06‏/05‏/2012

أصول مفهوم الإنسان ومبدأِ السيادة في الفكر السياسي الأوربي


 نشر الراحل أحمد محفوظ هذا المقال بمجلة دفاتر الشمال، العدد السابع 2003

ملاحظة:
كان الراحل في السنوات الأخيرة من عمره شغوفا بإشكال ملك عليه نفسه وهو البحث عن جسور (كان يحب أن يقولها بالإسبانية دائما: (Puentes) ) تُمكن من ربط السياسة (فكرا وممارسة) بالعلوم العصبية (Neurosciences). فقد كان دائما يحس بعدم الارتياح إزاء النظريات العامة التي نلاقيها في الفلسفة السياسية كنظرية هابرماس عن الديمقراطية التشاورية، أو نظرية رولز عن العدالة الإنصافية، لكونها نظريات عامة جدا وفضفاضة وحمالة أوجه (أصحاب هذه النظريات يفتخرون بهذه الصفات، لكن محفوظ كان شديد النفور منها).. لتعديل الكفة كان يرتاح كثيرا لقراءة الفلاسفة ذوي الميول العصبية، وخصوصا تشورشلاند (باتريشيا وبوول)، ودانيال دينيت، وراما شندران (ولايانور)، وفلاسفة الاقتصاد الذين يعتمدون نظرية الألعاب (أكسيلرود، وروس...الخ)..الخ. لكنه كان أيضا يشمئز من الضيق والصرامة ومحدودية التعميمات التي تقود إليها هذه النظريات. في هذا المقال مارس محفوظ تمرينا، على درجة عالية من الأهمية، حاول فيه أن يستثمر بعض الأفكار البيوسياسية المرتبطة بأعمال فوكو وخصوصا تلك التي طورها جورجيو أغامبين، بالاستناد أيضا إلى كارل شميت، في قراءة مفهومين رئيسين في الفكر السياسي هما مفهوم الإنسان ومبدأ السيادة. أما الأفق البعيد الذي كان يفكر فيه محفوظ في المقال فهو على الدوام ربط الجسور...
مصطفى الحداد



أحمد محفوظ
تقديـــم      
أزمة البديهيات في النقاش السياسي المعاصر
يُبرز النقاش المعاصر حول الليبيرالية السياسية أشد مراحل الفكر النظري الحديث اضطرابا في تحديد مفهوم الإنسانية (هوية الإنسان). فقد أفجر هذا المفهوم اليومَ –بعد اتصاله بمفهوم حقوق الإنسان خاصة– جميعَ المفارقات التي ظل ينطوي عليها ويراكمها منذ أن وضع الفكر اليوناني أن الإنسان حيوان عاقل. كان هذا التحديد أصلَ أولِ نسق نظري في تاريخ الفكر الأوربي، وقد انطوى منذ بدايته على منطق غامض يُدخل الإنسان حيوانيتَه ويخرجه منها، جاعلا له نفسا عاقلة إلاهية الجوهر تُفارق وظائفَه البيولوجية تارة وتتصل بها تارة أخرى. وقد كان أرسطو أول من عانى عناء كبيرا من هذا الغموض والالتباس، فوضع أمتن نسق نظري لفهم هذا الكائن الذي تجتمع فيه الحيوانات وهو ليس بحيوان، ولم يسلم أخيرا من هذه المفارقة (ولم يكن يمكنه ذلك) فتركها معلقة في معظم كتبه (ومنها كتاب النفس خاصة) قائلا، وكأنه يتحسر: هذا هو الإنسان، إنه الكائن الوحيد –من بين الكائنات التي نعرف– الذي فيه بعض من الألوهية، أو على الأقل فيه من الألوهية أكثر مما في هذه الكائنات (كتاب أعضاء الحيوان) (وعانى كذلك علماء اللاهوت المسيحيون أيما معاناة من هذه المفارقة، ولكن ليس منها مباشرة، بل من حدة النظر والتصور المادي الذي عالج به أرسطو هذه المفارقة، فتخيلوا لها حلولا رؤيوية béatifiques ما زال مفعولها ساريا في الفكر الحديث).
لم تنقطع المجادلات منذ ذلك الحين حول هوية الإنسان، وقد شهدت في القرن الثالث عشر تضاربا ونقاشا غنيا في متون طوماس الأكويني ومعارضيه بين الأغسطينية السيناوية والرشدية، وكان الإشكال فيها دائما إشكال اتصال عقل الإنسان بالصور المفارقة، وعليه كان تنبني جميع التصورات الأخلاقية والسياسية.
وفي العصر الحديث، بعد ظهور القيم الديمقراطية وبعض المفاهيم المتصلة بها مثل الحرية والمساواة وغيرها، ثار الجدال حول مفهوم الإنسان من جديد، واندلع توتر نظري حاد بين رؤيتين كبيرتين (تمتد جذور تعارضهما إلى تعارض الميتافيزيقا الأفلاطونية والأخلاق الرواقية)، فكان الإشكال فيه جديدا من حيث الأدوات المفاهيمية المستعملة، وقديما من حيث الرؤية والمحتويات النظرية:
- الرؤية التي تعد الإنسانية طبيعة أو جوهرا، وهي تتبنى المذهب القائل بجوهرية الإنسان الذي ساهم في تطويره عدد من المفكرين مثل Grotius و Pufendorf إلى فلاسفة الأنوار (روسو وكانط)، وهم يرون أن للإنسانية هوية خاصة (مثل أن الإنسان حيوان عاقل)، وأنه توجد طبيعة مشتركة بين جميع الكائنات البشرية، وأنه يجب لذلك أن يُعطى الجميع نفسَ الحقوق بغض النظر عن الفروق (السن، الجنس، العرق، إلخ.). وهكذا فهو مذهب يتصور الإنسانية تصورا مجردا متعاليا، ويدافع عن ديمقراطية كونية مجردة (وهو ما عبر عنه إعلان حقوق الإنسان بفيرجينيا في سنة 1776 التالي: يولد الناس جميعا أحرارا، ولهم حقوق جوهرية وطبيعية)؛
- وأما الرؤية أو الأطروحة الثانية، فقد ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا (المدرسة الرومانسية الألمانية) ثم في فرنسا ففي إنجلترا، وقد قامت تُعارض الثورة الفرنسية وتندد بمظاهر الاستبداد والجور في حق الإنسان. وهي تعدّ التصور الكوني للإنسانية ظلما كونيا لا يعبأ بالاختلافات المشروعة بين الأفراد والجماعات، وأما التصور الجوهري للإنسانية فتعتبره ذريعة لـ "سرير بروكروستيس" كما يقال (وهي صورة بليغة في نقد الكونية المطلقة، فقد كان هذا المتسكع يعترض طريق المسافرين فيرغمهم على أن يرقدوا فوق سريره الصغير إذا كانوا طويلي القامة فيبتر أرجلهم وأن يرقدوا فوق سريره الكبير إن كانوا قصيري القامة فيمدد أطرافهم حتى يجعل قامات الجميع مطابقة لطول سريريه). وقد انتقدت هذه الأطروحة مفارقات إعلان حقوق الإنسان في فرنسا وفي فيرجينيا (مثل المفارقات المتمثلة في مظاهر العنصرية في حق السود والمرأة إلخ.)، واعتبرت التصور المجرد للإنسان تصورا يقصي الأفراد والجماعات التي قد يبدو أنه لا تتجلى فيها الهوية الطبيعية الكونية الخاصة بالإنسان، ويقضي على غنى تعدد الثقافات والتقاليد واختلاف المجتمعات (معظم هذه العبارات والانتقادات وردت في مقال نشره J. Möser في 1790، الذي ألهم حركة فكرية كبيرة رومانسية النزعة قادها مفكرون مثل Jacobi و Rehberg إلى Gentz و A. Müller ضد المبادئ الكونية التي كان يدافع عنها الثوار الفرنسيون).
هذه الأطروحة يعيدها اليوم مذهب فكري هو المذهب الجماعتـي communtarisme (وأكبر ممثليه: M. Sandel، Ch. Taylor، A. MacIntyre، M. Walzer) الذي قام يواجه، في إطار إشكالية جديدة لليبيرالية السياسية والتصور الليبيرالي للهوية، صيغةَ المبادئ الليبيرالية التي مهد لها J. Rawls في كتابه نظرية في العدالة الصادر سنة 1971(1). ينتقد هذا المذهب كون المبادئ الليبيرالية تجرد الفرد عن محيطه أو هويته الجماعية والثقافية ولا تضع في الحسبان اختلافات الهويات الثقافية والاجتماعية وحقوق الأقليات، ولذلك يدعو ممثلوه إلى سياسة أخرى يسميها شارل تايلر "سياسة الاعتراف" أو "سياسة الاختلاف"(2).
 

نظريات العدالة وانهيارها تحت وطأة نجاحها

إن الجدال بين هاتين الرؤيتين لم يفض، لأسباب سنراها فيما بعد، إلى تبيّن الأصول أو العناصر النظرية التي تمنع بناء مفهوم جديد للإنسان يتفق عليه الجميع. وهذه هي حالة هذا الجدال منذ العهود الهلينيستية والقرون المسيحية الوسطى، إلا أنه إن كان أفضى قديما إلى حروب لاهوتية، فهو اليوم –في هذه العقود الثلاثة الأخيرة خاصة– قد أفضى إلى التمرد على فكرة المبدأ الكوني الواحد، وانتهى إلى ظهور نظريات سياسية وأخلاقية تعلن كل واحدة منها عن بديهياتها ومبدئها الأولي الخاص بها.
وهكذا قد توارى من جديد الاهتمام بالأصول الميتافيزيقية لمفهوم الإنسان ومفارقاتها، وتوارت معه هذه الأصول نفسها، وأصبح هذا المفهوم موضوعا يعالَج داخل كل واحدة من هذه النظريات حسب بديهياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بها. وقد دفعت الحاجة إلى مبدأ واحد يضمن سيادة المكتسبات الأنوارية (حقوق الإنسان، الحرية، المساواة، الديمقراطية...) فقامت جميع هذه النظريات تعتنق مبدأ موحدا جديدا يحقق لها وعود الحداثة السياسية ويخلصها من المفارقات الكلاسيكية، وهو مبدأ المساواة (المساواتية égalitarisme) أو العدالة. فصارت هذه النظريات كلها نظريات في العدالة (وكذلك يسميها الفيلسوف الكندي W. Kymlicka في كتابه الفلسفة السياسية المعاصرة الذي يعرض فيه نظريات الليبيراليين والنفعيين والماركسيين والجماعتيين والنسويين... بوصفها نظريات في العدالة(4)، وصار مفهوم الإنسان (وباقي المفاهيم الأنوارية) يعيش مرحلة جديدة ونقاشا واسعا. وأهم ما في ذلك، هو أنه جاءت تشارك اليوم في هذا النقاش نظرية جديدة في الإنسان والأخلاق يطرحها المتشاغلون بالعلوم المعرفية وفلسفة الذهن في مجال علوم الدماغ والبيولوجيا، وهي تقدم أكثر الأدوات الذهنية قدرة على فهم طبيعة الإنسان ونقد المفارقات التي ولّدتها نظريات العقل الميتافيزيقية القديمة والحديثة. نكتفي هنا بالإشارة إلى هذه النظرية، فسنرجع إليها في آخر المقال، وهي نظرية تقع أطروحاتها وقضاياها خارج نظريات العدالة الأخرى وتمثل أفقا جديدا يتجاوزها (من المؤسسات العالمية التي تمثل اليوم هذه النظرية الأخلاقية "اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاق في علوم الحياة والصحة" التي أسست في سنة 1983 بفرنسا ويشرف عليها العالم المتخصص في العلوم العصبية J.-P. Changeux الذي كان لمؤلَّفِه الإنسان العصبوني(3) وأطروحاته شهرة ووقع خاص على الفكر الأخلاقي والفلسفي).
إن أكبر المفارقات الكلاسيكية التي تَجاوزها اليوم –أو بيَّنها على الأقل– النقاشُ السياسي على أرضية مفهوم العدالة هو التصور التقليدي الذي كان يوزع الأفكار السياسية على اليمين واليسار، فلم يعد هناك سبيل إلى البرهان مثلا على مبدأ الحرية الذي يدافع عنه اليمين ضدّ مبدأ المساواة الذي يدافع عنه اليسار، ولا إلى البرهان على هذا المبدأ ضد الآخر، بل قد يجتمع هذان المبدآن في أحد الأطراف المسمى بالوسط (مثل الليبيرالية المعتدلة في دولة الرعاية)، وقد ينسب أحد الأطراف المتعارضة إلى نفسه في وقت ما الشيء الذي كان يعيبه في الطرف الآخر في وقت آخر، وهكذا.
ولكن بأي معنى تجاوز مبدأ العدالة التناقضات القديمة، أو، على الأصح، ما الذي يجعله الآن قيمة يتفق عليها الجميع؟ لما يخلُص R. Dworking في بعض أعماله ودراساته(5) إلى أن النظريات السياسية تجتمع على قيمة عليا واحدة، وهي المساواة، فإن عددا من أصحاب هذه النظريات (وخاصة من يدافع منهم عن مبدأ تعدد الثقافات وحقوق الأقليات مثل كيمليكا) لا يقبل هذه الفكرة للبس الذي تنطوي عليه. فإذا كان المقصود من "المساواتية" أنها نظرية تدافع عن توزيع المداخيل والخيرات توزيعا متساويا مقسطا فذلك غير صحيح، فالمساواتية أو مبدأ العدالة لا يحظى بالإجماع إلا لكونه يتربع على تصور مجرد مفاده أن الكائنات الإنسانية يجب أن تُعامَل بوصفها كائنات متساوية ومواطنين يستحق كل واحد منهم الاحترام والعناية. هذا التصور لا يختلف فيه ليبيرالي متطرف مثل R. Nozick وشيوعي مثل Marx، ما دام أنه فارغ مجرد عن تضارب المعطيات المحسوسة المتعلقة بالحريات والثروات والفرص والملكية وغير ذلك: فرجال اليسار ونساؤه مثلا يدافعون عن المساواة في المداخيل والخيرات لأنها في رأيهم شرط ضروري لتحقيق العدالة والمساواة في التعامل مع الأفراد واعتبارهم، ولتحقيق هذه الغاية نفسها يرى رجال اليمين ونساؤه أنه من الضروري أن تكون المساواة في حق التمتع بالملكية الخاصة وثمار الأعمال الخاصة.
وهكذا فمبدأ العدالة هو اليوم أقدر المفاهيم على احتواء أكبر عدد من التناقضات، وهو مرحلة جديدة متطورة في متعاليات ومجردات الفكر السياسي الأوربي. ولذلك فهو يمدد أكثر في عمر الأصول الميتافيزيقية الأوربية لمفهوم الإنسان ومبدأ السيادة الذي يتصل به (وهو ما سنبينه في الصفحات الآتية)، ويغني الإنسانية اليوم برؤية أوسع ومهارات أرقى لضمان وجودها وسعادتها بقدر ما يغنيها في الوقت نفسه بالتناقضات والمفارقات التي من الطبيعي أن تتفاقم وتنذر بالفشل، وذلك لكونه ما زالت تلهمه –من بعيد أو قريب– آثار "التضخم الأنطلوجي"، منذ مبدأ الموضوعية الرياضية الأفلاطونية (الإيمان بكون الأشياء المثالية توجد وجودا واقعيا(6))، وآثار "المرجع الفارغ"، منذ مبدأ "الاستقلالية" الكانطي.
لا شك أن هذه الوضعية يحس بها المشتغلون حاليا بالنقاش الجاري بين هذه النظريات السياسية في أوربا وأمريكا، ولذلك يقول بعضهم (ومنهم كيمليكا(7)) إن الفلسفة السياسية المعاصرة تنهار تحت وطأة نجاحها. فنجاحها يعني نجاح هذه النظريات في تشبثها بمكتسبات الحداثة الأنوارية. وإن العنصر الرئيس الذي تتغذى منه (بطرق مختلفة) جميع هذه النظريات هو مفهوم "الاستقلالية" autonomie (الذي أبدعه كانط، كما يقول J. B. Schneewind، وقد ألف هذا الباحث كتابا ضخما في الفلسفة الأخلاقية محورُه فلسفة كانط سماه ابتكار الاستقلالية. تاريخ الفلسفة الأخلاقية الحديثة، وفيه يبين بتفصيل كيف صاغ كانط هذا المفهوم(8)). ويعني هذا المفهوم، بكلمة واحدة وإشارة لا تفي بسعته، استقلالية الإنسان بوصفه فردا أو ذاتا مستقلة ينبغي أن لا تطيع إلا "قوانين الحرية"، وهو قلب نظرية كانط الأخلاقية حيث إن الأخلاق تقوم على قانون يقضي بأن الكائنات الإنسانية تلزم نفسها بنفسها وتسيّر أخلاقيا نفسها بنفسها، فالإنسان ذات "فاعلة"، وهو الذي يفعل قولَه وفكرَه وفعله... ويمكن القول إنه انطلقت من ذلك في نغم (اتساق) تعاقبي mélodie séquentielle مبادئُ الحرية وحقوق الإنسان والمساواة وباقي المفاهيم الأنوارية في زمن الحداثة الأوربية، وذلك على مستوى "فضاء شعوري" ينتج ويحفظ التمثلات والمعارف، ويُجري عليها، بوصفها أشياء ذهنية، عملياتِ اتساق دقيقة تُرجع إلى الذات الثابتة جميعَ العلاقات الممكنة بين العالم الداخلي والعالم الخارجي وبين الأحداث الماضية والحاضرة والآتية. فصارت بذلك نظرية الأخلاق الكانطية أمتن نسق ميتولوجي في هذا العصر، وله يدين مبدأ العدالة الذي تفرعت من "ثباتـه" (الذي أرادته نظرية راولز لنفسها دون غيرها) في السياسة المعاصرة نظرياتٌ مختلفة في العدالة. وآخر المكتسبات التي تدين فيها أوربا (والعالم من بعيد) لهذا النسق –وهو ما يفسر نجاح الفلسفة السياسية المعاصرة في تشبثها بالمكتسبات الأنوارية– هو تحولات النظام السياسي المعاصر التي عبرت عن انتصار دولة الحق في النظام الداخلي وعن تكوّن حق دولي يعلو الدول، والجميع يرى في هذا تحققا –ولو متأخرا– لوعود الحداثة السياسية التي قلبها النابض هو "حقوق الإنسان". وهذا يتجلى في كل من الفلسفة السياسية وفلسفة الحق.
هذا هو النجاح الذي تنهار تحت وطأته السياسة المعاصرة. ولكن ما هو المعنى العميق لهذه الوطأة التي تثير الانهيار؟ إنه، بكلمة مختصرة، وطأة السيادة التي صارت تشمل العالم وتتفنن أكثر في خلق "حالات الاستثناء" (وهي تمثل منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا محلّ حياة السيادة وغاية منطقها) والتوسع في أقصى وأعمق جهات الإنسان، فقام الإنسان بوصفه رعية لها يحارب قوانينها الكونية أو الإلهية المجردة ويعارض مفارقاتها، ويدافع عن مفهوم له غير مفهوم "اللاجئ" (بالمعنى الذي تقصده حنا أرندت) في مقولة "حقوق الإنسان".
تعود أصول هذا الإشكال إلى مفارقات مفهوم الإنسان ومبدأ السيادة في أول نسق فكري في تاريخ الفكر السياسي والأخلاقي الأوربي (وهو النسق اليوناني-الروماني). وهذا ما نحاول أن نبينه في الصفحات الآتية، فنرى كيف واجه فلاسفة اليونان مشكل طبيعة الإنسان المادية (المتصلة) واللامادية (المفارقة)، وكيف صاغوا ووضعوا قدراته العقلية والأخلاقية والسياسية في عالم لاطبيعي ميتافيزيقي يفارق طبيعته وحيوانيته ولا يتصل بها إلا اتصالا "شرفيا"، ثم نسير إلى فحص بنية هذا التصور في المفارقات التي راكمها تاريخ الفكر السياسي منذ نظرية Pindaros في السيادة، ونبيّـن كيف ينبني عليها منطق السيادة في إنتاج علاقة السياسة (المدينة) بالحياة العارية والسيد بالرعية وطبيعة الإنسان العقلية الإلهية بطبيعته الحيوانية والعقل باللاعقل... وهذا التصور ما زال يغذي إلى اليوم مفارقة مفهوم الإنسان في الحداثة وكثيرا من المفارقات الأخرى المتصلة به مثل حقوق الإنسان والمساواة والحرية والذات، والأنا والآخر، والعقلانية واللاعقلانية، إلخ.، كما سنرى.
 
- I -
الإنسان حيوان عاقل-سياسي !(ما بين الحياة العارية والسيادة)
كان اليونان يستعملون أكثر من لفظ واحد للدلالة على ما نفهمه من كلمة حياة. فقد كانوا يستعملون لفظ zōē للدلالة على الحياة الطبيعية العارية المشتركة بين جميع الكائنات الحية (الحيوانات، الكائنات الإنسانية، الآلهة)، ويستعملون لفظ bios للدلالة على الطريقة التي يحيا بها فرد أو جماعة ما، وهذا هو ما يعني السياسة، بل هو السياسة ذاتها. أما الحياة العارية (الحيوانية) فإنها خارجة عن المدينة polis، وهي مقصورة على الحياة التناسلية. لما يتكلم أفلاطون (في فيلابوس) وأرسطو (في الأخلاق النيقوماخية) على أنواع الحياة، فإنهما يعبران عن حياة الفيلسوف التأملية والحياة السياسية بلفظ zōē وليس بلفظ bios. ولما يحدد أرسطو في كتابه السياسة غايةَ المجتمع الفاضل (المثالي) فإنه يقابل الحياة الحيوانية (أي كون الإنسان يحيا حياة طبيعية بسيطة) بالحياة السياسية (أي كون الإنسان يحيا حياة سياسية الكيف)، ويعرّف الـ "ما هو سياسي" (الخاصية السياسية) بأنه وجود جوهري غايته الحياة الصالحة الخيّرة. هذا التحديد صار بعد ذلك "النصّ" المرجعَ في تاريخ الفكر السياسي الأوربي (وترجمته اللاتينية التي وضعها عالم اللاهوت الدومينيكي Guillaume de Moerbeke قد زكته بما جعل طوماس الأكويني يجمع بمهارة فائقة بين كمال المدنية وكمال الإنسان الذي يفارق حيوانيته فيحقق الرؤية السعيدة vision béatifique، أي بين السيادة السياسية والقدر المسيحي للإنسان؛ وأما الإنسان الذي يخلو من هذا القدر فهو حيوان دون المدنية وهو رعية لصاحب السيادة المدنية مثلما أن حيوانيته رعية للنفس العاقلة المفارقة).
وأما فيما يخص عبارة أرسطو الشهيرة: الإنسان حيوان سياسي politikon zōion (1253 أ4)، فكونه يقول "حيوانا" وليس "حيا" يؤكد أن الـ "ما هو سياسي" هو الخاصية التي تحدد جوهريا حيوانية الإنسان فتجعله كائنا حيا بالمعنى الذي نعرف، وذلك مثل قوله في الآلهة إنها حيوانات أزلية، فالأزلية تحدد جوهرية الإله وبذلك يصبح إلاها حيا (بما أنه ليس في الثقافة العربية استعداد لهذا التمييز وأن لفظ الحياة فيها يلحق بكل من الإنسان والحيوان والجماد فإننا لا نقف عليه في نصوص الشراح العرب القدامى؛ يرد مثلا في شرح هذه العبارة المتعلقة بالآلهة في كتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد: ثم قال [أرسطو] فنقول إن الإله حـي أزلي في غاية الفضيلة فإذن هو حياة وهو متصل أزلي فإن هذا هو الإله، يريد فنقول إنه إن كان ما يدل عليه اسم الإله أنه حـي أزلي في غاية الفضيلة... (طبعة بويج، ص 1624/1072ب 28)
وهكذا فالخاصية السياسية "تضاف" إلى الحـي الطبيعي (الحيوان)، وبها يكمل الإنسان، وعليها يقوم مفهوم الإنسان، وبها يتميز عن غيره من الكائنات الحيوانية/الحية. وهنا يبدو واضحا في الفكر اليوناني أن الخاصية السياسية والخاصية العقلية (اللوغوس) يتبادلان محلّ جوهرية الإنسان. فالإنسان، هذا الحيوان العاقل وهذا الحيوان السياسي، لا يشْرُف النفْسَ النباتية والحيوانية بوصفه نفسا عاقلة (ناطقة) فقط، بل بوصفه عقلا وسياسة، أي بوصفه كائنا "يستثنـي" حيوانيته ويقصيها عن نفسه العاقلة في الوقت الذي "يستثنـي" فيه الحياة العارية الطبيعية ويقصيها عن المدينة. وتقع المدينة (في كتاب السياسة) في موضع الانتقال من الصوت إلى اللوغوس (النطق، المنطق، العقل...)، ويتبين من ذلك أن العلاقة بين الحياة الطبيعية المتوحشة والحياة السياسية هي نفس العلاقة التي يريدها بين الصوت phōnē واللوغوس تعريفُ الإنسان بكونه حيوانا ناطقا. يقول أرسطو في هذا السياق: "إن الإنسان طبعه حيوان مدني، وإن لم يكن مدنيا، لا اتفاقا ولكن بالطبع، اعتبر أسمى من البشر أو عدّ رجلا سافلا، شأن ذاك اللئيم الذي قرعه هومرس إذ قال عنه: ’إنه متوحش جانٍ مشرد‘. فمن طُبع على هذا الغرار لم يرتح إلا إلى الحرب، لأنه أشبه بالطير لا يعرف الخضوع لنير. (...) فالإنسان وحده ناطق من بين جميع الحيوان. وبما أن الصوت يشير إلى الألم واللذة، فقد وُهب لسائر العجماوات. فطبيعتها قد بلغت إلى الشعور بالألم واللذة (...). وأما النطق فللدلالة على النفع والضرر. ومن ثم على العدل وعلى الجور. وما اختص به الإنسان دون سائر الحيوانات انفرادُه بمعرفة الخير والشر والعدل والظلم وما إليها. وتبادل تلك المعرفة ينشئ الأسرة والمدينة" (في السياسة 1253أ 10-18. ترجمة الأب أوغسطينس برباره البولسي، ط 2، بيروت، 1980، ص 8-9 (رجحنا لفظ "المدينة" عوض لفظ "الدولة" الذي في نص الترجمة الأصلية)).
وهكذا فإننا نقول الكائن الحـي في اللوغوس مثلما نقول الحياة العارية في المدينة. إن السياسة إذن بنية الميتافيزيقا اليونانية-الأوربية، و"تسييس" الحياة العارية الطبيعية هي المهمة الميتافيزيقية الرئيسة التي تقلدتها الثقافة الأوربية، وموضوعها ورهانها هو إنسانية "الإنسان الحي".
ظل تاريخ الفكر السياسي ينظر دائما في هذا الموضوع (موضوع المدينة وتقابُل الحياة البسيطة vivre فيها والحياة الخيّرة bien vivre) من باب فحص وتحديد طرق الحياة الخيّرة بوصفها غايةَ الـ "ما هو سياسي". وما هو حري بأن ننظر فيه ونفحصه هاهنا هو كيف تكونت وتراكمت انطلاقا من هذا التصور اليوناني مفارقاتُ التاريخ السياسي والحضاري في أوربا عامة، وخاصة منها المفارقة الرئيسة التي تتفرع عنها جميع التناقضات، وهي مفارقة مفهوم الإنسان التي يتكئ عليها مبدأ السيادة.
إن السياسة في الحضارة الأوربية تقوم على إقصاء (إخراج، إبعاد، استثناء... exclusion) الحياة العارية الطبيعية (وهذا الإقصاء هو في ذات الوقت إدراج وإدخال وشمول... inclusion). فالعبارة الأرسطية التي تقول إن الحياة الطبيعية تكوّنت لغاية telos محددة، وهي الحياة الخيّرة الصالحة، لا تعني اندماج ودخول "الكون" في الوجود/الجوهر فقط، بل تعني كذلك إخراج-إدخال ex-ceptio (استثناء) الحيوانية عن-في المدينة. فالسياسة (الحياة الخيرة الصالحة) هي الغاية التي وُجدت من أجلها أنطلوجياً الحياةُ الطبيعية العارية، والمدينة هي التي أخرَجت السياسةَ من القوة إلى الفعل. ولذلك فنص M. Foucault الشهير –وفوكو من أبرز من تشاغلوا بـ "البيوسياسة"– الذي يقول فيه "إن الإنسان عند أرسطو حيوان حي وهو زيادة على ذلك قادر على أن يكون له وجود سياسي" نص يوحي بمعنى غير المعنى الذي يريده أرسطو –كما يلاحظ الفيلسوف الإيطالي G. Agamben– إذ لا يتعلق الأمر بـ "زيادة" ولكن بمعطى طبيعي-أنطلوجي، وأرسطو نفسه يميز في بداية كتابه في السياسة بين الـ "ما هو سياسي" والـ oikonomos (رب تدبير المنزل) والـ despotes (رب الأسرة) حيث يعتبر أن دور هذين الأخيرين هو التناسل والحفاظ على الحياة، ويسخر من الذين يحسبون أن الفرق بين هذين الربّيْـن والـ "ما هو سياسي" هو فرق في الكم وليس في النوع.
وهكذا فالحياة العارية في السياسية الأوربية وثقافتها لها إذن ميزة خاصة وهي أنه بإقصائها واستثنائها تتأسس مدينة الإنسان. والسياسة إن هي توجد فلأن الإنسان هو الكائن الحي الذي يفصل ويقصي عنه حياته العارية الطبيعية، ويقيم في الوقت نفسه علاقة مع هذه الحياة تقوم على الإقصاء والإدماج، والاستثناء والاحتواء. وهكذا فمقولة السياسة في هذه الثقافة لا تتمثل في تقابل الصديق والعدو بل تتمثل في تقابل الحياة العارية والوجود السياسي، والاقصاء والإدماج، والإخراج والإدخال... وهذه المقولة بنيـة مبدأ السيادة souveraineté ومنطق مفارقاته. فالسيد يوجد خارج نظام الحق (القانون) وداخله، ويعترف له نظام الحق بسلطة المطالبة بحالة الاستثناء état d’exception وبرفع وإلغاء صلاحية القانون. إن حالتَه حالةُ من يقول "أنا السيد، أُوجد خارج القانون، وأعلن أنه لا شيء يوجد خارج القانون" (يتطرق C. Schmitt في كتابه التيولوجيا السياسية إلى هذه المفارقة في الفكر السياسي الحديث بتفصيل(9)، وهو من المؤلفات الرئيسة التي ألهمت نقاد أصول الفكر السياسي في أوربا، ومنهم الفيلسوف الناقد الإيطالي أغامبين مؤلف كتاب الإنسان الحرام وهو من الكتب المهمة التي نستفيد منها في هذا الموضوع(10)).
إن أقدم نصوص هذه المفارقة يوجد في نظام القانون الروماني. فالقانون الروماني لا "يُدخل" الحياة الإنسانية نظام القانون إلا في شكل "استثناء"، إذ يجعلها نفسا/حياة يجوز قتلها ولا يعاقَب قاتلُها، وهذه الحالة تعني حياة "الإنسان الحرام" (المقدس) homo sacer (وهي حياة يجوز قتلها ولا يجوز أن يفتدى بها، أي لا يجوز أن تقتل للقربان أو لطلب الفدية، كما سنرى فيما بعد)، وصورة هذا المقدس هي دون المقدس الديني أو أقدس منه، وهي تمثل النموذج الأولي للفضاء السياسي الأوربي.
لعل المشكل الذي صار يؤرق المفكرين المعاصرين، وهو أن ما يميز السياسة الحديثة هو احتواء وإدخال الحيوانية/الحياة في المدينة (وقد قام فوكو بدراسات عميقة في هذا الموضوع يبين فيها كيف أصبحت الحياة موضوع حسابات وتوقعات سلطة الدولة...)، لعلّه أقل أهمية من مشكل منطق السيادة الذي صار يترسخ أكثر فأكثر بطرق متطورة ماهرة، إذ في الوقت الذي أصبح فيه الاستثناء هو القاعدة، صار فضاء الحياة العارية، الذي كان دائما على هامش التنظيم السياسي، صار شيئا فشيئا فضاء السياسة، فأصبح من الصعب رسم الحدود بين الاستثناء والاحتواء، والإقصاء والإدماج، والخارج والداخل، والحياة والحيوانية، والحق droit والفعل fait.
هذه الحالة تشعر بها الديمقراطية الحديثة، ولذلك فقد قامت تطالب بتحرير الحياة العارية الحيوانية zōē وتحاول أن تحوّل هذه الحياة الطبيعية إلى شكل ما من الحياة تعثر فيه على حياة الإنسان bios في الحيوان. وبهذا تتميز الديمقراطية الحديثة عن القديمة. ولكنها تتميز عنها بهذا المطلب فقط، وأما أصولها فهي نفس الأصول الميتافيزيقية، ومبادئها تستند دائما إلى الكليات والعموميات المتعالية. ولذلك حين يقول شميت إن القاعدة في السياسة الحديثة تحيا بفضل الاستثناء، فهو يعبر في الواقع عن الطريقة التي تستند بها السيادة إلى العموميات فتصوغ وتخلق باسمها حالات الاستثناء. فما يؤسس القانون في الواقع هو الاستثناء وليس الكليات. والسيادة السياسية تنبني على ما تستثنيه وتقصيه. وحالة الاستثناء أهم من الحالة العادية cas normal. فالحالة العادية لا تدل على شيء، بينما الاستثناء يدل على كل شيء، وهو ليس يؤكد القاعدة فقط بل إن القاعدة تحيا بفضله.
ولما يأتي شميت برأيه في العموميات السياسية ليصف مفارقاتها –ولكن دون الاهتمام بأغوارها الأنطلوجية– فإنه يستشهد بنصوص عالم اللاهوت البروتيستانتي Kierkegaard –أب الوجودية!– التي يعبر فيها عن ملله من كثرة الكلام على العام والعمومي وعن دفاعه عن الاستثناءات (والواقع أن انتقادات هذه الكليات في الثقافة الأوربية من Schelling إلى Heidegger هي عموما انتقادات وجودية حوّلت القضايا الميتافيزيقية المفارقة إلى هموم متصلة بوجود الإنسان "فـي" العالم؛ ولعل مثال كيركغارد الذي أتى به شميت أقل الأمثلة تعبيرا عن هذا الإشكال، وأساليبه الفكرية وانتقاداته الذكية الموجهة ضد الأنساق الفكرية (وخاصة فكر Hegel) لدحض عمومياتها لم تكن تلهمها في الغالب –بغض النظر عن أزمته الغرامية الشهيرة وذاته القلقة– سوى طريقة التهكم والسخرية السقراطية).
إن هذا المنطق الذي يسوّغ للسيادة السياسية أن تخلق حالات استثنائية باسم العام الكلي وتُقصيها عن الحقوق "المدنية" وتحتويها في الوقت ذاته بحقوق "شرفية" (في الحصول على الهبات والإعانات مثلا) هو كذلك منطق القانون الروماني القديم حيث كان الرومان يرون الاستثناء شكلا من الإقصاء يلغي لزوم تطبيق الحق المدني، ويعتبرونه تقابلا بين الحق المدني ius civile والحق الشرفي ius honorarium الذي يأتي به الشّارع الروماني للتخفيف من شدة "عمومية" الحق المدني؛ وهكذا كانت تُقصى حالة الاستثناء عن الحق المدني دون أن تخرج عن ما تتوقع لها المعايير من قرارات. وهنا تعبر السيادة عن دور آخر لها، وهو أنها تحوّل علاقة التقابل بين هذين المتطلبين القانونيين إلى علاقة دنيا حساسة بين ما هو داخل الحق وما هو خارجه.
ويؤكد شميت على منطق هذه العلاقة بين السيادة والاستثناء فيبين أن الاستثناء الذي يتغذى منه الناموس السيادي هو الذي يفسر أن السيادة لا تعني "الاستيلاء على إقليم" وإقرار نظام قانوني ونظام إقليمي فقط، ولكنها تعني كذلك، بل تعني أولا وأساسا، "الاستيلاء على ما هو خارجي" ومستثنـى. فالقرار السيادي في الاستثناء هو بنية القانون السياسية، وهو الذي يفسح المجال لإقرار نظام قانوني ولتحديد الإقليم.
وهكذا فإذا كان الاستثناء بنية السيادة، فالسيادة ليست مفهوما سياسيا فقط، أو مقولة قانونية أو قوة خـارجة عن الحق (شميت) أو قاعدة عليا للنظام القانوني (Kelsen)، بل هي البنية الأصلية التي يرجع فيها الحق (القانون) إلى الحياة فيحتويها بإلغائها، ويدمجها فيه بإبعادها عنه. والسيادة بهذا المعنى يدل عليها مفهوم عميق يستخلص من لفظ ban الذي استعمله، في هذا السياق، الفيلسوف J.-L. Nancy، وقد ورد في دراسة له حول مفهوم القانون في "تاريخ الغرب" يحدّد فيها البنية الأنطلوجية للقانون بوصفه تخليا (تجنيبا) a-ban-don(11). هذا اللفظ المشتق أصلا من اللغة الجرمانية القديمة له معان كثيرة، والمعنى الذي يحال عليه هنا يمكن التعبير عنه بعبارة "محلّ المستثنَـى" (والأصح هو "محلّ المُستثنِـي-المُستثنَـى": اسم فاعل واسم مفعول). فهو المحل الذي يوجد فيه من يُقصَى ويُتخلى عنه، وهو كذلك المحل الذي يوجد فيه صاحب السيادة خارج القانون. إنه المحل الذي يخلق فيه السيّدُ القانونَ خارج القانون. وهو المحل الذي تعيش فيه السيادة مفارقتها باطمئنان. إن قوة الناموس (القانون) التي لا تعلوها قوة تتمثل في أن هذا القانون يسيطر على الحياة في محلها المستثنى وفي ذات الوقت يخليها ويجنبها. ومكان أو محل الاستثناء هذا المتخلَّى عنه هو بالنسبة إلى القانون كالضاحية ban-lieue بالنسبة إلى المدينة.
إن المبدأ الذي يجعل السيادة تنتمي إلى القانون، وهو المبدأ الذي لا ينفصل اليوم عن تصورنا للديمقراطية ودولة الحق، لا يلغي مفارقة السيادة بل يزكيها ويرسخ منطقها ووجودها أكثر. وإذا عدنا إلى أصول السياسة الأوربية فإننا سنقف على أقدم تعبير عن هذه المفارقة في فكر Pindaros (بينداروس شاعر يوناني مرموق عاش في القرن الخامس قبل الميلاد؛ كان يمدح عظماء الحرب ويستخلص من تجاربهم فلسفةً في الفضيلة، وكان طغاة صقلية يشرفونه مرارا بالأوسمة). ونص بينداروس الشهير في هذا الموضوع يقول: "إن الناموس هو سيد الموتى والخالدين، وهو يقود العنف بعدالة". هذا النص كان مصدر تأويلات كثيرة وأشهرها تأويلات أفلاطون. فالقانون أو السيادة هو المبدأ الذي يمزج العدالة بالعنف، ويقرن القانون بالعنف ويجعلهما في محل لا يُميز الواحد منهما عن الآخر. لقد كان الشاعر اليوناني Hesiodos يعرّف الناموس بأنه السلطة التي تفصل بين العنف والقانون وبين عالم الحيوان وعالم الإنسان، وكان المشرّع والشاعر الأثينـي Solôn لا يرى في ارتباط القانون بالعنف ما يبعث على التهكم ولا يرى فيه أي التباس، ولكن لم يحظ أي منهما بالتأثير الذي حظي به فكر بينداروس، الذي مبدؤه أن الناموس السيادي هو المبدأ الذي يقرن القانون بالعنف ويطبعهما باللاتمايز.
إن فكر بينداروس نواة الفكر السياسي في تاريخ أوربا. والعالم المعاصر يتجذر في هذه النواة من حيث إن السيّد ما زال تلك العتبة التي يتحول العنف فيها إلى قانون والقانون إلى عنف.
يقدم أفلاطون في محاورة جورجياس قراءة مختلفة لنص بينداروس، ويحاول في كثير من مؤلفاته، في بروتاغوراس وخاصة في الكتاب العاشر من القوانين، أن يفنّد التقابل الذي كان يقيمه السفسطائيون بين الطبيعة phusis والقانون nomos وأن يدحض أطروحتهم القائلة بأسبقية الطبيعة على القانون، وذلك ليرفع المفارقة عن مبدأ السيادة الذي يقوم على الجمع بين العنف والعدالة. يعتمد أفلاطون في نقده رؤيتَه الشهيرة التي ظلت قائمة طوال تاريخ الفكر السياسي خلف كل خطاب يسوّغ للسيادة حقَّها في خلق وتعيين حالات الاستثناء والسيطرة عليها، إذ يبين أن النفس وكل ما يتصل بها (العقل، الصناعة، الناموس) هي الأصل وأنها سابقة على الأجسام والعناصر (المادية، الطبيعية) "التي نسميها خطأ أشياء توجد بالطبيعة" حسب قوله.
يعدّ أغامبين معارضة السفسطائيين لأسبقية الناموس على الطبيعة –وللفكرة القائلة إنه معمول لصالحها (وكان هذا موضوع جدال حاد في القرن الرابع قبل الميلاد)– مقدمةً للتعارض بين حالة الطبيعة والكمنويلث الذي سيبني عليه Hobbes مفهومه للسيادة. إذا كان السفسطائيون يرون أن أسبقية الطبيعة تبرر في نهاية الأمر عنف الأقوى، فإن هوبس يرى كذلك أن تطابق حالة الطبيعة والعنف homo huminis lupus يبرر سلطة السيد المطلقة. إن حالة الطبيعة عند هوبس تضمن حياتها في شخص صاحب السيادة (الملك)، والسيادة تُدمِج حالة الطبيعة في المجتمع وتصبح بذلك تلك العتبة التي لا يُميز فيها العنف عن القانون ولا الطبيعة عن الثقافة، وعدم التمييز هذا هو الذي يمثل خاصية عنف السيادة.
وهوبس، كما يقول Leo Strauss، كان يعلم أن حالة الطبيعة ليست بالضرورة مرحلة واقعية، وأنها مبدأ يوجد داخل الدولة ويظهر في اللحظة التي "يُعدّ فيها هذا المبدأ وكأنه قد حُلّ"(12).
وهكذا فـ "ما هو خارج" (الحق الطبيعي ومبدأ الحفاظ على الحياة الخاصة) هو نواة النظام السياسي وبها يحيا، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه شميت في دراسته لمبدأ السيادة بقوله: إن القاعدة تستقي حياتها من الاستثناء. إن قول شميت وآراءه في نظرية السيادة تتوّج في الواقع ما بناه تاريخ الفكر السياسي على أساس ما قاله بينداروس في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو أن السيادة أو القانون لا يقوم إلا لأن هناك محلا مستثنى خارج القانون يقترن فيه العنف بالعدالة، وأهم أشكال هذا المحل هو الحياة العارية أو الطبيعة أو الأرض الفارغة... وهذا ما يجعل شميت يقول إن الناموس السيادي، بوصفه حدثا يتكون منه الحق، يعلو كل تصور وضعي للقانون بوصفه وضعية عادية و"اتفاقية". ولذلك فلما يتطرق إلى موضوع العلاقة بين المحّلية localisation والنظام السياسي، وهي العلاقة التي تحدد ناموس الأرض/الإقليم، فإنه يرى أن ذلك كان يقتضي دائما وجودَ منطقة مستثناة (مستبعدة) عن نظام الحق تتحدد بوصفها "فضاء حرا يخلو من القانون" يكون فيه صاحب السيادة غيرَ مقيد بقواعد الناموس. كان يمثل هذا الفضاءَ في العصر الكلاسيكي (عصر القانون العام الأوربي ius publicum Europaeum) "العالـمُ الجديد"، وهو يطابق حالة الطبيعة، وكل شيء فيه مباح (يقول Locke: كان العالم كله في البدء أمريكا)، وهذه المنطقة التي خارج (ما بعد) الحدود يَعدّها شميت مطابقة لحالة الاستثناء.
وهكذا فما أصبحنا نراه اليوم هو أن الناموس السيادي، الذي يتصل ضرورة بحالة الطبيعة وحالة الاستثناء، لـم تعد حالةُ الاستثناء (التي يتداخل فيها العنف والعدالة) خارجةً عنه فقط بل وكذلك داخلة فيه. فقد صارت حالة الطبيعة وحالة الاستثناء وجهين لعملة واحدة. وما كان يحسب خارجا (حالة الطبيعة) يظهر الآن من جديد أنه داخل (حالة استثناء). فقد تداخل الخارج والداخل، والطبيعة والقانون، واختفى كل أثر قد يدلنا على العدالة أو غير العدالة. وهذا ما رأيناه خاصة بعد الحرب العالمية الأولى حيث زالت العلاقة بين المحلّية (الإقليمية) ونظام القانون وزال نظام الحدود وقواعد "القانون العام الأوربي" وأصبح أساس كل ذلك مخفيا وراء الاستثناء السيادي. وإننا نرى اليوم بوضوح كيف أن فضاء حالة الاستثناء (فضاء الفراغ القانوني) قد امّحت حدودُه الزمانية-المكانية وأصبح متداخلا متشابكا مع النظام (القانوني) ومطابقا له؛ فهو الآن يوجد داخله تماما، وأصبح كل شيء داخله مباحا تماما. وإن شئنا أن نمثل هذه العلاقةَ بين حالة الطبيعة وحالة القانون في حالة الاستثناء بأشكال مرسومة، كالتي وضعها أغامبين(13)، لتصورنا أولا دائرتين منفصلتين (شكل 1) تضمنت الواحدة منهما الأخرى في حالة الاستثناء (شكل 2) فلما صار الاستثنـاء يمثل القاعدة تطابقت الدائرتان تماما (شكل 3):



 
 
شكل 1
شكل 2
شكل 3

                          
ولذلك فزوال أنظمة الدول التقليدية في أوربا الشرقية –إذا اكتفينا بهذا المثال– لا يعني في الواقع عودة ظهور الحالة الطبيعية وصراع الجميع ضد الجميع للإعلان عن مواثيق اجتماعية جديدة أو محلّيات وطنية أو دولية، بل يعني ظهور حالة استثنائية بوصفها بنية لا محلية لها وشراذم قانونية-سياسية. وليس هذا الذي يحدُث تقهقراً في النظام السياسي أو رجوعا إلى أشكال سياسية بالية بل هو عوارض تنذر بناموس (قانون) الأرض الجديد الذي إذا لم يفند مبدؤه لطوى العالم أجمع(14).
 

أنطلوجية العلاقة بين السلطة التأسيسية/الدستورية والسيادة

لا شك أن أكثر العلاقات دلالة على مفارقات السيادة هي العلاقة بين السلطة التأسيسية/المؤسِّسة (السلطة الدستـورية: التي تضع الدستور أو تعدله؛ السلطة المُدستِرة) والسلطة المؤسَّسة (وهي التي تؤسسها وتكونها السلطةُ الدستورية؛ السلطة المُدستَرة). إن السلطات المؤسَّسة (اسم مفعول) لا توجد إلا داخل الدولة، وهي في حاجة إلى الدولة للتعبير عن نفسها، ولا تكون مفصولة أبدا عن نظام قانوني جاهز أُقر "من قبلُ"؛ وأما السلطة التأسيسية فإنها توجد خارج الدولة، لا تدين للدولة بشيء، وتوجد دون حاجة إلى دولة، وهي المنبع الذي "لا ينضب" (وبهذا المعنى أو بما يقاربه يحيل على هاتين السلطتين مؤلف كتاب العلوم السياسية G. Burdeau(15)).
تطرح العلاقة بين هاتين السلطتين دائما مشاكل معقدة تعوق انسجامهما، وذلك ليس فيما يتعلق بفهم الطبيعة القانونية لديكتاتورية الدولة وحالة الاستثناء فقط، ولكن كذلك فيما يتعلق بسلطة المراجعة التي يقرها النص الدستوري نفسه. من المعروف الآن أن الأطروحةَ القائلة بكون السلطة التأسيسية سلطة أصلية لا تختزل ولا تخضع لأي نظام قانوني وتبقى ضرورة خارج كل سلطة مؤسَّسة أطروحةٌ لا تحظى بنفس الإجماع الذي تحظى به الأطروحة المضادة التي تريد اختزال السلطة التأسيسية إلى سلطة المراجعة المقررة في الدستور، وذلك في إطار النزعة المعاصرة إلى إخضاع جميع الأشياء للمعايير. وقد قام W. Benjamin مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى بنقد هذه النزعة (في مؤلفه من أجل نقد العنف(16)) مبيّنا أن العلاقة بين السلطة التأسيسية والسلطة المؤسَّسة هي مثل العلاقة التي بين العنف الذي يؤسس القانون والعنف الذي يحافظ عليه. وإذا كان المدافعون عن الأطروحة المنبثقة من التقليد الديمقراطي-الثوري يرون أن عنف السلطة التأسيسية الذي يؤسس القانون أنبلُ من عنف السلطة المؤسَّسة التي داخل الدولة، فإن لا شيء مع ذلك يشرع لهم بأن يختلفوا عن السلطة المؤسَّسة، وتبقى العلاقة هنا بين السلطتين ملتبسة لا يمكن تجنبها.
ليس هناك ما يفسر هذا الالتباسَ أحسنَ تفسير غيرُ بديهية أطروحة Sieyès الشهيرة القائلة: إن الدستور يقتضي قبل كل شيء سلطةً تأسيسية. لقد وُصفت هذه الأطروحة دائما بأنها قول بديهي لا يقول أيَّ جديد. ولكنها في الواقع قوية الدلالة إذ إن بديهيتها تدل على رسوخ شيء صار لا يفكَّر فيه، وهو المفارقة التي ينطوي عليها مبدأ السيادة ويوزعها (إن سيّيس، 1748-1836، هو صاحب كتاب ما هي الطبقة الثالثة؟ Qu’est-ce que le Tiers Etat ?، وكتابه هذا كان له تأثير كبير على الوضع السياسي في عصره، وله مكانة خاصة في تاريخ الأفكار السياسية والثورة الفرنسية، ففيه يصوغ بوعي جديد ملتزم جميع التمردات الاجتماعية، ويدافع عن الحقوق بوصفها مبدأ يكوِّن الأمة، وهي الطبقة الثالثة، مقابل الإكليروس والنبلاء).
كان سِيّيس يدرك أن السلطة السيادية تفترض حالة طبيعية تربطها علاقة استثناء بالقانون، ولذلك فهو يرى أن السلطة التأسيسية/الدستورية (المطابقة "للوطن") تقع في حالة الطبيعة خارج العلاقة الاجتماعية، ويقول في ذلك "إن الأوطان فوق الأرض أفراد يوجدون خارج العلاقة الاجتماعية... في حالة الطبيعة". وتناقش H. Arendt فكرة سيّيس هذه في كتابها في الثورة(17)، فتخلص إلى أن لحظة السيادة في المشاريع الثورية تنبع من مقتضى مبدأ مطلق يؤسس الفعل التشريعي للسلطة الدستورية، ثم تُبيّن أن هذا المقتضى يؤدي إلى حلقة فارغة. وهذا هو ما عبرت عنه، في أيام الثورة الفرنسية، دعوة Robespierre إلى مبدأ أو أصل متعال يكون دائم السلطة، ولا يتطابق مع الإرادة العامة للوطن ولا مع إرادة الثورة، فتكون السيادة المطلقة تُعطي السيادةَ الوطنَ باسم "مشرّع خالد" لا يفنـى يضمن الحفاظ على الجمهورية أو على بعض استقرارها على الأقل.
لا شك أن المشكل الأساسي في كل هذا ليس هو أن نتصور سلطة تأسيسية لا تنضب ولا تفنى أبدا في السلطة المؤسَّسة، بل هو أن نميز بين السلطة التأسيسية/الدستورية والسلطة السيادية. فمحاولات التفكير للحفاظ على السلطة التأسيسية كثيرة وقد صارت مألوفة مع مفهوم "الثورة الدائمة" (تروتسكي) ومفهوم "الثورة المستمرة" (ماو). وفي هذا السياق، فحتى سلطة "المجالس" هي من المحاولات التي سارت في هذا الاتجاه المحافظ على السلطة التأسيسية، وذلك رغم أن هذه "المجالس" قد حاولت دائما السلطات الثورية إلغاءَها مثلما قد ألغاها الحزب اللينيني والحزب النازي، وهذان الحزبان يمثلان هما كذلك في نهاية الأمر المحافظةَ على السلطة التأسيسية مع السلطة المؤسَّسة.
تجدر الإشارة إلى أنه يتبين في هذا الاتجاه أن هذه البنية "الثنائية" لأنظمة الحكم المطلق في عصرنا تمثل حلا تقنيا قانونيا لمشكل الحفاظ على السلطة التأسيسية (وهذا هو ما جعل أعمال مؤرخي الحق العام معقدة جدا إذ إن حزب الدولة في هذه الأنظمة هو نسخة مطابقة لنظام الدولة).
إن هذه المفارقات التي تفرزها العلاقة بين هاتين السلطتين لا يمكن أن تتضح دون النظر إليها من باب العلاقة بين السلطة التأسيسية والسيادة، ولا يكفي أن نتفطّن لهذا بل ينبغي فضلا عن ذلك أن نفحص ونعرف كيف تنبع مفارقات السلطة التأسيسية من نفس الأصول الميتافيزيقية التي تنبع منها مفارقات مبدأ السيادة. لقد تفطن سِيّيس فعلا "للمحل المستثنى" الذي تسكنه السلطة التأسيسية، وهذه الفكرة صارت واضحة عند الجميع، ولكنها لم تشق الطريق إلى البحث عن العناصر النظرية القديمة. وأما شميت، فبغض النظر عن كونه لا يبحث في هذه الأصول النظرية، فله رأي يخالف هذه الفكرة وتجدر الإشارة إليه. فهو يقول، محاولا أن يخلّص السلطة التأسيسية من مشكل السيادة الذي يلحق بها، إن السلطة التأسيسية هي "إرادة الشعب"، وإرادته قادرة على اتخاذ القرار الأساسي في طريقة وشكل وجودها السياسي الخاص، وهكذا فهي تقع "قبل وفوق كل إجراء (أصل) تشريعي دستوري"، وهي متميزة ومفصولة نظريا عن سلطة السيادة. هذا الرأي يطرح من جديد مشكل التمييز بين سلطة السيادة وسيادة الشعب أو الوطن، فإرادة الشعب المؤسِّسة بهذا المعنى قد تطابق السلطة التأسيسية، وهذه هي حالة فكر سيّيس، وشميت نفسه يلاحظ عليه ذلك. ولكنه يتشبث برأيه فينتقد المحاولة الليبيرالية لكونها تغلق وتحد ممارسة سلطة الدولة بقوانين منصوص عليها تثبت سيادة الدستور، ويقول إن السلطات القائمة بمراجعة الدستور لا تحصل أبدا على سيادة أو سلطة تأسيسية، وكل ما تفعل هو أنها تنتج "أعمال سيادة مزيفة". ومن هنا يحدث على مستوى المعايير إفراطٌ وتجاوز في كل من السلطة التأسيسية وسلطة السيادة.
وهكذا فما نخلص إليه –من غير أن يريده شميت– يؤكد مرة أخرى ما نحن في صدد مناقشته، وهو أن هذا الإفراط في كل من هاتين السلطتين يشهد على علاقة صميمة بينهما تجد أصولها في منطق السيادة.
إن كتابات المفكر الإيطالي T. Negri أهم الأعمال الفكرية القليلة التي اهتمت بهذا البعد الجذري لمبدأ السيادة في علاقته بالسلطة التأسيسية. فهي تبين أن السلطة التأسيسية لا يمكن أن تختزل إلى أي شكل من أشكال السلطة المؤسَّسة، وأنها لصيقة ببعدها الجذري وليست مفهوما سياسيا بالمعنى الحقيقي بل بالمعنى المجازي الذي يعني أنها مقولة أنطولوجية، وبالتالي فمشكل السلطة التأسيسية مثل مشكل "تأسيس القوة" (القوة بالمعنى الأرسطي).
لا بد إذن من نقل هذا المشكل السياسي إلى حقل الفلسفة الأولى للكشف عن أصول الجدل بين السلطة التأسيسية والسلطة المؤسَّسة في العلاقة بين القوة والفعل. وقد قام عدد من المفكرين يدعو إلى إعادة النظر في هذه الأصول لحل العقدة التي تربط السيادة بالسلطة التأسيسية وتحرير هذه السلطة من "المحل المستثنى" الذي يسكنه السيد (ولكن هذه الدعوة كانت تسعى إلى ميتافيزيقا جديدة ولا تسير إلى أبعد مما قام به سبينوزا وشيلنغ ونيتشه وهيدغر...). ما يهمنا هنا هو أن ننظر كيف تُصوّرت العلاقة بين هاتين السلطتين منذ أن كان أرسطو يعارض الفلاسفة الميغاريين (وهم مثل السياسيين الذين يدعون اليوم إلى اختزال السلطة التأسيسية/المؤسِّسة إلى السلطة المؤسَّسة) الذين يقولون إن القوة إنما توجد في الفعل (لا توجد إلا في الفعل).
إن العلاقة بين السلطة المؤسِّسة والسلطة المؤسَّسة معقدةٌ ومنطقُها هو منطق العلاقة التي يصوغها أرسطو بين القوة dunamis والفعل energeia. يقول أرسطو ضدا على الميغاريين إن القوة إنما توجد مستقلة عن الفعل. فعازف القيثارة مثلا تكمن فيه قوة العزف وتوجد فيه خالصة مستقلة عن فعل العزف (وجود قوة العزف لا يحتاج إلى فعل العزف)، وكذلك مثلا مع النجر والبناء فإن فعل صناعة النجارة هو في النجر وفعل صناعة البناء هو في أن يبني... ويحاول أرسطو في أغلب صفحات المقالة التاسعة من كتاب ما بعد الطبيعة (مقالة الطاء) أن يبين كيف أن القوة تتلاشى كل مرة في الفعل وأن لها وجودا خاصا، ويقول إنه يجب أن تكون القوة قادرة على أن تخرج إلى الفعل وقادرة على أن لا تكون شيئا، أي أن تكون "قوةُ أن يكون" كذلك "قوةَ أن لا يكون" (لا قوة) adunamia (1046أ 32). وله قول أوضح في ذلك يقول: "وجميع الذي له قوة يمكن أن لا يفعل فإذن الذي له قوة أن يكون يمكن أن يكون وأن لا يكون فإذن الشيء الواحد له قوة أن يكون وأن لا يكون والذي له قوة أن لا يكون ممكن أن لا يكون" (1050ب 10). ونقف في نفس المقالة على عبارة دقيقة أُوّلت في تاريخ الفكر الأوربي تأويلا مختلفا متضاربا، وهي تقول: "إن القوي هو الذي إن كان له فعل ذلك الذي يقـال إنه له قوة لا يكون شيء البتة ليس له قوته" (1047أ 24-26). إن عبارة " لا يكون شيء البتة ليس له قوته" التي اقتصر تأويلها غالبا على فكرة أنه لا يكون ممكنا إلا ما هو غير مستحيل (غير ممتنع) تحيل على فكرة أن القوي على الشيء لا يمكن أن يفعله إلا إذا تنازل عن قوته على أن لا يكون، وهذا التنازل لا يعني تلاشي القوة بل هو "إقرار بها" (يمثل أرسطو لذلك بمثال القوة على القعود ويفسره ابن رشد بعبارات تهمنا هنا: "مثال ذلك أنه إن كان شيء ما قوي على القعود فهو الذي يمكن منه القعود، وهذا إذا قعد فلم يفعل فعلا لم يكن قويا عليه... وإنما أراد [أرسطو] أنه إذا فعل [القويّ على الشيء] الشيءَ فعلا فينبغي أن يُسأل منكِرُ تقدُّمِ القوة على الفعل بأن يقول قائل له: هل فعَل هذا ما كان قويا عليه قبل الفعل أو غيرَ قوي؟ فإن قال ما كان غير قوي عليه فقد فعل الممتنع عليه وإن قال فعل ما كان قويا عليه فقد أقر بالقوة قبل الفعل" (ص 1135، طبعة بويج).
وهكذا فإذا تأملنا أكثر في هذا التنازل (التخلي) وجدناه يدل على نوع من اكتمال القوة إذ إن القوة ترجع إلى نفسها "لتُعطَى لذاتـها"، وخروجُها إلى الفعل غايتُه أن تحافظ على نفسها وتعطي نفسها لنفسها (كما نرى في مقالة الطاء وكذلك في كتاب النفس (417ب 2-16) حيث يأتي بمثال القوة على العلم وفعل العلم (التأمل) ليبين أن القوة تعطَى لذاتها وللفعل epidosis eis auto).
يقدم هذا الوصفُ لطبيعة القوة النموذجَ الفلسفي للسيادة في تاريخ أوربا. فالقوة بوصفها قوةً على أن تكون وقوة على أن لا تكون هي المنطق الذي يؤسس به الكائنُ/الوجود سيادتَه. والفعل السيادي هو الذي يتحقق بإلغاء قوته على أن لا يكون. وهكذا فالسيادة دائما ثنائية (مفارقة)، تلغي نفسها، بوصفها قوة، وتبقى في علاقة تنازل وتخلّ (استثناء) مع نفسها لتتحقق فيما بعد كفعل مطلق، وهذا الفعل ليس غيرَ قوته نفسِها. إن القارئ إذا ساح في مقالة أرسطو التاسعة من كتاب ما بعد الطبيعة دون أن تكون له آراء وأحكام مسبقة على هذه النصوص فإنه يصعب عليه أن يعرف هل الأوّلية متصلة بالقوة أم بالفعل (هل هي أولية القوة أم أولية الفعل)، بل إنه قد يرى في ذلك تناقضا كبيرا. ولكن ما يراه تناقضا هو منطق في حد ذاته، وهو منطق علاقة مبهمة بين القوة والفعل لا يستوعبها غير منطق السيادة، والمنطقة المبهمة غير المحددة التي لا تتميز فيها القوة عن الفعل هي المحلّ الذي يسكنه صاحب السيادة.
هذا هو ما سُمّي في دراسة G. Mairet بالطابع الأسطوري لإيديولوجيا القوة، وهي دراسة مهمة في تاريخ الإيديولوجيات تبيّن كيف تتأسس دولة السيادة على "إيديولوجيا القوة" وتطرح أن "القوة توجد قبل أن تمارس وأن الطاعة سابقة على القوانين التي تجعلها ممكنة [أي التي تجعل الطاعة تخرج إلى الفعل]"(18). ولكنه في الواقع أكثر من طابع أسطوري، فله جذور أنطلوجية ومقولات ثابتة يحدد الكائن بمقتضاها نفسه فيكون نفسَه أو يقول نفسَه بما تقضي به العلاقة بين القوة والفعل (هذه المقولات ليست في الحقيقة إبداع رجل واحد هو أرسطو، بل هي غارقة في أصول وثقافة ترجع إلى ما قبل أرسطو وأفلاطون، إلى متون ديونيزوس إلى حتى فلسفات الهند والصين، وتأتي عبر الأغسطينية اللاتينية إلى الرؤية السعيدة في الأخلاق الأكوينية (الطوماوية) التي هي أخلاق الحداثة، من إيطاليا إلى كندا. والبحث في هذا بواسطة مفاهيم علمية خارج كل مصفاة تراثية داخلية يوقفنا على معطيات دقيقة تبين أن ثنائية الفعل والقوة ليست أكثر أسطورية من ثنائيات الغرب والشرق، والذات والموضوع، والأنا والآخر، وما إلى ذلك).
لقد قامت في الفكر الحديث محاولات هامة للتفكير في الكائن خارج مبدأ السيادة ومبدأ العلاقة بين القوة والفعل، ومنها فلسفة التجلي في فكر شيلنغ الذي يرى أن الوجود مطلق لا يقتضي قوة وينفي أن يكون الكائن يوجد بخروجه من القوة إلى الفعل ومفهوم العود الأبدي في فلسفة نيتشه ومثول الكائن في الوجود في فلسفة هيدغر، إلخ. لكن هذه "الأشكال" الفكرية تختار دائما أحد الشيئين (كما يقول أغامبين): القوة على أن يكون أو القوة على أن لا يكون، فتنتهي إلى ترسيخ مفارقة السيادة أكثر دون تجاوزها. وتبقى المفارقة الميتافيزيقية قائمةً فتطفو طبيعتها السياسية على السطح.
 

إشارة إلى كانط بوصفه منظرا لقانون يجري به العمل وهو لا يعني شيئا

إن أحد مظاهر الفعل المطلق الذي بلغته السيادة (بإقصاء حالة الاستثناء واحتوائها في ذات الوقت) يتجلى في أن القانون صار يشمل ويغزو الحياة في حالة الاستثناء (حيث إن أدنى نسيان أو حركة بريئة قد تؤدي إلى عواقب قصوى)، وبات يحضر فيها حضورا كليا إلى أن صار لا محتوى له، فأصبح القانون شيئا يجري العمل به دون أن يعني شيئا ما. هذه هي حالة السلطة السيادية، كما يقول W. Benjamin، ويضيف أنه في عصرنا يتجلى هذا في جميع أقطار العالم حيث يعيش الناس جميعا (في المجتمعات والثقافات الديمقراطية أو الكليانية (التوتاليتارية) أو المحافظة أو التقدمية) في "محل مستثنى" ban يسكنه قانون أو تراث/تقليد لا يجري العمل به إلا بـ "درجة الصفر" من محتواه، وهم في ذلك مُدرجون في علاقة مع السيادة يطبعها الاستثناء (التخلي) والاحتواء (الإدماج) في آن واحد.
يقدم Kafka في روايته المحاكمة صورة بليغة لهذا الاختزال إلى درجة الصفر حيث يصفه بـ "العدم في التجلي"، أي أن هناك قانونا (أو تقليدا أو شريعة...) يَظهر أنه قانون لكون العمل به جاريا، ولكنه لا يعني شيئا، فيختزل إلى درجة الصفر، ولكنه لا يزول، فيتجلى العدم. هذه بنية أصلية في العلاقة السيادية. والنزعة العدمية التي نحياها اليوم أو نتبناها ثقافة أو سلوكا تؤكد هذا النوع من العلاقة.
هذا القانون الكوني الذي لا يعني شيئا مبدؤه أن الناس يتحركون فيه كما يشاؤون، والسيادة تصنعه كل يوم بشكل يجعله فراغا، ولكن قد يتحول في رمشة عين إلى "حالة استثناء" مملوءة إذا ما شاءت القوة على شيء معين أن لا تتنازل عن قوتها على أن تكون (أي أن لا تتنازل على أن تخرج إلى الفعل). وهناك صورة غنية لحالة الاستثناء هذه استقاها كثير من الفلاسفة المعاصرين (ومنهم J. Derrida في إطار اشتغاله بـ "تفكيك" مبدأ السيادة) من رواية كافكا أمام القانون وأولوها تأويلات كثيرة، وهي صورة الرجل القروي الذي يدخل باب القانون ولا شيء يمنعه سوى كون هذا الباب مفتوحا من قبلُ وكون القانون لا يلزم بشيء. إن القانون هنا "يحرسه حارس لا يحرس شيئا، والباب يبقى مفتوحا وهو مفتوح على لا شيء" (ديريدا). ويتطرق M. Cacciari في كتابه أيقونات القانون إلى هذه الصورة قائلا: "إذا كان الباب مفتوحا، فكيف لنا أن نأمل فتحَ [شيء ما]؟ كيف يمكن أن ندخل ما هو مفتوح من قبلُ؟ إن المفتوح من قبل يُبطل الحركة... وهذا القروي لا يمكنه أن يدخل، لأن دخول ما هو مفتوح من قبل يستحيل أنطلوجيا". ليس أمام القروي إذن إلا أن يسلم أمره لقوة القانون، فالقانون لا يطلب منه شيئا، وهو يُدخله لما يُخرجه ويُخرجه لما يُدخله، وهذه قمة الحالة السيادية، وهي التي يعبر عنها كافكا في المحاكمة بقولة الراهب الذي يلخص مبدأ المحكمة كما يلي: "إن المحكمة لا تريد منك شيئا. إنها تستقبلك حين تجيء، وتتركك لحالك حين تمضي".
هذه الحالة هي صفة القانون الذي عبر عنه كانط بقوله إن الإرادة الخالصة (أي المحددة فقط بالقانون) "لا تكون حرة ولا غير حرة". هذا القانون "الذي يجري العمل به دون أن يعني شيئا" ظهر لأول مرة في الحداثة بشكل منسق ومرتب مع كانط. يقول كانط في كتابه نقد العقل العملي عن "صورة القانون البسيطة" (ويظهر أنه قانون يجري به العمل ومعناه مختزَل إلى درجة الصفر): "إذا جردنا قانونا ما من كل مادة، أي من موضوع للإرادة (كمبدأ محدِّد)، فما يبقى هو صورة التشريع الكوني البسيطة". لا شك أن قوة وغنى الأخلاق الكانطية تتمثل في كونه استطاع أن يصوغ نسقا نظريا جعل العمل يجري بقانون مبدؤه فارغ، ويقابل هذا المبدأ في المعرفة الموضوع الترنسندنتالي، وهذا الموضوع ليس موضوعا واقعيا وإنما "فكرة علاقة خالصة" تعبر عن الكائن في علاقة فكر مع موضوع غير محدد على الإطلاق. وهكذا فالقانون الأخلاقي يصير هنا "قدرة لا يمكن كشفها". فالاحترام (مراعاة الغير وتقديره) عند كانط يحيل على حالة شخص يحيا في ظل قانون يجري به العمل ولا يعني شيئا، أي قانون لا يلزم ولا يمنع أي غاية محددة. وهذا "الفراغ" الذي "يملأ" به القانون كل شيء نقف عليه في كل نصوصه وخصوصا منها ما جاء في إحدى كتاباته في موضوع ما لا يصح عمليا وقد يصح نظريا حيث يقول: إن الدافع الذي يحركنا قبل أن تكون هناك غايةٌ ما لا يمكن أن يكون إلا القانون نفسُه، وذلك بفعل الاحترام الذي يلهمنا به (دون تحديد الأهداف التي يمكن أن نحققها بخضوعنا له). إن نظرية كانط في هذا الموضوع واسعة جدا وأبعادها كثيرة، وهنا قد أشرنا إليها فقط لنرى كيف تلتقي بمفارقات السيادة. فهي تلتقي بها من حيث إنه مثلما أن طابع القانون (الأخلاقي) الصوري الخالص يقوم على نزعة كونية تنزع إلى تطبيقه في كل ظرف وحالة، كذلك القوة الفارغة، التي هي قوة على أن لا تكون، تغزو الحياة وتشملها لحد أنها تقصيها باحتوائها. وهذه هي حالة الاستثناء.
ليست نظريات القانون الفارغة (المتعالية) في الواقع أقل حدة من النظريات النفعية في ترسيخ مفارقات السيادة، وهي تقوم منذ القديم بهذه المهمة، وفي الغالب عن غير قصد. ولكن أبرز مظاهرها المقلقة اليوم يتمثل في كون الفكر والمواقف الفكرية صارت تقوم هي نفسها بدور حارس العدم الذي تفتح هذه النظرياتُ المتعالية البابَ عليه (على العدم) (وذلك مثل التفرج والسكوت أو الإطناب في التأويلات المجردة أمام وقائع العالم السيادية ومفارقاتها). وهكذا فالأساس الأنطلوجي للمفارقة السيادية يبقى قائما، وتصبح السيادة هنا قانونا يعلو القانون الذي تنازلنا له. ولعل كتاب الفيلسوف نانسي الذي أشرنا إليه فيما سبق يقدم في هذا الموضوع أحسن دراسة لتجربة "القانون الذي يجري به العمل ولا يعني شيئا"، إذ يتتبع فيه عن كثب البنيةَ الأنطلوجية للقانون بوصفه تخلّيا أو تخلية (أي بوصفه قانونا فارغا يقصي ويتخلى عن كل شيء، وبمجرد ما يمس شيء ما سيادته يجعل منه حالة استثناء فيحتويه بقاعدة قانونية فارغة ثم يتخلى عنه وهكذا)، فينتهي إلى أن تاريخ أوربا يمثل "عهد التخلّي" époque de l’abandon.
 
السيد و"الإنسان الحرام" homo sacer
إن هذه الاستراتيجية الفراغية يقودها صاحب السيادة بمنطق العلاقة بين العنف والقانون التي كان بينداروس أول من صاغ قاعدتها السيادية، وقد ظلت هذه العلاقة تغذّي مفارقاتها، كما رأينا، بمبدأ عميق، وهو مفهوم "الحياة العارية" التي وضعها التصور اليوناني في منطقة التداخل و"اللاتمايز" (حالة الاستثناء) التي يفتحها العنف السيادي بين القانون والطبيعة، والخارج والداخل، والتي يحتفظ السيد فيها بحقه وقدرته على فصلهما أو مطابقتهما. يرى ف. بنيامين المذكور أعلاه أن الحياة العارية ليست مبدأ عميقا وحسب بل هي أعمق مبدأ تستهلكه السيادة في علاقة العنف بالقانون (وتعتبر أعماله الفكرية أغنى ما كتب في هذا الموضوع).
إن هذه العلاقة بين السلطة السيادية والحياة العارية تعيش اليوم أشدّ مفارقاتها صراخا –بعد تاريخ طويل معقد اختفت فيه بشتى أنواع طرق التفكير والمفارقات النظرية– وتتجلى في ذلك الدفاعِ المستميت عن الطابع المقدّس للحياة، الذي نربطه بحياة الإنسان (وحتى بحياة الحيوان)، وتدور حوله أنشطة فكرية وغير فكرية كثيرة تدافع عن حقوق الإنسان والحق في الحياة والحرية إلخ. هذا الإنسان المقدّس الذي تزكيه وتدافع عنه فلسفات وسياسات اليوم اليوم والمظاهرات والشعارات المعارضة هو –من سخرية الأقدار كما قد يبدو!– ذلك الإنسان نفسه الذي يدافع عنه صاحب السيادة، بل إن صاحب السيادة أكثر غيرة وحرصا عليه. وذلك لأن هذا الإنسان نسخة وصورة جديدة لذلك الإنسان المقدس، أي ذلك الإنسان "الحرام" (الذي يجوز قتله ولكن لا يجوز في ذات الوقت أن يضحّى به) والذي كان القانون الرومـاني (Festus) يجعل منه مرجعا للسيادة وحالة الاستثناء التي تقتضي أن يتدخل صاحب السيادة في شأنها ليقرر مصيرها. فهذا الإنسان ليس موضوع القانون الإنساني ius humanum (إذ لا يعتبر قتله جريمة، في القانون الجنائي) ولا هو موضوع القانون الإلهي ius divinum (إذ لا يجوز أن يضحى به للقربان أو لطلب الفدية).
كان Festus أول من وصف صورة هذه العلاقة بين القداسة والحياة الإنسانية في القانون الروماني القديم، ويقول نصه الشهير في ذلك (وقد أُوّل عبر تاريخ الفكر تأويلات كثيرة أبعدته عن معناه الأصيل الذي يربطه بمفهوم السيادة، وهذا ما يلاحظ أغامبين الذي اختصت جميع أعماله الفكرية بهذا الموضوع، وخاصة منها كتابه المذكور آنفا): "إن الإنسان المقدس/الحرام (...) لا يجوز أن يضحّى به، ولكن إذا قتله أحد فلا يكون مجرما ولا يعاقب على ذلك؛ إن أول قانون عند محامي حقوق الشعب يثبت أنه ’إذا قَتَل أحد ما رجلا قد أُعلن عنه باستفتاء شعبي أنه مقدس، فليس هو بقاتل‘، ولذلك جرت العادة أن يوصف الإنسان المقدس بالرداءة والدنس."
ما هي إذن حياة هذا الإنسان المقدس/الحرام، التي توجد في نقطة التقاطع بين قتل مباح وتضحية محرمة، خارج قانون الإنسان وخارج قانون الإله؟ إن الجواب عن هذا السؤال سار في اتجاه آخر جعل تاريخ الفكر يتصور نفسه أنه أمام نظرية في "التباس المقدس"، فانشغل إلى ما لا نهاية بأعمال ودراسات إثنولوجية وسيكولوجية وغيرها تبحث في مفهوم المحرّم (الطابو) وما يتصل به. لقد راجت هذه النظرية في أعمال علمية كبيرة فيما بين أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، ولكن صياغتها الأولى وضعتها الدراسات الأنتربولوجية في نهاية العهد الفكتوري، ومنها انتقلت مباشرة إلى علم الاجتماع الفرنسي، فأثرت في كتابات Bataille عن السيادة وفي أعمال Benveniste (كما يتبين من كتابه في معجم القـوانين الهندية-الأوربية). وأمـا الكتـاب الذي سـار أبعد في هذه النظرية فكان له أقوى الأصداء هو كتاب W. Roberston Smith (قراءات في تاريخ الساميين(19))، ويظهر تأثيره جليا في كتاب Freud الشهير، الطوطم والطـابو. ومن هنا ترسخت فكرة ارتباط القداسة بالدنس، من الشعوب البدائية إلى حتى ثقافة الشعوب السامية، وعلى هذا المنوال سار علماء كبار مثل Mauss و Hubert و Durkheim و Fowler و Fugier... هذا الاتجاه (الذي انتقده أغامبين في معظم مؤلفاته) عالج مفهوم القداسة في غير محله، فالقداسة أو الحرمة صورة مستقلة عن ذلك، وهي تعبّـر بالأحرى عن بنية سياسية أصلية توجد في محل سابق على ذلك التمييز بين المقدس والدنيوي، وبين الديني والقانوني. فبنية القداسة التي حددتها أعمال هؤلاء العلماء لتفسير العلاقة الملتبسة بين إباحة القتل ومنع التضحية بعيدة في الحقيقة عن الأصول النظرية السياسية لهذه العلاقة. إن الطريق إلى فهم هذه الأصول وسريانها في تاريخ أوربا السياسي يقتضي أن نفصل بين عنصري هذه العلاقة، فذلك هو ما سيبيّن لنا كيف أنها حاصرت حياة الإنسان (الإنسان الحرام) باستثناء مزدوج: إباحة القتل تستثنيه من القانون الإنساني؛ ومنع التضحية به يستثنيه من القانون الإلهي (هكذا يتعرّى الإنسان ويُتخلى عنه ويصبح قائما في منطقة/حالة الاستثناء التي هي محلّ قرارات وأحكام وأفعال صاحب السيادة).
إن طابع الحياة المقدس الذي ندافع عنه بوصفه حقا إنسانيا أساسيا ضد سلطة السيادة يعني إذن، على العكس مما تصورته إثنولوجيا القرنين الأخيرين، إخضاعَ الحياة لسلطة الموت من جهة، وتعريضها لحالة الاستثناء من جهة أخرى. وهذا ما يبينه A. Magdelain في كتابه عن القانون في روما القديمة(20) (وهو غني بالمعلومات عن الطرق التي كانت تنهجها السيادة لتضمن وجودها في القانون الروماني بلجوئها إلى قوانين المحامين عن حقوق الشعب وثورته...)، حيث يعرّف الفضاء السياسي بكونه فضاء يوازي فيه استثناءُ الإنسان الحرام (الحياة العارية) استثناءَ السيد، إذ يَخضع الواحدُ للقتل، ويحكُم الآخرُ بالقتل، وكلاهما يوجد خارج القانون الإنساني وخارج القانون الإلهي.
وهنا نمسك بسهولة الخطَّ الذي ينطلق من هذه المفارقة إلى الدور الذي قامت به التيولوجيا السياسية المسيحية في توطيد هذه المفارقة حيث إنها جعلت الحياة المقدسة والحالة الاستثنائية المشتركة بين صاحب السيادة الآمر بالقتل و"الإنسان الحرام" المعرض للموت يكون لها عند الواحد مآلٌ غير المآل الذي يكون عند الآخر. فالسيد (الإمبراطور، الملك) تقام له موتة/جنازة ثانية لتثبُت حياتُه العارية المقدسة في الألوهية (تأليه apothéose)، بينما تبقى الحياة العارية المقدسة في الإنسان الحرام قائمةً كما هي معرّضةً للموت ولا يُسمح بأي طقس للتضحية بها وافتدائها. هذه الظاهرة يوقف عليها بتفصيل كتابُ E. Kantorowicz عن "التيولوجيا السياسية في العصور المسيحية" وعنوانه: جسَدَا الملِك، دراسة للتيولوجيا السياسية في العصور الوسطى(21)، وفيه يبين كيف كانت السيادة، بوصفها قوة مطلقة دائمة، تتبنى صورة جسم المسيح الروحي لتؤكد استمرارها في الجسم الأخلاقي/الروحي والسياسي للدولة، وتعبر عن ذلك عدة ظواهر مثل ظاهرة جنائز ملوك فرنسا حيث كان يوضع تمثال الملك (نسخته، الجسم الثاني) من الشمع في فراش الشرف تعبيرا عن الجسد الخالد (وهذه الظاهرة يربطها كانطوروفيتش بظاهرة تأليه الأباطرة الرومان حيث كان يحرق الإمبراطور مرتين على الحطب في عهد الأنطونيين).
 

نصف-إنسان نصف-حيوان هوبس

إننا إذا ما تتبعنا الخيط المنطلق من تصور الفكر اليوناني للعلاقة بين الحيوانية والعقل في الإنسان إلى يومنا هذا لاندهشنا من تراكم وترابط المفارقات التي أفاضها، من قريب أو من بعيد، هذا التصور في تاريخ الفكر السياسي الأوربي. ففي دراسة قام بها المفكر الحقوقي R. Jhering في كتابه روح الحق الروماني(22) يتبين أن مفهوم الإنسان الحرام يرتبط كذلك ارتباطا وثيقا بمفهوم الإنسان-الذئب (الذي لا يعتبر قتله جريمة) في القانون الجرماني القديم. فقد مثلت الثقافة الجرمانية والإسكندنافية خصائص الإنسان الحرام في شخصين: شخص اللص والشخص الذي هو خارج القانون، وهو الإنسان-الذئب أو الذئب المقدّس بحسب المعنى الديني. وهكذا فالإنسان الحرام/المقدس يرتبط بصورة هذا الوحش الهجين hybride الذي وصفه قانون القديس إدوارد، ملك إنجلترا، باللص وبـ "رأس الذئب" caput lupinum، وهو ينص على طرده من الجماعة/المجتمع communauté. إنه نصف إنسان نصف حيوان، يقع بين الإنسان والحيوان، بين المدينة والغابة، بين القانون (الناموس) والطبيعة.
إذا فحصنا فحصا دقيقا مفهوم الحالة الطبيعية عند هوبس وجدناه يتصل اتصالا وثيقا بهذا المعنى. فالحالة الطبيعية لا تحيل على مرحلة زمنية توجد قبل تأسيس المدينة/الدولة، بل هي كما رأينا مبدأ داخل المدينة يظهر عندما تعتبر المدينة "وكأنها قد حُلّت". والإنسان-الذئب عند هوبس يحضر بالمعنى الذي يقصده القديس إدوارد وليس فقط بمعنى وحش الغابة وحياة الطبيعة. إنه حالة استثناء، والحالة الطبيعية عند هوبس ليست حالة ما قبل القانون أو حالة لا علاقة لها بقانون المدينة، بل هي حالة استثناء يمثّل فيها كل واحد حياةً عارية (إنسانا حراما) بالنسبة إلى الآخر (وليس فقط حالةَ حرب الجميع ضد الجميع)، وفي هذه الحالة وفي حالة حلّ المدينة dissolutio civitatis يصير من الممكن ذآبة الإنسان (جعل الإنسان ذئبا) وأنسنة الذئب (جعل الذئب إنسانا). هذه هي العتبة التي تستند إليها السيادة. إذا رأينا المسألة من وجهة نظر السيادة، فإن الشيء الوحيد الذي هو سياسي حقا، ليس ذاك الفضاء السياسي كما تصوره الحداثة في خطابها عن حقوق المواطن والإرادة الحرة والعقد الاجتماعي، بل هو هذه الحياة العارية. لهذا فأساس السلطة السيادية عند هوبس يقوم على كون السيد يحتفظ بحقه الطبيعي في الفعل (والتصرف بلا حدود في كل شيء) أكثر مما يقوم على كون المواطنين/الرعايا يتنازلون له عن حقهم الطبيعي. وهذا الامتياز يتمثل عنده في حق المعاقبة: "هذا هو أساس حق المعاقبة الذي يجري العمل به في كل جمهورية. إن الرعايا لا يعطون السيدَ هذا الحق، ولكن تنازلهم عن حقوقهم يمكّن السيد من فعل ما يراه صالحا لحفظهم جميعا" (اللوفياثان). لا يقوم العنف السيادي هنا على ميثاق/عقد ولكن على إدماج-إقصاء الحياة العارية في-عن الدولة.
لا شك أن مفهوم تأسيس المدينة في فكر هوبس إلى فكر روسو يبدو أسطوريا كلما تبين أن حالة الطبيعة حالةُ استثناء تظهر فيها المدينة في كل لحظة حُلّت فيها المدينة، وأن تأسيس المدينة ليس حدثا يتم في الزمن بل استمرار فعل القرار السيادي في الحالة الاجتماعية، وأن القرار السيادي مرجعه حياةُ المواطنين –وهو العنصر السياسي الأصلي– وليس إرادتهم الحرة. هذا ما دفع أغامبين إلى أن يقول في كتابه الإنسان الحرام: إن ما جعل الديمقراطية عاجزة عن مواجهة مشكل السيادة هو أنها لم تفهم أن "العقد" عند هوبس أسطورة تحيل على "المحل المستثنى" ban. وهو يرى (مثل فوكو) أن هذا العجز يعني أن عصرنا صار مضطلعا ومتفننا بشكل غير مسبوق في الحسابات والاستراتيجيات لإنتاج حياة الإنسان الحرام/المقدس العارية وللحصول على أجسام لطيفة يتحكم فيها. فهذه القدسية/الحرمة خط هروب صار ينتقل في السياسة المعاصرة إلى مناطق غامضة ومظلمة وأوسع لحد أنه تطابق مع الحياة البيولوجية للمواطنين أنفسهم. ولذلك فإذا كان لا يُرى اليوم شكل محدد يميز هذا الإنسان المقدس فربما لأنه قد أصبح الناس جميعا مقدسين، بهذا المعنى، أي بمعنى قداسة الإنسان الحرام.
وفي هذا الإطار يرى K. Löwith –وهو أول من كشف عن مبدأ "تسييس الحياة" بوصفه طابعا أساسيا في سياسة نظام الحكم المطلق– أن هناك علاقة عجيبة تجمع بين الديمقراطية والكليانية (التوتاليتارية). فالمطالبة بالحياة العارية في الديمقراطيات البرجوازية أظهرت تفوّق الخاص على العام والحقوق الفردية على الإلزامات الجماعية، وهذه المطالبة نفسها في الدول الكليانية أظهرت المعيار السياسي الحاسم والمحل الأرفع للقرارات السيادية. وفي محل هذه القرارات الواقعة على الحياة العارية، صار في كل دولة حديثة نقطةٌ تبيّن اللحظة التي يتحول فيها القرار على الحياة إلى قرار على الموت، أي تتحول فيها سياسة الحياة إلى سياسة الموت.
لعل أول نص في الديمقراطية الحديثة أقر بأن الحياة العارية موضوع للسياسة هو نص القرار بأن يجب أن يكون لك جسد Habeas corpus الصادر في سنة 1679 (لهذه الصيغة أصول تعود إلى القرن الثالث عشر حيث كان يشترط في الشخص حضورُه البدني أمام العدالة، ولكن هذه الصيغة الآن تنظر إلى الجسد لا بوصفه موضوع العلاقات الفيودالية القديم (رعية) ولا بوصفه مواطن المستقبل، ولكن بوصفه جسدا بسيطا طبيعيا). ما يثير الانتباه في هذا القرار –الذي يبيّن لنا كيف تترسخ المفارقات القديمة عندما تُواجَه آثارُها بنفس الأصول والمنطق الذي وَلّد هذه الآثار– هو أنه، وإن كانت غايته حماية حرية الأفراد، قد جعل الديمقراطية الأوربية الناشئة تلجأ إلى الحياة الطبيعية الحيوانية zōē (التي هي محلّ القرار السيادي) لمواجهة نظام الحكم المطلق، وليس إلى حياة الفرد bios بوصفه مواطنا. إن قوة الديمقراطية الحديثة، وتناقضها الصميم، يتجلى في كونها لم تُلغ الحياة العارية (المقدسة/الحرام) ولكن كسرتها وشتتتها في جسم كل فرد لتحقيق رهان الصراع السياسي. وهنا يظهر جذر النزوع البيوسياسي الخفي في الحياة السياسية المعاصرة، ويتمثل في أن صاحب الحقوق يحتمل الشيء وضده، فهو الآن رعية وسيد subiectus superaneus، ولا يمكنه أن يكون نفسه إلا بأن يجعل الاستثناء السيادي في نفسه ويعزل جسمه في داخله. (وهذا الازدواج يظهر في كل من اللوفياثان (هوبس) والعقد الاجتماعي (روسو)).
 
حقوق الإنسان أو إنسان الحقوق
لا شك أن صورة "اللاجـئ" في كتاب حنا أرندت أفول الدولة الوطنية ونهاية حقوق الإنسان تقدّم لنا أحق صورة لمفارقة مفهوم حقوق الإنسان وأزمته. فالمتشاغلون بحقوق الإنسان وجدوا أنفسهم لأول مرة –مع اللاجئ– أمام إنسان فَقَد كلّ خاصية وكل علاقة خاصة بشيء ما، غير علاقته بوجوده، وظهر أن لا محلّ له في مجال حقوق الإنسان الذي تطويه الدولة الوطنية.
إن "إعلان حقوق الإنسان والمواطن"، الصادر سنة 1789، يتضمن أصلا هذه المفارقة وهذا الالتباس. فإعلان حقوق الإنسان ينقل السيادة من الملكية، الإلهيّة الأصل، إلى الدولة القومية. وهكذا، فبعد أن كانت حياة الإنسان الطبيعية في النظام القديم حياةَ مخلوقٍ مِلْك للإله، وبعد أن كانت مفصولة (على الأقل ظاهريا) عن الحياة السياسية في العهد الكلاسيكي، صارت الآن في الواجهة وصارت أساسَ السيادة. فمفهوم الولادة في البند الأول، الذي يقول "يولد الناس أحرارا ومتساوين في الحقوق ويظلون كذلك..."، تختفي فيه الحياة الطبيعية وراء مفهوم المواطن citoyen. ومبدأ كل سيادة يقوم أساسا على مفهوم الوطن/الأمة (nation، والكلمة مشتقة من فعل ولد naître) من حيث إنه يغلق الدائرة التي تفتحها ولادة الإنسان.
إن النزوع "القومي-الوطني" في الدولة الحديثة (في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين) ليس أساسه الإنسان بوصفه ذاتا سياسية حرة واعية، بل أساسه هو قبل كل شيء حياته العارية، أي ولادته، فولادته صارت بعد تحوله من "الرعية" إلى "المواطن" المحلَّ المباشر الذي تنزل فيه السيادة. وهذا واضح في القوانين الأوربية الحالية المتعلقة بالعلاقة بين الولادة والجنسية، وفيها يعبر عن الحصول على الجنسية بلفظ naturalisation، فلما يكتسب الشخص الأجنبي الجنسيةَ فهو كأنه يكتسب ولادته (nationalité/natus)، ويصير طبيعيا، أي تصير له حياته الطبيعية العارية. بهذا المعنى يصبح سيدا، وبهذا المعنى كذلك انتقلت السيادة الملكية إلى السيادة القومية-الوطنية.
وهكذا فبعد أن كان مبدأ السيادة ومبدأ الولادة منفصلين في النظام القديم، حيث كانت ولادة الإنسان تعطيه الحق في أن يكون رعية فقط، صارا اليوم مجتمعين نهائيا في جسم "الرعية السيد". ويبين A. Rosenberg –المعروف بكتاباته عن مفهوم الأرض والدم في نظرة القومية-الاشتراكية إلى العالم– أن مبدأي السياسة الثقافية والقومية (وسياسة الدولة)، وهما الأرض والدم، لهما في الواقع أصل قانوني معروف، فليسا غير ذينك المعيارين اللذين كان القانون الروماني يحدد بهما صفة الرعية (المواطنة... أي تسجيل الحياة في نظام الدولة): الولادة على أرض معينة ius soli، والولادة من آباء رعايا (قرابة الدم) ius sanguinis. اكتسى هذان المعياران انطلاقا من الثورة الفرنسية أهمية جديدة وحاسمة، فلم تعد المواطنة تعني الخضوعَ لسلطة الملك (خضوع الرعايا) أو لقانون معين (ولا تعني مبدأ المساواة الذي كان يدافع عنه Charlier بعد الثورة الفرنسية مطالبا بحذف لفظة monsieur أو sieur)، بل تعني وضعية جديدة للحياة بوصفها أصل السيادة وأساسها، ووضعية المواطنة بهذا المعنى هي ما عبر عنه Lanjuinais في المجلس التأسيسي سنة 1792 بعبارة "أعضاء السيد" (بالمعنى الحرفي للعبارة). ومن هنا كان التباس مفهوم "المواطنة" في الفكر السياسي المعاصر، ولذلك يقول روسو: "لم يفهم أحد من مفكري فرنسا المعنى الحقيقي لكلمة ’مواطن‘"، ولهذا كان سِيّيس يميز الحقوقَ الطبيعية والمدنية عن الحقوق السياسية باعتبار الأولى حقوقا سلبية والثانية حقوقا إيجابية: فجميع السكان، في بلد ما، يحق لهم وجوبا أن يتمتعوا بحقوق المواطن السلبي (المتلقي)، ولكنهم ليسوا جميعا مواطنين إيجابيين (فاعلين)، ومنهم النساء والأطفال والأجانب.
هذه المطابقة في العلاقة بين السيادة والمواطنة/الولادة، بين السياسة والحياة العارية، بين السيد والرعية...، التي تتميز بها السياسة الحديثة، تمثّل أقصى مراحل الفكر السياسي الأوربي منذ أن بدأ الفكر اليوناني يصوغ تصوّرَه الميتافيزيقي للعلاقة بين طبيعة الإنسان الحيوانية وخاصيته العقلية/السياسية. فهذا التصور "العلاقي" ظل يحتل بأشكال مختلفة عبر التاريخ "جهازَ الإدراك" ومنطقَ التفكير في كثير من أنواع الفكر (المعرفي، الفلسفي، الأخلاقي...)، ولـه إلى حتى اليوم قدرةٌ "غيبيـة" كبيرة على أنواع كثيرة من الخطاب النظري، وهي تتجلى في أن هذا الخطاب لا يقدر بعدُ على أن لا ينخرط في متقابلات المفارقات التي ما زال يـجرُّها –ميتافيزيقياً– أغلبُ المفاهيم المعرفية والأخلاقية والسياسية، وخاصة مفهوم الإنسان (والمفاهيم المتصلة به مثل الحرية والمساواة والحقوق والديمقراطية...)، وغيره من الأزواج المفاهيمية السائدة مثل العقلانية واللاعقلانية، والمادة واللامادة، والتعدد والاختلاف مقابل مبدأ الواحد ومبدأ الذاتية، والأنا والآخر، إلخ... (وهذه الأزواج المفاهيمية تجري قدرتُها "العجيبة" اليوم حتى على الخطاب النظري في الثقافات التي تخلو بنية التفكير فيها من هذا التصور الميتافيزيقي مثل الثقافة العربية الإسلامية والثقافة اليهودية بوصفها ثقافات "إمبيريقية" لا تؤلِّه الإنسان ولا تُخضع الجزئيات لذاتيةٍ أو كلياتٍ متعالية فارغة، وهكذا فأغلب الاجتهادات النظرية في هذه الثقافات يطبعها نوع من الاعتباطية من جراء إسقاط تلك الإشكاليات الميتافيزيقية على ثقافات تخلو –لحسن حظها– منها (ومن هنا كان ينبّه ديريدا زميله E. Levinas إلى أنه لا يمكنه أن يصوغ نظريته في "الآخـر" ما دام يفكر داخل منطق مبدأ الذاتية اليوناني)، وقد تجلت هذه الاعتباطية مثلا في فلسفة F. Rosenzweig في الخُلّة أو الصداقة اليهودية-المسيحية ونظريته في الانتقال إلى الآخر بوصفه مبدأ يشبه انتقال "الإلاه الخالق إلى الإنسان في الكتاب المنزل"، وتتجلى كذلك في كل خطاب نظري يبحث عن صور الآخر –ونظريات الاختلاف والتعدد– في أصول ومتون الفكر العربي الإسلامي).
وهكذا نرى اليوم أن ما يزعج نظام الدولة القومية ويضع السيادة الحديثة في أزمة هو كسرُ هذه المطابقة (أي هذا الاحتواء/الإدماج) أو عدم الاستمرارية بين الإنسان والمواطن، وهذا ما جعل حنا أرندت تعتبر أن "اللاجـئ" هو "إنسان الحقوق"، فهو الوحيد الذي تُبيّن مسافتُه الفاصلة بين الولادة والوطن-الأمة على الساحة السياسية تلك الحياة العارية التي يستثنيها صاحبُ السيادة ليصدر قراراته خارج القانون (خارج الحق) إذ بذلك يحيا ويضمن وجوده. فالسيد لا تهمه الحقوق في حد ذاتها، فهي جاهزة، وقد ذابت في مأكل ومسكن (ديمقراطية) السيد-الرعية حيث تطابقت السياسة والحياة العارية واختفت الواحدة في الأخرى، إن ما يهمه هو أن يعثر على حياة عارية جديدة، أي على رعية دون سيادة، أي إنسان طبيعي يجعل منه حالة استثنائية بحجة أن لا حقوق له بعدُ، ليكونَ إنسان هذه الحقوق. لمّا أُدمجت الحياة الطبيعية في المدينة إدماجا تاما صارت عتبات السيادة تنتقل إلى حدود بعيدة مظلمة بحثا عن حي ميت جديد، عن إنسان حرام جديد... وهذا هو إنسان "حقوق الإنسان".
إن مفاهيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، إلخ.، لا تجد معناها إلا في محالّ وحالات الاستثناء التي تضمن بها السيادة حياتها، والسيادة لم تتوقف قط عن البحث عنها وهي إن لم تجدها فقد تخلقها، ولها تاريخ طويل وراءها من التفنن والاستراتيجيات في البحث عنها وخلقها، وهي لما طابقت واحتوت الآن جُلّ العالم تحول رعاياها الذين ينتقدونها إلى أسياد يساهمون معها من حيث لا يشعرون (أو يشعرون) في خلق واصطناع حالات الاستثناء وحالات الإنسان الحرام والعناية بها، فأصبحت السيادة تحيا وتسود بفضل من يظن أنه يحاربها. وذلك ما يفسر أن المنظمات الإنسانية مثل منظمة الأمم المتحدة، التي تلعب حاليا دور من يُدمج الحياةَ الإنسانية في الحياة العارية، تبدو وكأنها تتعاون بأعجوبة خفية مع القوى التي يظهر أنها تحاربها. وهذه المفارقة العجيبة التي تحيا بها السيادة منذ قرون طويلة، وتمثلها صورة الإنسان الحرام –الذي يجوز قتله ولا تجوز التضحية به–، تتجلى اليوم في جميع وقائع العالم التي يُحدثها أويتدخّل فيها صاحب السيادة جاعلا منها حالات استثنائية يتعلق مصيرها بما يقرره، فيقتل حياة الإنسان العارية من حيث إنها خارج القانون (إذن فلا يعاقب عليها)، وفي الوقت ذاته يحتفظ بهذه الحياة ولا يضحي بها (فهي لا تفتدى لأنها خارج كل قانون سيادي، إنسانيا كان أم إلهيا، كما سبق أن رأينا)، ويرى فيها تلك الحياة العارية اللاإنسانية البعيدة المسافة عن الوطن (الذي تطابقت فيه السيادة والولادة، السياسة والطبيعة الحيوانية)؛ والسيادة في حاجة دائمة إلى هذه المسافة وهذا الاستثناء لتجدّد حياتها (لعل من الوقائع الدالة بوضوح وشطط على هذه المفارقة، مثلا، أن تُلقى القنابلُ من سماء أرض –في حالة استثناء– على ساكنيها لتقتلهم وأن تُلقى من السماء نفسها وفي الوقت نفسه موادُّ غذائية وأدوية لتحفظ حياتهم...)
هذا هو ما جعل بعض الفلاسفة يرون اليوم، بهذا المعنى، أن مجال المنظمات الإنسانية يظهر ويتسع بقدر ما يظهر ويتسع مجال اللاإنساني. فهذا المجال هو الحدث الجديد في السياسة المعاصرة، ومسافته يمثلها التباعدُ المتزايد بين الولادة (الحيـاة العارية) والدولة القومية، وأكثر الظواهر دلالة عليه هي ظاهرة المعتقل. فالمعتقلات ظهرت في الوقت الذي ظهرت فيه القوانين الجديدة المتعلقة بالمواطنة وفقدان المواطنة (فقدان الانتماء إلى الأمة-القوم، أو فقدان الولادة) وقوانين فقدان الجنسية dé-naturalisation (فقدان الانتماء الطبيعي/الولادي) الصادرة في جميع الدول الأوربية ما بين 1915 و 1933. إن المعتقل هو الفضاء الاستثنائي الدائم الذي يُرفع فيه القانون، وفيه يقرر السيد مصير الأشياء. يبدو هذا الفضاء حاليا وكأنه رحم/قالب السياسة، فأشكاله تتوالد وتتكاثر وتظهر وتلتوي وتختفي في عدة مظاهر، فقد تتمثل في دول وأقطار وفي ضواحي المدن وفي قاعات الانتظار بالمطارات... أي في كل ما هو خارج حدود السيادة. إنه عنصر رابع أضيف إلى الثلاثي القديم: دولة/وطن (ولادة)/إقليم، وقد أضيف إليه ليكسره ويشق للسيادة طريقها المستمر في البحث عن الحياة العارية، أي البحث عن إنسان الحقوق.
وأخيرا، فبعد أن تتبعنا في هذه الصفحات "إنسانَ" هذه المفارقات والمفاهيم الفارغة التي ملأت باسمه تاريخَ الفكر السياسي (والأخلاقي) ننتقل إلى الكلام على "الإنسان" الذي لم يصنع التاريخ بعدُ أخلاقَه وسياسته، وهو إنسان لا "يفارقه" عقلُه وحريته وأخلاقه، ولا يتعالى إلى ذلك العالم فوق-الطبيعي أو عالم ماقبل الوجود الذي كان وما زال المصنعَ الذي يصوغ فيه منطقُ السيادة مفارقاته السياسيةَ والأخلاقية، بل هو إنسانٌ حريتُه وأخلاقه مادّتُه ومحتوياتُه الذهنية الدماغية التي هي الـ "ما يفكِّر" فيه وليس غيرُها. هذا الإنسان، تستخلص اليومَ العلومُ المعرفية وفلسفات الذهن من طبيعة ذهنه (التي تكشف عنها علومُ الدماغ وعلم النفس التجريبي...) معطيات نظرية تبني تصورا جديدا للأخلاق والسياسة، وتكشف عن هشاشة وفراغِ أسسِ الصرح الضخم الذي تسكن فيه أخلاق وسياسات العالم منذ قرون طويلة. هذا التصور ليس جديدا إلى هذا الحد كما قد نتصور، فجهازه ومادته العلمية التجريبية هي فعلا جديدة معاصرة، ولكن الرؤية التي ينطوي عليها وأبعادها الفكرية والأخلاقية والسياسية قد تضمنتها منذ القديم أعمال كثير من الفلاسفة والعلماء الذين كانوا ينهجون بحثا فيزيقيا في كل ما يتصل بطبيعة عقل (نفس) الإنسان، وكانوا يتجهون اتجاها لاميتافيزيقيا لاذاتيا في العلوم التجريبية والنظرية (وخاصة علم الطب) ونظرية المعرفة والأخلاق والسياسة، وذلك منذ ديمقريطس مثلا إلى عدد من المفكرين المسيحيين المنفصلين عن المدرسة الأكوينية، ولا شك أن أهم وأغنى الأعمال الفكرية والعلمية في هذا الاتجاه قد أنتجها علماء العرب وفلاسفتهم، وهو إنتاج غزير لم يستثمر بعدُ (في هذا الاتجاه)، ولعل المفاهيم والحدوس التي ينطوي عليها قد تعتبر الماضي الفلسفي لمفهوم الإنسان العلمي الذي بدأت صياغته اليوم (منذ بضع عقود لا أكثر)... فما هو هذا "الإنسان"؟
 
- II -
الإنسان العصبوني l’homme neuronal
بدأ الإنسان انطلاقا من القرن التاسع عشر يغادر لأول مرة وجودَه القديم في عالم ما بعد الطبيعة، ويقطع علاقاته مع نفوس أجرام السماء والمقولات المتعالية، إذ صار البحث العلمي في طبيعة عقل الإنسان يكتشف شيئا فشيئا أن فكر الإنسان وأخلاقه وطرق اعتقاده وما إلى ذلك إنما هي قدرات ذهنية راقية من صميم طبيعته المادية. وهكذا بدأ الإنسان يتخلص من المفارقات القديمة والحديثة التي قسمته إلى ذات متعالية ثابتة من جهة وموضوع متغير من جهة أخرى (في الفلسفة والفكر عامة)، وإلى إنسان مقدس من جهة ودنس من جهة أخرى (في الأخلاق والسياسة). وقد انطلق هذا التصور في بدايته من حركة جريئة نشأت من مجال البحث في نظرية التطور تزعمها العالم البريطاني Th. H. Huxley الذي واجه في 1860 أسقف أكسفورد في مجادلة طويلة حاسمة نال بها شهرة كبيرة(23). وهكذا، فبعد 1859، صار المذهب القائل بالجوهرية essentialisme يبدو باطلا وأصبح الفلاسفة مجبرين على إحلال التفسير الفيزيقي والأخلاق المادية محل الأخلاق الميتافيزيقية. فقامت على مدى قرن ونصف دراسات طويلة (في الأنتربولوجيا الفيزيائية والبيولوجيا والفيزيولوجيا وعلم النفس والأنتربولوجيا الثقافية، إلخ.) تبحث في طبيعة الإنسان بوصفه كائنا لا ينفصل فيه شيء عن العالم الحـي. وظهر –أو تأكد، إذا أخذنا بعين الاعتبار حدوس بعض فلسفات العقل المادية القديمة– أن الإنسان هو غير الإنسان الذي نتحدث عنه منذ قرون، وأن ما نسميه العقل ليس ذلك الأنا أو تلك الذات المتربعة على عرش الحقائق المجردة، بل هو شعور يحيل المعارف على أنا الشخص وعلى المذكرات التي يحفظها في ذاكرته، أي أنه ليس غير ما يسوق المعلومات والمعارف اليومية والذاكرات الاجتمــاعية والثقافية الخاصة بالفرد إلى سلوكه "الطبيعي"، فهو، بحسب تعبير J.-P. Changeux، يقدّم للفرد طريقةً إضافية لتقييم الحقيقة، تنفعُه خاصة في الحفاظ على الحياة(24). ومن هنا فلما يدعو شانجو إلى تأسيس "برلمان الإنسان" وأخلاق صالحة للجميع(25) فإنه لا يأتي بهذا الحلم من رؤى قبلية متعالية بل من عمل علمي تجريبي يمعن في تكوّن الأنا العصبوني (الخلوي-العصبي)، ويخلُص من ذلك إلى أن القدرة "العجيبة" التي يتمكن بها الدماغ على فهم العالم وإدراك قوانينه لا يُبحث عنها في عوالم علوية، ولكن في أصوله وتطوره (الذي يحصل بطريقة "تدرّجية" (تصاعدية) و"موازاتية" في الوقت ذاته) ونشاطه الاستكشافي وتمثلاته التي تتسع وتتطور من الوسط الفيزيائي والبيولوجي إلى الوسط الثقافي والاجتماعي (هذا البحث قد حقّق، منذ تساؤلات الفيلسوف البريطاني A. Alexander –في بداية القرن العشرين– عن القواعد العصبونية للذهن والأذهان الأخرى إلى يومنا هذا، إنتاجا فكريا هائلا ضخما ما زالت الفلسفات القارية (الأوربية) تتغاضاه وتُشائم به، وأعمال المفكر المتخصص في علم الدماغ A. R. Damasio اليوم تعتبر من أدق الأعمال الأكاديمية في هذا المجال).
إن "الحيوان العاقل" ومفارقاته القديمة المتراكمة: الطبيعة وما بعد الطبيعة، المادة والعقل، الجسم والنفس/الروح...، كل ذلك ينقلب في هذا المجال إلى "مادة مفكّرة" لا يوجد فيها أي كائن ميتافيزيقي وكأنه جالس في قاعة مسرح ينتظر أن تمثل الأشياء في كامل النور والوضوح أمامه.
إن اللجوء إلى الميتافيزيقا أو المقولات المتعالية أو ما في مثلها كان دائما نزوعا معرفيا طبيعيا تدفعه الحاجة إلى قدرات ذهنية واسعة (نسميها عادة نسقا أخلاقيا-سياسيا فكريا) تضمن حياة الإنسان وتأمنها من الصعوبات والإشكالات التي تطرحها طبيعة هذا الإنسان نفسه. فالعلوم التجريبية قديما لم تكن قادرة على تفسير طبيعة الإنسان الذهنية، فكان يُنظر في اتصال المعقولات النظرية بجسم الإنسان بمنطق النظر في اتصال الصور المفارقة بالمواد، وكان أرقى ما وصله الفكر النظري هو أن الإنسان عقل مادي من حيث اتصاله بجسده وعقل مفارق لامادي من حيث اتصاله بالصور التي يجردها من الأشياء، وأن هذا العقل المفارق عقل نظري لكونه يتأمل الحقائق العليا المجردة وعقل عملي لكونه ينظر في حب الخير. وبهذه الطريقة كان يتحول العقل المعرفي إلى عقل أخلاقي يحاكي نماذج الخير والعدالة السماوية. وأما مقولات القرن الثامن عشر فقد أنزلت هذه السماوات إلى عقل الإنسان نفسه وأسكنت في صميمه هذه الثنائية وظلت تتعالى وتتسع بإلاه آخر على الأرض، هو الإنسان. ومهما يكن فإن هذه التصورات المتعالية وجهودها في توسيع مجال الخير والعدالة نزوع وتطور حيوي ضروري، وليست مفارقاتها وتناقضاتها غير الثمن الذي نؤديه بسبب القصور في تأسيس نظريات أخلاقية وسياسية واسعة ومنسقة انطلاقا من التجربة العلمية في فهم طبيعة الإنسان.
إن العلوم المشتغلة اليوم بطبيعة الإنسان الذهنية تتحدث عن هذا الإشكال بمنطق آخر وتحاول أن تحقق ما عجزت (أو أُعجزت) عن تحقيقه نظريات العقل المادية القديمة في مجال الأخلاق والسياسة. فالإشكال هو دائما هذا الإنسان الذي يبدو أنه الكائن الوحيد الذي يملك قدرة "عجيبة" يقدر بها على تكوين ليس التمثلات الذهنية للأشياء فقط بل وكذلك التمثلات الذهنية التي تنقل آليا وطبيعيا الشعورَ بالذات في فعل المعرفة، أي أن الإشكال مشكلان: كيف يتكون الفيلم (الشريط) الدماغي للإنسان (الصور الذهنية التي يوحّدها زمانا ومكانا موضوعُ معرفة ما)، وكيف يكوّن الدماغ كذلك المعنى أو الشعور الذي عندنا بأن هذا الفيلم له صاحبُه ومشاهده، أي كيف يتكون ظهور صاحب الفيلم ومشاهده داخل الفيلم. إن المادة المفكرة هنا لا تحتاج إلى "العقل الفعال" لتفكر ولا إلى ذات أو مقولات سابقة على وجودها فهي لن تنفعها في شيء، فالذات والموضوع كلاهما في شريط الدماغ. فالعقل ليس غير حيوانية الإنسان ومادته. والإنسان لا يخرج عن مادته/ذهنه أو مواده/أذهانه ولا "يفارقها"، والأنا فيه ينطلق منها وإليها ينتهي.
هذا يلخّص في كلمات قليلة نتائج آخر الدراسات العلمية التي قام بها دامازيو حيث يبين في كتابه الأخير(26)، بناء على معطيات بيولوجية-عصبية وشروح مفصلة، أن الإنسان يبدأ من شعوره-النواتي (الشعور-النواة) ثم يصير إلى شعوره-الممتد (الشعور-الامتداد)، أي يبدأ مثلا من حيث كونه يكُون في لحظة وجيزة ما يشهد عصفورا يطير أو يحس بألم ثم يصير إلى كونه يضع هذه التجربة في منظارية أوسع ومدة أطول بأكمل وظيفة ذهنية تمتد إلى الماضي وإلى المستقبل، وقد تشمل حياة الفرد كلها. وهكذا يوزع الأنا في هذه البنية الذهنية كما يلي: تُحدث عملية الشعور-النواة تحوّلا ينقل "الأنا الأولي"، وهو مجموعة من التمثلات غير شعورية تمثل مختلف أبعاد حالة الجسم الحالية، إلى "الأنا-المركزي"، وهو إحالة عابرة شعورية إلى جسم الفرد الذي تنتج فيه الأحداث، ومنه إلى "الأنا الأوطوبيوغرافي"، وهو جهاز يوثق ويخزن بشكل منظم تجارب جسم الفرد السابقة. وهكذا فالشعور الممتد يتعلق دائما بالأنا المركزي ولكنه متصل بماضي الجسم المعيش وبآفاقه المستقبلية التي تشكل جزء من ذاكرته الأطوبيوغرافية. إن محتوياتنا الذهنية لا تأتينا إلا من هنا، وهي التي ما فينا يفكّر، إنها حيواننا العاقل. ونحن، كما يقول الفيلسوف الأمريكي D. C. Dennett في كتابه أنواع الأذهان(27)، لا نحصل عليها لكونها تأتي إلى ذهننا بفضل قدرة ميتافيزيقية ما، ولكن لكونها تغلبتْ على المحتويات الذهنية الأخرى التي تنافسها في مجال مراقبة السلوك وتحقيق التأثيرات الأطول مدة، وهو ما نسميه عادة بعملية التذكر، فنحن بما أننا كائنات ناطقة وبما أننا نتكلم في داخلنا، مع أنفسنا، عن أفعالنا واعتقاداتنا فإن تلك هي أقوى طريقة في أن يصبح محتوى ذهني معين أكثر تأثيرا ويكون "مفكِّرا"، وهذا هو ما يعني أننا نفكر حين نقول إننا نفكر، وليس هناك فكر أو عقل مجرد (مثل الكوجيتو الديكارتي) هو ما يفكر باعتبار أنّ هذا المحتوى الذهني ليس غير شيء يضاف إليه؛ لا بل إن هذا المحتوى الذهني الدماغي (الذي يتجسد في أدوات وأفعال واعتقادات) هو الذي يفكر حين أقول "أنا أفكر".
إن الإنسان بهذا المعنى هو مادة أخلاقية، وأخلاقه وسياسته لا تأتيه من عوالم عليا أو قبليات ثابتة بل هي محتوياته الذهنية الطبيعية التي يعمل بقدراته المعرفية على تطويرها لينتقل من الأنانية الغريزية أو من الغيرية القَبَلية المحصورة إلى غيرية اجتماعية ثقافية واسعة تضمن وجوده أحسن. والغيرية altruisme مبدأ طبيعي-ثقافي (لا علاقة له بتاتا بمفهوم "الآخر" المعروف) تتصل به مبادئ أو مفاهيم أخرى مثل التعاون coopération وغيره من المفاهيم الأخلاقية والسياسية التي تكشف عنها العلوم المشتغلة اليوم بطبيعة الذهن الإنسانية. ومنطق ومجال هذه المفاهيم لا محل فيه لأي من التصورات والمفارقات التي تراكمت في تاريخ الفكر السياسي الأوربي من مفارقة اللوغوس والحياة العارية إلى مفارقة السيد والرعية. فمفاهيم الغيرية والتعاون والأخلاق الطبيعية-الثقافية والأنا العصبوني (ومفاهيم أخرى تتصل بها سنراها فيما بعد) لا تعني ما تعنيه مفاهيم الأنا والآخر والمساواة والديمقراطية والتعدد والاختلاف... فهذه المفاهيم الحداثية هي فعلا شكل من أشكال تطور الإنسان الضرورية وكان لا بد أن توسع من دائرة غيريته الطبيعية، ولكنه تطور لا يحصل إلا بـ "انبثاقات" وهمية، وكونه يحصل كذلك كان لا بد منه أيضا إذ لم يكن من الممكن أن تتجرأ على أخلاق كونية مطلقة إلا النظريات المثالية المتعالية الفارغة (أو النزعات الروحانية) –ولذلك يمكن أن نعتبر تاريخ الفكر الأوربي تجربة نظرية نزوية capricieuse. هذا ما يفسر أن فلسفة أرسطوطاليس المادية التجريبية ظلت منذ عهدها وفي العصور الوسطى خاصة (إلى اليوم مع ظهور الأرسطية الجديدة) تمثل العائق الموضوعي الرصين الذي لا بد للمثاليات الفلسفية أو الدينية أو غيرها أن تتفاوض معه أو أن تصفي الحساب معه.
أما الفلسفات والتصورات الطبيعية التجريبية المحضة فقد ظلت، منذ ديمقريطس إلى العلوم والفلسفات العربية إلى مدارس الفكر الأنجلوساكسوني الحديثة، تصوغ رؤاها ونظرياتها في الإنسان والنفس والأخلاق وغير ذلك بتحفظ علمي وبكثير من الوضوح والدقة، وتلتزم بوعيها الاستقرائي ضد الكليات الفائضة لحد أنه يمكن أن تُعتبر فعلا مكبوت العلوم المعرفية المعاصرة أو ماضيها الفلسفي (لا شك أن الباحث في تاريخ الفكر العالمي من هذه الزاوية سيجد في الإنتاجات العلمية والفكرية العربية القديمة ماضيا فكريا وفلسفيا غزيرا في هذا المجال، فهي تزخر في جل الميادين الفكرية بتصورات وأساليب تحليلية دقيقة واضحة لا تختلف في مبادئها عن طرق الفكر التحليلي الأنجلو-أمريكي التي تمليها عادة النزعة الإمبيريقية، ولذلك كثيرا ما نلاحظ أن منطق العمل الفكري العربي القديم يقارب منطق المدرسة التحليلية الأنجلوساكسونية أكثر مما يقارب منطق المدرسة القارية الأوربية. وهكذا فلا شك أن البحث الدقيق في الإنتاج العلمي والفكري العربي واستخلاص المفاهيم والرؤى الأخلاقية وغيرها منه، في هذا الاتجاه، من شأنه أن يغني بالحدوس النظرية والأدوات والهندسات الذهنية الأعمالَ والتصورات الفكرية والأخلاقية التي بدأت اليوم تنبني على علوم الذهن والفلسفة الطبيعية... وفي هذا السياق، إن كنا نقول من باب نقد العقل العربي إن الفكر العلمي العربي لم ينجح في أن يكون أساسا للفكر الأخلاقي والسياسي مثلما كان في ذلك الفكر العلمي الأوربي فلعل الأصح أن نقول إن الفكر العربي القديم بوصفه فكرا إمبيريقيا ما كان يمكنه إلا أن يكون فكرا دقيقا متحفظا لا يتجرأ على إصدار كليات أخلاقية وسياسية مطلقة، وهذه صفة إيجابية في كل فكر من هذا النوع).
إن المفكرين المشتغلين اليوم بالأخلاق والسياسة والمجتمع في هذا الاتجاه بناء على المعطيات العلمية الجديدة المتعلقة بطبيعة ذهن الإنسان وتطوره الطبيعي والأخلاقي صاروا يثيرون، منذ الستينات من القرن العشرين (في حقل الفكر التحليلي خاصة)، أزمة حقيقية في الفلسفات المثالية (وفي فرنسا يفتتح شانجو أحد نصوصه الرئيسة في هذا الموضوع بإحالة على الصراع النظري الذي قاده الإبيستيمولوجي الفرنسي باشلار ضد هذه الفلسفات وعلى عبارته الشهيرة القائلة: إن العلم ليس له فلسفته التي يستحق). ولكن أقوى صيحة رددتها نصوص هؤلاء المفكرين هي عبارة العالم السوسيوبيولوجي E. O. Wilson القائلة: "يبدو أنه حان الوقت الذي صار فيه العلماء والمشتغلون بعلوم الإنسان يرون أنه يجب أن تسحب الأخلاق مؤقتا من أيدي الفلاسفة فتوضع في أيدي علماء البيولوجيا". وقد ورد هذا النص في كتاب له صدر في 1975(28) فأحدث ضجة كبيرة وتعارضا واسعا بين مؤيدين ومعارضين، وفيه يقدم المؤلف دراسة علمية طويلة ومكثفة تفند الأسس القديمة التي تقوم عليها كثير من المفاهيم مثل الشرف والقومية والشعور الديني والآخر (الغيرية بمعناها الميتافيزيقي/السيادي) والحرية إلخ. وقد تقدم البحث العلمي هذا اليوم أكثر في هذا المجال فأصبحت الفلسفات مجبرة على أن تتفاوض معه مثلما كانت تتفاوض التيولوجيا القديمة مع الفكر العلمي الأرسطي.
إذا تناولنا مثلا مفهومَ الغيرية ورجعنا إلى أسسه القديمة فقد ننطلق مثلا من عبارة عالم اللاهوت Tertullien (القرن الثاني الميلادي) القائلة "إن دم الشهداء هو بذرة الكنيسة"، وقد استعملت هذه العبارة وأُولت كثيرا للإعلاء من شأن الإنسان وتمييزه بكونه يدافع عن الغير دون السعي إلى مكافأة، واعتباره أهلا بأن يحاط بكل عبارات الشرف والتبجيل والعواطف وطقوس وحفلات التكريم. إن هذه التضحية بالنفس أو هذه الغيرية ظلت تعتبر دائما ظاهرة أخلاقية أو دينية أو وطنية لحد أنه سيكون من باب الجرأة إذا ما قلنا إنها ليست في الواقع غير نزوع طبيعي يسعى به الكائن إلى إنقاذ النوع (الجنسي أو الوطني أو القَبَلي) الذي ينتمي إليه، فبهذه الجرأة كان الأمريكي ويلسن يقول متسائلا: إذا كان الكونغرس الأمريكي يوزع في الحرب العالمية الثانية في كوريا والفيتنام عددا كبيرا من الأوسمة لتكريم وتشريف الجنود الذين ألقوا بأنفسهم على القنابل للحفاظ على حياة زملائهم أو عرضوا حياتهم للخطر لإنقاذهم فما الذي يمنع آنذاك من توشيح نسر أو أسد أو حشرة بوسام شرفي لمّا تعرض حياتها للموت أو تموت لإنقاد أفراد نوعها، دون مكافأة وبغير نزعة وطنية..؟ لقد قام ويلسن في كتابه الطبيعة الإنسانية(29) بدراسة لظاهرة الغيرية altruisme الطبيعية –أتى فيها بأمثلة وتحليلات مفصلة من عالم الإنسان وعالم الحيوان مستفيدا من شتى التخصصات العلمية المعاصرة– حيث يبين أنه لا أساس للغيرية في التصورات المتعالية المعروفة وأنها نزوع للحفاظ على الوجود وصَلَ أرقى مراحله مع الإنسان، إذ إن للإنسان من القدرات الذهنية والقدرة على إدراك القوانين العامة وتسخيرها لنفسه ما جعله يصل، على مستوى التفاعل بين طبيعته وتجربته الخارجية، مستوى ثقافيا واجتماعيا يضمن فيه وجوده أحسن ويوسع فيه دائرة الغيرية أكثر.
بهذا المعنى يعرّف G. G. Simpson الإنسان في دراسته "البيولوجيا والأخلاق"(30) بأنه كائن أخلاقيّ الطبيعة، أي أنه الكائن الوحيد الذي يحقق الانتقال من الغيرية الغريزية إلى غيرية أخلاقية ثقافية تقوم على أساس توظيف أنانيته égoïsme لأجل غيرية واسعة، فالإنسان يتميز (كما يقول F. J. Ayala، وهو لا يختلف في ذلك عن سمبسون) بكونه فردا له القدرة على استباق نتائج أفعاله الخاصة؛ والقدرة على صياغة أحكام قيمة؛ والقدرة على الاختيار بين أنواع مختلفة من السلوك/الفعل. وهذه القدرة الأخلاقية على توسيع دائرة الغيرية هي التي عبر عنها كثير من العلماء، منذ Th. H. Huxley إلى D. Campbell خاصة، بفكرة أساسية مفادها أن الإنسان ليس كما قد نتصور موضوعا سلبيا يتلقى الانتقاء الطبيعي خارج إرادته، بل إنه قادر على أن يمارس بنفسه الانتقاء الأخلاقي (اللاطبيعي، بمعنى من المعاني) على الطبيعة وأن يصير إلى غايات متطورة بسرعة تفوق سرعة الطبيعة، وهذا هو مبدأ الحرية في الإنسان وهو ما يجعله كائنا أخلاقيا ثقافيا (لاطبيعيا!)، ولما نقول لاطبيعيا فإنما نقولها تجاوزا إذ إن أخلاقية أو ثقافية الإنسان أو حريته ليست غير أرقى المستويات الطبيعية التي بلغها ذهن الكائن، فحينما يمارس الإنسان حريته واختياراته على الحياة الطبيعية فلا فرق بين أن نقول إنه يمارس أخلاقه على الطبيعة أو يمارس طبيعته الراقية على الطبيعة. فالمهم في كل هذا أن ندرك بأن الإنسان لا يفكر بغير "شعوره" ولا تأتيه أخلاقه من سماء مطلقة أو من ذاته المتعالية. لقد كان من الطبيعي، في عهد لم يشهد العلوم المعرفية التي نشهدها اليوم، أن تنشأ نظريات ميتافيزيقية جعلت ما هو عاقل-سياسي-أخلاقي في الإنسان من عالم العقول السماوية أو المقولات القَبْلية، وأما اليوم فهذه النظريات (التي ولّدت تاريخا طويلا من المفارقات ما زالت "حية") صار منطقُ السيادة الذي تَرعرَع فيها يَصنع باسمها تصوراتٍ عن الحرية والأخلاق تهدد المعنى الحقيقي لحرية الإنسان وأخلاقه (ولذلك يدعو العالمُ الفرنسي شانجو، مع مجموعة كبيرة من المفكرين والسياسيين، إلى تأسيس "برلمان الإنسان" ولجنة أخلاقية عالمية –كما رأينا، وقد بدأ هذا المشروع عمليا منذ عشرين سنة– لإخراج البحوث العلمية الأخلاقية في طبيعة الإنسان إلى الفضاء العمومي، وجعلها تحت إشراف مؤسسة عالمية، ونزعها من أيدي الشركات الخاصة التي تخدم السياسات السيادية. فعلا، يجب أن لا تكون هذه البحوث موضوعَ الحرية والأخلاق بالمعنى الثقافي الموروث الذي يزكيه أصحاب السيادة بل بالمعنى العلمي الطبيعي الذي يخدم ثقافة أخلاقية واسعة تمليها الضرورة الحيوية إلى تحصيل المصلحة العامة، ومن هنا فموضوع علم الوراثة نفسه قد يبلغ في هذا السياق أرقى مستويات الغيرية من حيث الاكتشافات العلاجية التي تفيد "الإنسان"، ولذلك فالجدال الكبير الذي يشهده العالم اليوم حول هذا الموضوع يجري غالبا خارج المشكل الحقيقي فيه، فالانتقادات الموجهة ضد البحث العلمي الوراثي أو ضد طرق استغلاله –بقوانين محصورة في سجلات معينة– يجب بالأحرى أن توجه ضد منطق السيادة العريق الذي يحصر المصلحة في هذا العلم أو غيره في دوائر ضيقة يحتلها أصحاب السيادة، وهذا المنطق لا يستغل بهذه الطريقة العلم فقط بل حتى مفاهيم الحرية والأخلاق الأنوارية وحتى الشعارات الوطنية والعقائد الدينية).
إن أولى اللحظات الكبرى في تحقيق هذا التطور الأخلاقي الغيري في تاريخ الإنسانية تجلت في ما حققته الديانات الكبرى بوصفها نظريات وأحداثا تاريخة هامة حاربت وجاوزت الغيرية القبَلية الضيقة المبنية على مبادئ القرابة والدم والعشيرة وغير ذلك. وفي التاريخ الأوربي تطور ذلك إلى لحظةِ غيريةٍ أوسع تجلت في الحداثة والأنوار بوصفها مبادئ وقوانين خلصت الإنسان من الطاعة أو الانتماء إلى نظام ملكي إلهي، وحاولت أن تجعل منه فردا عالميا يضمن له وجودَه العالمُ بأسره (ويمثل فكر كانط وامتداداته هذه اللحظة بامتياز).
إن المعيار الرئيس في التطور الأخلاقي بهذا المعنى هو قدرة الكائن على أن يسعى إلى مصلحته الخاصة (ضمان وجوده) بالعمل على تحقيق المصلحة العامة، فكلما كانت قدراته الذهنية أكبر وفّر المصلحة العامة أكثر ووسّع دائرةَ الغيرية أكثر، أي كلما وظف أنانيته الغريزية في أوسع غيرية اجتماعية أخلاقية وثقافية كان وجوده أفضل وكان أقل عرضة للأخطار والهلاك (ويحال كثيرا في هذا الموضوع على النتائج الميدانية المفيدة التي حصل عليها العالم C. J. Irwin، المشتغل بمشكل التربية في المجتمعات العنصرية، في دراسة طويلة لمدارس الكاثوليك والبروتيستانت في إيرلندا الشمالية قام بها مستفيدا من مفهوم المجتمعات الأكثر اجتماعية sociétés ultra-sociales الذي تدافع عنه نظرية دونالد كامبل(31)).
يقتضي هذا التطور في تحصيل المصلحة العامة وتوسيع دائرة الغيرية مبدأين رئيسين، وهما مبدآ الانبثاق والتنسيق (وهما يتصلان بمبدأي أو عمليتـي التدرّجية (التصاعد) hiérarchisation والموازاتية parallélisme اللتين يتكون بهما الأنا العصبوني، كما رأينا). ففي كل درجة أو مستوى معرفي وأخلاقي (غيري) تُجمّع وتُنسق وحدات اندماجية ذهنية intégrons (حسب اصطلاح F. Jacob (32)) تتكون من اندماج وحدات فرعية، فتساهم بتجمُّعها وتناسقها في إنتاج وحدة اندماجية ذهنية على مستوى أعلى لها خصائص وقدرات جديدة، ويكون إنتاجها هذا انبثاقا émergence يزود الفرد أو المجتمع بفعالية كبيرة تمكنه من التحكم في نظام حياة جديد وتجعله قادرا على غيرية أوسع. وهكذا فكلما تحقق تنسيق coordination جميع الوحدات الاندماجية على مستوى معين انبثق منه بضرورة حيوية مستوى أرقى، وهكذا. وهذه العملية هي بمثابة النظم (التجويق) الموسيقي orchestration الذي ينسق اندفاق العناصر الذهنية المترابطة فيحصل التصديق العقلي للقضية، حسب تعبير T. Gisiger أو F. Anceau(33). فلما نتكلم على أزمة معرفية أخلاقية في مستوى مجتمع أو ثقافة ما فالأمر يتعلق بأزمة تنسيق تتجلى دائما في عجز القدرات الذهنية عن تجويق العناصر المتطورة والوحدات الاندماجية التي تندفق من مختلف التجارب الإنسانية، وفي عجزها عن إثبات صلاحية ترابط هذه العناصر أو عدم صلاحيته، ولذلك تبقى هذه الثقافة في حلقة مفرغة لا تنبثق من مستواها إلى مستوى أعلى، وإذا ما انبثقت فإنها ترقى إلى مستوى وهمي يجر عناصر غير مترابطة. وبهذا المعنى نفهم أزمة التنسيق وهشاشة الغيرية العالمية (الكونية) التي تعاني منها وتثيرها اليوم المجتمعات المتقدمة، أو يثيرها بالأحرى تطور المجتمع الأوربي وتاريخه السياسي والأخلاقي. فهذا التطور وثيق الصلة بما يمكن أن نسميه الروح الأفلاطونية، أي تلك المسيرة التاريخية الطويلة التي جعلت الفكر الأوربي يقطع الأشواط ويرقى في الغيرية منبثقا من مستوى مثُل وكليات غير منسقة (لا تجوّق العناصر المندفقة) إلى مستوى كليات أخرى غير منسقة كذلك على حساب الواقع والجزئيات. فكان دائما يحكم بمنطق مائة في المائة على واقع لا يعرف ولا ينسق منه إلا نسبة مئوية محدودة. من المفيد أن يوقَف في هذا الموضوع على أعمال P. L. Bernstein ودراسته لنظرية الألعاب والمخاطرة ونظرية الاحتمالات في تاريخ فلسفة العلوم حيث يبين أسباب عجز الفكر اليوناني عن اكتشاف حساب الاحتمالات(34)، ويبين كيف سار وتطور منطق المائة في المائة في الثقافة الأوربية، منذ أن كان أفلاطون يرى في ما يستقرئه البحث التجريبي شبحا للحقيقة، ومنذ أن كان الفكر اليوناني عامة يبحث عن الكمال والكليات في عالم الأجرام بينما كان يلجأ إلى الكهنة لاستقراء عالم الأرض المليء بالعناصر المحتملة. فالتناسق كان منذ البداية نزعة متعالية فارغة مثل فكرة تناسق النفس وانسجامها التي قال عنها أفلاطون إنها تأتيه دون برهان بفضل محاكاة جميلة المظهر (محاورة فيدون). ولذلك فالتناسق ورقيّ مستوى الغيرية في هذه الثقافة لا يعني إلا تناسق العناصر التي تندفق عليه وتترابط فيه من صميم هذه الثقافة نفسها أو مما يتصل بها، وتقدُّمها ليس إذن كما رأينا غير تطور حيوي ضروري اتّخذ صورةَ ثقافة محدودة معينة.
وأما أزمة التنسيق والعجز عن الانبثاق وقصور الغيرية في المجتمعات غير المتقدمة التي لم ترق بعدُ إلى هذا المستوى من التطور فلا تتعلق بأزمة نزعة متعالية فارغة، بل بأزمة تناسق بين عناصر ثقافة ونظام هذه المجتمعات (وهو في الغالب نظام قَبَلي يقوم على نزعة القرابة والدم وما يتصل بها) والعناصر المندفقة من الحداثة الأوربية الأنوارية (بما فيها المبادئ السياسية الأخلاقية مثل الديمقراطية والحرية والمساواة والفرد، إلخ.، والمعطيات والأدوات التقنية والعلمية...)، وهذه كلها عناصر حيوية ضرورية لاستمرار وبقاء هذه المجتمعات غير المتقدمة حتى لا تكون عرضة للهلاك من تلقاء نفسها أو عرضة لأن تُهلكها المجتمعات المتقدمة ذاتها. وفي جميع الحالات، سواء أتعلق الأمر بالثقافات المتعالية ذات النزعة الكونية الفارغة أم بثقافات المجتمعات ذات النزعة العملية البراغماتية المتطورة أو المتطورة، فإن أزمة التنسيق لا تعني عدم تجاوب العناصر المندفقة على مستوى معين كما قد يبدو، بل إن الأمر أعمق من ذلك: ففي كل مستوى معرفي ثقافي أخلاقي توجد محتويات ذهنية-حيوية تحتل مكان الـ "ما يفكِّر" في الإنسان، وهو مكان مسيطر ضاغط (بمعنى الضغوط الانتقائية الأخلاقية التي تمارسها ثقافة أو معرفة معينة) يتنافس مع العناصر المندفقة فيقبلها تارة ويرفضها تارة أخرى ويتفاوض معها أو لا... حسب الحاجة، فيكون هذا المستوى في أزمة ويعجز عن الانبثاق؛ ولكن لما تفسح المحتويات الذهنية-الحيوية المفكِّرة (أي الـ "ما يفكِّر" في الإنسان) مجالَها وتُخليه لأرقى وأغنى المحتويات والأدوات الذهنية المندفقة الأخرى التي هي أقدر على تجميع أو تجويق جميع العناصر الجديدة والوحدات الاندماجية في مستوى معرفي وأخلاقي معين، فذلك يحقق تناسقها ويمكّن من الانبثاق على مستوى أعلى من الذكاء المعرفي وعلى غيرية أخلاقية أوسع. ولذلك ففي المجتمعات والثقافات التي تسيطر فيها مثلا المحتويات الذهنية-الحيوية ذات النزعة القَبَلية يكون مستوى المعرفة والأخلاق فيها (رغم اندفاق عناصر معرفية أخلاقية حداثية أنوارية على مستواها) لا يتجاوز دائرة الغيرية القبَلية، والقدرات الذهنية فيها لا ترقى بالأنانية الغريزية إلى مستوى تحقيق أوسع دائرة من المصلحة العامة، بل أرقى ما تصل إليه هو توفير المصلحة على مستوى علاقات القرابة والعشيرة وما إلى ذلك. ولذلك فمشاكلها وسلبياتها ليست مشاكل وسلبيات حداثية، بل هي مشاكل قبَلية وحلولُها تكون في الغالب قبلية (فغياب حقوق الإنسان –أو غياب الإنسان جملة– والظلم وعدم الحرية وغير ذلك لا يعني ما يعنيه غياب حقوق الإنسان أو الظلم... في المجتمعات الأوربية مثلا).
إن مبدأي التناسق (أو الموازاتية) والانبثاق (أو التدرجية) هما اللذان يفسران إذن كيف يتكون المستوى المعرفي الأخلاقي في ثقافة ما وكيف يتطور: فجميع المفاهيم أو المظاهر الأخلاقية مثل الصدق والاحترام والتضامن والإتقان والجودة في العمل والإخلاص في السلوك وغير ذلك ليست إلا استعارات تدل على التناسق في ثقافة ما على مستوى العناصر والوحدات الذهنية المعرفية الموجودة فيها، فلما يسلك الفرد في مجموعة ثقافية متناسقة الوحدات الذهنية سلوكا صادقا وجيّدا مثلا فليس يكون الصدق أو الجودة هو المحتوى الذهني الذي "يفكّر" في الفرد بل يكون الفرد يسلك في ذلك مثل عازف ينساق نغم آلته مع الأنغام الموزعة على الجوقة (الموسيقية) التي يوجد فيها. وهذا ما يفسر أن هذه المظاهر الأخلاقية نفسَها أو جلها يوجد في كل ثقافة متناسقة حديثةً كانت أم قديمة، أوربية أم آسيوية أم إفريقية. وأما المظاهر التي نسميها عادة لاأخلاقية مثل الكذب والغش والرشوة وعدم الإخلاص والجودة في العمل وغيره فهي كذلك ليست غيرَ لغة في عدم التناسق وأزمته في مجتمع اندفقت على مستواه الثقافي والمعرفي عناصرُ جديدة فتشابك فيه القديم بالجديد وتعارضت فيه العناصر دون القدرة على تنسيقها بالمعنى الذي رأينا، ولذلك نرى هذه المظاهر منتشرة بكثرة على مستوى المجتمعات التقليدية (والأفراد والأسر والأنظمة...) التي دخلت مجالَها الثقافي عناصرُ من الحداثة الأوربية دون تناسق؛ فنراها "سليمة" منسجمة في سلوك طريق تقاليدها وبمجرد ما تسلك طريق الحداثة تغرق في التهافت والمفارقات. وهذا هو ما يسوّغ لكثير من الدعاة والزعماء في الثقافات والمجتمعات المتخلفة (وحتى في المجتمعات المتقدمة) دعوتهم إلى محاربة "فساد" الأخلاق بالعودة إلى التشبث بالأخلاق الثقافية المحلية وبالهوية وغير ذلك من مثل هذه المفاهيم... ولكنها دعوة باطلة واهمة إذ إن المظاهر الأخلاقية "السليمة" المنكمشة في مستوى معرفي ثقافي متخلفٍ معرّضةٌ أولا للزوال ثم لا يمكن أن تفلت من ضغوط المستويات (أو الدرجات) المعرفية الثقافية الراقية التي توفر أغنى وأقوى الأدوات الذهنية للتحكم في الضرورات الحيوية المتجددة. فمبدأ التنسيق ليس مبدأ إيديولوجيا محافظا، بل إنه عملية ذهنية معقدة تقتضي جهودا معرفية متطورة: فهي تقوم بصياغة وفحص استراتيجية العقلنة غير المركزية –في مستوى معين من العناصر المندفقة– فحصا دقيقا، وتدرس إمكانيات التفاعل وتعدد التوازنات في "الألعاب" والاحتمالات (وقد أنجزت في هذا الموضوع في السنوات الأخيرة أعمال تحليلية واسعة في إطار دراسة "نظرية ألعاب التنسيق" أشهرها أعمال F. Kramarz و D. Kreps و J.-P. Ponssard...)، و"تُجمّع" العناصر والمحتويات الذهنية –التي يكون ترابطها وتناسقها ما زال في حالة أزمة وتفاعل– حتى تحتل المحتويات الذهنية الراقية المحلَّ الحيوي من الذهن القادر على تنسيق وتجويق العناصر المندفقة فتصبح هذه مستعدة للانبثاق على مستوى جديد متطور وأوسع؛ وهكذا يكون التنسيق عملا مستمرا يهيئ للانبثاق من مستوى أو درجة ما إلى درجة أعلى (وبهذا المعنى تضع نظريةُ التنسيق حدّا لمفهوم "التوفيق" الذي تعوّدنا العمل به عند التقاء وتعارض الثقافات، وتضع نظريةُ الانبثاق بدورها حدا لمفهوم "النهضة" الذي ظل دائما يعني عن وهم الانتقالَ من مستوى معين إلى مستوى أرقى).
 

برج التكوّن والاختبار (كيف يلحق المتخلفون الركب؟)

من المفيد أن نقدم الآن في هذا السياق النظري صورة تبين كيف ترتقي قدرات الكائن الذهنية إلى أفضل مستوى يحقق فيه –سلوكا ورؤية– أرقى وأوسع غيريةٍ وأضمن حياة له وللجميع. ونرجع في ذلك إلى صورة بليغة (نختصرها اختصارا شديدا في هذه السطور) يقدمها الفيلسوف الأمريكي دينيت في كتابه أنواع الأذهان يسميها "برج التكوّن والاختبار"(35)، حيث يصور تكوّن القدرة الذهنية أو القدرة المعرفية (في إطار تتبع حلول مختلف تصاميم الدماغ) في برجٍ كلما تكوّنت فيه طبقةٌ ما صارت الكائنات في هذا المستوى أكثر قدرة على إيجاد وفعل حركات أحسن ومزودة بفعالية أكبر للصعود إلى طبقة أعلى. ففي الطبقة السفلى تسكن أنواع من الكائنات تكوّنت عبر مراحل إعادة تركيبها وطفراتها الاعتباطية سماها دينيت بالمخلوقات الداروينية. ونجاحها أو نجاح بعض منها في مواجهة البيئة (أو الوسط الخارجي) بأفعال ذكية وأفضل جعلها مخلوقات تسكن طبقة أعلى، وقد سماها مخلوقات سكينيرية (نسبة إلى عالم النفس ذي النزعة السلوكية B. F. Skinner)، ومعها يحل محلَّ السلوك الوراثي القدرةُ على إخضاع القابلية الوراثية للتحول إلى العمليات الشرطية. أنشأت هذه المخلوقات السلوكية بنيات عالية من القدرة على التكيف، وترابطت فيها الطبيعة والثقافة ارتباطا وثيقا لا تظهر فيه حدود تميز الواحدة عن الأخرى. ولكن ظلت هناك مشاكل معرفية لم يمكن حلها، وقد استطاعت مخلوقات منها أن تتجاوزها وأن تحقق معارفَ دون أن تمر عبر الطريق الصعب الذي هو طريق المحاولة والخطأ. إن مبدأ سكينر هو مبدأ حسن ما دامت لا تقتلنا أخطاؤنا الأولى. ولكن الأحسن أن نقوم بـ"اختيار مسبق" بين جميع السلوكات والأفعال الممكنة حتى نتجنب ونلغي الإمكانات الخاطئة قبل اختبارها في الحياة الواقعية، وهذا ما عبر عنه K. Popper قائلا إن تحسين هندسة المعرفة الذهنية بهذا الشكل يرقى بنا إلى أن تكون فرضياتنا هي التي تموت بدلا من أن نموت نحن. وقد سميت هذه المخلوقات مخلوقات بوبيرية، وهي تسكن طبقة أعلى في ذاك البرج. إن هذا الاختيار قبل القيام بالاختبار يقتضي مصفاة أو "محيطا داخليا" تجرى فيه الاختبارات بأمان، وذلك مثل العالم الافتراضي الذي يصطنعه ربان الطائرة فوق الأرض ليختبر الحركات التي يجب أن يقوم بها فيما بعد في السماء حتى لا يعرض حياته للخطر وطائرته للتحطم.
إن من المخلوقات البوبيرية مخلوقات أخرى سترتقي وتسكن طبقة أعلى من البرج، وهي تلك التي يتلقى محيطها الداخلي المعارفَ من عناصر هندسية توجد في المحيط الخارجي. إن إحدى الأفكار الرئيسة التي نتبينها من تطور القدرات الذهنية عند الكائن هو أن خلق هندسةٍ أو تصميمٍ جديد عمليةٌ مكلِّفة بينما لا تكلف نسخة تصميم موجود من قبل ثمنا غاليا. فالعجلة مثلا لا يمكننا أن نخترعها من جديد ثم ليس علينا أن نخترعها من جديد فهي أداة قد اكتسبنا في ذهننا هندستها في الثقافة التي تكونّا فيها. هذه المخلوقات الجديدة، المسماة مخلوقات غريغورية (نسبة إلى عالم النفس البريطاني R. Gregory، وهو أكبر المنظرين لدور الإعلام وإصدار المعرفة والذكاء الحركي الكامن في الأدوات –المادية أو النظرية– الموجودة)، قد خطت خطوة كبيرة إلى المستوى الإنساني من القدرات الذهنية، إذ إنها استطاعت أن تتعامل مع أدوات المحيط الخارجي المادية (التقنيات...) أو النظرية (المفاهيم والآراء...)، التي صنعها الآخرون، كأشياء تجسدت فيها تجربتهم الذهنية المتطورة، فقامت هي تستفيد منها لتنمّي ذكاءها بفضل المعارف الكامنة فيها وتُطورها من جديد، وهكذا صارت تعلو في طبقات البرج أكثر فأكثر (ويمثل في ذلك بمثال المقصّ بوصفه أداة تتوج قدرة ذهنية عالية تنمي قدرة الذي يستعمله على تحقيق حركات أحسن وأسرع وآمن).
إن أهم شيء قد نخْلُص إليه بسرعة فيما يتعلق بصورة المخلوقات الغريغورية هو أنها، بالنظر إلى طبقات البرج السفلى التي رأينا، قد حققت أكبر خطوة عندما صار محيطها الداخلي ينمي قدراته الذهنية من المحيط الخارجي. فهي قد تجاوزت في حياتها كلا من موروثها الطبيعي الخام (المستوى الدارويني) وشروط تكونها الطبيعي-الثقافي بواسطة المحاولة والخطأ (المستوى السكينيري) ودرجة معالجة فرضياتها من محيطها الداخلي أو مِصفاتها (المستوى البوبيري) إلى مستوى الاستفادة من المحيط الخارجي لتحسين تصاميم دماغها وقدراتها الذهنية. وفي هذا المستوى تصبح كثير من حركاتنا التي لا تفكِّر (مثل عقد خيوط الحذاء) واعتقاداتنا التي لا تفكِّر (مثل أن الرجل أقوى من المرأة) –وغيرها من المحتويات الذهنية في محيطنا الداخلي– موضوعَ تحسين أو إلغاء، أي موضوع هندسة ذهنية جديدة اكتسبناها من أداة ذهنية راقية من المحيط الخارجي فصرنا قادرين على أن نحسن أو نلغي هذه المحتويات الذهنية وأن نحصل أخيرا على محتويات ذهنية راقية "تفكِّر" فينا. وهذه لا نحصل عليها بفضل قدرة غيبية متعالية، بل إن حصلنا عليها فلكونها تغلبت على المحتويات الذهنية الأخرى التي تنافسها في مجال مراقبة السلوك وتحقيق التأثيرات الطويلة المدة (وكما ذكرنا أعلاه حرفيا، هذه العملية نسميها عادة بالتذكّر، إذ أنه بما أننا كائنات ناطقة وبما أننا نتكلم في داخلنا، مع أنفسنا، عن أفعالنا واعتقاداتنا فإن تلك أقوى طريقة في أن يصبح محتوى ذهني معين أكثر تأثيرا وأن يكون مفكِّرا، وهذا المحتوى الذهني الدماغي (الذي يتجسد في أدوات وأفعال واعتقادات) هو الذي يفكر حين أقول "أنا أفكر").
هذه هي الطريقة التي تصنع بها المخلوقات الغريغورية ذاكرتها وتجعلها قادرة على اختيار واتباع أحسن وأرقى المستويات الأخلاقية، وهو المستوى الذي تدرك فيه أنه يجب استثمار العناصر الذهنية المتطورة الموجودة في أي محيط خارجي ممكن وإعطائها مكانة الـ "ما يفكِّر" فيها، فتجعل بذلك مصلحة ووجود الفرد قائمة على أوسع غيرية ممكنة. إن ذاكرتها هذه لا تعنيها أيٌّ من المفاهيم المحسوبة على الذاكرة في الخطاب الأدبي والفلسفي مثل مفهوم الهوية والماضي والتراث... فالتراث لا معنى له عندها أو على الأقل له معنى آخر، إذ لا يعني عندها ذلك الماضي المنصهر في الذات والهوية بوصفه حقيقة تنكب أو لا تنكب في حاضرها وتنفتح أو لا تنفتح على مستقبلها. فليس يهمها هل لها تراث أم لا بقدر ما يهمها هل تتطور وتتقدم أم لا. ولذلك فيمكن أن نعبر عن همّها بـ "الهم الانبثاقي" وعن مبدئها بـ "مبدأ التنسيق"، كما رأينا أعلاه... إن همها وإشكالها يقع خارج مشكل العودة إلى التراث أو القطيعة معه. فالتراث بالمعنى الذي نفهمه مفهوم ملوث بالقرن التاسع عشر الألماني –وأغلب المفاهيم التي تمثل أدوات فكرنا اليوم ملوث بشيء من هذا القبيل–، فهو لا ينطوي على قدرات ذهنية قد تنمي قدراتنا لكونه روحَنا التي من داخلها نتطور، بل إنه إن كان ينطوي على قدرة ذهنية قد تطورنا وتحسن حياتنا فإننا ننـزع إلى الاستفادة منها كأداة ذهنية توجد في محيط خارجي لا باطن لها غير محتواها الذهني الأداتي. فذاكرتنا تُطور محتواها الذهني بهذه الطريقة، أي أنها تستفيد من الأداة الذهنية الأفضل وتُحلها في موقع الأقوى نازعة إلى ضمان وجودها، فهي إن قامت تستفيد من فكر ديكارت أو فكر ابن رشد مثلا بوصفة أداة ذهنية فإنها تنزع في ذلك مثلما تنزع في الاستفادة من نظرية النسبية أو من محرك كهربائي أو من المقص...
وهذا لا يعني أنها تقوم باستيراد أو تبيئة الأدوات والمفاهيم الخارجية في محيطها الداخلي، فهذه عملية ذهنية محدودة لا تتجاوز القدرات الذهنية التي شاهدناها عند مخلوقات الطبقة الثالثة من البرج، وهي تعتبر مع ذلك وكأنها أقصى ما بلغه الفكر وبها يقترن عادة الوعي التقدّمي في الفكر والأخلاق والسياسة...، ولكنها في الواقع ليست غير طريقة في النقل الحرفي لا تنمي القدرات الذهنية ولا تجعلها ترقى إلى درجة أعلى، فربان الطائرة الذي ينقل إلى محيطه الداخلي ويختبر فيه الوضعيةَ والحركات التي تجري في العالم الخارجي (في السماء)، كما رأينا مع مثال المخلوقات البوبيرية، يعجز عن مواجهة الوضعيات غير المتوقعة عندما يقود الطائرة، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن النقل الحرفي يجر معه أصلا جميع عيوب وأوهام "الإدراك" فتترتب عليه غالبا عواقب وخيمة، ويحصل معه مثلما يحصل مع الرجل الذي ينقل من العالم الخارجي إلى محيطه الداخلي مثال جهاز التسخين فيتصور رأسه الذي يشتعل حرارة جهازَ تسخين (وهو مثال يأتي به دينيت في الحديث عن المخلوقات البوبيرية) ولكن لما يضع يدَه على رأسه لا تحترق يدُه كما لو وضعها على هذا الجهاز فلا يحصل أبدا على هذه "المعلومة" (أو هذا الشيء الإعلامي)، فتبقى قدراته الإدراكية الذهنية في محيطها الداخلي قدرات نسخية لا تتعامل مع الأدوات الذهنية الخارجية بوصفها "أشياء إعلامية" تنطوي على ذكاء حركي ينمي القدرات الذهنية لمن يستفيد منها ويكتشفها أو يصوغها فيستثمرها أو يلغيها ويتجاوزها. وبهذه الطريقة تنقل –فكريا أو فلسفيا أو سياسيا أو حتى علميا– المجتمعاتُ غير الحديثة مثلا كثيرا من الأدوات الذهنية سواء منها المادية (مثل الآلات والتقنيات...) أو المفهومية (مثل الديمقراطية والمجتمع المدني والعقلانية...).
هذا الإدراك الوهمي لا يقف عند حدّ هذا النسخ الشاحب وعدم تنمية القدرات الذهنية باستثمار هذه الأدوات الذهنية الخارجية أو تجاوزها، بل إنه قد يكون كذلك إدراكا "معوّقا" لا يـميّز بسببه صاحبُه مرئياتِـه فلا يلبّـى له "الجوع المعرفي" faim épistémique، فتراه يُلقي اللوم على مرئياته في العالم الخارجي (أي على مواضيع إدراكه: مفاهيم فكرية أخلاقية أو أدوات ذهنية وتقنية...)، وذلك يزيد من قدرة وتغلب "سياسة" عالمه الداخلي وثقافته وتقاليده عليه. وهذا يحصل مثلما يحصل مع مرضى عالم النفس-العصبي Andrew Young(36) (مرضى Capgras) المصابين بآفات دماغيةٍ يعانون بسببها من مرض عدم تميز الوجوه (عدم معرفة المرئيات) prosopagnosie، فلما ينظرون إلى شخص (أو أداة أو موضوع ما) يرون أنه يشبه من حيث الكيفيات شخصا يقدّرونه ويحبونه ولكنهم في تمييزهم يجهلونه ويرون شخصا آخر ماكرا خداعا، فيثير ذلك عندهم الحزن والحيرة والغضب، فبدلا من أن يعللوا ذلك بالخلل الذي في جهازهم الإدراكي ينتقدون ويلومون المرئيات الخارجية بطرق ميتافيزيقية فادحة فيتبين من ذلك (كما يقول دينيت) أن السياسة لها قدرة كبيرة على أجهزتنا المختلّة؛ ولا شك أن الحيرة في المعاناة من "الجوع الإبيستيمي" في جهاز معين من أجهزتنا كانت دائما تصل حدا من الغضب يمنع الاستفادة من الأجهزة الأخرى السليمة ويقضي عليها (هذه الحالة المرضية تمس في الواقع أغلب الثقافات والمجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة، وتاريخ الإنسان مصاب بها أكثر من تاريخ الحيوان).
إن جميع اللحظات التي خطا فيها الإنسان خطوة متقدمة في تاريخ الإنسانية لا تحصل إذن بنسخ وتبيئة الأدوات والمفاهيم الخارجية بواسطة المصفاة الثقافية الداخلية بل تحصل عن طريق تنمية القدرات الذهنية بالاستفادة من أرقى الأدوات الذهنية الخارجية، وتمييزها وإدراكها إدراكا سليما، واستثمارها بوصفها أشياء إعلامية تنطوي على ما يساهم في إنتاج ذكاء وفعالية أقوى، وهذه خطوةٌ ضرورية في الوجود وللوجود، وهذه الأشياء التي يخطو بها الإنسان هذه الخطوة لا تتحدد بأية طبيعة جوهرية أو "هُوّياتية"، بل تتحدد بكونها محتوى ذهنيا من طبيعته أن يكون "محيطا خارجيا" للمستفيد منه، وذلك حتى ولو كان مستمدا من تاريخ اعتقادات وأفعال أجداده. وإذا ما نظرنا في أعمال المفكرين والعلماء (ولا نستثني منها أعمال أي إنسان سواء أكان يحترف العلم أم غير العلم) التي حققت للإنسانية خطوة متقدمة وجدناها لا تسلك غير هذه الطريقة. إنها أعمال مخلوقات غريغورية. وهي مخلوقات لا تراثية بالمعنى المقصود عادة من التراث. وإن شئنا أن يكون لها تراث فإن تراثها ترقى وتسعى به إلى أوسع دائرة غيرية تنتشر فيها أدوات ذهنية متطورة في محيط ليس فيه باطن قومي أو عرقي أو غير ذلك. بهذا المعنى، وليس بغيره، نميز بلغتنا العادية الإنسان العظيم عن غير العظيم، ولما نأتي بمثال ابن رشد –لكونه أقرب الأمثلة إلينا في عالم الفكر–، فإنه يبدو لا شك أحدَ أذكى المخلوقات الغريغورية فيما مضى، إذ نجد أنفسنا أمام رجل جعل من كل التراث الفكري الذي وقف عليه أدوات ذهنية خارجية، فكل ما كان له باطنُ معتقداتٍ داخلية جدلية ألغاه وكل ما كان ينطوي على محتويات ذهنية تخرج بالبرهان إلى دائرة العقل في أوسع وحدته استثمره وحثّ على الاستفادة منه، وبهذا المعنى كان الشارح الأكبر ومنسق النواميس والكليات.
وأما الأعمال الفكرية أو غير الفكرية، القديمة أو الحديثة، الأوربية أو غير الأوربية، التي تصورت التراث تصورا "هوياتيا" فإن تصورها يلتقي بشكل أو بآخر بمفهوم التراث الذي تكوّن وصار نظرية وفلسفة في حد ذاتها في أجواء أوربا القرن التاسع عشر. في هذه الأجواء أنجزت أعمال فلسفية وأدبية وسياسية وتاريخية ضخمة ظلت محتوياتها الذهنية داخل الطبقات السفلى الثلاث من البرج الذي تحدثنا عنه، أي أنها ظلت تتأرجح في مجال هندساتها الذهنية وأفعالها التاريخية بين درجة الموروث الطبيعي (الحيواني) ودرجة المصفاة الثقافية (أي درجة المحيط الداخلي الذي فيه تختبر وتصفي الآراء)، فصارت تبني في الداخل ومن الداخل معاقل فكرية أسطورية، وتميز العالم الخارجي بجهاز إدراك معوّق، فجعلت هندسات ذهنية ميتافيزيقية قديمة تحتلّ مكان المحتوى الذهني الذي "يفكِّر" ويسيطر، فراجت مفاهيم مثل فينومونولوجيا الروح وغيره، فكان أثرها كبيرا في عرقلة الاستفادة من المحتويات الذهنية والمفاهيم الفلسفية والأخلاقية الكامنة في أعمال الفكر اللاميتافيزيقي اللاذاتي التي أنجزت في أوربا نفسها وفي العالم العربي الإسلامي وفي الفكر العبري وغيره، قديما، وفي عالم الفكر التحليلي والعلوم المعرفية وحقول المذهب الطبيعي إلخ.، حديثا.
دامت هذه العرقلة قرونا طويلة، ولا شك أن الأنساق النظرية الموروثة المسؤولة عنها قد دامت كذلك طويلا لكونها تَخلق باستمرار وتستنسخ إنسانا تطعّمه بمفاهيم لا تخرجه عن "مصفاته" الداخلية، فيطعمها هو بدوره. فالمشكل إذن في هذه العرقلة هو أن هذه المفاهيم والمحتويات الذهنية تحتل في ذاكرة الإنسان مكان ما فيه "يفكِّر" وينافس ويتغلب على باقي المحتويات الذهنية الممكنة، والحل إذن هو خلعها عن عرشها وإشهار وتكريس مفاهيم جديدة حتى تحتل ذلك المكان. لا شك أن هذه مهمة صعبة تقتضي جهودا غريغورية جبارة إذ إن هذه المفاهيم ليست تأملا نظريا بل هي أشياء ذهنية-حيوية (وهذا هو ما يجعل كثيرا من الشعراء والفلاسفة يعبرون عنها بأنها روح الإنسان أو روح الشعب وتراثه)، فليس من السهل إذن أن تحل مفاهيم جديدة محل مفاهيم اطمأنت حياة الناس والشعوب إليها قرونا طويلة (باستثناء الإنسان الذي لا يستقي حياته من مصفاة داخلية ما، أي ذلك الإنسان الذي لا باطن تراثيا له).
ولكن صارت تطفو على السطح وتفرض نفسها في هذه العقود الأخيرة مفاهيم وتصورات جديدة تجبر المفاهيم القديمة –التي تحيا بمقولاتها المتعالية ومفارقاتها السيادية أو بمصفاتها الداخلية وروحها القَبَليّة– على أن تزول أو تغير قناعها (وهي تصورات يصدر أغلبها من العلوم المعرفية ونظريات العقل المادية ويصدر بعضها من نظريات الفكر التحليلي (الأنجلو-أمريكي) الذي صار الفكر القاري (الأوربي) اليوم مجبرا على الإصغاء إليه بعد أن ظل تاريخا طويلا يغلق أبوابه في وجهه... وهذه لحظة طبيعية متطورة و"ضرورة حيوية"). فمنذ أن صارت السيادة تخرق العالم وتشمله بنفس السعة والسرعة التي تغزو بها العالـمَ وسائلُ الإعلام والتقنيات وغيرُها، وقعت أزمة تناسق كبيرة وأصبحت حياة الناس والشعوب في خطر، فقامت حرب من نوع حرب الجزئيات ضد الكليات، وصار الوعي التنسيقي والهم الانبثاقي اللذين ظلا دائما خافتين في كتب العلماء يتجليان في الدعوة والمطالبة باندماج حالات وعناصر معرفية ثقافية أخلاقية لا تستوعبها بعدُ "الكليات" السياسية السائدة ولا تعرفها، وذلك انطلاقا من المطالبة بأبسط حق شخصي إلى أكبر عملية "إرهابية". وقد يبدو غريبا –وهو ليس كذلك– أن ما يساعد أكثر على هذا النوع من حرب الجزئيات ضد الكليات هو منطقُ السيادة الذي تمارسه الولايات المتحدة نفسه، فهي بنت أوربية ساذجة متمردة تقول وتعلن عما تسكت عنه أوربا التي بلغت مستوى عاليا من التفنن في الحفاظ على منطق السيادة القديم؛ ولذلك فميزة كل نظام لاميتافيزيقي براغماتي النزعة أنه في حد ذاته فرصة لاكتشاف فراغ الكليات وبنيته السيادية، وإخضاع هذه الكليات لمبدأي التنسيق والانبثاق، فهذان المبدآن يتجاوزان الزوج جزئيات/كليات: حيث يمثل التنسيق منهجا وعملية معرفية أدق من الاستقراء تتجاوز صعوباته الاستدلالية التي قد تؤدي إلى تعميمات واعتقادات لاعقلية؛ ويمثل الانبثاق لحظة كلية غير فارغة ومستوى عاليا لا يتدرج ولا يتصاعد إلا بعد تجمّع جميع الوحدات الاندماجية في مستوى معين من درجة أقل.
صارت الحاجة في هذه الوضعية إلى مفاهيم جديدة حاجةً ملحة، وأصبح المثقف يدرك بفضل الرؤية العلمية الجديدة أن القدرات والمحتويات الذهنية الراقية التي اكتسب ليست فائضا ثقافيا أو هدية فكرية من السماء، بل هي مسيرة حيوية وتطور ضروري لضمان وجود الإنسان (وهذا يلتقي بمعنى من المعاني برؤية بعض الفلاسفة القدماء القائلة إن الوجود وُجد لغاية أن ينشأ فيه فيلسوف)، وأنه هو الذي عليه أن يشق ذاكرة العالم بهذه المفاهيم، فمن دون ذلك سيكون من الطبيعي أن تنقرض المجتمعات المتخلفة التي تنزع إلى مصالحها بواسطة مهارات قَبَلية رديئة وأن تتفنن المجتمعات المتقدمة أكثر في الحفاظ على منطق سيادتها.
 

خاتـمـة

إن المفاهيم الجديدة التي تحاول هذه المخلوقات الغريغورية اليومَ أن تنتجها أو تصوغها وتستثمرها بواسطة الأدوات الذهنية المنطوية على قدرات عالية من المعارف والذكاء، مثل مفهوم الغيرية altruisme والتعاون coopération –بمعناهما الحيوي-الثقافي– والاجتماعية sociabilité والمحيط الخارجي والأدواتية الذهنية والأشياء الإعلامية والذكاء الحركي والتنسيق والانبثاق...، جميع هذه المفاهيم يمثل مرحلة متقدمة ضرورية للإنسانية بعد أن صارت المفارقات العريقة في تاريخ أوربا، وأولُها مفارقات مفهوم الإنسان ومبدأ السيادة، تهدد وجود الإنسان. تضع هذه المفاهيم حدا للبديهيات والأوليات العريقة التي يتضارب في شأنها، كما رأينا في بداية هذا المقال، مختلِفُ النظريات السياسية والأخلاقية (نظريات العدالة) المعاصرة، وتفند الأصول النظرية والميتولوجية لكثير من المفاهيم الحديثة. وما يثبت أنها مرحلة فكرية جديدة ضرورية للإنسانية هو أن مبادئها (الأخلاقية خاصة، مثل مبدأ تطور واتساع دائرة الغيرية الطبيعية-الثقافية) لمّا تنبني عليها، ولو بلغة أخرى، نظرية سياسية أخلاقية منسقة، مثل نظرية جون راولز في العدالة، فإن هذه النظرية تجبر النظريات الأخرى على النقاش وإعادة النظر في أولياتها. ولذلك فنظرية راولز، التي تمثل اليوم محور الجدال في الفكر السياسي الأوربي، تبدو وكأنها آخِر نَفَس للميتولوجيا الأوربية وأقوى إرادة تنسيقية تتآكل فيها بعض المفارقات القديمة.
فهذا النفس الأخير تعبر عنه وضعيةٌ خيالية سماها راولز "الوضعية الأصلية"، وهي بمثابة "حجاب جهل" يكون خلفه مشاركون (متعاقدون) يقومون باختيار عقلي، ويقوم اختيارهم عن جهل بالوظيفة الاجتماعية أو المكان الذي سيتبوؤونه في المجتمع الآتي. هذا التصور الوارد في كتابه نظرية في العدالة يوحي بفكرة واسعة عن الغيرية، وقد أخذ بعدا أوسع في دراسته المعنونة حق الشعوب(37). وهو في ذلك ينطلق من إقرار مبادئ في العدالة دقيقة ومنسقة إلى حد كبير، واشتهرت منها مبادئ العدالة الثلاثة التالية: مبدأ الحرية المتساوية؛ ومبدأ الإنصاف في توفير الفرص وجعل الفروق الاجتماعية والاقتصادية خاضعة لصالح أعضاء المجتمع الأقل امتيازا؛ ومبدأ ربط الفرص (الحظوظ) بوظائف ووضعيات من حق الجميع أن يلتحق بها. والعدالة تعني عنده الإنصاف (الإقساط) fairness، والإنصاف لا يقوم عنده، كما يقول، على أوطوبيا اشتراكية متطرفة، بل إنه العمل على تحقيق ما هو أحسن لكل فرد، حيث يأخذ كل فرد بعين الاعتبار مصلحة الجميع.
وفي دراسته "العدالة بوصفها إنصافا: عدالة سياسية وليست ميتافيزيقية"(38) يلتقي أكثر، من قريب أو من بعيد، بتصور الغيرية كما هو عند الباحثين المعاصرين في طبيعة عقل الإنسان، حيث يبتعد عن تصور كانط الكوني الأنواري لنظرية العدالة، ويلح على أن حس العدالة في الحياة "خاصية طبيعية" في الإنسان وليس مفهوما مجردا متعاليا. وهذا التصور بدأ يتكوّن في نظريته منذ كتابه الرئيس نظرية في العدالة حيث يقول في مجرى الدفاع عن موقفه والرد على المذهب النفعي إن ثبات مبادئ العدالة جعله يعدّ بعض القوانين السيكولوجية صحيحة أو شبه صحيحة، ويرى أن قدرة الفرد على أن يكون له حس بالعدالة وإحساس أخلاقي هو في الإنسانية نوع من تكيفها الطبيعي؛ ويضيف قائلا إن أفراد نوع من الكائنات التي تعيش جماعاتٍ اجتماعيةً مستقرّة تكون قدرتُها على اتّباع طُرق التعاون والإنصاف، وتطويرِ الأحاسيس الضرورية لدعمها، مفيدةً جدا ومربحة خاصة إذا كان أفراد هذا النوع يعيشون مدة طويلة ويتعلق الواحد منهم بالآخر.
يمثل فكر راولز في إطار التصور الذي نزكيه هنا أنضج نسق فكري معاصر في الميتولوجيا الأوربية يرصده المثقفون الغريغوريون ويبادلونه بمفاهيمهم (التي يشقون بها اليوم المكان الذهني الذي تحتله المفاهيم "الأنوارية" في "المصفاة الداخلية" لتاريخ الفكر السياسي الأوربي). فهذا النسق يجبر هذه المفاهيم الأنوارية نفسها على مواجهة المفارقات الكامنة فيها وعلى إدراك أزمتها. وهو إن كان لا يلغيها فإنه يسعى بأحسن وأدق طريقة إلى تصحيحها، وتنسيق ما يمكن بعدُ أن يُنسّق فيها بواسطة مفهوم "العدالة" (أو الإنصاف) كما يحدده في نظريته السياسية. وهكذا فنظريته في العدالة تمثل في آن واحد آخرَ معقل نظري لمفارقات منطق السيادة وأولَ لغة نظرية تستعملها السيادة للتنازل عن سيادتها، ولذلك فهي تعطي نفَسا جديدا للأبعاد الإيجابية في الحداثة (أي أنها تزود بعض الأدوات والمحتويات الذهنية الحديثة، مثل مفهوم العدالة والديمقراطية والحرية وحق الشعوب، إلخ.، بما يجعلها تنطوي على قدرات ذهنية أرقى وذكاءٍ حركي متطور يمكن استثماره لتحقيق الانبثاق على مستوى غيرية واسعة غير فارغة). ولكن هذا التنازل قد يكون مصيرُه مثل مصير تنازل السيادة الملكية الإلهية في الميتولوجيا الكانطية، التي سرعان ما انطلقت معها سيادةٌ جديدة قوية تقوم على أسس مقولاتية فارغة أقوى من المقولات القديمة. فمفهوم التعاون والخاصية الطبيعية للعدالة وكثير من المفاهيم الأخرى عند راولز تنبني –وكأنها وراء "حجاب جهل" كذلك– على عدد من الأوليات التي اعتادت السيادة أن تستنسخ بها مفهوم الإنسان بكل مفارقاته القديمة والحديثة. لذلك فمثقفنا الغريغوري يرى نفسه ملزما بالقيام بأول خطوة نظرية كبرى، وهي تخليص مفهوم الإنسان من هذه المفارقات، وهذا مشروع ضخم يقوم أساسا على تصفية الحساب مع مقولة "الإنسان حيوان عاقل"، التي فصلت عقل الإنسان عن حيوانيته وربطته بعالم مفارق فوق-طبيعي مقولاتي متعال، وجعلت حيوانية الإنسان في محل الحياة العارية الطبيعية، وهو محل "الاستثناء" الذي ظل يسوّغ دائما للسيادة أن تأتي من عالم أو ذات متعالية لتثبت على حسابه أنها "القاعدة". هذا هو منطق السيادة منذ أن أعلن بينداروس (في القرن الخامس قبل الميلاد) أن مبدأ الناموس السيادي يقرن القانون بالعنف إلى حتى إعلان حقوق الإنسان بفيرجينيا سنة 1776 بوصفها حقوقا "جوهرية"... وهذا المنطق السيادي تنبني عليه أغلب المفاهيم الأنوارية الحديثة، ومنها مفهوم العولمة المعاصر. فأول مهمة يرى مثقفنا نفسه إذن ملزما بتحقيقها تتمثل في إنزال عقل الإنسان (وجوهريته وسياسته وأخلاقه ومعتقداته وحريته) إلى موضعه الحقيقي، وهو طبيعته وقدراته الذهنية الملموسة، التي هي مثل شبكة أسلاك موصولة hard-wired تسجل الحاجة والرغبة والشعور بأنه من الضروري أن يتصرف الفرد بطريقة تعاونية اجتماعية (كما يقول M. Ruse(39)). فكلما وصلت قدرات الفرد الذهنية أرقى مستوياتها صار يعرف كيف يكسب مصلحته الخاصة عبر توفير وتحقيق المصلحة العامة، وصار يعرف كيف يحوّل طريق أنانيته الغريزية من انصهارها في الذات المتعالية أو في الحياة القبَلية إلى انطلاقها نحو أوسع غيرية ثقافية واجتماعية، أي نحو ما هو الإنسان، وهكذا فلما نعرّف الإنسان بأنه حيوان أخلاقي فإن صفة "أخلاقي" هنا تعني أنه ذو قدرات ذهنية طبيعية دماغية متطورة. ولذلك فالأخلاق الأنانية المتفننة في تحقيق المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة ليست صفة كائنات ماهرة ذكية كما قد يبدو بل هي صفة كائنات قدراتُها الذهنية متخلفة (أي كائنات لم ترتق بشبكة أسلاكها الدماغية الموصولة إلى قدرة وسَعة الحسابات الشطرنجية مثلا للقيام بأحسن لعبة وأحسن قرار يجوّق جميع العناصر الكائنة واللعب المحتملة، ومن هنا تكون القدرة على الغيرية الراقية خاصية في الإنسان).
إن الجهود العلمية التي تكشِف اليوم (وتؤكّد بعضَ حدوس الماضي) الأسسَ الطبيعية لوظائف الإنسان الذهنية (طريقةُ استنباطه الأحكامَ وصناعتُه الصورَ الذهنية وتصوراتُه عن الأخلاق والسياسة وما إلى ذلك مما تحدثنا عنه أعلاه) تجعل من قضى حياته في قراءة تاريخ الأفكار الأخلاقية والسياسية والفلسفية وغيرها يرى أن الأنساق التي وضعت أسسا ميتافيزيقية لوظائف الإنسان الذهنية (وجميع ما تضمنته) قد ورّطت الفكر الإنساني أكثر من خمسة وعشرين قرنا في أعمال وهندسات فكرية استهلكت طاقات إنسانية هائلة استهلاكا مجانيا في الغالب. ولا شك أن كل هذه الصروح النظرية المتداعية والمفارقات المتراكمة في مفهوم الإنسان الموروثة وضعية تقتضي اليوم مسح الطاولة بشجاعة وصراحة (وأما المسح الديكارتي فقد مسح أجرام أرسطو السماوية فقط واحتفظ بآلهتها، إن صح التعبير).
لا شك أن المثقف، في أوربا أو في غير أوربا، الذي يجند نفسه لمعارضة قرون طويلة من مفارقات مفهوم الإنسان ومبدأ السيادة لا يجد ما يكفي من المراجع والمفاهيم الجديدة لدحض ذلك الصرح الضخم. بل إن أشد وأعجب مفارقة يعاني منها هذا المثقف اليوم هو كونُه يرى نفسه يعارض السيادة بالمفاهيم والمكتسبات الأنوارية التي تتبناها هذه السيادةُ نفسها. فهو يعارض الديمقراطية باسم الديمقراطية، والحرية باسم الحرية، وحقوق الإنسان باسم حقوق الإنسان، إلخ. إن المفاهيم والتصورات (الأخلاقية وغيرها) لا تفعل واقعَ الإنسان إلا إذا كانت تحتل في ذاكرة الفرد أو المجتمع المكان الأقوى الذي "يفكِّر" فيه وينزع منه إلى الحياة. والسيادة حريصة على أن تحتل مفاهيمها ومكتسباتها الأنوارية هذا المكان، ولذلك فالمثقف الحداثي إن عارضها فهو يعارضها بما تؤيده، ومن ثمة فهي تؤيد معارضته وتتظاهر بأنها تتنازل له عن سيادتها في الوقت الذي هو يعزز من حيث لا يشعر سيادتها. أمام هذه الوضعية اختار بعض المثقفين من المجتمعات المتقدمة أن يلجأ إلى مفهوم التصحيح correctness، أي تصحيح هذه المفاهيم (أو المكتسبات الأنوارية) كلما أصبحت القاعدة فيها تنتج اعتقادات خاطئة. وأما المثقف في المجتمعات غير المتقدمة، التي لم تحتضن بعد المفاهيم والمكتسبات الأنوارية، فإن مهمته معقدة. فهو أولا لا شيء يدفعه في مجتمعه (غير الحديث) إلى أن يهتم بتصحيح المفاهيم الأنوارية الحداثية، فهي غير موجودة في مجتمعه أصلا (وإن وُجدت فيه فإنها لا توجد في المكان الحيوي من ذهنه الذي "يفكِّر"، بل توجد كأشباح ذهنية تطردها العناصر الذهنية القَبَلية القديمة التي لا ينافسها بعدُ منافس). لا شيء يدفعه إذن إلى تطوير قدراته الذهنية ليصوغ خطابا عالميا ويكونَ أحد المساهمين في تصحيح المفاهيم الحداثية في العالم، فمهمته تقع على هامش العالم، وجهودُه وإنتاجاته وشهرتُه محليّةٌ (ما عدا إذا كانت مطبوعة بطابع الغرابة الجلابة exotisme) تنحصر في أن يلتحم بثقافته، وهو ينظر في الحلول والمشاريع النظرية والعملية التي يمكن أن يحقق بها تقدما محليا لمجتمعه (وتكتسي هذه المشاريع النظرية في أغلب الأحيان طابعا ثقافيا محليا شاحبا). ولكن، يصبح دور هذا المثقف في مجتمعه أكثر تعقيدا ومفارقة لما يستورد المفاهيم الحداثية فيدعو إليها بحماس فيرى نفسه (أو لا يراها) وكأنه يسعى إلى أن يحوّل مجتمعه إلى "حالة استثناء" جديدة سترحب بها السيادة كما يرحب الذئب بالغنم. لا شك أن المثقف هنا في مأزق، فهو يسعى من جهة إلى تغيير نظام مجتمعه القَبَلي وإدراجه في الحداثة، ولكنه يدرك من جهة أخرى أن الحداثة الأوربية ومنطقها السيادي لا يُخرج المجتمعات من التخلف إلى التقدم بل من "حالة استثناء" بائسة إلى "حالة استثناء" سمينة (فتصبح هذه المجتمعات المتخلفة نفسُها تخدم وتتقلد هذه المهمة السيادية وتبحث، وكأنها متواطئة مع السيادة الأم، عن "حالات استثنائية" أخرى جديدة).
هذا المأزق يوزع الثقافة في هذه المجتمعات غير المتطورة إلى: تيارات أولى سياسية –ما بين الحزب وغير الحزب–، وهي يلائمها هذا المأزق لأن السيادة العالمية تحافظ وتسهر عليه لضمان حالات الاستثناء فتقدم لهذه التيارات في المقابل أشكالا من المنافع والهدايا تنسجم مع منطقها القبَلي وتضمن لها مصالحها في دائرة القرابة والجاه والصحبان، وهذه هي الحالة الأعم؛ وتيارات ردّ الفعل الخام وهي تفكر وتجاهد (بصدق أو بهدف الالتحاق بتلك التيارات الأولى) في فضاء مصفاتها ومحيطها الداخلي بأقدم الأدوات الذهنية الخام، ولذلك فهي معرّضة طبيعيا للزوال رغم وفرتها وانتشارها؛ وتيارات أخرى فكرية متقدمة (لها أشكال مختلفة من المصفاة الداخلية) تمثل أنضج حركة فكرية، وهذه قد شاخت وأثقل كاهلَها أعمالُ التبيئة والتوفيق بين الحداثة والأصالة، وقد خيب ظنونَها الاتجاهُ غير الحداثي أو غير الليبيرالي الذي تطور فيه المجتمع، ولكن لعل أكبر خيبة هو أن النماذج والمفاهيم التي اجتهدت زمنا طويلا في صياغتها داخل مجتمعها وثقافتها أو ماضيها هي نفس المفاهيم الحداثية التي تضع المثقفين اليوم في مأزق نظرا لمفارقاتها ومنطقها السيادي وأصولها الميتافيزيقية والبينداروسية؛ وأما التيارات الروحية فإنها (مثل تيارات العدمية أو ما بعد الحداثة) تنهل من نفس المقولات الفارغة التي تنهل منها غريمتُها العقلانية أو الميتافيزيقا العقلانية غير أن هذه أذكى منها إذ استطاعت أن تتفاوض مع التصورات العلمية (اللاميتافيزيقية) للإنسان والمعرفة والأخلاق وتتبناها أسسا لها –منذ أرسطو إلى نيوتن– وأن تصوغ خطابا له أرضيةٌ ما لا تتيه التأويلات فيه على الأقل (أما الخطاب الروحي أو العدمي فتتداعى وتتيهُ فيه التأويلات إلى ما لانهاية، فلا أساس له، وقارئه يكون كأنه يمشي على الماء).
إن مثقفنا الغريغوري غير معني بهذا المأزق في جميع الحالات (خاصة وأنه كان دائما منذ القديم أول من يتفطن إلى أصول هذا المأزق ويشرّح المفارقات التي تؤدي إليه)، فنظرته إلى هذا الإشكال لا محل لها في هذه التيارات عامة ولا في مشروع المفارقة اللانهائية التي تقتضي دائما قاعدةً لتطبيق قاعدة. إن ما يسعى إليه هو أن يصوغ الطرق والاستراتيجيات التي نجعل بها أرقى الوحدات الذهنية الاندماجية (المعرفية والأخلاقية والثقافية...)، المنبثقة على مستوى جديد ما، تتغلّب على الضغوط الانتقائية الذهنية التي تجري على مجموعة إنسانية تربطها ثقافةٌ داخلية ضيقة، وذلك حتى تزوّد هذه المجموعة بالقدرة على الانصهار (التناسق) في دائرة ثقافية أخلاقية (غيرية) أوسع وبالفعالية الكافية للتحكم في نظام الحياة المتجدد الذي ينبثق كل مرة من تجمع وتناسق الوحدات الاندماجية. ولكن القدرة على الغيرية الواسعة التي يمكّن منها تناسق هذه الوحدات الاندماجية تُعيقها دائما، ومنذ أقدم الثقافات الإنسانية، ضغوطُ الغيرية المحصورة التي تنتقيها ثقافة مجموعة إنسانية معينة (وهذه الغيرية هي أخلاقها). إن الضغوط الانتقائية (الأخلاقية) الخاصة بكل مجموعة إنسانية أو ثقافية هي المحرك الذي يصنع تاريخ الإنسان، بل إنها ذلك الشيء الذي انتقـى هذا الإنسانَ الذي نعرفه اليوم، والتاريخ الذي نعرف ليس غيرَ تاريخها. فكل فرد في مجموعة ثقافية أخلاقية معينة ينصهر سلوكُه في معايير مجموعته فيكافَؤ على انصهاره فيها، فيزدهر فيها ويكرر معاييرَ سلوكيةً تحافظ عبر الأجيال على الضغوط الانتقائية لثقافته (ولذلك فنحن تعودنا أن نظن أننا نتكلم على الإنسان لما نتكلم على الإنسان، ولكن ما نتكلم عليه هو دائما إنسان إحدى هذه المجموعات الثقافية الخاضعة لضغوط انتقائية أخلاقية ما في التاريخ).
إن مؤسسي هذه المجموعات الثقافية الأخلاقية من الحكماء والمشرّعين والدعاة وغيرهم، منذ أنبياء الهند والصين إلى المشرّعين الحداثيين، لم يكونوا مجرد مصلحين أو أولياء أو طغاة أو غير ذلك، بل كانوا أساسا وقبل كل شيء أشخاصا لهم من الذكاء والقدرات الذهنية والمهارات ما جعلهم يتصورون معايير اجتماعية أخلاقية تضمن "المنفعة" (الفائدة) للمنخرطين فيها في مختلف الحالات وعلى مر العصور. وكلما كانت تصورات مؤسّس هذه المعايير تُوفّر المنفعة وتضمن حياة المشاركين في المجموعة بشكل أحسن كان عمر ضغوطها الانتقائية طويلا، وإذا طال عمر هذه المجموعة الثقافية أكثر واتسعت دائرة غيريتها فذلك يرجع خاصة إلى جهود بعض المنخرطين في هذه المجموعة الذين يحققون عبر الأجيال فوائد وانتصارات على المنافسين (أو "الأعداء" من باقي المجموعات الثقافية أو الدينية أو العرقية... الأخرى)، فتصبح الضغوط الانتقائية لهذه الثقافة أقوى تأثيرا وأكثر ترسخا. وهذا بيّن كل البيان من المجموعات الثقافية المختلفة أو الأنظمة الاجتماعية السياسية التي نراها اليوم تتسع وتسود أو تتسع دون أن تسود أو تنكمش دائرتها أو تتلاشى بحسب قدرة أو عدم قدرة ضغوطها الانتقائية على الاستمرار. وما هو أكثر بيانا ودلالة هو ما نرى من أنه لا تقدر أية مجموعة ثقافية على أن تنخرط في أخلاق مجموعة ثقافية أخرى، فإذا ما تخيلنا فردا ينسلخ عن ضغوط ثقافته وأخلاقها الانتقائية لينخرط في مجموعة أخلاقية أخرى فإنه يكون وكأنه يعرّض نفسه للهلاك لكونه ينسلخ عما كان دائما يعود عليه بالفائدة ويضمن له الحياة. ولذلك فالأخلاق فيه تبدو وكأنها "بصمة"، كما يقول Waddington(40)، ويمكن القول إن الإنسان في كل من هذه المجموعات الثقافية الضيقة ينظر إلى العالم ليس بوحدات ذهنه الاندماجية بل ببصمات أخلاقية طبيعية نشأ بها في مجموعته التي وضع أخلاقَها مشرّعُها والأجيالُ التي بعده؛ ولذلك لا يفهم مثلا رجل من الصين ديمقراطيةَ روسو، ولا يفهم رجل من أوربا مبدأَ المصلحة العامة عند فقهاء الإسلام... وطبيعة الحوار التي نشهدها بين ثقافات العالم كلّها أمثلة على ذلك، فهي طبيعة اللاحوار. هذه الضغوط الثقافية الأخلاقية تحتل المحتوى الذهني في الإنسان الذي يُنافس ويطرد كل المحتويات الذهنية (الثقافية الأخلاقية) الأخرى التي تسعى إلى احتلال مكانه كما رأينا سابقا، فلا يمكن إذن أن يُـجاور هذا المحتوى الذهني المسيطر إلا المحتوياتُ التي لا تنافسه ولا تهدد نزعته إلى الحياة، وهذا ما يفسر أنه قد يتجاور في ذهن مجموعة ثقافية ما أو في ذهن الفرد الواحد عددٌ من المحتويات الذهنية والرؤى التي تبدو لنا غير متناسقة أو متعارضة، وذلك مثل فرد تتجاور في ذهنه فكرة ديمقراطية وأخرى طغيانية ورأي علمي وتصور غيبي، ويعجبه المنطق الرياضي في حاسوبه ولا يعجبه في تدبير شؤون حياته ومسؤولياته، ويدافع بكلامه عن حرية المرأة ويمنعها عن زوجته أو ابنته، إلخ.، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة. وهكذا فذهن الإنسان يمكن أن يستقبل كل المحتويات الذهنية المندفقة (من محيطه الداخلي أو الخارجي) ما دامت لا تنافس محتواه الذهني-الحيوي المسيطر، فإذا كان مثلا محتواه الذهني هذا ينصهر في ثقافة أخلاقية قبَلية النزعة فإن سلوكه الأخلاقي (الذي يحافظ على ضغوط ثقافته الانتقائية عبر الأجيال) واعتقاداتِه وأفعالَه (في مجتمعه المسمى تجاوزا مجتمعا حديثا) تتحقق فيه بنزعة قبَلية، فلا يظهر في أفعاله أيُّ أثر للمحتويات الذهنية الحديثة الأخرى المندفقة على ذهنه مثل القانون والمسؤولية والاحترام وحقوق الفرد والمساواة، إلخ. وهذا ما يفسر تلك الظاهرة المثيرة للانتباه في المجتمعات غير الأوربية التي تبنت نموذج الحداثة الأوربية وقوانينها ومفاهيمها و"ملأت" بها الدساتير والأقاويل وغير ذلك ولكن لا شيء يُفعّل هذه القوانين، ولا يصدر أبدا من المسؤولين فيها أو غير المسؤولين ما يدل على أنهم "يحترمونها". هذا لا يعني أنهم لا يحترمون القوانين (هذا نعيبه مثلا على رجل مثل الرجل الأوربي باعتبار أن هذه القوانين أو المعايير الحداثية تصدر من محتوياته الذهنية-الحيوية التي احتلتها فيه أخلاقُ مجموعته الثقافية)، فهم ليس يمكنهم أن يحترموها أو أن لا يحترموها، وهم لا يكافؤون على احترامها أو يعاقبون على عدم احترامها، بل إنهم يكافؤون أو يعاقبون على الخضوع أو عدم الخضوع لمعايير مجتمعهم التقليدية التي تحتل مكان ذاك المحتوى الذهني منهم!
ومن الظواهر التي تؤكد أكثر هذا التجاور بين المحتويات الذهنية المختلفة ظاهرةُ ترسخ وانتشار المعتقدات والنزعات الدينية والروحية في أذهان طلاب وممارسي العلوم الحقة المقتصرين عليها، فالمحتويات الذهنية المندفقة من محيط عالم الفيزياء والرياضيات والطب (بمعناه الجاف) مثلا ليس لها باطن أخلاقي انتقائي مرتبط بمجموعة ثقافية معينة، فهي من جهة لا تهدد المحتوى الذهني-الحيوي الأخلاقي لمن يكتسبها في ذهنه، ويمكن من جهة أخرى أن يطبّقها مكتسِبُها في أفعاله. ليس اليوم أول مرة نرى فيها أن هذه المحتويات الذهنية العلمية (اللاباطنية) تنتقل إلى جميع الأذهان ومختلف الثقافات بلا مقاومة وتُتبنى فيها وتُطبّق. فالتاريخ يشهد منذ القديم على أن هذه المحتويات الذهنية (المندفقة من العلوم الفيزيائية والرياضية...) كانت تعبُر دائما حدود جميع الثقافات دون أن تحجزها الضغوط الانتقائية الأخلاقية، فهي محتويات نافعة ومنفعتها لا تتطلب تكاليف غالية، أي أن منفعتها لا تنافس ولا تقضي على المنفعة التي يحصل الإنسانُ عليها من محتواه الذهني-الحيوي الأخلاقي المسيطر عليه منذ أجيال قديمة، فالكل يعرف كيف انتشرت وطُبقت مثلا في حقول الحياة والفكر العربي الإسلامي جميعُ أنواع العلوم اليونانية النافعة التي تخلو من أساطير وآلهة اليونان، وكيف انتشرت في العالم المسيحي الأوربي علومُ العرب والمسلمين، وكيف تنتشر اليوم العلومُ الأوربية في العالم؛ والنظريات العلمية التي تتضمن بعض العناصر الثقافية الداخلية فإنها قد كانت –في جميع العصور والثقافات– تنتقل من المجموعة التي أنتجتها إلى مجموعات أخرى بواسطة مصفاة داخلية (وهي جهاز تصنعه الضغوط الانتقائية الأخلاقية الخاصة بكل مجموعة ثقافية) تحذف أو تحرّف العناصر الذهنية الأخلاقية التي قد تتخلل تلك النظريات العلمية، وهذا بيّن من شروح المؤلفات الأرسطية في العالم المسيحي والعربي والعبري وترجمات وقراءات مؤلفات ابن رشد في الفكر العبري والفكر المسيحي اللاتيني مثلا؛ وأما النظريات الفلسفية والأخلاقية والسياسية والسلوكات الاجتماعية في مجموعة ثقافية ما، إذا كانت صياغتُها راقية متطورة فيها منفعةٌ حيوية عالية فإنه يَتفطّن دائما إلى قوتها وقدرتها على الغزو أشخاص (عناصرُ ذهنية) من المجموعات الثقافية الأخرى، فيستقبلونها استقبالا سِلميا ويتفاوضون معها تفاوضا طويلا متشابكا، وهذا هو أكبر وأضنى نشاط ذهني شهده تاريخ الفكر الإنساني (ولا شك أنه عرقل ذهن الإنسان قرونا طويلة وأخّره عن الانبثاق) عن إنتاج الوحدات الاندماجية وتطورها)، وهو النشاط الفكري الذي تعودنا أن نصطلح عليه بـ "التوفيق" (ومن هنا فهو اصطلاح فيه نظر)، وكان هذا التوفيق إما يُعلِن عنه المثقفُ القائم بعملية التوفيق فيصرح بمصادر وأعلام الثقافة التي يتفاوض معها، وهذا معروف، وإما لا يعلن عنه فينهل من تلك الثقافة الأخرى دون الإحالة عليها، كما كان يفعل مثلا طوماس الأكويني مع نصوص فصل المقال و الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد، أو كما يفعل اليوم المثقفون الذين يستقون أفكارا أخلاقية وسياسية من مجموعة ثقافية أخرى فيسكتون (بطرق احتياطية مختلفة تحت الضغوط الانتقائية الأخلاقية لمجموعتهم الثقافية) عن مصادرها أو ينحلونها وينسبونها عن قصد أو بوهمٍ إلى أبطال وعلماء وفقهاء من ماضي المجموعة الثقافية التي ينتمون إليها (وهذه جميعها هي الحالات والعمليات الذهنية التي تصنع دائما تلك البنيات الذهنية التي نتعجب منها عند كثير من الحكماء (وغير الحكماء) مثل أغسطين وابن سينا والغزالي وابن خلدون وألبير الكبير وطوماس الأكويني وغيرهم حيث تتجاور في ذهن الواحد منهم محتويات ذهنية أرسطية وغنوصية وعقلانية ولاعقلانية والرؤية التجريبية العلمية والشعوذة إلخ.، وهذه الحالات في عالمنا اليوم صارخة أكثر حيث تندفق على أذهان المجتمعات غير المتقدمة عناصرُ ذهنية جديدة تصدر من العالم الأوربي-الأمريكي يوميا، بسرعة وكثرة لا مثيل لهما في التاريخ، فتخلُق في هذه المجتمعات أشدَّ أزمات وعيوب التناسق الذهني-المعرفي والأخلاقي والاجتماعي...)؛ وأما الأوساط العامة التي تكون عادة الضغوط الانتقائية الأخلاقية فيها راسخة رسوخا طبيعيا فإنها لا تستقبل تلك النظريات والتقنيات العلمية النافعة أو تلك السلوكات الاجتماعية المفيدة بوصفها محتويات ذهنية راقية أو بوصفها مفاهيم مغايرة ينبغي التفاوض معها أو إخضاعها لعمليات نظرية توفيقية، بل إنها تنزع إلى جلب المنفعة منها نزوعا طبيعيا مباشرا (لا قدرة فيه على التنبؤ بالنتائج واستباقها وإصدار أحكام قيمة واستبدال طريقة بأخرى)، فإذا ناقضت المنفعةُ المندفقة منفعةَ محتواها الذهني-الحيوي الأخلاقي المسيطر قاتلتها وإذا لم تناقضها (عن جهل أو عن علم) التحمت بها.
وهكذا فيتبين من هذا العرض الوجيز أن الوحدات الاندماجية المتجددة أو الأدوات الذهنية الراقية تشق طريقها بشكل طبيعي إلى ذهن الإنسان وتوسّع دائرة التعاون والغيرية بفضل ذكائها الحركي منذ أقدم الثقافات، وأنه لا تعرقلها ولا تلوّثـها سوى الضغوط الانتقائية الأخلاقية التي تمارسها كل ثقافة على أجيالها بشتى الطرق عبر العصور. وهنا نصل مع المثقف الغريغوري إلى النقطة التي انطلق منها ليقول رأيه في العالم ويمسح الطاولة وليلعب دور المشرع أو الداعية الجديد. فهو يسعى إلى إفشال وطرد الضغوط الانتقائية الأخلاقية الضيقة، وتمرين ذهن الإنسان على اختيار الغيرية الواسعة التي تصنعها المحتويات الذهنية الراقية المتجددة بوصفها أدوات ذكية حركية ليس لها باطن روحي ولا عرقي. يسعى هذا المثقف إلى تمرين ذهن الإنسان على أن يدرك ويكتسب (من كل محيط خارجي، أو داخلي من حيث هو خارجي) ويطوّر وينتج مفاهيم أخلاقية واجتماعية وسياسية بطريقة تجعل منها أشياء "إعلامية" منطوية على ذكاء (مضمر)، تصلح لابتكار حركات ذكية أو أداة تنطوي على ذكاء حركي، وهذه الأداة نفسها قد تصبح بالنسبة إلى إنسان أو ذهن آخر متقدم (في الوقت نفسه أو فيما بعد، في موطن ولغة مبتكرها الأول أو في مواطن ولغات أخرى، عند الفيلسوف أو عند حارس الجنان...) شيئا إعلاميا يضمر ذكاءً يستثمره هذا الذهن المتقدم ويبتكر به أداة ذكية جديدة أرقى تسمح بحركات أكثر فعالية ونجاحا. وهكذا، تصبح المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية مثلا أدوات ذكية حركية في محيط خارجي تُبتكَر وتَنبثِقُ كلما قَدَر ذهن ما على إنتاجها أو استثمار الأدوات التي مكنته من ذلك. وهذا الانبثاق لا يعني نهضة روح شعب أو روح ثقافة ما، بل ما يعني هو أن هذه المفاهيم، بوصفها وحدات ذهنية اندماجية في مستوى معين، لما تتجمع وتتناسق ينبثق منها مستوى أرقى وأحسن من الوحدات الذهنية من شأنه أن يزود الإنسان بفعالية أكبر وقدرات ذهنية أقوى وأخلاق وغيرية أوسع.
لما تصبح المفاهيم المصاغة بهذه الطريقة تحتل مكان المحتويات الذهنية-الحيوية الأخلاقية في الإنسان، فإن ضغط هذه المحتويات لا يعود يتجلى في الحفاظ على موروث ثقافي انتقائي بل يصير يتجلى في استعدادها للتناسق مع كل الوحدات الذهنية الجديدة الراقية واستعدادها من ثمة للانبثاق على كل مستوى جديد أعلى، وهكذا تصبح حياة الإنسان (ولا نقصد بها طريقة عيشه بالمعنى اليوناني الذي رأينا) متعلقةً بغيرية واسعة يضمنها نزوع الناس كافة إلى الحياة بهذه الاستعدادات نفسها، ويصبح النزوع إلى الموت لا يبرره غير محاربة الضغوط الانتقائية الأخلاقية التي تعرقل بها ثقافةٌ ما هذه الغيرية الواسعة (وبهذا المعنى فبعض قضايا العالم اليومَ مثل القضية الشيشانية والفلسطينية والإيرلندية وغيرها ليس شرفُها في الدفاع عن روح وطن أو شعب أو ثقافة بقدر ما هو في محاربة الضغوط الانتقائية الثقافية التي تمارسها السياسات السيادية، وهي سياسات تتفنن كل يوم أكثر في ابتكار الرعايا و"حالات الاستثناء" لتجعلها ضاحية ban-lieue للأنظمة السيادية بالمعنى الذي رأينا). إن مهمة مثقفنا هي إذن مهمة ذهنية-حيوية ضرورية ضد موروثات حيوية-ثقافية تضيق الخناق على الإنسان وتعطّل تطوره وتقدمه، ولهذا فهي–على عكس ما توحي به التصورات الحنينية الساذجة التي تروّجها الاستراتيجيات السيادية لصالحها– مهمة لا تقضي على الثقافات والأخلاق بل هي، على العكس من ذلك،  تنطلق، كما رأينا، من فكرة أن الأخلاق والثقافة هي خاصية طبيعية-ذهنية لتطور الإنسان وتقدمه، وتطمح إلى تخليص "الأذهان" الثقافية من أجهزتها "الإدراكية" المختلة وإلى تمرينها على التحرر من الضغوط الانتقائية السيادية أو القَبَلية –أو غيرها– الضيقة، ومن هنا فهي مهمة تحرص كل الحرص على أرقى ما بلغته كلُّ ثقافة من مفاهيم تنطوي على قدرة ذكية حركية تخلّص الثقافة من هذه الضغوط؛ ومن هذه المفاهيم اليوم مثلا مفهومُ "العدالة"، فهو أرقى وأقوى وحدة ذهنية في المستوى المعرفي-الأخلاقي الذي توفّره معطياتُ هذه اللحظة المعاصرة، ولذلك يحرص الآن مثقفنا على هذا المفهوم خاصة لأنه أقدر المفاهيم على أن يجعل كل ثقافة تنخرط رغما عنها بوسائلها وتصوراتها في إشكالية الإنسان فلا يمكنها من ثمة إلا أن تتقدم أو تتراجع أمام قوة الغيرية الواسعة التي يقود إليها "ضرورةً" مبدأ العدالة، وهذه ضرورة طبيعية والتعاون مبدؤُها، وهنا تكمن أهمية نظرية جون راولز في العدالة ومشروعها الذي ينبني على أساس أن العدالة (الإنصاف) خاصية "طبيعية" في الإنسان، ولهذا قلنا إنها تمثل أحسن وأرقى مستوى في الميتولوجيا المعاصرة وأنضج نسق يمكن أن يتفاوض معه مثقفنا الغريغوري (ومثقفنا هذا مفهومُه لا يعني بالضرورة شخصا معينا، بل هو مفهوم يقتضي تعاونا طبيعيا يمثله فريق من الأشخاص ينسقون كثرة الأدوات والمحتويات الذهنية المندفقة للتمكن من الانبثاق والصعود إلى أوسع دائرة غيرية... فهذا المثقف هو في حد ذاته تناسق أذهان يتجمّع فيه أفراد العالم، فكأنه وحدة نوعية من نوع وحدة العقل الهيولاني (المادي)، عند ابن رشد، الذي يشترك فيه جميع أفراد الجنس البشري، إذ يمتنع على موجود ما بالفعل أو على جزء ما أن يكون لانهائيا أو كليا، كما يقول). هذه المهمة تعني أن مثقفنا هذا ليس إنسانا أكاديميا يصنع المفاهيم في مختبره معزولا عن العالم، بل هو (بوصفه فردا أو فريقا أو وحدة عقلية) ضرورةٌ حيوية تسير نحو أن يقوم بنفس الدور الذي كان يقوم به المشرعون والحكماء والدعاة فيما مضى. فهو مدعو إلى أن يطردَ عددا كبيرا من الضغوط الانتقائية الأخلاقية في مجتمعات اليوم وثقافاتها، ويحرّرَ مكان المحتويات الذهنية الذي تحتلّه هذه الضغوط ويجعلَـه محلَّ إنتاج واستثمار أدوات ذهنيةٍ خارجية راقية تكون طبيعة ضغوطها من النوع الذي يفسح المجال لكل محتوى ذهني جديد أرقى. وهو في كل هذا ينظر إلى التقدم والتخلف في المجتمعات بمعنى آخر، أي ينظر إليهما بحسب مدى تلوث ضغوطها الانتقائية بمصفاتها الثقافية الداخلية، والحداثة عنده تنبثق من تجمّع الوحدات الاندماجية المستفيدة من جميع الأدوات الذهنية التي ينتجها الإنسان وليس من تجمع وحدات فرعية تنحصر في ثقافة مصفاتية معينة، ولذلك فبوصفه كائنا لاتراثيا (بمعنى التراث في القرن التاسع عشر كما رأينا) فإن تراثه واسع جدا لا روح فيه وله فيه معنى آخر للباطن والزمن، فهو يشمل ويتتبع باستمرار جميع الأشياء "الإعلامية" وأرقى الأدوات الذهنية (العلمية والأخلاقية والسياسية والفنية...) التي أنتجتها شتى الثقافات فيستثمرها للانبثاق كل مرة على مستوى جديد أرفع تترابط وتتناسق فيه عناصر معرفية أخلاقية تمتد إلى كل ثقافة وتتحقق فيه أوسع غيرية ممكنة. إن ما يدعو إليه مثقفنا هذا يعبر في الواقع عما في قرارة نفوس كثير من المثقفين وغير المثقفين الذين يميزون وجوهَ الضرورة الحيوية إلى التعاون والغيرية الواسعة، بل يعبر عما في قرارة نفس كل إنسان أو نفوس كثير من الشعوب التي تدرك وتميز وجوه هذه الضرورة بوصفها وجوها أخلاقية راقية واسعة الغيرية (ويؤكد هذه الضرورةَ أن الشعوب تخرج أحيانا من صمتها متظاهرةً في جميع أقطار العالم –مثل ما نرى اليوم– ضد دولة أو مجموعة ثقافية سياسية تريد أن تغزو العالم بمعاييرها وضغوطها الأخلاقية الانتقائية الضيقة الخاصة بها).
إن مهمة مثقفنا هي، في الأخير، مهمةُ من يعالج "جهاز الإدراك المعوّق" في مرضـى A. Young (الذين تحدثنا عنهم أعلاه)، فآفات الضغوط الأخلاقية الانتقائية في ثقافة ضيقة ما آفاتٌ دماغية تجعل أصحابَها يجهلون مرئياتهم الخارجية ولا يميزون الوجوه (prosopagnosie) الراقية المعروفة، فلما ينظرون إليها يدركون بأن كيفياتها تشبه وجوها يعرفونها ويحبونها ولكنهم لا يقدرون على تمييزها فيرونها وجوها ماكرة خدّاعة، فيثير فيهم هذا "الجوعُ المعرفي (الإبستيمي)" الحيرةَ والغضب ورغبةَ الاحتماء بثقافتهم و"سياستهم" الداخلية، وهكذا، فبدلا من أن يعللوا ذلك بالخلل المصابين به في جهازهم الإدراكي، يلجؤون إلى لوم وانتقاد هذه المرئيات الخارجية، ويفعلون ذلك بطرق ميتافيزيقية جدلية، وهذا يدل على أن السياسة لها قدرةٌ كبيرة على أجهزتنا المختلّـة، أي أن أذهاننا وأعضاءنا يـمسُّها جنونُ السياسة كلما كانت فاسدة جائعة عاجزة.
1. J. Rawls, A Theory of Justice, Harvard University Press, 1971.
2. Ch. Taylor, Multiculturalisme. Différence et démocratie, Paris 1994 (tr. de l’ang., Multiculturalism and the Politics of Recognition, Princeton 1992).
3. J.-P. Changeux, L’Homme neuronal, Paris 1983.
4. W. Kymlicka, Les théories de la justice: une introduction, Paris 1999 (tr. de l’ang., Contemporary Political Philosophy : an Introduction, Oxford University Press, 1992), pp. 9-14.
5. R. Dworkin, Prendre les droits au sérieux, Paris 1995 (tr. de l’ang., Taking Rights Seriously, London 1977) ; “In Defense of Equality”, Social Philosophy and Policy, 1/1, 1983; Law’s Empire, Harvard University Press, 1986.
6. J. Hartong, “L’idéalisme platonicien et la science”, in M. Panza et J.-M. Salanskis (dir.), L’objectivité mathématique. Platonismes et structures formelles, Paris 1995, pp. 49-60.
7. W. Kymlicka, op. cit., p. 10.
8. J. B. Schneewind, L’invention de l’autonomie. Une histoire de la philosophie morale moderne, Paris 2001 (tr. de l’ang., The Invention of Autonomy. A History of Modern Moral Philosophy, Cambridge-New York 1998).
9. C. Schmitt, Théologie politique, Paris 1988 (tr. de l’allem.: Politische Theologie. Vier Kapitel zur Lehre von der Souveränität, Munich-Leipzig 1922).
10. G. Agamben, Homo Sacer. Le pouvoir souverain et la vie nue, Paris 1997 (tr. de l’ital., Homo Sacer. I : Il potere sovrano e la nuda vita, Torino 1995).
11. J.-L. Nancy, L’impératif catégorique, Paris 1983.
12. Th. Hobbes, Le citoyen, ou les Fondements de la politique, Paris 1982, pp. 79-80.
13. G. Agamben, op. cit., p. 47.
14. ibid
15. G. Burdeau, Traité de sciences politiques, Paris 1984, vol. IV, p. 173.
16. W. Benjamin, Pour une critique de la violence, in L’Homme, le langage et la culture, Paris 1971.
17. H. Arendt, Essai sur la révolution, Paris 1967 (tr. de l’ang., On Revolution, New York).
18. G. Mairet, Histoire des idéologies, Paris 1978, p. 311.
19. W. Robertson Smith, Lectures on the Religion of the Semites, London 1894.
20. A. Magdelain, La Loi à Rome. Histoire d’un concept, Paris 1978.
21. E. Kantorowicz, Les Deux Corps du Roi, Paris 1989 (tr. de l’ang., The King’s Two Bodies, A study in Mediaeval Policial Theology, Princeton 1957).
22. R. Jhering, L’Esprit du droit romain, Paris 1886.
23. Th. H. Huxley, (1863), Evidence as to Man’s Place in Nature, London; (1893), Evolution and Ethics, London.
24. J.-P. Changeux, L’Homme de vérité, Paris 2002, p. 170.
25. J.-P. Changeux et al., Une même éthique pour tous ?, Paris 1997.
26. A. R. Damasio, Le sentiment même de soi. Corps, émotions, conscience, Paris 1999 (tr. de l’ang., The Feeling Of What Happens. Body and Emotion in the Making of Consciousness, New York 1999), pp. 139-234.
27. D. C. Dennett, Tipos de mentes. Hacia una comprensión de la conciencia, Madrid 2000 (tr. de l’ang., Kinds of Minds, 1996), pp. 183-184.
28. E. O. Wilson, The Sociobiology: the New Synthesis, Harvard University Press, 1975.
29. E. O. Wilson, L’Humaine nature, Paris 1979 (tr. de l’ang., On Human Nature, Harvard University Press, 1978), pp. 219-243.
30. G. G. Simpson, “Biology and ethics”, in Simpson (éd.), Biology and Man, New York 1969.
31. C. J. Irwin et al., Fondements naturels de l’éthique, Paris 1993, pp. 227-265.
32. F. Jacob, La logique du vivant. Une histoire de l’hérédité, Paris 1970 (tr. de l’ang., The Logic of Life : A History of Heredity, New York 1973).
33. T. Gisiger et al., Computational models of association cortex, Curr. Opin. Neurobiol., 10, 2000, pp. 250-259 ; F. Anceau, Vers une étude objective de la conscience, Paris 1999 (cité par J.-P. Changeux, L’homme de vérité, op. cit., p. 166).
34. P. L. Bernstein, Plus forts que les dieux. La remarquable histoire du risque, Paris 1998 (tr. de l’ang., Against the gods : The Remarkable Story of Risk), pp. 7-50.
35. D. C. Dennett, op. cit., pp. 101-141.
36. A. Young, “The Neuropsychology of Awareness”, in A. Revonsuo et M. Kamppinen, Consciousness in Philosophy and Cognitive Neuroscience (Hillsdale, N. J.: Erlbaum, 1994) (cité par D. C. Dennett, op. cit., pp. 135-137).
37. J. Rawls (1993), “The Law of Peoples”, in J. Rawls, Collected Papers, pp. 529-564, Harvard University Press, 1999.
38. J. Rawls, “Justice as Fairness: Political Not Metaphysical”, Philosophy and Public Affairs 14 (1985), pp. 223-252.
39. M. Ruse et al., Fondements naturels de l’éthique, op. cit., pp. 49-51.
40. C. H. Waddington, The Ethical Animal, London 1960.

ليست هناك تعليقات: