28‏/10‏/2012

ملاحظات حول فكر دولوز السياسي




ملاحظات حول فكر دولوز السياسي بالاستناد إلى فرانسوا زورابيتشفيلي (
F. Zourabichvili)

إن غياب مشروع سياسي ليس علامة على وجود فراغ أو نقص في فكر دولوز. فهذا الغياب يعد بالأحرى الشرط السلبي الرئيس لما يسميه دولوز 'الإيمان بالعالم' (هكذا بإطلاق، وليس الإيمان بعالم آخر بعينه أو عالم وقع تعديله). فدولوز يرى أن الإيمان بالعالم أو بما يحدث لنا فيه أمر إشكالي، أو على الأقل أصبح إشكاليا أكثر من أي وقت مضى. وهذا الفهم الذي يصدر عنه دولوز لا يعود إلى الخطاب أو الفهم المتداول الذي يقضي بأن إيماننا بالعالم أمسى إشكاليا بسبب الصور والأوهام التي تعترينا فتضللنا أو تحول بيننا وبين الإمساك بمعناه الحقيقي، بل يعود إلى أن الشرط العادي والمألوف الذي كان يشد إليه إيماننا بالعالم انهار تماما وأصبح كعصف مأكول. فالواقع الحديث يكشف بما لا يدع مجالا للارتياب عن أن ترسيماتنا الذهنية التي تعودنا على استنفارها واستعمالها في التعرف على أحداث الحياة المختلفة (سواء أتعلق الأمر بالعمل أم بالمعاشرة أم بالنضال أم بالفن..الخ) أصبحت تبدو لنا اليوم على ما هي عليه في الحقيقة، أي مجرد كليشيهات واهية لا أقل من ذلك ولا أكثر. إننا اليوم في وضع نراوح فيه بين ما سبق لنا أن رأيناه وبين الحدث العاري الذي يقع، لأننا لا نستطيع أن نقوم بشيء آخر غير الاسترسال في استعمال الترسيمات التي أكل الدهر عليها وشرب ولم تعد ذات دور: كلما طرأ جديد عُدنا خفافا إلى ما سبق لنا أن رأيناه لنَطْرُد عن هذا الجديد جدته ونُصَيِّره مألوفا. عند هذه النقطة على وجه التحديد يمدد دولوز فكرته المتصلة بـ 'اللاإرادي' (l’involontaire) ويوسعها لتتناول مجال السياسة. وهنا يقيم دولوز تقابلا واضحا بين الصيرورة الثورية والهواجس المتصلة بمستقبل الثورة. وهذا التقابل في الحقيقة يعد امتحانا أكثر من كونه شيئا آخر. إذ من يستطيع منا أن يحدد واقعَ أحداثٍ كبرى جرت في العالم من دون الاستناد إلى خطة مستقبلية تمنحها درجة معينة أو دلالة محددة، أو من دون الاستناد إلى حكم استرجاعي يقومها انطلاقا مما آلت إليه، كأن يقول عنها إنها ثورة فاشلة، أو وقعت خيانتها، أو كانت كارثية..الخ؟ نحن نُحِتْنا على أن نتطلع دائما إلى أن يكون للحدث، أيا كان، نهاية يقف عندها، بينما ما يبدو لنا أنه نهاية لا يعدو أن يكون في المقام الأول قطيعة أو تحولا في الإدراك الجماعي (حيث تظهر علاقات جديدة بالعمل وبالمعرفة وبالزمن...الخ). فالإيمان بالعالم يعني في المقام الأول الإيمان بواقع هذه القطائع الداخلية. والإمكان السياسي، حسب دولوز وغاتاري، قائم بالأساس في هذه القطائع التي لا تلتفت إليها أو تمسك بها المواقف الاستشرافية والاسترجاعية على حد سواء. فهذه القطائع هي التي تعد في نظرهما مصدر القانون ومصدر التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجديدة، أي مصدر ما يسمى 'مؤسسات' بالمعنى الواسع.
جيل دولوز

أما إلحاح دولوز على إبداع الممكن، قبل توهم وجوده والسعي إلى تحقيقه، فيعود إلى أننا لا نستطيع أن نتوقع أو نستشرف مسيرَ ما لا يمكن إبداعه. إننا لسنا مع دولوز أمام فقر في الفكر؛ بل نحن على الأرجح أمام شجاعة فكر مفتوح على عوادي الزمن، فكرٍ منصوب على الظرفية. دور الفيلسوف في تحيين المُمكنات المفتوحة تحدث عنها دولوز في حواره الشهير مع فوكو (1972). زمن الفيلسوف المرشد أو هادي الجماعة إلى سواء السبيل قد ولى إلى غير رجعة. لقد ولى في الفلسفة نفسها التي أضحت بمقتضى تحولاتها الداخلية تدفع الفيلسوف دفعا إلى التفكير في ذاته من مواقع أخرى غير الهداية والرشاد. فالفلسفة كغيرها من المباحث لا تلعب دورها إلا من حيث إن ممارستها ليست ساكنة، ومن حيث إن تحولاتها الخاصة تتناغم وتأخذ بعناق التحولات التي تطرأ على الممارسات الأخرى، نظرية كانت أو نضالية.

« Les deux pensées de Deleuze et Negri  » Une richesse et une chance, Questions de Yoshihiko Ichida à François Zourabichvili., in Multitudes,  2002/2 n° 9,  p. 137-141.
 

ليست هناك تعليقات: