هذا مدخل من مداخل القاموس الفلسفي المعاصر، الذي نعده
يعود استعمال حد الكيفيات Qualia أو الكيفيات الوجدانية، (مفرده Quale)، في اللغة الأنجليزية إلى كتابات ش.س. بورس، الذي استعمل اللفظ في سنة 1867 ليصف به عناصر التجربة المباشرة أو المعطاة. فالكيفيات عند بورس تشير إلى المكونات الأساس التي تنهض عليها التجربة الحسية. إنها أساس ما يسميه بالأولية Firstness أو المباشرة Immediacy. وتشير الكيفيات عموما إلى الأنحاء التي تكتسيها الأشياء عند إدراكها بالحواس (الإبصار والسمع والشم...)، كما تشير أيضا إلى النحو الذي نحس به الآلام؛ ونستطيع القول بصفة عامة إنها تشير إلى النحو الذي يكون عليه الشخص عندما يكون بإزاء حالات ذهنية ذات صلة بالتجارب الذاتية الظاهرية. فالكيفيات إذن خصائص تجريبية تكشف عنها الإحساسات والأحاسيس والإدراكات، ويرى بعض الفلاسفة أن للأفكار والاعتقادات والرغبات أيضا خصائص كيفية.
وقد استند ويليام جيمس إلى بورس في استعماله هذا اللفظ في مطلع سبعينات القرن التاسع عشر، وقصد به جيمس "معطيات" الإدراك التي "لا تقبل الرد" Irreductible data. كذلك البياض الذي يعد واحدا، سواء أكان الذي أرى الثلج عليه اليوم، أم كان ذاك الذي رأيت السحاب عليه أمس. فهذه المداخل تعد في نظر جيمس واحدة بغض النظر عن التجارب التي ترد فيها. إنها تنطوي على مجموعة من السمات أو الوحدات، تشبه ربما الذرات في الفيزياء، التي تمثل المعطيات الفلسفية القصوى.
الاستعمال الرائج في النقاش المعاصر يقترن أساسا بإبستمولوجيا الفيلسوف الذريعي الظاهراتي ك. آي. لويس. ففي سياق سعيه إلى تمييز "العنصر المعطى في التجربة" عن العنصر التأويلي الذي يصوغه فيه الاستدلال التصوري، كان لويس من بين الفلاسفة الأوائل الذين استعملوا لفظ "الكيفيات" على النحو الذي أصبح دارجا بين الفلاسفة اليوم. يقول لويس في هذا الخصوص: "تكون الكيفيات ذاتية؛ لا اسم لها في الكلام العادي، إنما تقع الإشارة إليها بعبارات مثل "تشبه كذا" أو "يلوح كأنها كذا". إنها لا تقبل الصوغ في العبارة ineffable؛ لأنها يمكن أن تكون على نحوين مختلفين في ذهنين من دون أن نستطيع كشف الأمر ، و من دون أن يكون عدم الكشف هذا مخلا بمعرفتنا بالأشياء أو بخصائصها. كل ما يمكن القيام به للإحالة على كيفية معينة ينحصر في تحديد مكانها في التجربة، أي الإحالة على شروط تواردها أو على علاقاتها الأخرى. فالعبارات كالتي أتينا على ذكر واحدة منها لا تمسك بالكيفية في ذاتها... والكيفية في حد ذاتها لا تعد أمرا جوهريا بالنسبة إلى التفاهم والتواصل، ما هو جوهري في هذا الشأن هو نسق علاقاتها الثابتة الذي يميز التجربة، أي ما يوجد متضمنا في التجربة عندما تكون هذه الأخيرة علامة على خاصية موضوعية".
إن هذا النص الذي كتبه لويس سنة 1929 أسند إلى الكيفيات الخصائص الجوهرية التي مازالت تسند إليها اليوم في النقاش الفلسفي؛ وأقصد بهذه الخصائص: المباشرة، والذاتية، والتمنع عن الصوغ في العبارة (راجع: دينيت 1988).
وعلى الرغم من أن الناس لا يطعنون في وجود تجارب ذاتية، نلاحظ أن لفظ 'الكيفية' – وهو اصطلاح تقني، كما ألمعنا، أكثر من لفظ 'التجربة الذاتية'- يُستعمل في الغالب الأعم عند أولئك الفلاسفة الذين يميلون إلى الطعن في التصور المتداول بين الناس عن التجربة الذاتية. والنقطة الخلافية في موضوع الكيفيات تتصل بما إذا كان الطابع، أو الصفة الظاهرية، التي تتميز بها التجربة قابلة للرصد والتحليل استنادا إلى حدود قصدية أو وظيفية أو معرفية خالصة. الذين يطعنون في وجود الكيفيات (مثل دينيت، وشورشلاند، ورورتي، وفايرابند، وسيليرس) يعتقدون أن ظاهرية التجربة تقبل التحليل بالتمام استنادا إلى حدود محتواها التمثيلي أو القصدي (النزعة التمثيلية)؛ أو أنها تقبل التحليل كاملة استنادا إلى حدود دورها السببي (النزعة الوظيفية)؛ أو أن وجود الشخص في حالة تجربة ذاتية معينة يقبل التحليل كليا بحدود وجوده في حالة مُراقَبةٍ من الناحية المعرفية بطريقة من الطرق، أو مصحوبة بفكرة تنبئ الشخص أنه على تلك الحالة أو فيها. فإذا أدرجنا في تعريف 'الكيفيات' الفكرة القاضية بأن ظاهرية التجربة تستغرق في هذه التحاليل القصدية والوظيفية والمعرفية، فإن وجود الكيفيات يصبح أمرا مشكوكا فيه.
دينيت (1988) على سبيل المثال يرى أن ما يميز الكيفيات هو أنها أصلية (بمعنى أنها ذرية، لا تقبل التحليل، وغير علاقية)، وخصوصية (بمعنى أنها لا تقبل الرصد بالروائز الموضوعية)، ووثوقية (بمعنى أن من يعتقد أنه إزاءها يكون في وضع كأنه فعلا إزاءها)، وغير فيزيائية. لهذه الأسباب يعتقد دينيت أن الكيفيات غير موجودة. وقد شرح موقفه هذا في مقاله (1988) ذي العنوان الشهير: تكوين الكيفيات. (تكوين هنا لفظ مشتق من اسم الفيلسوف كواين، وقد عرفه دينيت في قاموسه بأنه (أي الفعل كوَّن المشتق من اسم الفيلسوف كواين) "الطعن الصريح في وجود أو في أهمية شيء واقعي أو هام".
لكن الذي يؤمن بوجود الكيفيات، مثل سورل أو جاكسن أو ليفين أو شالمرز أو بلوك...الخ، سيفضل تعريفا للـ 'كيفيات' يُمكِّن العلم من الفحص عنها، ويترك الباب مفتوحا أمام إمكان أن تكون الكيفيات كيانات فيزيائية، بل أمام إمكان الكشف عن أن بعض مظاهر الاعتقادات الاستبطانية عن الكيفيات يمكن أن تكون خاطئة. فبلوك مثلا، لا يتصور أن تعمد المقاربة العلمية على نحو مسبق إلى إنكار إمكان الكشف بطريقة تجريبية عن أن الكيفيات خصائص قصدية أو وظيفية أو معرفية. لهذا السبب يميل بلوك في تحاليله إلى تعريف 'الكيفية' بأنها مظهر للتجربة الذاتية لا يمكن أن نبرهن بوسائل قبلية أو من على الأرائك على أنها قصدية أو وظيفية أو معرفية (ويقصد هنا دينيت ورورتي). وهذا التصور الذي يميل إليه بلوك وغيره من الفلاسفة الذين ذكرتهم أعلاه، بشأن الكيفية يعد تصورا إبستيميا وليس ميتافيزيقيا. فهو تصور لا ينطوي على شيء يتعارض مع الدعوى القائلة إن الكيفية حالة فيزيائية، تماما كالحرارة التي تعد طاقة حركية جزيئية، أو الضوء الذي يعد إشعاعا كهرومغناطيسيا. فالأطروحة الردية reductionism التجريبية بشأن الكيفيات أطروحة مشروعة في نظر هؤلاء الفلاسفة. ما ليس مشروعا في نظرهم هو التحليل الردي الذي يقوم به الفيلسوف من على أريكته لينتهي فيه إلى أنها ذات طبيعة قصدية أو وظيفية أو معرفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق