27‏/07‏/2008

*التعدد الثقافي ومطالب العدالة

لوحة للصديق الفنان محمد شبعة


لم تكن الهوية الثقافية والإثنية في لحظات تاريخية سابقة قضية ذات شأن. بعبارة أوضح لم تكن مروحة الهويات شأنا مفتوحا أمام الفرد أو أمام المجموعة حتى تختار هويتها أو تتبناها، بل كانت قضية محسومة في إطار الدولة الوطنية، أو ملفا مطويا من ملفات هذه الدولة لا يمكن فتحه أو المغامرة بالخوض فيه. في وقتنا الحاضر أصبح لمفهوم الهوية ثقل كبير في إضفاء المعنى على وجود الأفراد والمجموعات على حد سواء. فقد أضحت الهوية تمثل شيئا لكل واحد تقريبا الحق فيه. كيف وقع هذا التحول؟ ما هي انعكاساته بخصوص مطالب العدالة الاجتماعية؟ وكيف ينبغي لنا التعامل معه؟ سأحاول في هذا المداخلة الجواب باقتضاب شديد عن هذه الأسئلة.

ـ1ـ

كان الباحثون والسياسيون ينظرون إلى التعدد الثقافي في المجتمع بعين الريبة والحذر، ويرون فيه تهديدا صريحا للاستقرار السياسي يستدعي، على جهة الاستعجال، سَنَّ سياساتٍ ثقافية عمومية تحد من شيوعه وتفشيه، وتحول دون تشجيعه وتكريسه. وهكذا عمدت الدول إلى إخضاع المهاجرين، والأقليات القومية، والسكان الأصليين، لسياسات ترمي إلى إدماجهم في النسيج العام للمجتمع، في أحسن الأحوال، أو تهميشهم.
بيد أننا سنشهد في العقود الأخيرة تحولا دراماتيكيا في تصور التعدد الثقافي، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ودول أوروبا الشرقية، وتعاظم دور العولمة. فقد أصبحت الهويات أمرا يطالب به ويعطى في سياق علاقات السلطة؛ أي أمرا يخاض من أجله الصراع، ويسيل من أجله الدم، حتى يلبى ويُنتزع الاعتراف به. وأدى هذا التحول ببلدان كثيرة إلى التخلي، طوعا أو كرها، عن سياساتها التقليدية والشروع في النظر إلى التعدد الثقافي من منظور أكثر انفتاحا واعتدالا. وقد انعكس هذا التحول الدراماتيكي وأصبح يتجلى فيما أضحى يُعرف بسياسات التعدد الثقافي. وهي سياسات تبنتها بعض الدول لمعالجة قضية المهاجرين، وتبنتها دول أخرى في سياق اعترافها بالحقوق اللغوية والقومية للسكان الأصليين والأقليات، وعمدت إليها دول أخرى لسن تشريعات تتصل بالجهويات الموسعة وسياسات الحكم الذاتي لاحتواء المنشقين عنها والمتمردين عليها.
سياسات التعدد الثقافي تعني باختصار تلكم السياسات التي يتخطى مضمونها الحفاظَ على الحقوق المدنية والسياسية لمجموع أفراد المجتمع، ليشمل أيضا الاعتراف العمومي بالأقليات الثقافية ودعمها في الحفاظ على مكونات هوياتها وممارساتها التعبيرية.

ـ2ـ

إن المطالبة بالعدالة الاجتماعية أصبحت إثر هذه التحولات تتخذ بالتدريج صورتين متباينتين: صورة تقليدية، ومتعارف عليها، تندرج ضمن ما يمكن أن نسميه بإعادة التوزيع. وهي الصورة التي تكون فيها المطالب متصلة بالمساواة الاقتصادية والتوزيع العادل للثروات. وصورة ثانية، ارتبطت بسياسات التعدد الثقافي، تندرج ضمن ما يمكن أن نسميه بالاعتراف. وهي الصورة التي تكون فيها المطالب متجهة إلى خلق عالم تتعايش فيه الفروق والاختلافات، ويسوده الاعتراف بهذه الفروق والاختلافات. إطار إعادة التوزيع يمكن أن ندرج فيه إعادة التوزيع من الشمال إلى الجنوب، من الأغنياء إلى الفقراء، من أرباب العمل إلى العمال...الخ. أما إطار الاعتراف فيمكن أن ندرج فيه الاعتراف بالمنظورات الأخلاقية المختلفة، أو القومية المختلفة، أو الدينية المختلفة، أو النوعية المختلفة...الخ. وإذا كانت مطالب إعادة التوزيع التقليدية شديدةَ الصلة بالاقتصاد، فإن مطالب الاعتراف الجديدة تقترن في الغالب الأعم بالثقافة.
المدافعون عن إعادة التوزيع العادل (وأغلبهم ينتمون إلى اليسار بأطيافه المختلفة) ينظرون بحذر شديد إلى سياسات الهوية والتعدد الثقافي (سياسات الاعتراف)، بل إن كثيرا منهم يرفض هذه السياسات بالمرة. أما المدافعون عن الاعتراف، وهم المؤيدون بروح العصر والأكثر نشاطا وبروزا اليوم، فيترددون في أن يجعلوا من قضيتهم قضية مشتركة مع أولئك الذين لا يزالون ملتزمين بسياسات إعادة التوزيع، المبنية كلا أو جزءا على فكرة الصراع الطبقي. والنتيجة المترتبة على هذا الخلاف هي اتساع الهوة بين سياسات الاعتراف الطامحة إلى الإعلاء من شأن الاختلاف الثقافي، وبين سياسات إعادة التوزيع الرامية إلى تحقيق المساواة الاقتصادية. في بعض الأحيان تتخذ الهوة شكل الاستقطاب الحاد؛ بحيث إن بعض المدافعين عن إعادة التوزيع يذهبون، كما أشرنا أعلاه، إلى رفض سياسات الاعتراف، جملة وتفصيلا، بوصفها وعيا شقيا وغطاء يصد عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية. والشيء نفسه نجده لدى بعض المدافعين عن سياسات الاعتراف حين يذهبون إلى أن سياسات إعادة التوزيع ما زالت مشدودة إلى أطروحات اليسار التقليدي الذي لم يسقط في الاتحاد السوفياتي وأوربا الشرقية إلا لكونه غض الطرف عن كثير من مظاهر اللاعدالة، بل تواطأ عمدا لتكريسها. وأمام هذا النقاش حاد الاستقطاب نجد أنفسنا أمام اختيارين لا ثالث لهما: إما إعادة التوزيع وإما الاعتراف، إما السياسات المبنية على التحليل الطبقي وإما السياسات المبنية على الهوية، إما الاشتراكية الديمقراطية وإما التعدد الثقافي.
هذا الاستقطاب نلاحظه بكيفية جلية في المغرب. فالأحزاب المغربية (وخصوصا الأحزاب المحسوبة على اليسار) على الرغم من اعترافها بمشروعية المطالب التي ترفعها الحركة الأمازيغية، ترى أن هذه المطالب تتعدى في كثير من الأحيان الإطار الثقافي (اللغة، الثقافة) لتتحول إلى مطالب سياسية جذرية تهدد بتفكيك المجتمع وتمزيقه. موقف الدولة المغربية في هذا السياق لا يختلف عن موقف الأحزاب، ينصت إلى الإيقاع الذي تتطور به مطالب الحركة الأمازيغية من الإطار الثقافي (الجيل الأول) إلى الإطار السياسي (الجيل الثاني)، ويحاول تسييج هذه المطالب لتظل حتى إشعار آخر في إطارها الثقافي. غير أن هناك سمة رئيسة أخذت تتسلل إلى الحركة الأمازيغية المغربية وتغزوها هي التطرف ورفع الشعارات الصادمة المتصهينة والمضادة للعروبة. وهذه السمة من شأنها، في نظر بعض المراقبين، أن تقلل من أهمية الحركة سياسيا على المدى المتوسط والبعيد. لكن هذا كله لا يعفي المثقفين والسياسيين المغاربة من البحث عن صيغة تؤلف بين مطالب إعادة التوزيع ومطالب الاعتراف. فالنمطان من المطالب مشروعان. والتأليف بينهما من شأنه أن يحقق للمغاربة مطلب العدالة الاجتماعية ومطلب مصالحة المغرب مع ثقافاته، دون خسائر تذكر. غير أن هذا التأليف يجب أن يصدر عن وعي عميق بمستلزمات سياسات إعادة التوزيع وسياسات الاعتراف. وسأعرض فيما يلي لثلاث نقط رئيسة يتعين استحضارها في مشروع التأليف بين النمطين من المطالب. الأولى تتصل بأحزاب اليسار، والثانية والثالثة تتصلان بحركات التعدد الثقافي.

ـ3ـ

1) يتعين على أحزاب اليسار أن تُطور فهمها لمشروعية مطالب الاعتراف والتعدد الثقافي. بعبارة أوضح ينبغي لهذه الأحزاب أن توسع فهمها للعدالة الاجتماعية على نحو يجعل المطالبة بهذه العدالة تتضمن طيها المطالبة بالاعتراف جنبا إلى جنب مع المطالبة بإعادة التوزيع. فالحيف الذي تتصدى له مطالب الاعتراف هو حيف يعيشه المطالبون برفعه بوصفه انعداما للعدالة. وضمن هذا الفهم لا يعود بإمكاننا تأويل مطالب الاعتراف بوصفها مطالب تعبر عن وعي زائف بحقيقة الصراع كما دأب اليسار على وصفها، بل تصبح وعيا أكثر عمقا بإحدى جبهات الصراع التي طالما تغاضى عنها اليسار في سعيه لتحقيق العدالة. فعلى اليسار إذاً أن يصوغ فهما للعدالة أكثر تركيبا وتعقيدا من الفهم التقليدي الذي مازال يصدر عنه.
2) يتعين على مشايعي سياسات الاعتراف أن يدركوا أن هذه السياسات في صيغها الجذرية تتناقض جوهريا مع مبادئ الديمقراطية الليبرالية. فهي سياسات تضرب، إذا نحن تأملناها مليا، مبدأ الحرية الفردية في الصميم؛ لأنها تفضل حقوق المجموعة (أمازيغ، عرب، أندلسيون، أفارقة...الخ) على حقوق الأفراد؛ كما أنها سياسات تطعن أيضا في مبدأ المساواة، لأنها تضع فروقا بين أفراد الشعب على أساس العرق أو الإثنية.
3) إن سياسات الاعتراف في أبعادها الجذرية تؤثر كذلك سلبا في مطالب إعادة التوزيع؛ لأنها تؤدي إلى تآكل الثقة وإضعاف التضامن بين المواطنين. تآكل الثقة وتدني التضامن يأتيان من كون هذه السياسات تركز على الفروق والاختلافات القائمة بين المواطنين. وهذا من شأنه أن يعرقل الانخراط الجماعي في مساندة المطالب المتجهة إلى إعادة التوزيع وتحقيق العدالة. فإذا كان المواطنون يساندون المطالب الوطنية العامة (الديمقراطية، والحرية، والعدالة الاجتماعية...الخ) ويتضامنون مع المواطنين المتضررين من مسارات التغيير التي تقود إلى تحقيق هذه المطالب، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لكونهم يرون في هؤلاء المتضررين أعضاء مثلهم في المجموعة نفسها، أي مواطنين يتقاسمون معهم الهوية نفسها. ما تفعله سياسات الاعتراف والتعدد الثقافي في أبعادها الجذرية هو أنها تتصدى بالتحديد لهذه الهوية وتشكك فيها أو تقوضها. بعبارة أوضح، إن سياسات الاعتراف كما وصفناها تقول للمواطنين: إن ما يقسمكم إلى مجموعات إثنوثقافية منفصلة عن بعضها أهم بكثير مما تشتركون فيه، وإن المواطنين الذين ينتمون إلى المجموعات الأخرى ليسوا في الحقيقة أعضاء من مجموعتكم. وواضح أن الوضع المجتمعي الذي تعيش فيه المجموعات في أكوان متوازية لا يكون وضعا ملائما للتفاهم المتبادل أو لتنمية عادات التعاون وأحاسيس الثقة للدفاع عن مطالب عامة ومشتركة.
فالتأليف بين مطالب إعادة التوزيع ومطالب الاعتراف ضمن مشروع متكامل يحظى بالتأييد والدعم ملزم بالبت في النقط الثلاث التي ألمعنا إليها هاهنا باختصار.
بعض المراجع التي عدنا إليها:

Banting, K & Kymlicka,W (2006) Multiculturalism and The Welfare State: Recognition and redistribution in contemporary democracies. Oxford University Press.
Fraser, N (1995) “From Redistribution to Recognition? Dilemmas of Justice in ‘Post-Socialist’ Age”. New left Review 212: 68-93.
Honneth, A (2001) “Recognition or Redistribution? Changing Perspectives on the Moral Order of Society” Theory, Culture & Society, Vol. 18 (2-3): 43-55.
موقع الباحث المغربي مصطفى عنترة ضمن شبكة الحوار المتمدن:
http://www.ahewar.org/m.asp?i=303


* هذا ملخص العرض الذي ألقي ضمن الندوة التي نظمتها جريدة روافد (ثقافية، شهرية) يوم الأحد 1 يونيو 2008 بالمركز الثقافي الأندلس بمرتيل.

ليست هناك تعليقات: