إن دراسة اللغة دراسة لا تلتفت إلى المعنى تشبه، كما تقول وريزبيكا (A. Werizbicka)، دراسة علامات المرور من زاوية خصائصها المادية (أي من زاوية وزنها، وحجمها، ونوع الصباغة التي طليت بها...الخ)، أو دراسة بنية العين من دون الالتفات إلى الإبصار أو الإحالة عليه.
أنا وريزبيكا
الغريب في الأمر أن الاتجاه الغالب في البحث اللغوي اليوم هو الاتجاه الذي يغض الطرف عن المعنى في دراسته للغة. فإذا راجعنا برامج الدراسات اللغوية في الجامعات عبر العالم، لاحظنا أن "التركيب"، وخصوصا "التركيب الصوري"، هو الذي يحظى بالأولوية والسبق. أما علم الدلالة الذي يتناول المعنى فما زال مغيبا أو مذيلا في معظم برامج الدراسات الجامعية.
وترى وريزبيكا أن هناك لغوييْن في القرن العشرين هما المسئولان عن دفع الباحثين إلى الاشتغال على "لسانيات بلا معنى". وهذان اللغويان هما ليونار بلومفيلد، ونعوم تشومسكي.
فبلومفيلد كان يخشى الحديث عن المعنى والتطرق إليه في أبحاثه. وكان يرى أن المعنى موضوع يدخل في اختصاص علوم أخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس. أما السبب الذي دفعه إلى الإعراض عن تناول المعنى فيعود إلى أنه كان يروم جعل اللسانيات علما دقيقا. ومن شأن التطرق إلى المعنى في دراسة اللغة أن يحيد بنا عن هذا الهدف؛ لأننا لن نستطيع صوغ أحكام عن المعنى بالدقة نفسها التي نصوغ بها أحكامنا عن الأصوات والصيغ (والتراكيب). بلومفيلد، بعبارة أوضح، كان يصدر في لغوياته عن تصور سلوكي لا يوصي بالالتفات أو الإحالة على الأفكار أو المفاهيم أو الأذهان. والإحالة على هذه المجردات تعد في نظر السلوكيين عموما ضربا من الميل عن جهة الاستقامة في ممارسة العلم. فالنزعة الذهنية (Mentalism) بالنسبة إلى بلومفيلد ولغويي جيله كانت تهمة يتعين النأي بالنفس عنها ما أمكن ذلك. لهذا كانت اللسانيات بالنسبة إلى بلومفيلد علما وصفيا تصنيفيا، مثلها مثل علم الحيوان والجيولوجيا والفلك. ولا يمكن إطلاق العنان في اللسانيات للتأملات الذهنية لأنها ستبعدنا عن العلم أشواطا وتقربنا أكثر فأكثر من التصوف.
إن "الثورة المعرفية" التي حدثت في نهاية الخمسينات من القرن العشرين، والتي قادها تشومسكي وميلر وبرونير وآخرون، قوضت (أو هكذا يبدو) أسس المذهب السلوكي، وجعلت الذهن والمعنى في صدارة البحث في العلوم الإنسانية وفي اللسانيات بوجه خاص. يقول أحد رواد هذه الثورة جيروم برونير: "سعت هذه الثورة إلى أن تعيد الذهن ثانية إلى مجال بحث العلوم الإنسانية بعد شتاء قارس وطويل من نشدان الموضوعية". برونير يرى أن الصلة وثقى بين "الذهن" و"المعنى". يقول: "دعوني أخبركم أولا بما كنا، أنا وأصدقائي (تشومسكي، ميلر...الخ)، نفكر فيه بخصوص هذه الثورة في أيامها الأولى في الخمسينات. لقد كنا نعتقد أن هذه الثورة سعي حثيث لجعل المعنى يحتل صدارة البحث في علم النفس والإعراض تماما عن المنبه والاستجابات أو السلوك الملاحظ المكشوف، أو الدوافع البيولوجية وتغيراتها". هذا إذا شئتم هو الهدف الذي كان يرمي إليه رواد الثورة المعرفية في البدء. لكن الأمور، كما يقع في الثورات كلها، لم تمض كما خطط لها. يقول برونير: " باكرا بدأ الانتقال من التركيز على "المعنى" إلى التركيز على "المعلومة"، ومن بناء المعنى إلى معالجة المعلومات. وهذان أمران مختلفان عن بعضهما اختلافا شديدا. العامل الرئيس الذي كان وراء انتقال التركيز هذا هو دخول الحوسبة بوصفها استعارة حاكمة، وقبول الحوسبة بوصفه مقياسا ضروريا لكل نموذج نظري جيد أو ذي شأن في هذا المجال".
على الرغم من أن "الدلاليات الصورية" (أو "دلاليات النماذج النظرية") تعد دلاليات، كما يشير إلى ذلك اسمها، فإنها لا تسعى إلى وصف المعاني التي ترمزها اللغات الطبيعية والكشف عنها، كما لا ترمي إلى المقارنة بين المعاني في اللغات والثقافات المختلفة؛ بل تسعى في المقام الأول والرئيس إلى ترجمة أنماط من الجمل منتقاة بعناية إلى الحساب المنطقي. إنها لا تهتم بالمعنى (أي بالبنيات التصورية المرمزة في اللغة) بل بالخصائص المنطقية التي تكشف عنها الجمل كاللزوم والتناقض والتعادل المنطقي. إنها كما قال تشيرشيا وماكونيل-جينيت، تعنى بـ"الدلالة المعلومية" وليس بـ "الدلالة المعرفية". وهي إشارة تذكرنا بما قاله برونير أعلاه عن الانتقال من العناية بـ "المعنى" إلى العناية بـ "المعلومة". وقد عبر دوتي عن هذا التوجه، وهو أحد المدافعين عن الدلاليات الصورية (المنتمين إلى ما يعرف بـ "نحو منطغيو")، حين قال: "إن مفهوم الكلمة الذي يُتحدثُ عنه في دلاليات النماذج النظرية ليس له من الناحية المبدئية أي علاقة مهما يكن نوعها بما يدور في رأس الشخص حين يستعمل هذه الكلمة" (دوتي 1978: 379). وعندما بين دوتي أن معنى الجملة في دلاليات النماذج النظرية يقصد به "مجموعة من العوالم الممكنة"، قال "إن المرء لعلى حق في أن يشك في وجود علاقة بين مجموعة العوالم الممكنة والعمليات النفسية التي يتطلبها فهم الجملة" وزاد قائلا: "لا معنى البتة في أن نقدر أن يمسك الشخص ذهنيا بـ 'العوالم الممكنة التي توجد كلها' " (ص 376).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق