اقترن الانعطاف اللغوي The linguistic Turn في المقام الأول بالشكوك التي راودت الفلاسفة بشأن الأسبقية التي كانت تُسند إلى الشعور، أي إلى الذات المنعزلة التي تستبطن دواخلها وتعرف ما تعرف عن طريق المناجاة؛ واقترن في المقام الثاني بالأهمية التي أصبح يحظى بها البعد التذاوتي القائم أساسا على التواصل والتخاطب والتفاهم. فالإقلاع عن اتباع أنموذج الشعور، والانعطاف نحو أنموذج اللغة، كان في واقع الأمر ضربا من التشكيك في قيمة الموضوعية التي كانت ديدن فلاسفة الشعور (ديكارت، لوك، هيوم، كانط...) والإقبال على قيمة أخرى عبر عنها رورتي بـ التضامن، والتي تعلي من شأن التواصل مع الآخرين قصد توسيع إحالة الضمير نحن إلى أقصى حد مستطاع. بلغة هابرماس كان الأمر يتعلق بـالإعراض عن أنموذج معرفة الموضوعات، واتباع أنموذج التفاهم بين ذوات قادرة على الكلام والفعل.
والانعطاف اللغوي عبارة وردت عنونا للكتاب الجماعي الذي أشرف عليه ريتشارد رورتي سنة 1967. وهو كتاب أثر تأثيرا كبيرا في النحو الذي أصبح الفلاسفة التحليليون ينظرون به إلى الكيفية التي يشتغلون بها. وقد شرح رورتي في مقدمة الكتاب الهدف من تأليفه قائلا: "إن الهدف الذي يصبو إليه هذا الكتاب يتصل بتقديم معطيات تمكن من التفكير في الثورة الفلسفية التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، أي في الفلسفة اللغوية linguistic philosophy. وأعني بـ 'الفلسفة اللغوية' هنا تلك الرؤية التي تقضي بأن المشاكل الفلسفية هي المشاكل التي يمكن حلها (أو تنحيتها) إما بإصلاح اللغة، وإما بالمزيد من الفهم الذي يمكن أن نصل إليه حول اللغة التي نحن بصدد استعمالها".
وكان آير قد أشار إلى هذا الأمر قبل رورتي، والراجح أنه كان أول من لفت الانتباه إلى الانعطاف اللغوي. فقد قال مباشرة بعد عودته من فيينا متأثرا بما اطلع عليه هناك: "إن الفيلسوف من حيث إنه محلل ليس معنيا بالخصائص الفيزيائية التي تتميز بها الأشياء. هدف الفيلسوف هو أن ينظر في الكيفية التي نتحدث بها عن الأشياء. بعبارة أوضح، قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية factual، بل لغوية في طبيعتها. إنها لا تصف سلوك الأشياء الفيزيائية، ولا حتى سلوك الأشياء الذهنية؛ بل تتناول صوغ التعريفات أو التنائج الصورية التي تترتب على التعريفات" (1936).
وقد أرجع آير هذا التصور في التاريخ إلى بيركلي وهيوم (1936). والمقابلة التي أقامها آير بين تعاريف الكلمات وأوصاف الأشياء، تعادل تقريبا المقابلة التي رسخها هيوم بين علاقات الأفكار وعلاقات الأشياء أو الوقائع matters of fact. فحسب الفيلسوف التجريبي هيوم، لا يمكن لمناهج الفلسفة القبلية أن تمكننا من معرفة الحقائق التركيبية المتصلة بالوقائع ( أي "بسلوك الأشياء الفيزيائية أو حتى الأشياء الذهنية")؛ إنها لا تقودنا إلا إلى الحقائق التحليلية التي مدارها علاقات الأفكار (أي "التعاريف أو النتائج الصورية التي تترتب على التعاريف").
وقد قدم داميت، الذي أعقب آير على كرسي ويكيهام بجامعة أوكسفورد، الصيغة الكلاسيكية للانعطاف اللغوي ناسبا إياها إلى فريجه، مؤسس المنطق الرياضي الحديث. يقول في هذا الشأن (1978): "إن موضوع بحث الفلسفة لم يحدد بصفة نهائية إلا مع فريجه (G. Frege)؛ بحيث تبين (1) أن هدف الفلسفة قائم في تحليل بنية الفكر؛ (2) وأن دراسة الفكر ينبغي أن تتميز عن دراسة عمليات التفكير النفسية، (3) وأن المنهج الأكفى لتحليل الفكر يستند إلى تحليل اللغة[...] والقبول بهذه الركائز يعد موضع إجماع لدى المدرسة التحليلية".
الخاصية الجوهرية التي يتميز بها الفكر، في ضوء هذا التصور الذي يعرضه داميت، هي أنه يقبل التعبير عنه (حتى لو لم يقع التعبير عنه في الواقع) بواسطة اللغة العمومية. واللغة تصفي الفكر من الضجيج الذاتي المقرون بالمظاهر النفسية للتفكير.
في مكان آخر يشير داميت إلى أن هذا الاهتمام باللغة هو ما يميز "الفلسفة التحليلية" عن باقي المدارس الفلسفية الأخرى.. يقول: "لقد ولدت الفلسفة التحليلية عندما حدث "الانعطاف اللغوي". وهذا بالطبع لم يكن قرارا مقصودا اتفقت عليه جماعة من الفلاسفة في وقت من الأوقات. المثال الذي أعرفه في هذا الشأن هو كتاب فريجه أصول الأريثمطيقا سنة 1884" (راجع: داميت 1993). لكن كلامه هنا يختلف قليلا عن كلامه السابق؛ إذ نجده يقول لاحقا في الموضع نفسه: "إذا جعلنا من الانعطاف اللغوي نقطة انطلاق الفلسفة التحليلية، فإننا على الرغم من تقديرنا لأعمال فريجه ومور وراسل التي هيأت الأجواء، لن نستطيع أن نشك في أن الخطوة الرئيسة نحو هذا الانعطاف خطاها فيتجنشتاين في كتابه الرسالة المنطقية الفلسفية سنة 1922" (1993).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق