11‏/02‏/2007

لايكوف واليسار الأمريكي أو السياسة في ضوء النزعة المعرفية


نشرتُ هذا المقال في جريدة الصحيفة المغربية

يواصل العالم اللغوي والفيلسوف الأمريكي جورج لايكوف في كتابه الهام (Thinking Points) الصادر مؤخرا، والمفتوح أمام القراء مجانا أيضا في موقع (Rockridge)، أبحاثه المعرفية (cognitive) التي تتناول الخطاب السياسي بالتحليل. فيما يلي ترجمة، ملخصة وانتقائية، للفصل الأول (الربح والخسارة) الذي يتعرض فيه لايكوف للفخاخ التي يعتقد أن التقدميين الأمريكيين وقعوا فيها في صراعهم مع اليمين المحافظ. والملاحظ في التعميمات التي يصوغها لايكوف انطلاقا من تجربة اليسار، أو الفكر التقدمي كما يسميه، في الولايات المتحدة الأمريكية، أنها تعميمات تصدق في كثير من أبعادها على اليسار عموما. وهذا النزوع إلى الكونية أو الشمول أمر تمتاز به أعمال لايكوف على الأقل منذ أن كتب مقاله الشهير عن الاستعارة (المنشور في الكتاب الذي أشرف عليه أورطوني1979)، والذي طوره لاحقا في كتابه بمعية زميله جونسون الاستعارة نحيا بها، الذي ترجمه إلى العربية صديقي العزيز عبد المجيد جحفة (صادر عن دار توبقال المغربية).

هناك في رأي لايكوف إثنا عشر فخا يتعين على التقدميين أن ينتبهوا إليها في مواجهتهم للمحافظين. وهذه الفخاخ هي كالتالي:

فخ التركيز على القضايا

غالبا ما يقال عن التقدميين إنهم لا يتفقون في أفكارهم. فلكل أفكاره، ولكل قضيته التي هو أعنى بها. الصحيح هو أن على التقدميين أن يتفقوا في مستوى القيم التي يدافعون عنها؛ لأن الاتفاق في هذا المستوى هو الأساس المكين لاتحادهم. القيم التقدمية تتعالى عن القضايا التي تكون مطروحة للنقاش وتتخطاها. وكذلك الشأن بالنسبة إلى المبادئ وصور الاستدلال. المحافظون دائما يدافعون عن الموقف المحافظ ولا يلتفتون إلى القضايا. لهذا يجب على التقدميين أن يدافعوا هم أيضا عن الموقف التقدمي. يتعين على التقدميين أن ينأوا بأنفسهم عن التركيز على القضية. لأن هذا التركيز يعزل حججهم ويفصلها عن القيم والمبادئ التي تحدد رؤيتهم التقدمية الشاملة.

فخ استطلاع الرأي

إن كثيرا من التقدميين يستسلمون خانعين لما تقوله استطلاعات الرأي، وينسون أن دور القيادات الحقيقية هو أن تقود لا أن تستسلم خانعة وتتبع. القيادات الحقيقية لا تستعمل استطلاعات الرأي لكي تستدل من نتائجها على المواقف التي ينبغي لها أن تتخذها، بل يتعين عليها أن تقود الشعب لكي يتخذ هو نفسه المواقف الجديدة.

فخ البرنامج

يميل التقدميون إلى الاعتقاد بأن الناس يصوتون استنادا إلى لائحة البرامج والسياسات. الناس في الحقيقة لا يصوتون على اللوائح، بل يصوتون على القيم والاقتران والنزاهة والثقة والهوية.

فخ العقلانية

هناك نظرية خاطئة شائعة تقضي بأن العقل أمر شعوري وحرفي (أي ينطبق بكيفية حرفية ومباشرة على الواقع الموضوعي)، ومنطقي، وكوني، وخال من العاطفة. العلم المعرفي (cognitive science) بين أن كل هذه المحمولات التي نسندها إلى العقل خاطئة. وهذه المحمولات تقود التقدميين إلى فخاخ أخرى كثيرة: تقودهم إلى الظن بأن التركيز على الوقائع الملموسة يقنع الناخبين، وبأن المصوتين "عقلانيون"، لا يصوتون إلا على القضايا وعلى ما يخدم مصالحهم الذاتية.

فخ غياب التأطير

غالبا ما يميل التقدميون إلى الاعتقاد بأن "الحقيقة لا تحتاج إلى تأطير"، وبأن "الوقائع تخبر عن نفسها". وهذا الأمر لا يعدو أن يكون فخا. فالناس لا يفهمون الوقائع إلا باستعمال الأطر، أي لا يفهمون الوقائع إلا باستعمال بنيات ذهنية، راسخة عندهم، هي التي تكشف لهم عن النحو الذي يشتغل به العالم. فالأطر قائمة في دماغنا، وهي التي تحدد حسنا المشترك وتوجهه. ولا يمكننا أن نفكر أو نتواصل من دون تنشيط هذه الأطر وإعمالها. لهذا السبب يكون إعمال المرء إطارا دون آخر أمرا بالغ الأهمية. الحقائق ليست في المتناول؛ إنها تحتاج منا إلى أن نؤطرها التأطير الملائم لكي تظهر وتستوي في صورة حقائق. بعبارة أخرى، تحتاج الوقائع إلى سياق.

فخ المطابقة بين السياسات والقيم

يطرد عند التقدميين الخلط بين القيم والسياسات. القيم عبارة عن أفكار أخلاقية عامة كالتعاطف والمسؤولية والإنصاف والحرية والعدالة...الخ. أما السياسات في حد ذاتها فلا تدخل في باب القيم. السياسات تنبني أو ينبغي لها أن تنبني على القيم. من هذه الزاوية لا يمكن أن نعتبر الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي داخلين في باب القيم. إنهما سياستان تعكسان وتُُرَمِّزان قيم الكرامة الإنسانية، والخير المشترك، والإنصاف، والمساواة.

فخ وجود الوسط

هناك اعتقاد شائع يقضي بأن هناك "وسطا" أيديولوجيا، أي فئة واسعة من الناخبين تتبنى أيديلوجية وسطية متسقة، أو يتأرجح موقف أعضائها بين اليمين واليسار في قضايا بعينها. وما تتميز به هذه الفئة هو أنها تتبنى المواقف نفسها إزاء القضايا. فالوسط يُتصور من حيث إن أصحابه يعتنقون تصورا مزدوجا. الناس الذين يكونون محافظين في بعض مظاهر حياتهم وتقدميين في المظاهر الأخرى. فالناخبون الذين يعتبرون أنفسهم محافظين لا تخلو بعض نواحي حياتهم من ارتباطها بالقيم التقدمية. فعلى التقدميين أن يركزوا على الجزء التقدمي من التصور المزدوج الذي يحمله هؤلاء الناخبون، وهو جزء غالبا ما يكون واسعا ونسقيا.

الخطأ الأيديلوجي الذي وقع فيه عدد لا يستهان به من التقدميين هو أنهم ظنوا أن من الواجب عليهم أن "يتحركوا في اتجاه اليمين" ليحصلوا على أكبر قدر ممكن من الأصوات. وهذه ـ لعمري ـ استراتيجية غير منتجة بالمرة وتنم عن سوء في التقدير. فميل التقدميين نحو اليمين لا يعمل إلا على تنشيط وإضفاء الشرعية على قيم هذا اليمين وإضعاف القيم التقدمية. زد على هذا، إن التنازل لصالح قيم اليمين يوقع السند الشعبي للتقدميين في استلاب مقيت.

فخ سوء التقدير

كثير من التقدميين يعتقدون أن الناس الذين يمنحون المحافظين أصواتهم هم ناس أغبياء، خصوصا أولئك الذين يصوتون ضدا على مصالحهم الاقتصادية الذاتية. ويظن التقدميون أن هؤلاء الناس بمجرد أن نشرح لهم بعناية الوقائع الاقتصادية على حقيقتها سيسارعون رأسا إلى تغيير طريقة تصويتهم. الواقع أن الذين يصوتون على المحافظين يملكون مسوغات لتصويتهم، ويتعين على التقدميين أن يفهموا ذلك جيدا. فالموقف الشعبوي المحافظ ليس موقفا اقتصاديا كما يعتقد التقدميون، بل هو موقف ثقافي في طبيعته. الشعبويون المحافظون يرون في أنفسهم ضحايا يقمعهم الليبراليون النخبويون ويحتقرونهم ولا يرون فيما يدافعون عنه سوى ضجيج أخلاقي مبتذل وتفكير شعبي يميني منحط. إنهم يرون في الليبراليين مجموعة تسعى سعيا إلى أن تفرض عليهم نوعا من المعيارية السياسية غير الأخلاقية.

وفي إطار سوء فهم أجندة المحافظين دائما، يعمد التقدميون أيضا إلى رسم صورة عن القيادات المحافظة كما لو أنها قيادات تفتقر إلى الكفاءة وتنقصها النباهة. إن سوء التقدير هذا يكون ناجما عن النظر إلى الأهداف التي يدافع عنها المحافظون من منظار القيم التقدمية التي يؤمن بها التقدميون. فلو تجشموا عناء النظر إلى أهداف المحافظين من منظار قيم المحافظين ذاتها لرأوا بوضوح ما بعده وضوح مقدار ما يتمتع به المحافظون من فاعلية.

فخ ردات الفعل

غالبا ما يتلاهى التقدميون ويتركون تأطير النقاش من نصيب المحافظين. يأخذ المحافظون المبادرة في صوغ السياسات وعرض الأفكار على الجمهور. وعندما يستجيب التقدميون ويردون الفعل على مبادرات المحافظين يقعون في حبالهم، ويصير خطابهم صدى للأطر والقيم المحافظة. وهذا ما يجعل خطاب التقدميين خافتا غير مسموع، إن لم نقل خطابا داعما ومساندا لأفكار المحافظين. يحتاج التقدميون إلى سياسات مبادرة وإلى تقنيات في التواصل لعرض قيمهم وإشاعة اصطلاحاتهم. فالحملات الانتخابية ينبغي أن تعمل على تغيير الأطر لا على إسناد الأطر المحافظة. وينبغي للقيادات التقدمية من خارج الأحزاب أن تجتمع وتتنادى إلى إطلاق حملة وطنية منظمة بعيدة المدى لنقل القيم التقدمية وتوصيلها إلى الجمهور يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع وسنة بعد سنة بغض النظر عن القضايا الظرفية التي يمكن أن تكون موضوع نقاش.

فخ المراوغة أو اللف والدوران

يظن بعض التقدميين أن كسب الانتخابات أو الحصول على السند الشعبي أمر يرجع إلى اللف والدوران أو اصطناع المراوغة الذكية وإلى مجرد رفع شعارات سهلة جذابة (catchy slogans)؛ أي يظنون أنه أمر يرجع إلى ما يسمى بالتأطير السطحي. وللتدقيق في هذه المسألة، تجدر الإشارة إلى أن التأطير السطحي لا يكون دالا إلا إذا استند إلى تأطير آخر عميق؛ أي إلا إذا قام على القناعات الأخلاقية التقدمية العميقة وعلى المبادئ السياسية الموصولة وصلا بها. فالتأطير النزيه، من جهتي السطح والعمق، هو ما يحتاج إليه التقدميون لكي يبينوا الحقيقة ويبرزوا القيم التي يدافعون عنها.

زد على هذا، إن اللف والدوران أو المراوغة ليست سوى استعمال مخادع لأطر لغوية سطحية غايته إخفاء الحقيقة وطمسها. لذلك ينبغي أن يكون السبق للقيم والمبادئ التقدمية، أي للتأطير العميق، على التأطير السطحي. فمن دون هذا السبق لن يكون للشعارات أثر يذكر في العيان؛ لأن الشعارات وحدها كما هو معلوم لا تحقق شيئا. شعارات المحافظين ليست فاعلة إلا لكونها دأبت على نقل الأطر العميقة التي يدافع عنها المحافظون إلى جمهور الناس منذ عقود خلت.

فخ الإلغاز والتعمية السياسيَيْن في مخاطبة الناس

يعمد التقدميون باطراد، في أثناء عرض مواقفهم على الناس، إلى استعمال الاصطلاحات التشريعية الرائجة بين أهل الاختصاص من الخبراء، وإلى الإكثار من الإحالة على الحلول البيروقراطية الصماء. يتعين على التقدميين أن يستبدلوا بهذا الكلام كلاما آخر غيره. عليهم أن يأتوا بكلام يتجه صوب الأمور التي تشغل بال الناخبين في الصميم. عليهم مثلا أن يشرحوا لك الكيفية التي تساعد بها سياسية معينة على أن تلج ابنتك الجامعة، أو الكيفية التي تؤهلك بها هذه السياسة لبناء مقاولتك الخاصة.

فخ إلقاء اللوم

يطيب للتقدميين أن ينحوا باللائمة على الإعلام وعلى ما يروجه المحافظون من أكاذيب آناء الليل وأطراف النهار. وهم في هذا على حق، لأن القيادات المحافظة دأبت على اللجوء إلى الكذب وأدمنت استعمال اللغة الأورويلية لتحريف الحقائق. كما أنهم على حق أيضا فيما يخص الإعلام؛ لأن هذا الأخير كان على الدوام لينا سهل الانقياد، لا يكف عن ترديد الأطر المحافظة والترويج لها. بيد أن هذا كله لا يمنع من الإشارة إلى أن للتقدميين بعض القدرة على التحكم في هذه الأمور ومراقبتها. يكفيهم أن يتحكموا ويراقبوا الكيفية التي يتواصلون بها مع الجمهور. الاقتصار على تصحيح الأكاذيب بذكر الحقائق ليس كافيا. يتعين على التقدميين أن يعيدوا تأطير منظورهم الأخلاقي على نحو يسمح للناس أن يفهموا الحقيقة بيسر وسلاسة. إنهم يحتاجون إلى إعادة التأطير هذه لكي يتمكنوا من تسريب أطرهم العميقة إلى الخطاب العام. ولن يستطيع الإعلام أن يضرب صفحا عن تبني الأطر التقدمية إذا كان ما يكفي من الناس في طول البلاد وعرضها يلهجون ويعبرون باطراد ونزاهة عن الرؤية التقدمية.


ليست هناك تعليقات: