وتنبههم قائلة: "سيكون من الغريب الاعتقاد بأن علمَ النفس هذا وحده، من بين النظريات الشعبية الأخرى، علم صحيح. إن الذهن/الدماغ كيان بالغ التعقيد، ومن المستبعد أن يستطيع فلكلور بدائي تمكيننا من إطار نظري صحيح يسمح لنا بتفسير طبيعته، بينما نجد النظريات العادية الأخرى فشلت في تفسير الحركة والنار والطقس والحياة والمرض والسماء والنجوم...إلخ. بل حتى إذا قلنا إن علم النفس العادي ملكة إلى حد ما فطرية، مثله مثل الفيزياء العادية ربما، فإن فطريته لن تضمن صحته أو ملاءمته أو حصانته من المراجعة" (تشورشلاند 1986: 395_ 396).
دينيت كما قلنا واقع بين فودور وتشورشلاند، بين نظرية فولكلورية وأخرى تستند إلى العلم العصبي. لهذا السبب حاول شق طريق بينهما وادعى أن ما يجري في المستوى القاعدي (الأنطولوجي) هو بكيفية حصرية ما يكشف عنه العلم العصبي وما تنجزه آليات التطور العمياء. لكنه رأى أن هذا المُنجَز الذي يصفه العلم العصبي والبيولوجيا التطورية يكشف عن اطرادات تقبل الاندراج تحت مفاهيم علم نفس الحس المشترك. فهذا العلم ليس كافيا كفاية تامة (يمكنك حتى وإن كنت ترغب في شراء سيارة أن يظهر لك رأي آخر وتَعدِل عن نشرات الإعلان عن السيارات وتُقبل على نشرات الإعلان عن الثلاجات أو أفران الطبخ وتقرر شراء ثلاجة أو فرن طبخ عوض شراء سيارة !) لكنه يستطيع مع ذلك رصد هذه الاطرادات بكيفية مذهلة. فقدرته على هذا الرصد، حتى وإن كانت غير كاملة، هي التي جعلته يصمد على امتداد كل هذه القرون المتعاقبة. المشكل الذي يواجهه دينيت يتصل أساسا بالمنزلة الأنطولوجية التي يسندها إلى هذه الاطرادات. موقف دينيت في هذا الشأن هو الذي أشرت إليه في النص السابق، أي الموقف الأداتي الذي يرى أن مفاهيم علم نفس الحس المشترك هي عبارة عن مجردات لا فرق بينها وبين خطوط الطول وخطوط العرض لدى الجغرافيين أو مركز الثقل لدى الفيزيائيين، لا يمكن ردها إلى أساس مادي، إنها بناءات حسابية تسمح بالتكهن بالتصرفات بكيفية عامة غير قطعية من دون أن تقبل الرد إلى أساس يمكن الفحص عن طبيعته كما نفحص عن الأشياء المادية كالخلايا العصبية أو الدي إن إي أو غيرها. ويعمم موقفه هذا طبعا على الأنا أو الذات، لأن الموقف الذي يدافع عنه فودور يركن فيه إلى ديكارت الذي يتحدث عن الأنا كما لو كان قزما متربعا على عرش في مكان ما من الدماغ تأتيه الحواس بما التقطته وتعرضه على خشبة مسرح فيستخلص الأنا القزم الخلاصات ويقدر التقديرات ثم يتخذ القرارات العملية التي تتلاءم مع ما استخلصه وقدّره مما عُرض على خشبة المسرح أمامه. إن هذا التصور ساذج إلى حد بعيد لأنه لا يمنع من تقدير قزم آخر في دماغ القزم الذي يشاهد ما يجري أمامه وتقدير قزم آخر أيضا في دماغ هذا الأخير وهكذا إلى ما لا نهاية. قسم كبير مما قام به دينيت في كتابه (Consciousness Explained) (1991) هو هدم هذا المسرح الديكارتي (Cartesian theatre) بأركانه كلها، وهو ما جعله لاحقا يدرج الأنا في عداد المجردات ويشبهه بمركز الثقل في الفيزياء ويطلق عليه اصطلاح مركز الثقل السردي. أما الأعمال التي تنسب إلى هذا الأنا عند ديكارت فيوزعها دينيت على الآليات المسؤولية في الدماغ على العمليات العصبية...