20‏/09‏/2012

عن حنا آرنت ومسألة السلطة


حنا آرنت



تميز حنا آرنت، في سياق تنظيرها للسلطة، بين تقليدين أو تراثين اثنين: أحدهما تناول السلطة من منظار الهيمنة، والثاني تبنيه هي نفسها، بالاستناد إلى لحظات عابرة ونصوص هامشية في معظمها أهملها التراث الأول، لا ترتبط فيه السلطة بالهيمنة. التراث الأول نجد أصوله النظرية الأولى لدى أفلاطون وأرسطو اللذين ميزا بين صور الحكم المختلفة استنادا إلى الهيمنة: هيمنة الواحد (الملكية) أو هيمنة القلة (الأوليغاركية) أو هيمنة الأفاضل (الأرستقراطية) أو هيمنة الأغلبية (الديمقراطية) (أو هيمنة أخرى حديثة تضيفها آرنت وهي هيمنة المجهول (البيروقراطية)). وقد تكرس هذا التراث وترسخ في فرنسا القرن 16 مع جان بودان، وفي إنجلترا القرن 17 مع هوبز. أما تجليات هذا التراث في القرن العشرين فتوجد واضحة لائحة في أعمال مفكرين كثيرين يمينيين ويساريين على حد سواء (رايت ميلز، ماكس فيبر، ماو تسي تونج..الخ). السياسة عند هؤلاء صراع عارٍ ومفتوحٌ على السلطة، والسلطة في نهاية المطاف لا تزيد عن كونها عنفا. (حديث فيبر عن 'العنف المشروع' لا يزيد في نظر آرنت عن كونه تناقضا صارخا في الألفاظ !).
التراث أو التقليد الذي تستوحيه آرنت هو تراث فلاسفة عصر الأنوار ومفكري الثورتين الأمريكية والفرنسية، ولا تقف عند هؤلاء بل تعود إلى الماضي الإغريقي واللاتيني أيضا، أي تعود إلى النصوص واللحظات التي يحيل عليها هؤلاء الفلاسفة والمفكرون، والتي يعرض عن ذكرها أو استثمارها أو تطويرها أقطاب التراث الأول. ويمكن باختصار أن نقول إن آرنت تستوحي تصورها عن السلطة من العدالة الإغريقية، ومن المواطنة الرومانية، ومن الفكر الجمهوري الذي شيده المفكرون الثوريون (الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية). بالنسبة إلى القرن العشرين تعول آرنت على حركات المطالبة بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان عامة، وعلى حركات الانشقاق عن الأنظمة الشمولية (ربيع براغ وغيره). ولو تسنى لها أن تعيش لكانت استشهدت بما جرى في ساحة تيان آن مين بالصين، وبسقوط جدار برلين وبالأحداث الأخرى التي عرفها الربع الأخير من القرن العشرين (هل كانت ستستشهد بربيع العرب المقرف؟ ! لا أدري..). في كل المظاهر التي لجأت إليها آرنت لتبني فكرتها عن السلطة نكون إزاء فضاء عمومي يعاود الظهور بكيفية مفاجئة ويكون محلا لانبثاق سلطة منسية لا صلة لها بالهيمنة التي استند إليها التقليد الأول. فالسلطة التي تنبثق في هذا الفضاء لا تستند إلا على اتفاق المواطنين، وهذا الاتفاق يُبرم بكيفية تلقائية خارج كل هيمنة. لهذا السبب تنفي أن تكون السلطة خاصية فردية. إنها في نظرها "تنتمي إلى الجمع من الناس وتبقى منتمية إلى هذا الجمع طالما ظل جمعا قائما لم ينقسم على نفسه". وعلى هذا النحو ترى آرنت أننا عندما ننظر إلى المبدأ الرئيس الذي تنهض عليه الديمقراطية الدستورية التمثيلية نلفيه يقضي بأن السلطة السياسية (ما سيسميه هابرماس لاحقا بالسلطة الإدارية) سلطةٌ تُسْتَلم أو تُستقبَل. وبهذا المعنى فإننا عندما نقول إن السلطة في يد أحد ما أو في يد هيئة معينة فإن المقصود بذلك هو أن هذا الفرد أو هذه الهيئة استَقبلت أو تَسَلمت من الجمع من الناس سلطة للفعل والتصرف باسمهم.
أهمية آرنت قائمة في كونها نبهت إلى أن السلطة في الأصل هي سلطة المواطنين على الفعل بالمعية، يمارسونها في الفضاءات العمومية عن طريق الاحتجاج والتواصل والتعبير والتصويت والاستنكار والتظاهر...الخ. أما سلطة الدولة (النسقية بلغة هابرماس) فتعد سلطة مشتقة من الأولى وتابعة لها في المقام. وهذا يعني أن سلطة الدولة، في حالة الديمقراطية، لا تكون شرعية إلا إذا أحالت على سلطة المواطنين واستندت إليها.
إن السردية التي قدمتها آرنت حول السلطة هي السردية الرئيسة التي فتحت المجال لكلامنا اليوم عن الأدوار التي تلعبها مفاهيم مثل المجتمع المدني والفضاء العمومي والتواصل...الخ سرديتها باختصار لا مناص من التعريج عليها والوقوف مطولا أمامها لفهم الفلسفة السياسية التي تنهض عليها السياسة في الأزمنة المعاصرة...

ليست هناك تعليقات: