15‏/02‏/2019

باليبار: ديريدا كانطي الميل



"[بخصوص مفهوم الغاية (telos)] كنتُ دائما أقول لديريدا 'إنك في العمق كانطي النزعة'. وكان يرد قائلا: 'لا، لستُ كذلك أبدا'. على كل حال يلوح لي أن هناك شيئا ما مشتركا بينهما !".

إتيان باليبار

Entretien avec et entre Étienne Balibar et Ernesto Laclau in Rue Descartes, 2010/1 n° 67, p. 78-99. p. 85




تعقيب:

هذه ملاحظة عارضة، لكنها على درجة من الأهمية عالية بالنسبة إلى المهتمين بديريدا، وردت في ثنايا حديث باليبار مع إرنيسطو لاكلَو حول كانط. الإشكال الذي يشير إليه باليبار هو أن خطاب كانط المتصل بالسياسة ينطوي على ازدواج جعل الذين أتوا بعده يذهبون في الرأي مذهبين اثنين: مذهب تبنى أطروحات كانط المعروضة في نقد ملكة الحكم، ومذهب تبنى أطروحاته المعروضة في نقد العقل العملي. المذهب الأول نجده ممثلا في أعمال ليوطار ولوبران وأيضا في أعمال حنا آرندت، وهو اليوم بارز في أعمال رانسيير بكيفية أكثر وضوحا، وهذا الاتجاه عمق ما سماه كانط بالمشترك أو الحس المشترك، وهو لا يتعدى مستوى التخييل ليرقى إلى مستوى الفكرة. رانسيير، الذي يشير إليه باليبار في حواره مع لاكلو، يسمي هذا المستوى الذي على أساسه تقوم الجماعة بتقاسم المحسوس (partage du sensible). وعلى أساس هذا المفهوم الكانطي للحس أو للمحسوس، إذا حصرنا الأمر في الجانب السياسي، تُحدَّد الأصوات التي يجب أن تُسمع، وتلك التي يجب أن لا تسمع، الصور التي يجب أن تظهر وتلك التي يجب أن تختفي، المُؤهِّل الذي يقود إلى اعتلاء هذا المنصب وذاك الذي يؤدي إلى اعتلاء ذاك...وهكذا. عموما تصبح السياسة هنا سياستين: الأولى هي التي يسميها رانسيير بالتدبير (Police) وتعني الحفاظ على صيغة تقاسم المحسوس كما هي والدفاع عنها وتسويغها؛ والثانية وهي التي تسمى عنده سياسة بالاسم (Politique) وتشير إلى طرق التدخل في صيغة تقاسم المحسوس القائمة ومناهضتها والتوق إلى تغييرها. بما أن مفهوم الحس المشترك يظل في نطاق المستوى التخيلي البعيد عن كونه فكرة واضحة المعالم، فإننا لا نكون بإزاء غاية محددة يتجه إليها التغيير أو إعادة تقسيم المحسوس من جديد (لقد شرحت هذه الأمور بتفصيل أكثر في مقالي عن رانسيير وهابرماس ضمن كتاب الماركسية الغربية وما بعدها 2014، ص 275- 304).
الاتجاه الذي يتبنى أطروحات كانط في نقد العقل العملي، وهو الاتجاه السائد أو الغالب، الغاية عنده كما هي عند كانط في هذا الكتاب مرسومة سلفا، تسير في اتجاهها أو نحوها الإنسانية باستمرار، لكنها غاية لا تقبل التحقق في الواقع وتظل دائما في حكم الآتي الذي لا يأتي. ديريدا يندرج حسب باليبار ضمن هذا الاتجاه. والراجح أن باليبار في ذهنه نصوص كثيرة ينحو فيها ديريدا هذا النحو الغائي. ويمكن العودة هنا إلى مقال ديريدا (قوة القانون) الذي يبرز فيه بوضوح موقف ديريدا بهذا الخصوص. ففي هذا المقال نجد على سبيل المثال تمييزا دقيقا بين القانون والعدالة، وهو تمييز يتطابق في نظر ديريدا مع الاختلاف القائم بين صورتين للمفهوم: صورة مشروطة وصورة غير مشروطة. فالقانون، الذي يكون بطبيعته خاضعا للشروط التاريخية ويكون لهذا السبب ذاته مفتوحا على التعديل والمراجعة والتغيير، يكون متعارضا مع العدالة؛ لأن العدالة تمثل الأساس الذي باسمه يعدل القانون ويراجع، أي أن العدالة تبقى لهذا السبب شأنا غير مشروط وغير قابل للتفكيك من الناحية الجوهرية. العدالة إذا نحن تأملنا الأمر مليا تتجلى في التطبيقات الخاصة للقانون، وتتجلى بكيفية مفارقة أيضا في التعديلات والتغييرات التي تلحقه. لكن تجربة العدالة من حيث إنها كذلك، أي في جوهرها، لا تتجلى لا في التطبيقات الخاصة ولا في التعديلات. العدالة من حيث إنها كذلك، على افتراض وجودها، تظل موضوعا مستحيلا على التجلي والمثول في التجربة. لهذا السبب عندما يتجه التفكيك إلى العدالة لا يتجه إليها إلا من جهة كونها تجربة غير قابلة لكي تكون تجربة، أو لا يتجه إليها إلا من حيث إنها تجربة المستحيل. غير أن المستحيل في هذا السياق لا يكون سلبيا كما يمكن أن نتصور، بل يكون هو ذاته المنبعَ الذي يأتي منه كل ممكن...

ليست هناك تعليقات: