26‏/11‏/2024

عن فودور، تشورشلاند ودينيت

جواب موسع عن سؤال بخصوص النص السابق عن 'العراك بين فودور ودينيت' وضعه الصديق الأستاذ شفيق (Chafik Graiguer) حول الفروق القائمة بين الالتزامات الأنطولوجية التي توجه جانبا مع النقاش بين فودور ودينيت.



توجد أمور كثيرة غائبة بإمكانها أن ترفع الالتباس عما كتبته عن العراك بين فودور ودينيت سابقا (لهذا السبب أحرص على عدم مشاركة نصوص من فلسفة الذهن والعلم المعرفي على الفيسبوك لاعتياصها من جهة ولقلة المهتمين بها بين أصدقائي من جهة أخرى. لذلك أشكرك على سؤالك الهام). سأحاول أن أرفع بعض هذا الالتباس عن الالتزامات الأنطولوجية التي تقف خلف الأطروحات المتصارعة في هذا النقاش الذي دارت رحاه وتدور في فلسفة الذهن المعاصرة. 

ما ذكرته في النص السابق عن فودور ودينيت مثال فقط عن أحد الموضوعات الحساسة الكثيرة التي اختلف فيها فودور ودينيت، وأعني هنا موضوع الحالات الذهنية والذات أو الأنا الذي تعن له هذه الحالات. إذا شئنا أن نرسم خريطة لنقاش هذا الموضوع لا بد لنا من تحديد أطراف النقاش كاملة. الأطراف هم فودور الذي يدافع عن واقعية مفاهيم علم النفس العادي، بوول تشورشلاند وباتريشيا تشورشلاند اللذان يرفضان واقعية علم النفس العادي وكل مفاهيمه، ثم دانيال دينيت الذي ينحو منحى التوفيق ويبحث عن موقف وسط بين الطرفين، بين فودور والزوج تشورشلاند. وينبغي لنا هنا ألا نفهم من أسماء هذه الأطراف أن الأمر يتعلق بأفراد (فودور، تشورشلاند، دينيت)، الأمر يتعلق في الحقيقة باتجاهات رئيسة في فلسفة الذهن، فوراء كل فرد من هؤلاء جيش من الباحثين يرى ما يراه فودور أو تشورشلاند أو دينيت. (هناك بالطبع اتجاهات أخرى في فلسفة الذهن تركز على التجسيد، أو تميل أكثر نحو التحاليل الفينومينولوجية خاصة في دراسات الشعور، لكنها في العموم تقترن في مستوى من مستويات ما تسلم به بالأطراف المذكورة آنفا)





الإشكال الأنطولوجي في النقاش الدائر بين هذه الأطراف والذي عليه مدار سؤالك مطروح بإلحاح. فما دام الأمر يتصل بالموقف من علم النفس العادي (الذي يسمى في الأدبيات أيضا بعلم النفس الشعبي، أو علم نفس الحس المشترك، أو علم نفس المواقف الجُمْلية) ومفاهيمه (الاعتقاد، الرغبة...الخ) فإن السؤال الأنطولوجي يكون في الواجهة: هل ما يسلم به هذا العلم موجود أم لا؟ أي هل الحالات التي يدعي أنها تحدد سلوك الأنساق القصدية وتصرفاتها حالات واقعية أم لا؟ القول بوجود هذه الأشياء (وهو قول فودور) يعني التسليم بأنطولوجيا يمليها الحس المشترك والالتزام بها. يقول فودور:

"لا أشك في احتمال صدق هذه النظرية (التي أسميها علمَ نفس الحس المشترك المبنيَ على الاعتقادات والرغبات). والسبب الذي يجعلني أعتقد هذا هو أن علم نفس الحس المشترك يتفوق في تفسير ما لا يعد أو يحصى من الوقائع المتصلة بالسلوك على أي نظرية أخرى موجودة" (فودور 1987: x).

لاحظ أن فودور يتحدث عن 'احتمال' صدق النظرية، وليس عن 'صدقها القطعي'. الحديث عن الصدق القطعي في مجال فلسفة الذهن خاصة لا أحد يقول به. وحتى وإن كان فودور أحيانا يوحي بأن إيمانه قطعي بصدق هذه النظرية، خصوصا حين ترد على لسانه تصريحات مثل "إذا لم يكن اعتقادي ورغبتي حرفيا سببيْ سلوكاتي ...فعمليا، كل الأشياء التي أعرفها عن أي شيء كاذبة، وهذه نهاية العالم" (1990: 156). بيد أن فودور في الغالب الأعم يسوغ ركونه وتمسكه بعلم النفس العادي لأسباب برغماتية في المقام الأول لا لأسباب أنطولوجية، لذلك يرى أن "التمسك بنظريات أقل معقولية أفضل من البقاء في العراء بلا نظرية" (1975: 27).

وحتى لا أطيل عليك، أنتقل مباشرة إلى الطرف الثاني الذي تمثله باتريشيا تشورشلاند (وطبعا بوول تشورشلاند). تعلقُ هذه الأخيرة على أطروحة فودور فتقول: "من الناحية المنهجية يُعد كلامُ فودور هذا متخلفا ومحافظا بكيفية ملحوظة. التمسك بنظرية غير واعدة بدعوى أنها الوحيدة التي في متناولنا سيكون بالتأكيد أمرا غير معقول بالنظر إلى أن الوقت الذي نقضيه في المحاولة العبثية لجعل النظرية تُقْلِع يمكننا صَرفُه في البحث عن مقاربة أخرى جديدة. الافتقار إلى النظريات في نهاية المطاف هو ما يَحُثّ تحديدا ويحفز الملكات. النظرية التي نؤجل دفنها، استنادا إلى المبدأ المنهجي القاضي بأن التمسك بالنظريات الأقل معقولية أفضل من البقاء بلا نظرية، لن تعمل إلا على إطالة أمد الإحباط" (1978: 155).




النظرية التي تود تشورشلاند بناءها هي النظرية التي تُبنى على أنطولوجيا العلم العصبي وتلتزم بها. وفلسفة الذهن التي تبشر بها، هي وزوجها بوول، لا يمكن أن تكون إلا فلسفة عصبية (انظر كتابها البرنامجي الضخم Neurophilosophy : Toward a Unified Science of the Mind) (1986). إنها فلسفة تَستبدِلُ بمفاهيم علم نفس الحس المشترك المفاهيمَ المبنيةَ على ما تتوصل إليه الأبحاث في العلم العصبي، أي الفلسفة التي تتطور بتطور الاكتشافات التي يتوصل إليها الباحثون في العلم العصبي. ومفاهيم هذه الفلسفة تلتزم بأنطولوجيا العلم لا بأنطولوجيا الحس المشترك الضبابية. الاسم الذي يطلق على اتجاه تشورشلاند في أدبيات فلسفة الذهن هو النزعة المادية المُنَحِّية أو التي تعتمد التشطيب، أي التشطيب على مفاهيم علم نفس الحس المشترك وتنحيتها تماما.

الطرف الثالث في هذه الخريطة هو الراحل دان (كما يختصر اسمَه أصدقاؤُه) دينيت. هذا الأخير واقع بين نارين: فهو من جهة مغرم بأنطولوجيا العلم إلى حد كبير، وهو من جهة أخرى حساس جدا تجاه القدرة التعميمية الضاربة التي تتميز بها مفاهيم علم نفس الحس المشترك. فهذه المفاهيم (الاعتقادات، الرغبات، التمنيات...الخ) وُجدت منذ القدم ورافقت الإنسان منذ العصور الغابرة وما زالت صامدة حتى يوم الناس هذا. بها نفسر تصرفاتنا وتصرفات أقراننا في حيواتنا اليومية، بل حتى في معظم أحاديثنا الفكرية أيضا. فكما يقول رايل إذا كنت ترغب في شراء سيارة، وأعطيتك نشرات إعلانية عن أفران الطبخ وأخرى عن الثلاجات وثالثة عن السيارات فإنني سأتكهن بتصرفك قبل أن تقدم عليه، أي سأتكهن بأنك ستلتفت إلى النشرات المتصلة بالسيارات قبل أن تفعل ذلك. قدرة مفاهيم علم النفس العادي هذه على التكهن بالتصرفات ضاربة، بل إن تشورشلاند لا تخشى من الذهاب إلى عدها قدرة فطرية، لكنها تحذر فودور ومن لف لفه وتنبههم قائلة: "سيكون من الغريب الاعتقاد بأن علمَ النفس هذا وحده، من بين النظريات الشعبية الأخرى، علم صحيح. إن الذهن/الدماغ كيان بالغ التعقيد، ومن المستبعد أن يستطيع فلكلور بدائي تمكيننا من إطار نظري صحيح يسمح لنا بتفسير طبيعته، بينما نجد النظريات العادية الأخرى فشلت في تفسير الحركة والنار والطقس والحياة والمرض والسماء والنجوم...إلخ. بل حتى إذا قلنا إن علم النفس العادي ملكة إلى حد ما فطرية، مثله مثل الفيزياء العادية ربما، فإن فطريته لن تضمن صحته أو ملاءمته أو حصانته من المراجعة" (تشورشلاند 1986: 395_ 396).

دينيت كما قلنا واقع بين فودور وتشورشلاند، بين نظرية فولكلورية وأخرى تستند إلى العلم العصبي. لهذا السبب حاول شق طريق بينهما وادعى أن ما يجري في المستوى القاعدي (الأنطولوجي) هو بكيفية حصرية ما يكشف عنه العلم العصبي وما تنجزه آليات التطور العمياء. لكنه رأى أن هذا المُنجَز الذي يصفه العلم العصبي والبيولوجيا التطورية يكشف عن اطرادات تقبل الاندراج تحت مفاهيم علم نفس الحس المشترك. فهذا العلم ليس كافيا كفاية تامة (يمكنك حتى وإن كنت ترغب في شراء سيارة أن يظهر لك رأي آخر وتَعدِل عن نشرات الإعلان عن السيارات وتُقبل على نشرات الإعلان عن الثلاجات أو أفران الطبخ وتقرر شراء ثلاجة أو فرن طبخ عوض شراء سيارة !) لكنه يستطيع مع ذلك رصد هذه الاطرادات بكيفية مذهلة. فقدرته على هذا الرصد، حتى وإن كانت غير كاملة، هي التي جعلته يصمد على امتداد كل هذه القرون المتعاقبة. المشكل الذي يواجهه دينيت يتصل أساسا بالمنزلة الأنطولوجية التي يسندها إلى هذه الاطرادات. موقف دينيت في هذا الشأن هو الذي أشرت إليه في النص السابق، أي الموقف الأداتي الذي يرى أن مفاهيم علم نفس الحس المشترك هي عبارة عن مجردات لا فرق بينها وبين خطوط الطول وخطوط العرض لدى الجغرافيين أو مركز الثقل لدى الفيزيائيين، لا يمكن ردها إلى أساس مادي، إنها بناءات حسابية تسمح بالتكهن بالتصرفات بكيفية عامة غير قطعية من دون أن تقبل الرد إلى أساس يمكن الفحص عن طبيعته كما نفحص عن الأشياء المادية كالخلايا العصبية أو الدي إن إي أو غيرها. ويعمم موقفه هذا طبعا على الأنا أو الذات، لأن الموقف الذي يدافع عنه فودور يركن فيه إلى ديكارت الذي يتحدث عن الأنا كما لو كان قزما متربعا على عرش في مكان ما من الدماغ تأتيه الحواس بما التقطته وتعرضه على خشبة مسرح فيستخلص الأنا القزم الخلاصات ويقدر التقديرات ثم يتخذ القرارات العملية التي تتلاءم مع ما استخلصه وقدّره مما عُرض على خشبة المسرح أمامه. إن هذا التصور ساذج إلى حد بعيد لأنه لا يمنع من تقدير قزم آخر في دماغ القزم الذي يشاهد ما يجري أمامه وتقدير قزم آخر أيضا في دماغ هذا الأخير وهكذا إلى ما لا نهاية. قسم كبير مما قام به دينيت في كتابه (Consciousness Explained) (1991) هو هدم هذا المسرح الديكارتي (Cartesian theatre) بأركانه كلها، وهو ما جعله لاحقا يدرج الأنا في عداد المجردات ويشبهه بمركز الثقل في الفيزياء ويطلق عليه اصطلاح مركز الثقل السردي. أما الأعمال التي تنسب إلى هذا الأنا عند ديكارت فيوزعها دينيت على الآليات المسؤولية في الدماغ على العمليات العصبية...

 

جانب من عراك جري فودور ودانيال دينيت





كتب فودور منتقدا علم النفس التطوري وفلسفة الذهن المستندة إليه ما يلي: 



"وباختصار، إذا كان رأسي مرتعا تعيش فيه مجموعة من الحواسيب، فسيكون من الأحسن أن يوجد معها أحد يكون مسؤولا عنها. ومن نعم الله علي أنه قيض لي أن أكون ذلك المسؤول".




Fodor, Jerry, In Critical Condition. Bradford Book. MIT Press, 1998, p. 207






تعقيب




من بين المشاكل التي تقترن بهذا النقاش مشكل الأنا أو الذات.. فودور ديكارتي الميل. يقبل مفارقات ديكارت ويتعايش بسلاسة معها. إنه ينطلق ابتداء من الأنا. أما التطوريون فينكرون وجود 'أنا' مستقل بسبب كثرة الحواسيب التي يقدرونها (فودور نفسه يسلم بوجود هذه الحواسيب، لكنه لا يطلق لها العنان، بل يجعل فوقها 'أنا' راعيا يشرف عليها ويوجهها). المشكل هو أن التطوريين لا يمضون حتى النهاية في إنكار الأنا بل لا يلبثون أن يعودوا في آخر المطاف صاغرين إلى تقدير وجوده. دينيت (1986، 1991) على سبيل المثال يتحدث عن ضرورة تقدير الأنا، لكن يتعين علينا في رأيه أن ننظر إلى هذا الأنا كما ينظر الجغرافيون إلى خطوط الطول والعرض، أو الفيزيائيون إلى مركز الثقل بالنسبة إلى الأجسام الفيزيائية. فالأنا عنده يدخل فيما سماه ريشنباخ بالمجردات (Abstracta) وليس في عداد المجعولات (Illata). يعمد دينيت إلى تبني هذا الموقف من باب التقتير أو الاختصار الأنطولوجي. فالمجعولات عند ريشنباخ تشير، كما يقول دينيت، إلى كيانات نظرية يقع التسليم بها فيصير البحث دائرا عليها؛ أما المجردات فهي كيانات لها صلة وثقى بالحسابات التي نجريها أو بالبناءات المنطقية التي نشيدها. الاعتقادات والرغبات وباقي الحالات الذهنية الأخرى التي تلجأ إليها تحاليل علم النفس العادي أو الشعبي (Folk psychology) تدخل في عداد المجردات كما عرفها ريشنباخ لا في عداد المجعولات. إنها تقترن بالموقف القصدي (Intentional stance) الذي نقفه بإزاء كيانات تقبل أن نسند إليها حالات كالرغبات والاعتقادات بغرض تأويل تصرفاتها. وضمن هذا التصور يصبح الأنا الذي تعرض له هذه الحالات نوعا من المجردات يطلق عليه دينيت اسم 'مركز الثقل السردي' (Center of narrative gravity). ما يسمى بمركز الثقل في الفيزياء ليس كيانا فيزيائيا (ذريا أو تحت ذري) قائما في العالم، إنه من المجردات بلغة ريشنباخ التي على الرغم من عدم وجودها تكون محددة تحديدا دقيقا وتلعب دورا لا يمكن الاستغناء عنه لاستواء التحاليل الفيزيائية. فما يسمى بالـ 'أنا' يعد في نظر دينيت أحد هذه المجردات الذي يطلق عليه دينيت اصطلاح 'مركز الثقل السردي'. نحن في البرنامجين الديكارتي والدارويني (التطوري) إذن أمام خيارين: إما أن نقدر الأنا في قلب الذهن ابتداء ونقف موقفا باطنيا (internalist) كما يفعل فودور، فنقبل بمفارقات ديكارت (وعلى الخصوص مفارقة وجود قزم (homunculus) في قلب الذهن يحيل عليه هذا الأنا، لا نعلم طبيعته ولا من أين جاء!)؛ وإما أن نحل المشكل الباطني بالآليات العمياء (تفتيت الأقزام homunculi كما يقول دينيت! أي توزيع العمل بين حواسيب صغرى شتى) ولا نلجأ إلى الأنا إلا لاحقا ككيان مجرد، بالمعنى الذي حدده ريشنباخ، فنتحدث عنه باسم آخر هو 'مركز الثقل السردي'، كما يفعل دينيت على الخصوص، ليتلاءم في النهاية مع ما يقضي به الحس المشترك الذي يستند إليه علم النفس العادي من دون أن نؤدي ثمنا أنطولوجيا غاليا، فيكون موقفنا موقفا أداتيا (instrumentalist) من زاوية الاقتصاد في الكيانات عالية الكلفة من الناحية الأنطولوجية، ويكون موقفنا خارجيا (externalist) أيضا بسبب اعتماد الموقف القصدي الذي يرى أن الاعتقادات والرغبات وباقي الحالات هي من إسقاط المؤولين على الأنساق التي يؤولونها. كلا الموقفين له مزايا وسَلبيات. فودور يهادن الحس المشترك ابتداء ولا يرى بأسا في التكثير أو الكثافة الأنطولوجية التي يعول عليها، أما دينيت وكثير من التطوريين فيبتعدون عما يقضي به الحس المشترك، لكنهم لا يلبثون أن يعودوا إليه بعد التقتير والاختصار الأنطولوجي باعتماد صيغ أخرى كالصيغة الأداتية الخارجية التي دافع عنها دينيت.










17‏/07‏/2024

الشعر.. من الإبداعي إلى الذكاء الاصطناعي

 

العرض الذي ألقيته الإثنين فاتح يوليوز 2024 في ندوة نظمتها دار الشعر التي يشرف عليها الصديق العزيز الشاعر مخلص الصغير. كان موضوع الندوة هو "الشعر.. من الإبداعي إلى الذكاء الاصطناعي" وقد ساهم فيها أيضا الأستاذان عبد السلام بنعبد العالي وسعيد بنكراد، وقد رَئِسَ الجلسة وسيرها الأستاذ الشاعر ياسين عدنان.

 

ملخص العرض:


تناولت في عرضي جانبا يتصل بالعلاقة بين الذكاء الطبيعي والذكاء الاصطناعي بالرجوع إلى أهم النقاشات التقنية والفلسفية التي صاحبت تطور مبحث الذكاء الاصطناعي. وفي هذا الصدد ركزت على اللحظة الفارقة في هذا التطور والمتمثلة في النقاش الذي ثار بعد المباراة الشهيرة في الشطرنج التي انتصر فيها حاسوب شركة آي بي إم (Deep Blue) على بطل العالم حينها غاري كاسباروف. عرجت في هذا الصدد على بعض الأمور التقنية بالعودة إلى ما صرح به الفريق المصمم للحاسوب عقيب المباراة (وخصوصا فينغ هسو، وموراي كامبل، وجوزيف هوان، وكبير أساتذة الشطرنج جويل بنيامين الذي درب الحاسوب وأمضى الساعات الطوال يلاعبه ويختبره استعدادا لمواجهة كاسباروف). وانتقلت بعد ذلك إلى الأمور الفلسفية التي اختصرتها، بسبب ضيق الوقت، في أطروحات الفيلسوف هيوبير دريفوس الذي يعد من أشد منتقدي الذكاء الاصطناعي لكي أبين أن النقد الذي صوبه دريفوس نحو المبحث بالاستناد إلى أطروحات هايدغر، سرعان ما تحول هو نفسه إلى برنامج بحث بديل في الذكاء الاصطناعي ذاته. فالنقد الذي وجهه دريفوس أصبح مقبولا لدى عدد كبير من الباحثين في المجال لا بوصفه نقدا لمبحث الذكاء الاصطناعي جملة وتفصيلا كما كان يظن دريفوس في البداية، بل لبرنامج بحث مخصوص في الذكاء الاصطناعي، أي البرنامج الذي يعتمد مفاهيم التمثيل والصورنة والتحكم في الرموز. وقد لعبت أعمال الفيلسوفة بيث بريستون، من بين أعمال باحثين آخرين، وخصوصا مقالها (Heidegger and Artificial Intelligence)  دورا أساسيا في التنبيه إلى إمكان بناء برنامج بحث في الذكاء الاصطناعي يرفض المفاهيم المذكورة أو يدرج الإيجابي فيها ضمن تصور أوسع يحتوي اقتراحات هايدغر التي بنى عليها دريفوس نقده.


 

لقد قصدت من التعريج على هذا النقاش الخروج من دائرة النقاش العاطفي والرومانسي الذي يتغنى بتميز ما هو طبيعي استنادا إلى حدوس فضفاضة لا تقدم ولا تؤخر كانت رائجة في الخمسينات، ولكي أبين أن عفريت الذكاء الاصطناعي قد خرج من القمقم ولن يعود إليه ثانية، وعلينا أن نصمم استراتيجيات ناجعة للتعايش بسلاسة، وحذر أيضا، معه. وكنت في مفتتح عرضي قد قرأت قصيدة (وردة بين الأشواك) على الحاضرين طلبتُها أمس من شات جي بي تي، أخبرني بعضهم/هن أنها قصيدة لا بأس بها نستطيع أن نضفي عليها بعض التحسينات 'الطبيعية' لتستقيم، أخذا بما كان قد ألمع إليه الجاحظ حين قال عن الشعراء الطبيعيين في بيانه: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتًا [أي كاملا] وزمنًا طويلاً، يردد فيها نظَره ويُجيلُ فيها عقلَه، ويُقلِّبُ فيها رأيَه؛ اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقلَه زمامًا على رأيه، ورأيَه عيارًا على شعره إشفاقًا على أدبه وإحرازًا لما خوّله الله من نعمته...".


27‏/12‏/2020

سلافوي جيجيك واليسار الأكاديمي

 


يمعن سلافوي جيجيك في استفزاز كثير من المنظرين الجذريين الذين يدعون معارضة الرأسمالية من قلب المجال الأكاديمي، ويتهمهم بأنهم متواطئون مع الإجماع 'ما بعد الإيديولوجي' الذي يلقي بظلاله على هذه الحقبة. وعلى الرغم من أن اليمين يزعم باستمرار أن الثقافة المعادية للغرب التي ينتجها تيار ما بعد الحداثة داخل الجامعات هي المسؤولة عن التدهور الذي يعرفه الغرب، يعتقد جيجيك أن الدوائر الفكرية التي تتصور نفسها أنها 'جذرية' لا تعارض في العمق النظام المعولم الجديد على الإطلاق بل تتواطأ معه. وهكذا يتفق جيجيك مع النقاد اليمينيين على أن هناك إجماعا 'ما بعد حداثي' أو 'ما بعد بنيوي' في العلوم الإنسانية الغربية تشكل واستوى بعد السبعينات، لكنه لا يتردد في وصف هذا الإجماع بأنه موسوم بما يسمى 'الاستقامة السياسية'، أي أنه إجماع لا يزعج إجماع العولمة الرأسمالية بل يتلاءم معه حتى وهو يبدي في الظاهر معارضته والتصدي له. فجيجيك يتفق مع اليمين في أن هناك إجماعا ما بعد حداثي، لكنه يختلف مع هذا اليمين في اعتبار هذا الإجماع ما بعد الحداثي إجماعا جذريا من الناحية السياسية. لا يبدو هذا الإجماع جذريا في رأيه إلا من منظور هذا اليمين الثقافي المحافظ.


*- نقده هذا يتجه في المقام الأول إلى الراحل لاكلاو وإلى باتلر أيضا، وفي المقام الثاني إلى آخرين كثر. لقد جر عليه هذا النقد حرمانه من النشر في المجلات، بل حتى الصحف، اليسارية. لم يعد ينشر إلا على مواقع في الإنترنت. بعض المجلات تنشر بعض مقالاته على مواقعها، لكنها ترفض نشرها في صيغها الورقية..

 

بودريار: الدليل والتمثيل وموت الواقع

 


 في هذا الجزء المكثف من الحوار مع بودريار تلخيص لملمح مهم من ملامح تطور فكره يتناول فيه قضايا الموضوع والدليل والواقع والتمثيل والتزييف (أو التمويه أو الاصطناع) والرقمي والافتراضي...

 

 



كنت أعتقد أن هناك موضوعات (objets) وهناك دلائل (signes). ومع المجموعتين نسق لتمثيل الموضوع بواسطة الدليل. ثم في مرحلة لاحقة اكتسح الدليل المجال، وشيئا فشيئا أقصى إحالته (référence) المتمثلة في الموضوع. وهنا دخلنا مرحلة التزييف أو الاصطناع (simulation) التي تستدعي تواري الإحالة. بات الدليل يعمل لحسابه الخاص. في هذه اللحظة جاءت البنيوية فأصبحت الدلائل تعمل عملها متعانقة، بعضها آخذ برقاب بعض، في إعراض تام عن الواقع. لكنني أعتقد أننا الآن تخطينا هذه المرحلة. لقد اختلط علي الأمر كثيرا وأنا أتأمل إشكال التزييف هذا حتى إنني لم أعد أعرف ماذا يتعين علي أن أفعل به غير أن أكف تماما عن التطرق إليه والحديث عنه. لقد قيل الكثير عن أن الدليل يَقتُل الواقع. وللتبسيط تكلمتُ أنا أيضا عن موت الواقع، وعن فقدان الواقع لصالح الدليل والصور، واختصارا لصالح مجال التزييف في مجمله.

بيد أنني أعتقد اليوم أن الأمر بات أخطرَ بكثير مما كان عليه. الدليل ذاته من حيث إنه وسيط التمثيل، أي من حيث إنه لغة، هو الذي فُقِد وتوارى. موت الدليل هو الذي أصبح الرهان اليوم. ففي العالم الافتراضي توارى الدليل. تخطينا موت الواقع لنصل إلى تواري الدليل من حيث إنه تمثيل... ونحن الآن في مرحلة متقدمة جدا من التزييف، مرحلة أجهزت على الدليل ذاته، وقضت على التمثيل. ففي العالم الافتراضي لا وجود لدلائل. لسنا إلا بإزاء أرقام، أو على الأصح إزاء رقمين اثنين هما 0 و1. لم نعد أبدا أمام دال ومدلول. موت الدليل هذا، الذي ما زلنا في حاجة إلى دراسته وتحليله، أدْخَلَنا في طور إجرائية خالصة لم تعد في حاجة حتى إلى التمثيل، بل أصبحت لا تبالي أصلا به. تداعيات هذا التحول ليست إبستيمولوجية أو فلسفية فقط، بل سياسية أيضا. فالسياسي (le politique) اليوم لم يعد يستند إلى التمثيل في اشتغاله. إنه ابتعد عن التمثيل شأنه شأن الافتراضي. يكفي أن يُلقي المرء نظرة على تحصيل الحاصل الذي تقوله استطلاعات الرأي لكي لا يرى في أي فقرة من فقراتها إحالة تكون مدلولا، أو أشخاصا يكونون مُمثَّلين. لكي تكتسي السيادة شرعية يتعين أن توجد دلائل تعبر عن شيء ما يمكن أن يكون له معنى. النسق الراهن أصبح بعيدا كل البعد عن هذا. هل نستطيع أن نقول عنه إنه خاتم الأنساق؟ كل ما فيه مُرقَّم، وكشوف تفك لغز الأرقام. كل شيء فيه يمر عبر المزاوجة بين الصفر والواحد، عبر الرقمي وليس أبدا عبر ما يدل أو ما هو سيميولوجي. الدليل وعِلمُه وأنساقُ التمثيل أمور اختفت كلها، في الوقت الذي اختفى فيه أيضا الاجتماعي (le social) من علم الاجتماع. لصالح ماذا هذا التواري والاختفاء؟ لا أرى من عبارات أخرى غير الإجرائية، والفعالية الآلية، نحن بإزاء كتابة آلية للعالم. لسنا حتى أمام تزييف. هذا الأخير يجذب معه بعض الغنى والتعقيد اللذين، حتى وإن لم يقترنا ضرورة بالوهم الكبير بمعناه القوي، يظلان مع ذلك متناغمين مع 'اللعبة الكبرى' التي يلعبها الواقع مع دليله. على هذا النحو درستُ في البداية المسألة: الدليل، والموضوع الواقعي المفقود، واللعبة التي يلعبانها فيما بينهما. لكن اتضح لي أننا نمضي اليوم بعيدا جدا في التجريد...

 


 

 

Entretien avec Jean Baudrillard.  Réalisé par Raphaël Bessis, Lucas Degryse, in  Le Philosophoire. 2003/1 n° 19 | p, 19-20

 

 

 


17‏/02‏/2019

حقوق الإنسان: بين الفردية والجماعية..



"إن ذوي حقوق الإنسان وأصحابَها هم الأفراد وليس الذوات الجماعية كـ 'الوطن' أو 'الدولة' ".


Ulrich Beck. “The cosmopolitan perspective: sociology of the second age of modernity”. in British Journal of Sociology. Vol. No. 51 Issue No. 1 (January/March 2000); pp. 79 –105, p. 83


تعقيب :

أريد فقط أن أدرج إشارة أولريش بك حول اقتران الحقوق بالأفراد وليس بالجماعات (الدولة والوطن) في سياقها. إنها وردت في سياق رصده لما يسميه الانتقال من الحداثة الأولى إلى الحداثة الثانية. في الحداثة الأولى كان السبق للدولة الوطنية، وبالتالي للقانون الدولي الذي يضبط العلاقات بين الدول الوطنية، على حقوق الإنسان. هذا السبق يعني سبق الجماعة والتراب والحدود على الأفراد. القانون الدولي هو الذي يضبط العلاقات بين الدول بوصفها علاقات بين ذوات جمعية وليست علاقات بين أفراد. عندما ننتقل إلى الإطار الذي تسبق فيه حقوق الإنسان القانون الدولي نكون في نظر بك قد انتقلنا إلى أنموذج آخر هو الأنموذج الكوسموبوليتي الذي يُسنده إلى الحداثة الثانية أو العصر الحداثي الثاني. مقولات العصر الحداثي الأول المتمثلة في الجماعة والتراب والحدود ستُعوَّض بنسق إحداثي جديد فيه اقتران مباشر بين الفردية والعالمية، وفي هذا الإطار الذي يحدده الاقتران المباشر المذكور تجري إعادة تعريف مفاهيم الدولة والقانون والسياسة والأفراد. نكون هنا أمام أفراد ذوي حقوق وأمام مبادئ (كسموبوليتية) عامة تتصل بالديمقراطية وحقوق الإنسان. المشكل هو أن الأنموذج الكوسموبوليتي جلب معه استراتيجيات جديدة في استعمال السلطة مبنية على الانقسام القائم بين دول ديمقراطية متقدمة وقوية، وأخرى غير ديمقراطية ومتخلفة. من الناحية المبدئية الكل مقر بأننا لم نعد في العصر الحداثي الأول. الدول غير الديمقراطية تسارع مضطرة إلى إجراء انتخابات حتى لو لم تكن نزيهة، وإلى بناء مؤسسات تمثيلية حتى وإن كانت شكلية، ولا تتوقف عن الإعلان بمناسبة وبغير مناسبة عن أنها تحترم حقوق الإنسان. إنها لم تكن مضطرة إلى هذا في عصر الحداثة الأول لأن السبق كان للجماعة والتراب والحدود (أو لمفهوم السيادة المقرون بسلام ويستفاليا (1648)، ولم يكن السبق لحقوق الإنسان. في الأنموذج الكوسموبوليتي الذي يتحدث عنه بك (ويتحدث عنه طبعا هابرماس ورولز وغيرهما مع اختلافات طفيفة أحيانا وعميقة أحيانا أخرى !) ليس هناك وسيط بين الفرد والعالم، لا يمكن للأنظمة التسلطية أن تتذرع اليوم بتشبثها بسيادتها على ترابها في نطاق حدودها وتضرب عرض الحائط بحقوق أفرادها. تستطيع أن تخرق هذه الحقوق وتنتهكها، لكنها ستفعل ذلك بكلفة عالية وبخسائر متفاوتة حسب الدول. مسألة حقوق الجماعات، وهي حقوق تبقى في نظري ضاربة في الالتباس وحمالة أوجه، التي يروج لها في إطار ما يسمى بالتعددية الثقافية هي القشة التي ما زالت تتذرع بها الأنظمة التسلطية لمواصلة خرقها لحقوق الأفراد (أغلب الدول الاستبدادية تشجع على رفع المطالب الحقوقية الجماعية لا لكي تلبيها بل لكي تستعملها سندا في مواجهة الإكراهات الكوسموبوليتية !).. الإشكال المطروح هو كيف بالإمكان الحديث عن حقوق جماعية لا تجهز على حقوق الأفراد ولا تكون ذريعة للإبقاء على الاستبداد والاسترسال في التسلط ..


سلافوي جيجيك: عن القريب



تعرض سلافوي جيجيك في ثنايا حواره أدناه (2017) إلى مسالة القريب (neighbour).  من جملة ما ذكر في هذا السياق ما يلي (أترجم هنا ببعض التصرف): "أن بعض قراء الإنجيل النابهين يعرفون معنى القريب. أنا لا أتفق عموما مع ليفيناس. لكنني وجدته قد تعرض هو أيضا لهذه المسألة بدقة. اتركني أعرف لك من هو القريب في الحياة اليومية. هبْ أنني أعرفك وأنت تعرفني منذ سنوات أو عقود كثيرة. هنا لا أكون قريبك، بل أكون صنوَك أو زميلك، أي الانسان الذي يشبهك والذي يمكنك أن تتعامل معه وتتماهى معه... الخ. تصور أنني فجأة قمت بشيء مفاجئ لك، شيء رهيب، ربطت طفلا بالحبال مثلا، أو عذبت حيوانا أو أي شيء آخر فظيع قد يخطر أو لا يخطر على بالك...ستقول هل كنتُ حقا أعرف هذا الشخص؟ ما هذه الهوة السحيقة المظلمة التي أنا أمامها؟ هنا بالضبط تكون أمام القريب. هذه اللحظة التي تستبد بك فيها الحيرة من هول ما رأيت مني هي اللحظة التي أكون فيها قريبك الذي يتعين عليك أن تحبني فيها. في لحظة الانفتاح الوجودي هذه على الآخر نكون أمام القريب الذي يتعين علينا أن نحبه. القريب هنا قد يكون أباك الذي رأيت منه ما لم يخطر على بالك أو أمك أو زوجك أو أي شخص آخر.. ".





يستوحي جيجيك هنا معنى قويا وجذريا للقريب، يختلف عن القريب الليبرالي (أي القريب كما هو رائج عند دعاة التعدد الثقافي). القريب الليبرالي هو القريب الذي نزعنا منه غيريته واختلافه. إنه القريب الذي يُفترض فيه ألا يخرج عن الإطار الذي رسمناه له ويَقبل أن يمارس اختلافه ضمن ذلك الإطار. الليبراليون رأسماليون حتى النخاع في هذه النقطة. لتعميم الاستهلاك تمكنت الرأسمالية من أن تجعلك حتى لو لم تكن تشرب الخمر أن تشرب الخمر المنزوع الكحول (البيرة الحلال كما نسميها !)، و تجعلك حتى لو لم تكن تشرب القهوة أن تشرب القهوة منزوعة الكافيين..الخ الليبراليون يمكنهم أيضا أن يحبوا الآخر ويرضوا عنه بعد إتلاف اختلافه ونزع غيريته...!

15‏/02‏/2019

باليبار: ديريدا كانطي الميل



"[بخصوص مفهوم الغاية (telos)] كنتُ دائما أقول لديريدا 'إنك في العمق كانطي النزعة'. وكان يرد قائلا: 'لا، لستُ كذلك أبدا'. على كل حال يلوح لي أن هناك شيئا ما مشتركا بينهما !".

إتيان باليبار

Entretien avec et entre Étienne Balibar et Ernesto Laclau in Rue Descartes, 2010/1 n° 67, p. 78-99. p. 85




تعقيب:

هذه ملاحظة عارضة، لكنها على درجة من الأهمية عالية بالنسبة إلى المهتمين بديريدا، وردت في ثنايا حديث باليبار مع إرنيسطو لاكلَو حول كانط. الإشكال الذي يشير إليه باليبار هو أن خطاب كانط المتصل بالسياسة ينطوي على ازدواج جعل الذين أتوا بعده يذهبون في الرأي مذهبين اثنين: مذهب تبنى أطروحات كانط المعروضة في نقد ملكة الحكم، ومذهب تبنى أطروحاته المعروضة في نقد العقل العملي. المذهب الأول نجده ممثلا في أعمال ليوطار ولوبران وأيضا في أعمال حنا آرندت، وهو اليوم بارز في أعمال رانسيير بكيفية أكثر وضوحا، وهذا الاتجاه عمق ما سماه كانط بالمشترك أو الحس المشترك، وهو لا يتعدى مستوى التخييل ليرقى إلى مستوى الفكرة. رانسيير، الذي يشير إليه باليبار في حواره مع لاكلو، يسمي هذا المستوى الذي على أساسه تقوم الجماعة بتقاسم المحسوس (partage du sensible). وعلى أساس هذا المفهوم الكانطي للحس أو للمحسوس، إذا حصرنا الأمر في الجانب السياسي، تُحدَّد الأصوات التي يجب أن تُسمع، وتلك التي يجب أن لا تسمع، الصور التي يجب أن تظهر وتلك التي يجب أن تختفي، المُؤهِّل الذي يقود إلى اعتلاء هذا المنصب وذاك الذي يؤدي إلى اعتلاء ذاك...وهكذا. عموما تصبح السياسة هنا سياستين: الأولى هي التي يسميها رانسيير بالتدبير (Police) وتعني الحفاظ على صيغة تقاسم المحسوس كما هي والدفاع عنها وتسويغها؛ والثانية وهي التي تسمى عنده سياسة بالاسم (Politique) وتشير إلى طرق التدخل في صيغة تقاسم المحسوس القائمة ومناهضتها والتوق إلى تغييرها. بما أن مفهوم الحس المشترك يظل في نطاق المستوى التخيلي البعيد عن كونه فكرة واضحة المعالم، فإننا لا نكون بإزاء غاية محددة يتجه إليها التغيير أو إعادة تقسيم المحسوس من جديد (لقد شرحت هذه الأمور بتفصيل أكثر في مقالي عن رانسيير وهابرماس ضمن كتاب الماركسية الغربية وما بعدها 2014، ص 275- 304).
الاتجاه الذي يتبنى أطروحات كانط في نقد العقل العملي، وهو الاتجاه السائد أو الغالب، الغاية عنده كما هي عند كانط في هذا الكتاب مرسومة سلفا، تسير في اتجاهها أو نحوها الإنسانية باستمرار، لكنها غاية لا تقبل التحقق في الواقع وتظل دائما في حكم الآتي الذي لا يأتي. ديريدا يندرج حسب باليبار ضمن هذا الاتجاه. والراجح أن باليبار في ذهنه نصوص كثيرة ينحو فيها ديريدا هذا النحو الغائي. ويمكن العودة هنا إلى مقال ديريدا (قوة القانون) الذي يبرز فيه بوضوح موقف ديريدا بهذا الخصوص. ففي هذا المقال نجد على سبيل المثال تمييزا دقيقا بين القانون والعدالة، وهو تمييز يتطابق في نظر ديريدا مع الاختلاف القائم بين صورتين للمفهوم: صورة مشروطة وصورة غير مشروطة. فالقانون، الذي يكون بطبيعته خاضعا للشروط التاريخية ويكون لهذا السبب ذاته مفتوحا على التعديل والمراجعة والتغيير، يكون متعارضا مع العدالة؛ لأن العدالة تمثل الأساس الذي باسمه يعدل القانون ويراجع، أي أن العدالة تبقى لهذا السبب شأنا غير مشروط وغير قابل للتفكيك من الناحية الجوهرية. العدالة إذا نحن تأملنا الأمر مليا تتجلى في التطبيقات الخاصة للقانون، وتتجلى بكيفية مفارقة أيضا في التعديلات والتغييرات التي تلحقه. لكن تجربة العدالة من حيث إنها كذلك، أي في جوهرها، لا تتجلى لا في التطبيقات الخاصة ولا في التعديلات. العدالة من حيث إنها كذلك، على افتراض وجودها، تظل موضوعا مستحيلا على التجلي والمثول في التجربة. لهذا السبب عندما يتجه التفكيك إلى العدالة لا يتجه إليها إلا من جهة كونها تجربة غير قابلة لكي تكون تجربة، أو لا يتجه إليها إلا من حيث إنها تجربة المستحيل. غير أن المستحيل في هذا السياق لا يكون سلبيا كما يمكن أن نتصور، بل يكون هو ذاته المنبعَ الذي يأتي منه كل ممكن...