26‏/11‏/2024

جانب من عراك جري فودور ودانيال دينيت





كتب فودور منتقدا علم النفس التطوري وفلسفة الذهن المستندة إليه ما يلي: 



"وباختصار، إذا كان رأسي مرتعا تعيش فيه مجموعة من الحواسيب، فسيكون من الأحسن أن يوجد معها أحد يكون مسؤولا عنها. ومن نعم الله علي أنه قيض لي أن أكون ذلك المسؤول".




Fodor, Jerry, In Critical Condition. Bradford Book. MIT Press, 1998, p. 207






تعقيب




من بين المشاكل التي تقترن بهذا النقاش مشكل الأنا أو الذات.. فودور ديكارتي الميل. يقبل مفارقات ديكارت ويتعايش بسلاسة معها. إنه ينطلق ابتداء من الأنا. أما التطوريون فينكرون وجود 'أنا' مستقل بسبب كثرة الحواسيب التي يقدرونها (فودور نفسه يسلم بوجود هذه الحواسيب، لكنه لا يطلق لها العنان، بل يجعل فوقها 'أنا' راعيا يشرف عليها ويوجهها). المشكل هو أن التطوريين لا يمضون حتى النهاية في إنكار الأنا بل لا يلبثون أن يعودوا في آخر المطاف صاغرين إلى تقدير وجوده. دينيت (1986، 1991) على سبيل المثال يتحدث عن ضرورة تقدير الأنا، لكن يتعين علينا في رأيه أن ننظر إلى هذا الأنا كما ينظر الجغرافيون إلى خطوط الطول والعرض، أو الفيزيائيون إلى مركز الثقل بالنسبة إلى الأجسام الفيزيائية. فالأنا عنده يدخل فيما سماه ريشنباخ بالمجردات (Abstracta) وليس في عداد المجعولات (Illata). يعمد دينيت إلى تبني هذا الموقف من باب التقتير أو الاختصار الأنطولوجي. فالمجعولات عند ريشنباخ تشير، كما يقول دينيت، إلى كيانات نظرية يقع التسليم بها فيصير البحث دائرا عليها؛ أما المجردات فهي كيانات لها صلة وثقى بالحسابات التي نجريها أو بالبناءات المنطقية التي نشيدها. الاعتقادات والرغبات وباقي الحالات الذهنية الأخرى التي تلجأ إليها تحاليل علم النفس العادي أو الشعبي (Folk psychology) تدخل في عداد المجردات كما عرفها ريشنباخ لا في عداد المجعولات. إنها تقترن بالموقف القصدي (Intentional stance) الذي نقفه بإزاء كيانات تقبل أن نسند إليها حالات كالرغبات والاعتقادات بغرض تأويل تصرفاتها. وضمن هذا التصور يصبح الأنا الذي تعرض له هذه الحالات نوعا من المجردات يطلق عليه دينيت اسم 'مركز الثقل السردي' (Center of narrative gravity). ما يسمى بمركز الثقل في الفيزياء ليس كيانا فيزيائيا (ذريا أو تحت ذري) قائما في العالم، إنه من المجردات بلغة ريشنباخ التي على الرغم من عدم وجودها تكون محددة تحديدا دقيقا وتلعب دورا لا يمكن الاستغناء عنه لاستواء التحاليل الفيزيائية. فما يسمى بالـ 'أنا' يعد في نظر دينيت أحد هذه المجردات الذي يطلق عليه دينيت اصطلاح 'مركز الثقل السردي'. نحن في البرنامجين الديكارتي والدارويني (التطوري) إذن أمام خيارين: إما أن نقدر الأنا في قلب الذهن ابتداء ونقف موقفا باطنيا (internalist) كما يفعل فودور، فنقبل بمفارقات ديكارت (وعلى الخصوص مفارقة وجود قزم (homunculus) في قلب الذهن يحيل عليه هذا الأنا، لا نعلم طبيعته ولا من أين جاء!)؛ وإما أن نحل المشكل الباطني بالآليات العمياء (تفتيت الأقزام homunculi كما يقول دينيت! أي توزيع العمل بين حواسيب صغرى شتى) ولا نلجأ إلى الأنا إلا لاحقا ككيان مجرد، بالمعنى الذي حدده ريشنباخ، فنتحدث عنه باسم آخر هو 'مركز الثقل السردي'، كما يفعل دينيت على الخصوص، ليتلاءم في النهاية مع ما يقضي به الحس المشترك الذي يستند إليه علم النفس العادي من دون أن نؤدي ثمنا أنطولوجيا غاليا، فيكون موقفنا موقفا أداتيا (instrumentalist) من زاوية الاقتصاد في الكيانات عالية الكلفة من الناحية الأنطولوجية، ويكون موقفنا خارجيا (externalist) أيضا بسبب اعتماد الموقف القصدي الذي يرى أن الاعتقادات والرغبات وباقي الحالات هي من إسقاط المؤولين على الأنساق التي يؤولونها. كلا الموقفين له مزايا وسَلبيات. فودور يهادن الحس المشترك ابتداء ولا يرى بأسا في التكثير أو الكثافة الأنطولوجية التي يعول عليها، أما دينيت وكثير من التطوريين فيبتعدون عما يقضي به الحس المشترك، لكنهم لا يلبثون أن يعودوا إليه بعد التقتير والاختصار الأنطولوجي باعتماد صيغ أخرى كالصيغة الأداتية الخارجية التي دافع عنها دينيت.










ليست هناك تعليقات: