نص كنت قد كتبته على عجل قديما ردا على
ملاحظة ذكية سجلها أحد الأصدقاء على نص لفتجنشتاين من كتاب تحقيقات فلسفية، كنت قد
علقته يقول فيه 'إن الفلسفة تترك كل شيء في مكانه' (فقرة 124 ص 55):
نعم أخي العزيز، فهمت مرادك حين قلتَ في تعليقك على تعقيبي على فتجنشتاين: (لو كان ماركس حيا لحمل على فتجنشتاين حملة شعواء، إذ الفلسفة في تصوره فاعلة وليست واصفة فقط). وأنا أوافقك الرأي من الجهة العامة. لكن الأمور تظل مع ذلك مركبة شيئا ما، بعضها داخل في بعض. ولا أخفيك سرا إذا قلت إن الكلام قد يتشعب لو دخلنا في نقاش (وهو –لعمري- مهم) تأصيلي حول معنى الوصف والفاعلية عند كل من فتجنشتاين وماركس. على جهة الاختصار يمكننا أن نقول: إن فتجنشتاين يحدد في هذه الفقرة المشار إليها أعلاه (الفقرة 124) ما لا ينبغي أن تقوم به الفلسفة. ينبغي ألا تتدخل الفلسفة في نظره بأي وجه من الوجوه في الاستعمال الذي أجريت عليه اللغة، وهذا يعني أن الفلسفة مدعوة إلى وصف هذا الاستعمال والوقوف عند هذا الوصف. وبما أنها لا تستطيع أن تسوغ هذا الاستعمال أيضا، فإنها ملزمة بأن تترك كل شيء (في اللغة) على حاله كما كان. بل إن فتجنشتاين في قسم آخر من الفقرة نفسها يشير إلى أنها ملزمة بأن تقوم بذلك حتى مع الرياضيات أيضا (الاكتشافات التي يمكن أن تحصل في الرياضيات لا يمكنها في نظر فتجنشتاين أن تنعكس تقدما في الفلسفة). في الفقرة 123 التي تسبق هذه الفقرة يشير فتجنشتاين إلى أن المشكل الذي نصفه بأنه فلسفي هو المشكل الذي يجعلنا نحس بأننا في ورطة، أو في حيرة من أمرنا. بهذا المعنى يكون دور الفلسفة قائما في تبديد حَيْراتنا فقط لا غير. دور الفلسفة كما يقول في الفقرة 126 يتلخص في أنها تجعلنا وجها لوجه مع كل شيء، من دون أن تمكننا من تفسير شيء بعينه أو استنباطه.
الفلسفة تكون فاعلة عند فتجنشتاين
عندما تكون واصفة ('الفاعلية' مفهوم أصيل وأساسي أيضا لدى فتجنشتاين في كتابه
المذكور أعلاه) خالية من الدعاوى التي تتخطى ما هو موجود أو واقع أمامها. وهذا لا
يختلف كثيرا، إذا نحن أمعنا النظر، عن قول الماركسيين الشهير الذي أمسى شعارا:
(التحليل الملموس للواقع الملموس)!. وعلى الرغم من أن الأمور متشابكة ومركبة، كما
تعلم، فإنني مع ذلك أزعُم مجازفا أننا نستطيع أن نؤول اجتهاداتِ ماركس نفسَها، على
الأقل في علاقة هذا الأخير بهيجل، تأويلا فتجنشتاينيا، أي تأويلا لم يقم فيه ماركس
إلا 'بنقل الكلمات أو العودة بها من استعمالها الميتافيزيقي إلى استعمالها العادي
أو الواقعي' ، كما يذهب إلى ذلك فتجنشتاين (انظر الفقرة 116)، (فهو هنا يرى في
الاستعمال الميتافيزيقي للكلمات نوعا من التدخل في الأشياء وتوجيهها إلى جهة ما،
والرد الذي تجريه الفلسفة حين تعود بالكلمات إلى استعمالها العادي هو نوع من
الإبقاء على الأشياء على حالها كما هي.. !)، أو بإعادة ترتيب القاموس النظري أو
تنظيمه ثانية كما يقول رورتي مستندا إلى مفهومي الألعاب اللغوية وصور الحياة عند
فتجنشتاين أيضا (أجد تشبيهَ النقل، أو العودة بالكلمات من استعمال إلى آخر، أبلغَ
وأقربَ إلى الصحة من التشبيه السائد الذي يقول إن هيجل كان يمشي على رأسه فجعله
ماركس يمشي واثقا على قدميه، لأن الاجتهادات ما بعد الماركسية (سلافوي جيجيك مثلا،
ويُستفاد ذلك أيضا من أعمال لاكلاو وموف) تُبين أن هناك تأويلاتٍ ممكنةً لماركس
وهو يمشي مهرولا على رأسه !). سأحاول أن أبرز ملامح هذا التأويل بسرعة دون تفصيل.
لقد تصور هيجل تطور الروح – مجموع حياة البشر وأنشطتهم- على النحو الآتي (أنا
أختصر الأمور كثيرا !): في كل مرحلة يجد الروح نفسه في وضع يتسم بالتناقض مع ما
أنتجَه ويواجهُه بوصفه غريبا عنه، فتعمد الفلسفة إلى التفكير في هذا الوضع
الاغترابي وتُجاوزه في تفكيرها وتتخطاه (المجاوزة طبعا بالمعنى الهيجلي وليس بأي
معنى آخر). على إيقاع المواجهة والمجاوزة يخلق الروح حسب هيجل نفسَه. العلاقة التي
أقامها هيجل في كتابه (مبادئ فلسفة الحق) بين الدولة والمجتمع المدني تُعد المثال
الأبرز الذي يُجلي هذه الصيرورة. في سنة 1844 طور ماركس نقده للفلسفة وللاقتصاد
السياسي على نحو غير مسبوق، فأصبح يرى في المقولات الهيجلية تعبيرا عن شيء آخر
غَفل هيجل عن إدراكه والإمساك به (راجع مخطوطات 1844). سلم ماركس بما أعتقد أنه
الاكتشاف الهيجلي الأكبر، وهو أن الإنسانية تخلق نفسها؛ لكنه رأى، وهنا تبرز
النقلة من الميتافيزيقا إلى الواقع، أن العنصر الرئيس الذي يقف وراء هذا الخلق
ويسنده من خلف، ليس قائما في نشاط الروح أو في الجهد الفلسفي الذي يُبذل في تأمل
أوضاع الاغتراب ومجاوزتها كما ذهب إلى ذلك هيجل، بل يقوم أساسا في العمل المادي.
طبعا قد يبدو هذا التأويل بعيدا أو
غريبا لمن يدرج فكر فتجنشتاين ضمن الفلسفة الوضعية ويحصره هناك (أو يدرج فتجنشتاين
نفسه كما يفعل البعض ضمن حلقة فيينا التي لم يسبق له أن انتمى إليها !)، لكن
الحقيقة هي أن فتجنشتاين لم يكن بعيدا عن الماركسية (فلسفة الممارسة كما تسمى
أيضا). علاقته الوثيقة والمتشعبة بسرافا (Piero
Sraffa) الاقتصادي
الإيطالي الشهير، ورفيق غرامشي الوفي (صاحب اصطلاح فلسفة الممارسة الذي أخذه عن
كروشيه)، جعلت عددا كبيرا من المفكرين (أمارتيا سن A. Sen مثلا)
يتحدثون عن تأثره بكثير من أفكار غرامشي المتصلة بفلسفة اللغة وبالفلسفة السياسية
الماركسية نقلها إليه سرافا (عدد الرسائل التي تبادلها فتجنشتاين مع سرافا
(الماركسي-ثم الكينيزي فيما بعد) فاق عدد الرسائل التي تبادلها مع أستاذه وخصمه
لاحقا راسل)...
ملاحظة إضافية زيدت لاحقا:
بين ديفيد روبنشتاين في كتابه Marx and Wittgenstein: Social Praxis and Social
Explanation (1981، انظر المقدمة) أن ماركس وفتجنشتاين يتفقان على ما يلي:
أنّ البشر كائنات مادية مجسدة في
المقام الأول، وأنّ أكثر خصائص الذهن البشري لا يمكن تصوّرها إلا بوصفها سماتٍ
لسلوك أشخاص حقيقيين مجسّدين.
أنّ الذهن ليس خاصية للوعي الذاتي، بل
للسلوك والفعل.
أنّ فهم الأفعال التي يقوم بها البشر
والأفكار التي تَعِنُّ لهم يقتضي تحليل سياقها الاجتماعي.
أنّ الذكاء الإنساني لا ينبثق إلا في
المجتمع ومن خلاله.
أنّ المعرفة الإنسانية بالعالم تنشأ من
تفاعل بين الذات الاجتماعية والموضوع.
أنّ المفكريْن يقدّمان نقدًا متقاربًا في كثير من وجوهه للفلسفة التقليدية، يفضي إلى نتائج متوازية بشأن كيفية ممارسة الفلسفة—أو ربّما الإقلاع عن ممارستها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق