10‏/02‏/2019

الأخبار الزائفة



هذه ترجمة سريعة للحلقة الثالثة من السلسلة القصيرة (كيف تشاهد الأخبار) التي يقدمها الفيلسوف سلافوي جيجيك (Slavoj Zizek) على قناة روسيا اليوم. تتناول الحلقة قضية الأخبار الزائفة أو الكاذبة..

قبل بضعة عقود، أيام الحرب الباردة، لم يكن لدينا شيء آخر غير الأخبار الزائفة. بيد أن هذه الأخبار كانت، إذا شئتم، مندمجة اندماجا كليا فيما يمكن أن نسميه بالسيطرة التي تمارسها الإيديولوجيا الحاكمة. كانت للاتحاد السوفياتي، أعني الكتلة الشرقية، صيغته في الأخبار الزائفة، وكانت للغرب الليبرالي صيغته أيضا. ربما كانت صيغة هذا الأخير أفضل من الأولى، لكنها تظل في صميمها مع ذلك صيغة في الأخبار الزائفة هي أيضا.
ما ميز تلك الحقبة هو أن الأخبار الزائفة كانت مراقَبَة. قضية الأخبار الزائفة كانت قضية إيديولوجية عظيمة الشأن بالنسبة إلى الدولة.. كانت باختصار قضية دولة. ما يثير استياء الناس اليوم هو الطابع المنفلت للأخبار الزائفة وغير القابل للمراقبة: يمكنك في هذا الصدد أن تطلق إشاعة من موقع في الإنترنت وترى ما سيقع بعد ذلك... هذه هي ملاحظتي الأولى: إن هؤلاء الذين يكافحون الأخبار الزائفة هم في واقع الأمر مستاؤون من تفشيها المتعدد الذي لا يمكن مراقبته. يمكن لأي كان أن يدعي بأن الإنسان لم يصعد إلى القمر، وأن الأمر مجرد كذبة أمريكية؛ ويمكن للآخر أن يجزم بأن غاغارين لم يصعد إلى الفضاء.. علينا ألا ننسى أن الحرية في إطلاق الأخبار الزائفة هذه كانت دائما تمارسها الإيديولوجيات المسيطرة في الفضاء العمومي بكيفية مكثفة حتى قبل الحرب الباردة.
الملاحظة الثانية هي أن ما يهاجمه منتقدو الأخبار الزائفة عموما هو ما يسمى بالنزعة ما بعد الحديثة، أي النزعة التي تنفي وجود حقيقة موضوعية، وتقضي بأن الحقيقة أمر نسبي، خاص ومتصل بوضع بعينه، وبعدم وجود حقيقة مجردة مستقلة، أي النزعة التي تؤكد بخصوص محرقة اليهود مثلا أن هذه المحرقة ليست إلا بناء لغويا خطابيا يتعين علينا ألا نحوله إلى صنم...الخ. بالطبع، نستطيع أن نقول عن بعض الأشياء إنها أشياء وقعت بالفعل دون أدنى مواربة، كأن نقول مثلا: الغولاغ وُجِد بالفعل، المحرقة حدثت بالفعل، وكذلك أحداث أخرى فظيعة حدثت بالفعل كالفظائع التي ارتكبها الغرب في المستعمرات في الهند والكونغو...الخ. لكن المشكل ليس قائما هنا، بل في المقلب الآخر. عندما نتكلم عن التاريخ [الماضي]، لا نُضَمِّنُه أبدا الوقائع التي حدثت كلَّها، ننطلق من تصور تاريخي نبنيه ثم بعد ذلك نتعامل بكيفية انتقائية مع المعطيات، أي مع الأحداث التاريخية التي وقعت بالفعل.
أعطيكم هنا النزعةَ المضادة للسامية مثالا على هذا. أستطيع أن أتخيل (وأظن أن هذا حدث بالفعل) أحدا يؤلف كتابا عن التأثير الذي مارسه اليهود في ألمانيا قبل أن يتسلم هتلر السلطة. وأستطيع أن أتصور أن كل المعطيات التي يوردها هذا الكاتب في الكتاب صحيحة. فمثلا نِصْف نقاد الفن كانوا يهودا، معظم المشتعلين في القطاع المصرفي وفي الصحافة كانوا يهودا... الخ. كل هذه المعلومات صحيحة، ولا وجود لأخبار زائفة في هذه المعطيات، لكن النية المضادة للسامية توجد سلفا فيما قيل. وهنا يوجد الحد الذي لا يستطيع مهاجمو الأخبار الزائفة أن يتخطوه. إنهم لا ينتبهون إلى أن المشكل الحقيقي لا يوجد في تزوير الحقائق. يمكن لكل الوقائع التي توردُها في تقريرك أو بلاغك أن تكون حقيقية وصحيحة، ويكون مع ذلك بلاغك كاذبا. السبب في ذلك يكون عائدا إلى الطريقة التي تنتقي بها من مجموع الأخبار الصحيحة بعض الأخبار دون أخرى. 



ما يجب أن نسلم به إذن هنا هو أن الوقائع تُحلل دائما وتُنتقى من منظور بعينه. وهكذا تكون أخطرُ الأخبار الزائفة هي تلك التي تقوم على أساس الوقائع الصحيحة. إنها الأخطر لأنها الأكثر نجاعة. وأريد أن أستشهد فيما يلي بإحدى جمل جاك لاكان، المحلل النفسي الفرنسي الذي كان معلمي. فقد ذكر في أحد مؤلفاته مفارقة لطيفة، ردَّدتُها مرارا في أحاديثي، تتصل بالزوج الذي يعاني غيرة مَرَضية في علاقته بزوجته، ويشك في أنها تخونه مع رجال آخرين. يقول لاكان: حتى لو ثبت أن شكوكَه صحيحةٌ وأن زوجتَه تخونه فعلا مع رجال آخرين، فإن غيرته تظل مع ذلك مَرَضية. الأمر الهام هنا لا يخص ما هو صحيح وما هو كاذب، بل لماذا احتاج هذا الزوج لكي يحافظ على هويته ويتماسك في شخصيته إلى هذه الغيرة. الغيرة هي التي تحدد هويتَه ومَنْ يكون. الحال هنا شبيه بما يحصل في النزعة المضادة للسامية. فالمشكل في هذه النزعة لا يقترن بما إذا كان اليهود فعلا كما وُصفوا، بل المشكل قائم في الداعي إلى رواية التاريخ بهذه الطريقة. نرى هنا بوضوح حدود هذه النزعة الوضعية التي يظن أصحابها أنهم يذكرون الوقائع كما هي بالضبط. لا، كل تأويلاتنا وأساليبنا في كتابة التاريخ..الخ لا يهم فيها مقدار استنادنا إلى الوقائع، المهم فيها هو أننا ننظم الوقائع وننسقها على منوال بعينه.
أعتقد أيضا، بكيفية ساذجة، أننا نستطيع تنظيم الوقائع بطريقة كاذبة كما نستطيع تنظيم الوقائع ذاتها بطريقة صادقة. وهذا ما نميل إلى نسيانه اليوم. لهذا السبب يُعد هذا النقاش حول الأخبار الزائفة نقاشا مُميِّزا للوضع الصعب والمربك الذي نحن فيه. لكنكم تعرفون ما أخشاه أكثر. ما أخشاه هو ما يُخْفيه هذا الخوف من الأخبار الزائفة. إن ما يُخْفيه ليس الرغبة في الحقيقة، بل كما كان عليه الحال فيما قبل، هذا الهوس بالأخبار الزائفة يُخفي رغبة في الكذب الذي يكون الكل عارفا بأنه كذب، ولا يكون ثمة شيء آخر غيره، أي يكون إجباريا لا خيار لنا غيره. إن الذين يهاجمون الأخبار الزائفة لا يبالون حسب رأيي بالحقيقة. ما يقلقهم هو غياب فضاء يتسع لقيام إيديولوجيا واضحة وإجبارية وتراتبية. وهذا –لعمري- هو الجانب الجيد في قضية الأخبار الزائفة. إنها تجعلنا واعين أن فكرتنا عن الحقيقة فكرة تحكمية في الغالب الأعم.
لاحظتُ كيف يَتَّهِم اليسارُ الليبرالي اليمينَ البديلَ (المتطرف) ويؤاخذه على نشر أخبار كراهية تتعلق بجرائم المهاجرين ومضادة للسود والمكسيكيين في الولايات المتحدة. لكن يجب أن نقول أيضا إن المحافظين من جانبهم يشيرون هم أيضا إلى الكيفية التي يعمد إليها الليبراليون، مضادو العنصرية ومؤيدو النزعة النسائية، ليتلاعبوا بالأخبار الزائفة عن وعي وتصميم. إذا حصل أن قتل متعجرف ذو بشرة بيضاء أحد الأشخاص من ذوي البشرَة السوداء، يكون الأمر (بالنسبة إلى اليسارالليبرالي) داخلا في باب العنصرية الفظة. وإذا قتل مسلم شخصا من البيض، يسعى اليساريون الليبراليون أن يجدوا له عذرا فيقولون: يجب أن نتفهم الأمر.. القاتل ضحية الاستغلال. رأيي هنا هو الاعتراض: لا، لا.. يجب علينا ألاّ نلعب هذه اللعبة. من الحاسم للغاية هنا ألا نقلد بعض المحافظين المسيحيين الأمريكيين فيما يعدونه "كذبا من أجل المسيح" (الكذب التقي)، أي الكذب من أجل قضية نبيلة سامية. ضمن هذا الكذب التقي يُسمح عندهم بالإتيان بالكذبة الصغيرة أو بالتغاضي عن التصريح بالحقيقة. المثال النموذجي للأخبار الزائفة عند المحافظين ادعاؤهم أن نسبة تعرض النساء المرضعات لسرطان الثدي أقل منها عند غيرهن من اللائي لا يرضعن. إنهم يخدعوننا هنا، لكن الطرف الليبرالي المقابل يخدعنا هو الآخر كذلك. لا فائدة إذن من اتهام اليمين بالكذب، اليسار الليبرالي يفعل ذلك أيضا.


ليست هناك تعليقات: