28‏/12‏/2006

الأخلاق والسياسة


الأخلاق والسياسة

نُشرت هذه الندوة بالعدد السابع من مجلة دفاتر الشمال، وقد شارك فيها مصطفى معتصم (البديل الحضاري) وعبد الحميد البجوقي (حركة الديموقراطيين الاشتراكيين) وأحمد حرزني وأحمد الخمسي (اليسار الموحد)، وقد اعتذر آخرون يمثلون تيارات أخرى.

مرتيل 02/06/2002

أعد الندوة للنشر مصطفى الحداد وعبد الرحمن بن الأحمر

مجلة دفاتر الشمال: العدد السابع 2003

تتناول هذه الندوة، التي أدارها مصطفى الحداد، جملة من القضايا تتصل بالأخلاق والسياسة. وقد اختارت مجلة دفاتر الشمال هذا الموضوع محورا للنقاش للأهمية التي أصبح يحظى بها في الساحة السياسية المغربية تحت عناوين كثيرة أبرزها "تخليق الحياة السياسية أو العامة". ونتوقع من هذه الندوة أن تضيء لنا، في مستوى أول، المقصود بالأخلاق عندما تقترن بالسياسة، وبالسياسة عندما تقترن بالأخلاق. ونريد من الإخوة المساهمين في الندوة أن يوضحوا لنا في هذا المستوى الأسباب القائمة وراء الإلحاح المتزايد على تخليق الحياة العامة في سياق ما تفرضه العولمة من تركيز على اقتصاد السوق وتشجيع المبادرة الخاصة أو الفردية وتحرير الأسواق وفتح الحدود... بعبارة أخرى ما طبيعة الأخلاق التي يمكن أن تتلاءم مع هذا السياق؟ أو بعبارة أشد وضوحا: هل ما درجنا على عَدِّه أخلاقاً في تراثنا يمكن أن نستمر في عده كذلك في سياق العولمة، أم أننا في حاجة إلى أخلاق جديدة نستوردها...؟!

وننتظر من الندوة، في مستوى ثان، أن تبرز لنا الحاجة إلى الأخلاق، إن وجدت هذه الحاجة في ممارسة السياسة، سواء أتعلق الأمر بالدولة أم بالأحزاب السياسية أم بما أصبح يعرف بهيئات المجتمع المدني. وهنا يمكن أن نسهب في تشخيص العوائق التي تحول دون تطوير الممارسة السياسية في المغرب ودمقرطتها وتهذيبها.

ولن تكتمل ندوتنا إذا لم تتطرق إلى مستوى آخر أعم يتصل بالأخلاق ودورها في السياسة الدولية. ونتوقع في هذا المستوى التطرق إلى أسباب ومسوغات النفاق والخداع والمعايير المزدوجة... التي تحكم سلوك الدول القوية إزاء دول الجنوب عموما. وهنا يمكن أن نتناول نسبية الأخلاق (تميل الأخلاق حيث تميل المصالح)، وعلاقة الأخلاق بالقوة (هل القوي في حاجة إلى الأخلاق كما يفهمها الضعيف؟)...الخ

****

مصطفى الحداد: هذه هي المحاور الثلاثة الكبرى التي أردنا أن نركز عليها في هذه الندوة. ولكن مع ذلك نريد في البداية أن يتطرق الإخوان إلى هذين المفهومين: مفهوم السياسة، ومفهوم الأخلاق، إذ لا يمكن أن نشرع في نقاش هذه المحاور من دون أن نحدد على الأقل في إطار عام ما المقصود بالأخلاق؟ وما المقصود بالسياسة؟ وما المقصود بالعلاقة بين الأخلاق والسياسة؟ هل المقصود الأخلاق الفردية العادية؟ أم ما يسمى بالأخلاق الاجتماعية؟ ثم كيف يتعالق مستوى الأخلاق بمستوى السياسة؟

عبد الحميد البجوقي: إن موضوع الأخلاق والسياسة موضوع متشعب، تتعالق جوانب منه بالحياة العامة، وجدير بالملاحظة أن الأخلاق ترتبط بالزمن وبالقيم، كما ترتبط بالمجتمع في نهاية المطاف. ومن ثم فإن السلوك الأخلاقي، إذا تكلمنا عن الأخلاق العامة، يختلف اليوم بالضرورة عن السلوك الأخلاقي في مرحلة تاريخية سابقة أو لاحقة، وقد يتغير خصوصا إذا ربطناه بالشق الثاني في الموضوع الذي هو السياسة. يختلف –إذن– ما هو أخلاقي سياسيا أو ما هو سياسي أخلاقيا من لحظة زمنية إلى لحظة أخرى. وقد سبق لأرسطو أن بين أن الأخلاق والسياسة تعني مصلحة الإنسان كما تعني مصلحة المدينة، وكلاهما يرتبط لديه بمصلحة الفرد أو براحة الجماعة في عموميتها، أو ربما تعني عنده راحة ومصلحة كل فرد عضو في الجماعة وكل ما لـه علاقة مباشرة بالمجتمع. ولعل القول المأثور "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" يلخص هذا الفهم، فما لقيصر لقيصر يفيد السياسة: القيصر يمثل السياسة. وما لله لله يفيد الأخلاق، معناه القيم، معناه السلوك: تتعلق الأخلاق –إذن– بالسلوك وبالتصرفات والقيم المعنوية المرتبطة بشخص الإنسان. وهذه العوامل كلها تُكوِّن الإنتاج الثقافي المرتبط بالمجتمع. طبعا سيظل السؤال مفتوحا حول مفهومي الأخلاق والسياسة، أما في ما يتعلق بالتساؤل حول العلاقة بينهما فأشير إلى موقف الفيلسوف الإسباني أران غورين، فهو يذهب إلى أن هناك أربعة أشكال أو طرق لتناول هذه العلاقة:

أ- الواقعية السياسية: وهي طريقة تؤثر سلبا على السياسة وتؤدي في نظر البعض إلى الإفلاس، لكن ينبغي التنبيه إلى أن مدلول الإفلاس عند السياسي يختلف عن مدلوله لدى الفرد المنتمي للجماعة الذي ينتظر أشياء أخرى.

ب- رفض السياسة واعتبارها مناقضة للأخلاق.

ج- المحاولة اليائسة لتخليق السياسة، وهي غالبا ما تنتهي بتسييس الأخلاق.

د- البحث المستمر عن تقريب السياسة من الأخلاق، وليس تقريب الأخلاق من السياسة، وذلك عبر النقد والنقد الذاتي المتواصل كحل وحيد لتنظيم هذه العلاقة المستحيلة على حد قول أران غورين. وهذه النقطة الأخيرة هي الأقرب في اعتقادي من موضوعنا...

أحمد حرزني: أستغرب لماذا كلما طرحنا سؤال الأخلاق بالنسبة إلى الأنشطة الإنسانية إلا وأفردنا مكانا خاصا للسياسة، وكأن السياسة أكثر قابلية من غيرها من الأنشطة لأن تنعدم فيها الأخلاق، بينما يشاع مثلا في حياتنا اليومية أن على الناس أن يحترسوا من الميكانيكيين، وأن النجارين يمكن أن يكونوا هم الآخرون عديمي الأخلاق. والحقيقة أنه يمكن أن نعثر بين المهنيين بصفة عامة على من يتمتع بحد أدنى من الأخلاق، كما أن نسبة مهمة منهم عديمة الأخلاق أو ناقصة الأخلاق؛ علينا إذن أن نُطبِّع مشكلة الأخلاق، إذ لا يجب أن تطرح فقط في مجال السياسة... منذ شهر حضرت ندوة عالجت نفس الموضوع، وقد حمل أحد المشاركين، وهو أستاذ جامعي، حملة على السياسة مدعيا أنها مرتع للكذب والتزوير الخ. بينما في نظره أن المجال العلمي هو البديل، والحالة أن دعاوى من هذا النوع مضللة إلى حد بعيد، لأن البحث العلمي نفسه، وضمنه البحث الجامعي غير بريء من مظاهر اللاأخلاق، فثمة حالات كثيرة تشهد على ذلك: هناك أساتذة جامعيون شهاداتهم مزورة، وآخرون يدرجون في أعمالهم مراجع لم يسبق لهم قراءتها. فاللاأخلاق تخترق كل الحدود، بحيث توجد في السياسة وفي غير السياسة. صحيح أن السياسة كثيرا ما تتسرب إليها سلوكات لا تمت إلى الأخلاق بصلة، ولكن هذه ليست ميزة خاصة بها. وهذه القضية من الأهمية بمكان، لأن السماح بتشويه سمعة السياسة جملة وتفصيلا يؤدي بالضرورة إلى ما يسمى بالعزوف عن السياسة، ويؤدي في نهاية المطاف إلى ضمان استمرار هيمنة السياسيين غير المتخلقين إلى ما لا نهاية؛ ولهذا يجب إعادة الأمور إلى نصابها. ومع ذلك أقر بأنه يجب فعلا التشدد في قضية الأخلاق بصدد السياسة أكثر من أي مجال آخر. لماذا؟ لأن السياسة كما قال عبد الحميد تعني المصلحة العامة، وبالتالي انعدام الأخلاق لدى السياسي ربما تترتب عليه آثار أوخم من تلك التي قد تترتب على سلوك الميكانيكي غير النزيه. غير أن التشدد في المسألة الأخلاقية بالنسبة إلى السياسة أكثر من أي مجال آخر أصبح أمرا صعبا، لأن –وأنا أرجع دائما هنا في هذه الأمور إلى ماكس فيبر الذي من مساهماته أنه ذكر نوعين من السياسيين–: هناك السياسي الذي يعيش للسياسية، وهناك السياسي الذي يعيش بِالسياسة ومنها، أي يعتاش منها، وهذا التمييز، باعتراف فيبر نفسه، لـه ظروفه التاريخية. أما الآن فقد أصبح مستحيلا أن نجد سياسيا يعيش للسياسة فقط، لسبب بسيط وهو أن من يعيش للسياسة فقط ينبغي أن تتوفر لـه مداخيل كافية. ففيما مضى كان للنبلاء وقت للتفرغ للسياسة أما في العصر الحديث، عصر الديموقراطية، فعلى الجميع أن يهتم بالسياسة، ولكن ما هو الثمن؟ إننا مضطرون لأن نقبل بأن يعيش السياسي إلى حد ما من السياسة، وهكذا نرى أن لجميع الأحزاب في العالم كله موظفين، فعندما يكون الحزب كبيرا وتتعدد مرافقه (نقابات، وتعاونيات، ومؤسسات مدنية، وجماعات محلية...) يتحتم توفره على مجموعة من الأتباع والأطر يعيشون من السياسة، مما قد يفتح المجال لعدة انحرافات، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بالمال. طبعا هناك انحرافات كثيرة لا داعي للخوض فيها، لأنها ليست أساسية في نقاشنا: إنها انحرافات ينطبق عليها القانون العام، وتتطلب فقط توفر آليات المراقبة من طرف المناضلين، ومن طرف الشعب بصفة عامة؛ علينا الاجتهاد –إذن– في هذا المجال، لأن مثل هذه الانحرافات عادية، بل إنها حتمية الحدوث لكون تداخل الأمور السياسية والمالية في السياسة الحديثة أضحى بديهيا. هناك نوع ثان من الانحراف أخطر من ذلك الذي يتعلق بالعلاقة بين المال والسلطة، فأي فرد يعمل بالسياسة إلا ويسعى إلى امتلاك جزء قد يكبر أو يصغر من السلطة، هذا لا نقاش فيه؛ ولكن من المفروض في السياسي النبيل الذي يخدم المصلحة العامة أنه لا يسعى إلى السلطة في حد ذاتها، وإنما يسعى إليها لخدمة قضية ما. في حين أننا نجد عددا من السياسيين بمن فيهم عدد من زعماء الحركات السياسية بمجرد ما يقتربون من مراكز السلطة ينسون القضية، وهذا انحراف كبير، فما هو العلاج في هذه الحالة؟ لا سبيل إلى ذلك غير توفير آليات المراقبة، وترسيخ آليات الديموقراطية الداخلية. عندما نطرح مشكل الأخلاق والسياسة ربما نشير إلى هذا النوع من الانحرافات، وهي لا ترقى في الحقيقة إلى أهمية الموضوع، لأنها –كما قلت– إما أن تعالج بآليات المراقبة الداخلية والخارجية أو تعالج بالقانون. شأن السياسي في هذه الحالة شأن النجار الذي لم يقم باللازم، فالمفروض أن هناك قانونا يعاقبه. إن إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق تطرح في الحقيقة على مستوى أعلى: أنا أتحدث هنا عن السياسي الأصيل الذي من طبيعته ومن الحتمي أنه يعيش يوميا غصة يمكن أن نسميها غصة أخلاقية وغصة ربما وجودية، لماذا؟ لأن –وكذلك هذا ما يشرحه ماكس فيبر جيدا– السياسي الأصيل محكوم عليه أن يكون ممزقا بين منطقين أو ما بين نوعين من الأخلاق: أخلاق الإيمان أو القناعة بقضية معينة، وأخلاق المسؤولية، أو باللغة التي استعملها عبد الحميد: المبادئ والواقعية. فكيف تتم الموازنة باستمرار في ما بين الاثنين؟ إذا اقتصرنا على الإيمان بالقضية غالبا ما تكون النهاية هي العزلة التامة، أو اضطرار الإنسان أحيانا إلى نوع من التصوف، أو إلى تكفير المجتمع: "لم تتحقق الثورة لأن الشعب بليد". هذا المنحى يجب الاحتراس منه، ويقابله منحى آخر ينطلق من مسؤولية تقدير آثار فعل الفرد والتسلح بنصيب من الواقعية على أن لا يؤدي ذلك إلى نسيان المبادئ: إن صعوبة الموازنة بين هذين المنطقين هو المشكل الأخلاقي المطروح فعلا على السياسي الأصيل، أما الآخر، اللص أو الكذاب... فلا يستحق الذكر لأنه من المفروض أن يطرد من طرف المناضلين طال الزمن أم قصر، أو أن يتابع قضائيا؛ هذه القضية هي التي يجب أن تستأثر باهتمامنا، وهي مسألة لها امتدادات عملية في الوضع الحالي بالمغرب...

م. الحداد: لقد تمت الإشارة إلى مستوى معين من الحديث عن الأخلاق وعلاقتها بالسياسة، وهو المستوى الذي يعانيه السياسي الأصيل الذي شخصته لغة ماكس فيبر بحديثها عن أخلاق الإيمان أو الاقتناع وأخلاق المسؤولية، فأهمية المسألة الأخلاقية بالنسبة إلى السياسي راجعة –كما قال حرزني- إلى أن السياسي يتعامل مع الشأن العام.

أحمد الخمسي: إذا لم نأخذ قضية السياسة والأخلاق ضمن البيئة التي تطرح فيها لا يمكن أن نحظى بمقياس للمشاكل التي تنتج عنها، فالمغاربة عندما كانوا يسمعون مثلا عن "الثورة الجنسية" في السويد وفي البلاد السكندنافية في السبعينات اعتبروا ذلك نوعا من الانحراف الحضاري الشامل الذي لحق بلدان أوروبا الشمالية، لكن عندما نقف اليوم على إحصائيات البنك الدولي المتعلقة بالبلدان المرتشية نجد أوروبا السكندنافية على رأس البلدان الأقل ارتشاء، وهو ما يعني أن سلوك السكاندينافيين في ما يتعلق بالشأن العام وحقوق المواطنين أكثر نقاء، فهم عندما يدفعون الضريبة –عوض الرشوة– يساهمون في بناء الطريق والمدرسة والمستوصف، وعندما يصوتون على السياسي فذلك لأنه يخدم الشأن العام بنوع من التلقائية والطواعية وبنسبة عالية من المسؤولية. ينبغي –إذن– أن نتساءل عن الأخلاق والسياسة ضمن البيئة التي يندرجان ضمنها. فما هي الأخلاق؟ وما هي السياسية؟ إذا أردنا أن نعرف المعنى العام للسياسة في بلادنا: نسمع الناس يقولون باللغة الدارجة "غِيرْ بْسياسة" وهذا معنى إيجابي وصيغة أخرى للعبارة العامية "غِيْر بْلاَّتِ" أو اختصار لـ "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، وكأننا بصدد نوع من التوحيد والتساهل ونكران الذات... أي بصدد مستوى عال من الأخلاق. ولكن في نفس الدارجة نسمع أن السياسة هي "تحَراميات" بمعنى نقيض المدلول السابق. أما عندما نستقصي المدلول اللغوي العربي فنجد أن لفظ السياسة يدل على ترويض الخيول، وبهذا المعنى أيضا نكون بصدد المعنى السلبي للسياسة، فالذي سيمارس الشأن العام سيروض الخيول ويقلل من جماحها، وفي آخر المطاف، إذا لم تكن لديه أخلاق سيستغل ترويضها... ثمة مزاوجة –إذن– في هذا السياق بين المدلولين السلبي والإيجابي للسياسة. أما إذا أردنا الوقوف على قضية السياسة والأخلاق من حيث مفهومها في جميع الأحوال وعند جميع الشعوب، فنتصور الأخلاق متعلقة بالذات والكينونة، أما السياسة فنتصورها علاقة للذات بالموضوع، أي علاقة للذات مع الآخر ومع المجتمع، وبالتالي فالأخلاق مفهوم وروح، بينما السياسة بنية وتجسيد لهذه الروح، وحيثما يُجسَّدُ المبدأ يبدأ نقصانه، وتبدأ واقعيته ونسبيته. ومن ثم يمكننا القول إننا كلما تأملنا واقع بلادنا –مثلا- إلا واكتشفنا حجم الأمية السائد فيها، وكذا حجم التخلف الموروث عبر خمس قرون عن الأتراك حتى الآن، وهذه نتائج للمدلول السلبي للسياسة؛ أي لمفهوم أخلاقي سلبي عن السياسة. فالسياسة ليست خيرا عميما، إنها خير قليل يهم بعض الناس المنشغلين بالشأن العام وبالسياسة، الذين ينظر إليهم من طرف الرأي العام أو من طرف العموم بنوع من الحسد. إنه خير عند القلة، لكن كلما زلت رجل الماسك بجمرة السياسة والشأن العام إلا ويحاسب حسابا عسيرا، وهذا ما يمكن أن نعده قيمة مضاعفة مضافة سلبا، ففي الوقت الذي يمكن للسياسي أن يمارس السياسة بحماس –دائما حسب ماكس فيبر– فإنه عندما يتحمل المسؤولية يكتوي بتلك الجمرة التي أمسك بها، وذلك نتيجة انعدام التوازن بين الذات والظروف الموضوعية، فينتهي به الأمر إلى الحسرة ولوم النفس: "ما لي ولهذا كله". يعني ذلك أنه لو دخل في دائرة العموم وابتعد عن السياسة لما تحمل مسؤولية مضاعفة: ففي الوقت الذي انشغل فيه الناس بالتملك انشغل هو بالكينونة والحفاظ عليها، وعرض نفسه للمتابعة والمحاسبة من طرف أولائك الذين ينتمون للسياق الآخر، فيكون ضياعه مضاعفا. بهذا المعنى تكون السياسة ممرا ضيقا و"صراطا" بالمعنى الشعبي للكلمة، وها نحن نرى –مثلا– حالة الذين يشتغلون بالشأن العام في الجماعات المنتخبة أو في البرلمان... وبالتالي من الصعب على من يمسك بجمرة السياسة في وضعنا أن يلقى تجاوبا أو أن يحظى بالمعدل بالمعنى العام للأخلاق وهو يمارس السياسة.

مصطفى المعتصم: بسم الله الرحمن الرحيم، في الواقع تناول الأخلاق والسياسة يندرج في سياق الحكم على الشيء وفرعه، وما دمنا سنتكلم لاحقا عن الثابت والمتطور في مسألة الأخلاق فإنني أفضل أن أعود للخصومة النكدة بين السياسة والأخلاق فيما بعد. أعتقد أن هناك أخلاقا عامة وأخلاقا أخرى ثانوية أو تطبيقات لتلك الأخلاق. والعجيب أن الفكر السياسي الإسلامي اهتم بموضوع علاقة السياسة بالأخلاق اهتماما كبيرا في عصور ما قبل بداية الانحطاط، فقد انشغل به ابن الهيثم، وابن سينا، وابن رشد، ومسكويه، والنيسابوري، والماوردي، والغزالي... لكن أكثرهم جرأة على التطرق لهذا الأمر هو الفيلسوف الإسلامي الكبير الفارابي، الذي اهتم بالضبط بموضوع السياسة والأخلاق، ومما يثير الاستغراب أن نجده في المدينة الفاضلة يصنف الدولة إلى دولة طبيعية أو مدينة فاضلة، وهي مدينة الرسول (ص)، ثم إلى دولة ديموقراطية، ويتدرج في تصنيف الدول حسب مواقف الشعب وحسب مواقف النخب حتى يصل إلى الدولة المنحطة أو المنحلة... لكن في العصور الأخيرة، عصور الانحطاط، اختفت معالجة هذا الموضوع حتى أن أحد زعماء الإصلاح وهو محمد عبده سيتبنى المفهوم الذي سمعناه في البداية من البجوقي. يقول محمد عبده: "ما دخلت السياسة شيئا إلا أفسدته". ولربما هذا ما جعل الفكر الإسلامي في القرن الحالي يبتعد عن السياسة بحكم أنه يبحث عن نوع من النقاء والصفاء في ملامسته لهذا الموضوع الهام جدا. والحقيقة أن اهتمام الفكر السياسي الإسلامي بالعلاقة بين السياسة والأخلاق ينبع من كون الإسلام في حد ذاته رسالة أخلاقية، حتى أن الرسول "ص" يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، لهذا فالإسلام لا يعرف السياسة بدون أخلاق: أخلاقه سياسة وسياسته أخلاق. وهذا سيفرض علينا تحديد مفهوم السياسة: السياسة في نظر الإسلام التي لا تدفع الناس إلى الصلاح والخير وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ليست سياسة. في تاريخ ابن القيم الجوزية، وهو بالمناسبة من العلماء الأصوليين التقليديين، يقول في تعريفه للسياسة: "ما كان فعلا يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فأي طريق استُخرج به العدل فهو من الدين"، هذا هو تعريفه للسياسة، هو الطريق السياسي، وهو الطريق للعدل، لم يكن يُفهم أن ممارسة السياسة بعيدة عن الوصول إلى معنى أخلاقي سام الذي هو إقرار العدل، ويعتبر أن العدل هو مدار السياسة، ولهذا سيتم التمييز في الفكر السياسي الإسلامي بين السياسة الشرعية وغير الشرعية: السياسة الشرعية وقد تحددت مقاييسها، ثم السياسة اللاشرعية التي يصير الإنسان وفقها أنانيا وانتهازيا يبحث عن المصلحة... بحيث لا يبحث عن الخير بل عن مصالح ذاتية، وغالبا ما تكون على حساب الجماعة. ويضيف ابن القيم: "السياسة الشرعية مدارها العدل وإن لم ينص عليها الوحي، ذلك أن الله أرسل رسله وأنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط لأن العدل في الإسلام شامل"، فإذا ظهرت أمارة الحق وأسفرت بأي طريق كان – وأقول سواء أكان ماركسيا أو رأسماليا– إلى إحقاق العدل فثمة شرع الله ودينه. هذا ما يسمح باستخلاصه أحد العلماء الأصوليين. وفي نهاية المطاف فإن السياسة أو الأخلاق الإسلامية تساوي العمل الصالح، وكلما اقترن العمل الصالح بالسياسة تحققت المصلحة وسادت القيم التي يتغياها الإسلام، وكلما سادت قيم أخرى كالتسلط، والاستبداد، واستعباد الناس وغيرها تنشأ الأزمة الأخلاقية، ويؤدي ذلك إلى انحراف الحكم والسياسة بشكل عام، وتسود الميكيافلية وغيرها. والغريب أن السياسة – وهذا سأرجع إليه فيما بعد في التصور الإسلامي- هي مفتاح الفلاح، لأننا سنجد أن مرتبة الحد الأدنى هي طلب العدل، ولكن المرتبة الأخرى التي تتطلبها ممارسة السياسة الشرعية أو الفاضلة أو الأخلاقية هي مرتبة إحسانية؛ إذ يضحي الإنسان من أجل الجماعة، ويتنازل عن حقه، كأن يتخلى – مثلا– عن حقه في الحياة ويفجر نفسه خدمة للجماعة...

م. الحداد: يبدو إذن أننا حاولنا أن نعرف الأخلاق والسياسة، ووضعنا بعض الحدود لهذا النقاش، كما رفعنا اللبس عن بعض الأمور التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن بخصوص مناقشة العلاقة بين الأخلاق والسياسة، متخطين التصور الساذج للسياسة، ثم طرحنا أيضا الإشكالات المحيطة بالتراث العربي الإسلامي... لكن ثمة سؤالاً يُطرح –بعد هذا النقاش أو بعد هذه الإيضاحات– حول مسألة ثبات الأخلاق أو تغيرها، ويبدو أن هذه النقطة أُثيرت ووقع بشأنها خلاف يستحسن أن نركز عليه، فبالنسبة إلى التصورات السياسية القديمة عموما كان يُنظر إلى الأخلاق على أساس أنها مجموعة من القيم والشيم والفضائل التي يتعين على الناس الذين يجرون في الأرض أن يتحلوا بها، والجريان في الأرض تعترضه عقبات، مما يستعصي معه الانسجام التام مع تلك القيم والشيم. ويبدو أن ما يسمى بالحداثة، خاصة كما تعرَّض لها الغرب في تاريخه القديم نسبيا، وكما نتعرض لها اليوم نحن من خلال الانفتاح والاتصال والعولمة... أدت إلى ظهور قيم أخرى جديدة أضحت، دون أن يشعر الناس، أخلاقا كونية، منها ما صار بمثابة قانون كحقوق الإنسان وحقوق الطفل... إضافة إلى قيم مستحدثة تُصنف الدول والشعوب بمقياس احترامها لها. فهناك تغير لحق البنيات الاجتماعية وأدى إلى انبثاق قيم جديدة، نذكر من بينها مثلا الفرد، كقيمة. فهذه القيمة اكتسحت حتى فكر الحركات الإسلامية؛ فكما أشار أحد الباحثين المغاربة، عندما تُسأل الفتاة عن علة ارتدائها للحجاب، تجيب: "إني ارتديت الحجاب لأني اخترته". طبعا، مفهوم الاختيار مفهوم حديث، واختيار الفتاة للحجاب يبين مدى اختلافها عن أمها التي ارتدت الحجاب في الغالب ولسان حالها يقول: إنا وجدنا أمهاتنا هكذا تفعلن، بمعنى أن الفعل أو السلوك أصبح يُؤوَّل في نطاق فردي، لقد أضحى اختيارا فرديا ولم يعد تراثا يؤخذ به تسليما أو تقليدا وإذعانا، "كان بإمكاني أن لا أرتدي الحجاب" هذا هو المعنى المقصود. هناك إذن قيم كونية عابرة للتاريخ أو عابرة للزمن، وهناك أيضا قيم تتغير؛ والسؤال المطروح هو: كيف تتبدل الأخلاق، إذا صح حقا أنها تتبدل؟

ع. البجوقي: في الحقيقة أظن أنه كان من الأفضل أن نتحدث عن الأخلاق والثقافة والسياسة، وليس عن الأخلاق والسياسة فحسب. ففيما يتعلق بتحديد مفهوم الأخلاق أرى أن الارتشاء –وهو ظاهرة متفشية في المغرب– ليس المرادف الوحيد للاأخلاق في السياسة، باعتبار أن هناك أشكالا أخرى لا أخلاقية مناقضة للأخلاق المتعارف عليها، قد تكون أكثر تعبيرا عن اللاأخلاق في عالم السياسة: مثل عدم الالتزام بالوعود، فبرنامج انتخابي لا يتم الالتزام به هو تعبير عن اللاأخلاق في مستوى ربما أكبر من الارتشاء الذي هو جريمة من جرائم الحق العام يعاقب عليها القانون، هناك –إذن– مستويات أخرى من الأخلاق أهم من سلوك رجل السياسة كمشارك في العمل السياسي، مستويات لها علاقة بالدولة. فانعدام قضاء نزيه في دولة تدعي الديموقراطية هو مستوى لاأخلاقي، ووجود قوانين تسمح بممارسة العمل السياسي بشكل يمكن أن يؤدي به إما إلى عدم الضبط وإما إلى التسيب هو أيضا مستوى لاأخلاقي، وكذلك الشأن على مستوى العلاقات الدولية؛ كخرق الاتفاقيات الدولية وعدم احترام حقوق الإنسان لبعض الدول، أو السكوت على خروقات بعض الدول ومعاقبة دول أخرى، وكذا العلاقة بين القوي والضعيف فيما بين الدول... الأخلاق العامة التي نتحدث عنها شيء آخر غير سلوك رجل السياسة، إنها ليست بالضرورة انحرافات السياسي، فانحراف رجل السياسة شيء والانحراف السياسي شيء آخر، والنموذج المغربي يمكن أن يجسد بكيفية مباشرة هذه المسألة. هناك شق آخر من المسألة يتعلق بتغير الأخلاق فهل هي متغيرة أم ثابتة؟ هل هي متحولة أم غير متحولة؟ أحيانا عندما نتكلم عن الجوانب السياسية المباشرة اليومية للأخلاق وعن ممارسة السياسة في المغرب نتصور أن ما يحدث فيه لا يحصل في دول أخرى كالدول الغربية مثلا، والحالة أنه يحدث بكثرة وربما بحدة، فموضوع الأخلاق مطروح بحدة اليوم في الغرب وأكثر من أي وقت مضى. ولكن ثمة تغيرات تعرفها الأخلاق، ثمة قضايا ينبغي أن تُطرح بجرأة وسأشير إشارة عابرة إلى موضوع المرأة أو حقوق المرأة والمساواة بين الرجل والمرأة، اقتسام الإرث، ومدى تعارض أو عدم تعارض هذا مع الإسلام، تعارض أو عدم تعارض هذا مع الأخلاق، وهنا يطرح سؤال أساسي: هل من الضرورة أن نربط الأخلاق بالدين؟ هل هناك أخلاق إسلامية وأخرى غير إسلامية؟ هل هناك أخلاق مسيحية...؟ أم أن الأخلاق هي نفسها بالنسبة للإسلام ولغيره من الديانات؟ هذا بالنسبة لي سؤال أساسي يساعد في الجواب عن أسئلة لها علاقة كما قلت سابقا بموضوع المرأة، وبموضوع المدونة الذي يعد اليوم موضوعا ساخنا في مجتمعنا، والذي يجب علينا الإجابة عنه...

م. الحداد: لنعد إلى زمانية الأخلاق.

أ. الخمسي: ذكرت سابقا أن الأخلاق مفاهيم وأن السياسة تدبير لهذه المفاهيم في مؤسسات وبنيات، أي تجسيد لتلك المفاهيم في الواقع، وقد حددها اليونان من سقراط إلى أرسطو في الفضائل الكبرى الأربعة، وهي العدل والاعتدال والحكمة والشجاعة، بمعنى أن الإنسان لكي يكون حكيما عليه أن يتحلى ببعد النظر... وإذا اقتضى الأمر الجهر بموقف عليه أن يتصف بالشجاعة، وفي نفس الوقت أن يدافع عن العدل، وهذه مثل الشجاعة، يعني لما يقتضي الأمر العدل يجب أن يدافع الإنسان عن العدل، ولكن يتصف في نفس الوقت بفضيلة الاعتدال... ولعل هذه الموجهات في السلوك، وهي أخلاق وفضائل، هو ما قصده المعتصم بإشارته إلى الإمام محمد عبده، غير أنه من الممكن أن نشير أيضا في نفس السياق إلى الإمام جمال الدين الأفغاني، فمحمد عمارة في تحقيقه لمؤلفات جمال الدين الأفغاني يؤكد بأن هذا الأخير مر من موقفين بصدد كتاب داروين أصل الأنواع، إذ رفض في البداية ما ورد في الكتاب واعتبره جزءا من الإلحاد، ثم استوعب في نظره أن أصل الأنواع مفهوم علمي، فإذا كان الوصول إلى العدل يعني استعمال العقل وفهم بنية المخلوقات كلها بشكل أفضل فهذا لا يتعارض مع الإيمان، وبالتالي فإذا كان الأئمة كلهم قد اعتبروا بأن كتاب أصل الأنواع والذي يقرب المسافة ما بين النباتات والأشجار والحيوانات والإنسان يضع حدا لقطيعة سيدنا آدم بالأخرين، وأن هذا الادعاء فيه وجه من أوجه الإلحاد والكفر، فإن الاطلاع العلمي لجمال الدين الأفغاني لم يمنعه من تغيير موقفه ويجعلنا إزاء معنى أخلاقي يتعلق بالكينونة. وهنا يمكننا التمييز بين أخلاق العلم وأخلاق العمل. ومازلت أذكر مع نشأة اليسار الجديد أننا كنا نقرأ كتيبات لـ ماوتسي تونغ وهوشي مينه وقد كانت تتضمن توجيهات لا تختلف كثيرا عن التعاليم الإسلامية، يعني عن الوصايا الجزئية المتعلقة بسلوك المؤمن مع غيره ومع أفراد الأسرة... يعني أن المناضل الحزبي لن يصبح بمثابة السمكة في الماء إن هو لم يحافظ على النفس، والعقل، والعرض، والمال، وهذه هي المقاصد الأربعة للإسلام. ومعنى ذلك أننا إذا وقفنا على توجيهات ماوتسي تونغ وهوشي مينه للمناضلين لن نجد فرقا بين الأخلاق الإسلامية وأخلاق آسيا سواء في الصين أو في الفيتنام التي هي جزء من نفس الحضارة. إذن هناك ثوابت على المستوى الفردي، ولكن الأمر يختلف في المؤسسات العامة. إن سؤالا كبيرا يطرح نفسه اليوم: لماذا اعتبر الغرب دائما بأن بول بوت ارتكب جريمة لا تغتفر؟ ولماذا يعيد إعلامه باستمرار تقديم تلك الغرفة المليئة بالجماجم عبر وسائل الإعلام؟ بالنسبة لي هذه الصورة أكذوبة صنعتها الدعاية الغربية مثلها مثل الأكذوبة التي حاكتها حول رومانيا؛ وهي دعاية صاغها الغرب لأن المناضلين في الكامبودج احتفظوا بالخط الأسيوي بينما المناضلون في الفيتنام أدخلوا الخط اللاتيني بغاية التحديث والعصرنة، مثل أندونيسيا... وبالتالي فإن نعت إنسان بأنه مخرب أو مدمر أو قاتل أو ديكتاتور يتم وفق المسافة التي تجمعني به حضاريا وسياسيا... فسواء أخلاق العلم أو أخلاق العمل تتبوثق في مؤسسة، وتعبر عن مصالح، كما تعبر عن استراتيجية، وبالتالي تحضر هنا تلك النسبة من توابل الأخلاق في السياسة، وهي بشكل متبادل أيضا نسبة السياسة في الأخلاق، وكما لا تُمطر السماء ذهبا ولا فضة يمكننا أن نقول أيضا إن الأخلاق بنت الأرض وأنها تتغير مع الكائنات والمخلوقات.

م. الحداد: ربما فشل حركات التحرر في العالم راجع في قسم منه –كما لاحظ أحد المفكرين– إلى كونها لم تستطع أن تطرح بديلا أخلاقيا للأخلاق القديمة، وأعادت إنتاج نفس الأخلاق...

م. المعتصم: لقد طُرح سؤال: هل هناك أخلاق إسلامية وأخلاق مسيحية...؟ أقول: هناك أخلاق بشكل عام، ولكن هناك تطبيقات مختلفة للأخلاق: ثمة تطبيق مسيحي، وتطبيق إسلامي، واليوم نشهد أيضا تطبيقا عالم- ثالثيا للأخلاق، وتطبيقا أمريكيا، فمسألة المساواة بين المرأة والرجل كمسألة حقوق الإنسان أو حقوق الناس تطرح ضمن مفهوم ليبرالي لحقوق الإنسان، في حين أن حقوق الناس شيء آخر، فهي أكثر شمولية. إن قضيتي حق المرأة أو المساواة بين الرجل والمرأة تدخل في التصنيف الأخلاقي القيمي للحق والعدل، هل هذا الحكم الشرعي أو هذا الاجتهاد الوضعي أو الفقهي يقر حقا ويبطل باطلا أو يقر عدلا؟ إن هاتين القضيتين الاثنتين اللتين ضرب بهما المثل غير مستحدثتين، وقد تمت الإشارة إلى الشاطبي الذي يتكلم عن جوهر ما هو كائن اليوم في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والحقيقة أن شيخ الإسلام الغزالي ذهب أبعد مما ذهب إليه الشاطبي في الوقت الذي أدخل ضرورات أخرى... لذا أعتقد أننا نناقش اليوم نقاشا ليس جديدا حول الثابت والمتطور في الأخلاق، وهو نقاش فلسفي، كما أعتقد أن الإسلام وضع منظومة قيمية أخلاقية من التزم بها يعد سويا ومن خرج عنها يكون منحرفا، ووضع وسائل لترويض النفس على الأخلاق الفاضلة باعتبار أن هناك ملَكات طبيعية فطرية في الإنسان "وهديناه النجدين" "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". الإنسان –إذن– مجبول على الخير ومجبول على الشر، ولكن الإسلام اعتبر أن هذه الكينونة الفطرية في الإنسان يمكن أن تُوَجَّه وأن نقوم من خلال عملية تربوية تكوينية بتوجيه الإنسان نحو ما هو صالح، لهذا نجد أن القرآن والأحاديث مليئة جدا بهذه المعاني، ولم يقل الإسلام إن هذه الأخلاق موجودة عند المسلمين وحدهم، بل اعتبرها موجودة عند كل الناس. أضرب مثلا لواقعية الأخلاق في الإسلام، والتي تعتمد عليها العملية التربوية، يقول عمر بن الخطاب: "لا تضيفوا الماء إلى الحليب"، وقد أنبت أم ابنتها وقالت لها: "أضيفي الماء إلى الحليب"، فردت الفتاة: "ألم تسمعي أمير المؤمنين ينهى عن هذا الأمر؟!" فقالت الأم: "أمير المؤمنين لا يرانا"، فردت ابنتها: "إن لم يكن أمير المؤمنين يرانا فإن الله يرانا"، إن العملية التربوية تصل بالإنسان إلى نوع من الرقابة الذاتية حتى في غياب القانون الزاجر الذي قال حرزني قبل قليل إنه يمكننا من فرض الأخلاق! لقد اعتمد الإسلام العملية التربوية حتى يصل الإنسان إلى ممارسة الرقابة الذاتية على أخلاقه بما يخدم المصلحة العامة، وهي كما قلت حقائق فطرية، يعني بحث عن الكمال الذاتي وبحث لتزكية النفس المشتركة بين جميع البشر، ففي ما يتعلق اليوم بالرشوة في البلاد السكاندنافية أتت العملية التربوية أكلها، في الوقت الذي نحن في بلادنا ليس هناك من لا يرشي ولا يرتشي، فلقد انقلبت المفاهيم والقيم من خلال تربية معاكسة، وأضحت الأخلاق الفاسدة مسعى يسعى إليه الإنسان. ففي البلاد السكاندنافية الإحساس بالمواطنة وتجنب الغش تحقق نتيجة عملية التكوين التربوي، أما نحن فقد أطلقوا علينا مجموعة من الذئاب ترعانا واستطاعوا بالفعل تشكيل منظومة أخلاقية جديدة حاروا فيها هم أنفسهم، وهي منظومة فاسدة يعانون اليوم منها. إني أومن بأن الأخلاق والكليات العامة تنطبق على كل الناس في كل الأزمان والعصور والأحوال الاجتماعية، وهي موسومة بالثبات: فالسرقة بقيت سرقة من عهد سيدنا آدم إلى اليوم، والخيانة بقيت خيانة، والحب حب والكراهية كراهية؛ لا يمكن أن يقال لي اليوم إن الخيانة عمل شرعي مبرر أو عمل أخلاقي، وكذلك الظلم في مقابل العدل والحق في مقابل الباطل، أعتقد أن هذه الأمور موسومة بالثبات، كالوفاء والأمانة، فكلها سلوكيات لا يمكن أن يستقيم التعامل الإنساني أو النظام الاجتماعي دونها، لأننا عندما نضرب أمثلة بهذه السلوكات نجدها موجودة عند مختلف الأمم الراقية التي كانت في مستوى الأداء الذي كانت تتطلبه المرحلة. وحتى لا أطيل، أقول إن الإشكال المطروح في بلداننا ناتج عن اختلاط بعض النظريات المادية التي تعارض هذا التوجه، والتي اعتبرت الأخلاق إلى حد الأمس القريب عبارة عن قيود تكبل إرادة الإنسان وتمنعه من التعبير عن ذاته، وقالت إنه ليس هناك قيم ثابتة وأن المسألة مرتبطة بالأحوال والظروف. ويمكن أن نذكر في هذا السياق ماركس وفرويد ودوركهايم وسارتر... فقد اعتبروها إنتاجا للمجتمع البورجوازي للمحافظة على الطبقية وأسلوبا لإخضاع البرولتاريا للبورجوازية. فقيم الحق والرحمة والصبر والواجب... –وفق هذا المنظور– كلام فارغ أفرزته طبقة من أجل ضمان مصالحها، ويذهب هذا المنظور إلى أنه يجب إطلاق العنان للدوافع المادية والغريزية... وتحريرها من الالتزامات الأخلاقية والمعنوية. ولكي لا نظلم هذا التوجه المادي نقول إنه سقط في خطإ، ما هو هذا الخطأ؟ يجب أن نستحضر الظروف التي تبنى فيها هؤلاء الناس هذه النظرية، فهم عايشوا واقعا مسيحيا استعملت فيه قيم أخلاقية معينة، مثل الصبر والقناعة، لضمان استمرار واقع ما، وهنا نميز بين الخلق وتوظيف الخلق: إن أصحاب المنظور المادي حكموا على الأخلاق من خلال حكمهم على توظيفها، وأظن توظيف الأخلاق يمكن أن يكون عنصر حياة، كما يمكن أن يكون عنصر ممات، فالنبتة إذا أغرقناها بالماء ماتت؛ ثمة فرق –إذن– في ما بين الأخلاق وما بين طريقة توظيف الأخلاق. ومع ذلك لابد من تمييز قيمة الصبر –مثلا– في ما بين الإسلام والمسيحية: الصبر في الإسلام لا يعني الخضوع والخنوع للظلم والاستبداد، وقيمة الصبر في الإسلام أن تتوفر لك إمكانية وقدرة المواجهة إذا اعتدي عليك ولكنك تصبر، لا أن تدير خدك الأيسر إذا ضربت على خدك الأيمن...

أ. الخمسي: أظن أنه بإمكاننا الخروج بخلاصة مشتركة، إذ يمكننا القول في الجانب المعنوي إنه لدينا مجموعة من القيم تدخل في قاموس الأخلاق يتقدمها الفرد، وأن هذا الأخير يصير قويما بقدر تحصنه في ممارسته الاجتماعية بباقي القيم، وهو ما يكسبه كينونته ويؤكد وجوده الإيجابي، غير أن كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده –كما أشار المعتصم– من خلال مثال الماء. وبهذا الصدد يمكن أن ننشئ تصنيفا للأخلاق ضمن جدول مماثل لجدول ماندلييف Mendeliev يشمل التوازن بين المادي والمعنوي، وقد أشرت سابقا إلى جمال الدين الأفغاني الذي غير رأيه من كتاب أصل الأنواع بعد تفهمه لسياقه، متجاوزا بذلك الرأي الذي يحكم على الشيء بأنه شر كله أوكفر كله. وهنا أعود للمسألة التي طرحها ع. البجوقي في البداية حول الأخلاق الإسلامية والأخلاق المسيحية، والتي أجمعنا فيها على وجود أخلاق كونية، غير أننا إذا اعتمدناها معيارا لقياس مدى تطبيق الشعوب والأمم للأخلاق لوجدنا الشعوب والدول الإسلامية أقل حظا من تطبيق الأخلاق، ولعل حالتها الأخلاقية مماثلة لحالة التغذية لديها؛ فالسعرات الحرارية في التغذية اليومية لدى الشعوب الإسلامية ضعيفة: إنها أكثر فقرا من غيرها ولو أنها أكثر بترولا، وهي أكثر غنى من الناحية الأخلاقية معنويا إلا أنها الأفقر على مستوى الممارسة في الحياة العمومية...

م. المعتصم: الحقيقة أن الموقف في الإسلام لا يكون أخلاقيا إلا إذا تغيا الإنسان من ذلك الموقف حب الآخر وخدمته، يقول الرسول "ص" في هذا الإطار: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهناك وصية للإمام علي لابنه الحسن تقول: "يا بني، اجعل لنفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره لـه ما تكره لها، ولا تَظْلم كما لا تحب أن تُظلَم، وأحسن كما تحب أن يُحسَن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وانقل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال عنك". وفي مستوى آخر ثمة تأكيد على التضحية من أجل الآخر: "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" هنا تغيب المنفعة، لماذا هذا كله؟ "إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" هذا واقع عملي كان سببا في نزول هذه الآية.

م الحداد: بعد مناقشة القضايا العامة نود أن نتطرق إلى المحاور الأخرى، بالنسبة إلى النقطة الثانية في هذه الندوة، أظن أنكم كلكم لاحظتم في الفترة الأخيرة، السنوات الخمس الأخيرة، وخصوصا بعد تنصيب حكومة التناوب، أن الكثير من تدخلات الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، وغيره من أعضاء الحكومة، كانت تلح على تخليق الحياة العامة أو تخليق الحياة السياسة. بطبيعة الحال هذه الدعوة لا يمكن أن تكون فقط تكرارا لدعوات سابقة، لكون السياسي يتحدث دائما عن الأخلاق، ولكن أظن أن الدعوة إلى الأخلاق تأتي في سياق ليبرالية جديدة عارمة وعولمة لا تُبقي ولا تذر، أي تأتي في سياق دعوة تقول بتحرير الاقتصاد، وتشجيع المبادرة الحرة، والمنافسة... وأظن أن حديث ماكس فيبر عن الأخلاق كان بشكل من الأشكال تخفيفا لتصوره عن الدولة بوصفها تستقطب العنف المشروع. ونحن في سياق العولمة الجارف نلاحظ التركيز على المنافسة وتحرير الأسواق والانفتاح...الخ ونلاحظ في الوقت نفسه نوعا من الخطاب يوصي بالعودة إلى الأخلاق. كيف يمكن – إذن– أن نتحدث عن هذه الأخلاق التي، قطعا، لا يقصد بها الأخلاق الفردية؟ إنها نوع آخر من الأخلاق. وما تفسيرنا لهذه الدعوة إلى تخليق الحياة العامة المقترنة بالخطاب النيولبرالي المفروض من طرف المؤسسات المقرضة والدول الكبرى المانحة؟

أ. حرزني: إذا حسمنا القضايا الكبرى تبقى مسألة التطبيقات، وأظن أن السؤال حول كونية الأخلاق أو نسبيتها سؤال أساسي لأنه يحكم كل شيء؛ إذ يمكن أن نعتبره تطبيقيا، وفي اعتقادي من الصعب الحسم في جواب عن هذا السؤال العويص: هل الأخلاق أزلية أم متغيرة؟ وبلغة أخرى هل الأخلاق كونية أم نسبية؟ أنا شخصيا أميل إلى الجواب الأول، أي أن الأخلاق عامة ثابتة، وأنها كونية؛ لأن هناك ما يمكن تسميته الفطرة الأخلاقية التي يشترك فيها البشر أجمعين، فالإنسان في نشأته الأولى يمكن أن يميز بين ما هو خير وما هو شر؛ غير أن هذا الميل الشخصي تكذبه بعض الوقائع التي تؤكد نسبية الأخلاق، فالثقافات التوحيدية الإسلامية والمسيحية واليهودية –مثلا– تعد قتل النفس البشرية جريمة لا يمكن أن يتصورها العقل، في حين أن مجتمعات تُصنف "بدائية" كانت تعتبر القتل رحمة بالنسبة للمسنين (الهنود الحمر في كندا ومجتمعات أخرى تعتبر الموت رحمة)، ولديها مبررات يمكن أن يتقبلها العقل: البيئة شحيحة... وهذه المجتمعات كانت تقوم على المبادرات الفردية وتعتمد على الصيد، لهذا يصبح المسن عالة على الجماعة التي تفضل قتله عوض تركه عرضة للجوع. ومع ذلك، فمثل هذه الأمثلة لا تكذب بشكل نهائي فرضية كونية الأخلاق وثباتها، لأن الفطرة –المشار إليها سابقا– تجعل أفراد هذه الجماعة يبكون ضحاياهم ويفعلون ما يفعلون بالمسنين على مضض. غير أنه بالرغم من تسليمنا بالكونية وبثبات الأخلاق العامة والفردية كذلك، أرى أن الصرامة في تناول موضوع علاقة السياسة بالأخلاق تضطرنا إلى أن نُقرَّ بنوع من الاستثناء بالنسبة للسياسة، يعني أن مفاهيم الأخلاق لا تنطبق دائما على السياسة؛ لأن الأخلاق في المستوى السياسي تُطرح كما حاولت أن أشير في البداية بلغة أخرى: إن السؤال الأخلاقي عند رجل السياسة هو كيف أتمسك بالمبادئ دون التفريط في مكتسبات ممكنة للجهة أو للقضية التي أعتبر نفسي مدافعا عنها؟ والعكس صحيح كذلك، يعني كيف أكون واقعيا دون التخلي عن المبادئ؟ هذا هو السؤال، ومَنْ يتوفق في هذا الأمر هو ذاك الذي يجيب عن هذا السؤال ولو كان مُخلاًّ بالأخلاق الفردية، دون أن يعني ذلك أنه ليس أخلاقيا. ولعل بعض الأمثلة تبين أن هذا ما حدث في كثير من الأحيان، فماركس نفسه في صراعه مع باكونين حول الزعامة في الأممية الثانية أقدم على أفعال لاأخلاقية، فقد حاول التلاعب بالفرع الإنجليزي ليضمن صوته، ولنين هو الآخر لا يمكن أن ندعي بأنه نموذج للأخلاقية إذا احتكمنا للمقاييس الأخلاقية العامة؛ فقد استبد بقيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي مع أنه لم يكن صاحب الأغلبية في الحزب. ولكن إذا احتكمنا للمقياس الأخلاقي للسياسة فإنه قام بما كان يلزم أن يقوم به في ذلك الوقت، ويمكننا أيضا أن نشير إلى ما قام به جمال عبد الناصر، فقد تآمر هو الآخر ضد السلطة الشرعية التي لم يكن ينازع فيها؛ لقد التقى مع أناس في السر للتآمر، وهذه ممارسات لاأخلاقية، لكنها خدمت هدفا سياسيا أخلاقيا في ذلك الوقت. فالسياسة ربما تستوجب نوعا من الاستثناء، وهذه الممارسات ليست غريبة أيضا عن تاريخ الإسلام... ونحن وإن كنا نتحدث الآن ضمنيا عن السياسة الثورية أو الخيرة أو التقدمية لا يجب أن نستثني الأطراف التي نعدها رجعية، فالذي يحاربني إذا كان يجمع في محاربته لي ما بين الوفاء لقضيته هو –وليس قضيتي– والوسائل الناجعة التي تسمح لـه بتحقيق هدفه، فليس لي ما أقوله. طبعا يمكنني أن أحاسبه و أن أقول عنه في الدعاية إنه لا أخلاقي، لا سيما إذا أقدم على تجاوزات، لكن من حقه أن يستعمل جميع الوسائل كي ينتصر علي في المعركة. ونحن في الحركات الثورية كنا نقدم مثلا على أفعال لاأخلاقية كإرشاء رجل بوليس أو المخابرات خدمة للثورة، وبالمقابل كنا صارمين في قضية الأخلاق الفردية. ومهما يكن، فعلى كل من ينتسب لأي تنظيم أن يسعى إلى توفير آليات الديموقراطية والمحاسبة، ولكن دون السقوط في الديماغوجية؛ لأن السياسة –شئنا أم أبينا– لها منطقها الخاص. إن المطلوب في السياسة ليس هو أن أكون خيِّراً أو شريراً، وإنما أن لا أفرط في قضيتي؛ وبالمقابل فإن السياسي الانتهازي الذي لا يعتمد غير الواقعية ويفتقر لقضية ليس أخلاقيا بالمعايير السياسية، وهو غالبا ما يفتقر أيضا للأخلاق الفردية. هذا الحكم ينطبق أيضا على السياسي العقائدي، فقد يكون طاهرا ملتزما بالأخلاق الفردية، لكنه قد يسوق الشعب إلى الكارثة ويمهد لعودة الرجعيين، إنه من الناحية السياسية لا أخلاقي بالمعنى السياسي.

ع. البجوقي: اسمحوا لي بالتعبير عن اختلافي مع هذا الرأي المتعلق بالمنافسة الممكنة التي يمكن أن تطرح ذاتها داخل ممارسة الشأن العام، فثمة قواعد للمنافسة وقواعد أخرى للحرب، ومن المستحيل قبول مناورة لأنها تستهدف تحقيق أهداف برنامج سياسي أو شخص يمارس السياسة وكأنها شيء طبيعي داخل السياسة أو داخل الأخلاق السياسية، أنا شخصيا لا أومن بمثل هذه الممارسة، وأعتقد أن هناك قواعد للمنافسة، ومن ثم لا أتفهم الانقلاب العسكري لعبد الناصر أو لأوفقير أو للمذبوح، كما لا أستسيغ نقل الخبر المغلوط واستعماله في المنافسة السياسية أو التشهير بالشخص تحت طائل أن منطق السياسة يتطلب ذلك "إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وهذه مسألة مطروحة في كل المجتمعات، وبالتالي من الضروري عندما نتحدث عن السياسة والأخلاق أن نضيف –كما قلت قبل قليل– الثقافة السياسية، ونضيف المجتمع المعني إلى هذه الأخلاق.

أ. حرزني: أظن أننا لم نتفاهم، فأنا لم أبرر الطرح الذي يقول: الغاية تبرر الوسيلة، أبدا. ليس هذا هو ما أقصده، وقد أشرت إلى التجاوزات، وهي المجال الذي يمكن أن تدخل فيه الأخلاق العامة، وعلى سبيل المثال، أن يحتجز شخص ولا يساق إلى المحاكمة، فهذا أمر غير مقبول من أي كان؛ أو نشر أخبار كاذبة تمس شخصا ما... فهذه تجاوزات تدخل في باب القانون العام أو المراقبة الداخلية للمناضلين أو أشياء أخرى، أما ما أقصده فهو ما دون التجاوزات.

م. الحداد: الحقيقة أن الهدف من إثارة هذا البعد النظري هو أن نستحضر –نحن المغاربة– تراثا بحاجة إلى بحث وفحص وتدقيق، ونتمنى أن تنصب جهود المفكرين على هذا الإشكال للوصول بشأنه إلى صوغ تصورات ونظريات أو أطروحات تخص سياقنا. فنحن لم نطرح المشكل هنا لكي نحسم فيه أو لنخلص فيه إلى تصور موحد. لنعد – إذن– إلى الإشكال الذي طرحته، وهو ترافق الحديث الرسمي عن تخليق الحياة السياسية والحياة العامة مع الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق والمنافسة والمبادرة الخاصة... وفي هذا السياق نلاحظ تراجع الدولة وتخليها عن مجموعة من المسؤوليات، ثم ظهور ما يسمى بالمجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية على أساس أن تقوم ببعض ما كانت تقوم به الدولة، فهل هناك علاقة بين هذه الدعوات الرسمية إلى الأخلاق في الخطابات السياسية للطبقة السياسية بصفة عامة في المغرب، وخاصة بعد حكومة التناوب، وبين هذا التوجه النيوليبرالي الزاحف؟ وإذا كانت هناك علاقة، فما دلالتها؟ وهل هي دعوات بلاغية أو خطابية فقط، أم أنها تروم هدفا ربما يجب أن نصل إليه؟

م. المعتصم: إني لأتساءل عن مسألة تخليق الحياة العامة ومدى ارتباطها بأخلاق العولمة وبإمكانية استيرادها أو عدم استيرادها، وأعتقد أن العولمة وضغوط المؤسسات المالية عامل من العوامل التي تسببت في الوضعية التي وصلت إليها البلاد، فالبنك الدولي متورط هو الآخر في ما آلت إليه الأمور، لقد مول عدة مشاريع: مول المدارس العليا والكليات كما مول السدود... وقد كان من المفروض أن يراقب المشاريع التي مولها. والحالة أنه يسكت عنها، بل إن بعض موظفي البنك الدولي أخذوا حصتهم من الرشاوى للسكوت... واليوم، حيث لم يعد المغرب قادرا على الاستمرار في هذا الطريق–كما أشار الملك الحسن الثاني– عاد الحديث إلى ضرورة تخليق الحياة العامة، والدخول إلى الوضع الديموقراطي، والشفافية والوضوح... في اعتقادي أن هذا عامل مضاف، إذ أنه حتى في غياب ضغوطات البنك الدولي يظل السؤال المطروح: هل الحكومة –وهنا أعتقد بأن اليوسفي إنسان صادق– سواء حكومة اليوسفي أو غيرها، باستطاعتها أن تشتغل في ظل الأخلاق المنتشرة داخل الإدارة المغربية والسائدة في المجتمع المغربي؟ أعتقد في هذا الصدد أن نجاح أي مشروع حكومي يقوم على الشرعية، ويفترض حكومة قوية وأمينة: "يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين"، لابد –إذن– من الوفاء بالعهود التي تقدم للأمة من خلال البرنامج الانتخابي، ولابد من القوة التي تكتسب من خلال دعم الجماهير لحزب ما، وهذا شيء لم يحدث ولم يكن، هذا هو العامل الأول لكي تكون هناك حكومة قوية. العامل الثاني هو وجود مشروع مجتمعي قابل للتنفيذ، وليس كلاما من قبيل سنوظف 250 ألف عامل سنويا، والحالة أن الحكومة الحالية (حكومة عبد الرحمن اليوسفي) اضطرت إلى نقص 60 ألف موظف لمدة 4 أو 5 سنوات. المسألة الثالثة تتعلق بالمناخ، والقرآن الكريم يعطينا نموذجا عن المناخ الفاسد، فقوم لوط حينما اجتمعوا أصدروا حكما ديموقراطيا بالإجماع: "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون". وأعتقد أن النظام المغربي عمل عبر أربعة عقود على بناء مجتمع الفساد، فإذا دققنا سنجد أننا كلنا راش ومرتش؛ فالأستاذ الجامعي لا يشتغل ولا يناضل، ولا يعمل على أن يناضل أو يشتغل، لقد أوعزوا إليه أن يأخذ راتبه الشهري ويسكت. أوليس القبول بهذا الوضع رشوة؟ نعم لقد انتشر الفساد وعم المجتمع، لأن الإدارة فاسدة. هناك بوادر فساد لأن الشعب أطلقت عواهنه، ثم إن الأحزاب والحركات الإسلامية والمجتمع المدني لم يقوموا بدورهم في تأطير الأمة ودفعها إلى الصلاح، بل إن ما حصل هو تزكية الفساد، فأصبح الكسل قيمة، وأضحى المشروع الذي علينا أن نقوم به في هذا البلد، هو المشروع المربح في فترة زمنية قياسية. فما هي المشاريع التي تدر ربحا في فترة زمنية قياسية؟ طبعا المشاريع المرتبطة بالمخدرات وبالدعارة والفساد الاقتصادي والرشوة... فالحكومة الحالية أحببنا أم كرهنا وجدت هذا الواقع، وجدت واقع الكسل والتهرب من الأمانة، وهذه قيم فاسدة منتشرة للأسف الشديد في إدارتنا وفي مجتمعنا، وهنا نستحضر الآية الكريمة: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ومن ثم فإن عملية تخليق المجتمع أو عملية تخليق الحياة العامة أو الإدارة، أو تخليق المؤسسات تصبح عملية أساسية سواء مع هذه الحكومة أو مع غيرها، وسواء تدخل البنك الدولي أو لم يتدخل، هذا إذا أردنا بالفعل أن نبني المجتمع. لا ينبغي أن ننسى أننا وصلنا بالفعل إلى حالة من الدمار، قال رسول الله "ص": "أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: "نعم. إذا عم الفساد". لقد عم الفساد بالفعل دون أن يعني ذلك عدم وجود أناس صالحين، لكنهم يظلون غرباء سواء في الإدارة أو في المجتمع، بل في بعض الأحيان تلقى الأب، إذا كان ملتزما بأخلاقيات معينة، غريبا وسط أبنائه ومع زوجته وأسرته... إذن ثمة مشكل، والسؤال الذي يطرح بالنسبة إلي هو: هل النخب التي تنادي اليوم بتخليق الحياة العامة مخلقة أم لا؟ وهل يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟ فأنا لما أتكلم عن الرشوة، أقول علينا تحديد هذا المفهوم: إن الرشوة ليست عشرة دراهم التي تعطى، فالناس الذين قبلوا بأن يكونوا مستشارين عند الوزراء أو مكلفين بمهمة أو باستشارة، مع أنهم لا يضطلعون بأية مهمة هم مرتشون، إنهم يتلقون رشوة لكي يزكوا وضعا معينا. لقد أصبح لدى البعض استعداد هائل جدا لتغيير مواقفه من أجل مكسب مادي، مع أنهم كانوا بالأمس يتغنون بالقيم وينادون للثورة والتغيير، لقد أصبحت لمثل هؤلاء قابلية غريبة جدا للاندماج في وضع فاسد، فهل يمكن أن نصدقهم أو نثق بهم في الوقت الذي يدعون فيه لتخليق الحياة العامة؟ الإسلام واضح في هذه المسألة: إن آخر من يغادر السفينة حين تغرق هو الربان، ولذا فإذا كان الربان هو أول من يفر فهذا مشكل، يقول سبحانه وتعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون؟" هذه مصيبة إذن. أما عن دعوة المؤسسات الدولية لتخليق الحياة العامة فلا يسعني إلا أن أتساءل: ما هي الأخلاق التي تدعو إليها العولمة؟ إن العولمة لا تحاكم اليوم من طرفنا نحن، وإنما من طرف أبنائها، فهي بالمفهوم الأمريكي ليبرالية متوحشة، إن العولمة اليوم هي المفهوم الأمريكي للأخلاق، ولما يجب أن يكون عليه العالم، وهذه العولمة تُعَارض اليوم؛ لأنها تهديد للبيئة وتهديد للتعايش، إنها دعوة إلى صراع الحضارات، فأي أخلاق هذه التي سنستوردها من العولمة؟ المفروض أننا نصدر الأخلاق التي من شأنها أن تؤنسن هذه العولمة. وثمة فرصة تتاح لنا اليوم، فداخل البلاد المتصدرة للعولمة سواء أمريكا أو أوروبا توجد فئات من الناس ضد الليبرالية المتوحشة، وضد التوجهات الأخلاقية الغرائزية المنحرفة التي أصبحت تهدد الوجود البشري نفسه. علينا أن نركب نفس السفينة ولو تركنا أمريكا تتم ثقبها لأغرقتنا جميعا، ومعلوم أنها أكبر ملوث على وجه الأرض، ومع ذلك ترفض التوقيع على اتفاقية كيوطو... علينا في هذا السياق أن ندعو إلى حوار الحضارات كقيمة، وأن نتواصل مع الشارع الأمريكي الغاضب على حكومته من جراء هذا الفعل اللاإنساني، بمعنى أن نعمل على تفعيل الأخلاق الكونية التي تحدث عنها حرزني، خصوصا وأن العولمة أخذت قرارها: فاليوم حيث تعاني إفريقيا من الجفاف والجوع والمرض والسيدا... انتهى بعض العلماء اللاأخلاقيين في سويسرا إلى خلاصات مفادها أن نترك إفريقيا تعيش الانتقاء الطبيعي بناء على النظرية الداروينية: لنترك إفريقيا تموت بالسيدا، لنتركها تموت بـ"الإيبولا"... وهكذا سنفرغ إفريقيا، وسيأتيها الإنسان الذي يستحقها، والذي يستحق الحياة فيها، هذا أمر خطير جدا. هذه هي أخلاق العولمة...

أ. حرزني: موضوع وخطاب تخليق الحياة العامة يفسر في مظهره على الأقل بالمرحلة السابقة، التي كانت مرحلة فوضى، وحيث كانت الشروط المفروضة في التعامل –على العموم– هي الولاء مقابل إطلاق اليد في جميع موارد البلاد، الشيء الذي وصل إلى حد لم يعد النظام نفسه قادرا على تزكيته، وهنا جاءت حملة التطهير التي زكتها الضغوط الخارجية. وأظن أننا إذا بقينا فقط على مستوى الخطاب الأخلاقي فسوف لن نتقدم في معالجة هذا الأمر، لأن المشكلة أصلا ليست مشكلة أخلاقية، ولا هي مشكلة تقنية؛ فلا يمكننا لا أن نخلق ولا أن نتأهل إذا بقينا سجناء الخطاب الأخلاقي أو الخطاب التقني، إن التناول التقني المهيمن في صفوف الأوساط التقدمية المتمثل في خطاب التأهيل تحت طائل أن هناك عولمة ذهبت بعيدا وعلينا أن نرتفع إلى ذلك المستوى لا يحل المعضلة، الجوهر في نظري في هذه المسألة حتى أختصر الأمور –وهنا أرجع إلى بعض مفاهيم التراث الماركسي ولو أنه يشاع أنه لم تعد لي أية علاقة به– يكمن فيما نشاهده في جانبه المظهري وربما في جانبه الدعائي أيضا. من الصحيح أن نبرز هذا الجانب الأخلاقي، ولكن ما وقع في البلاد هو ما سماه ماركس التراكم البدائي، لكن ينبغي الانتباه إلى أنه حصل في بلد فقير استعملت فيه السلطة كوسيلة رئيسية. ومعالجة هذا الأمر لن تتم بالدعوة إلى التخليق، فقطف بعض الرؤوس لن يضع حدا نهائيا للمشكل، كما أن التأهيل غير وارد: فواحد لـه منصب في الدرك، وآخر في الجيش، أو الإدارة... بمعنى أن ليس هناك ما يحفز على التأهيل، خصوصا أن نصف مال هؤلاء في الخارج. علاج هذا الأمر في نظري –وهذا ليس خاصا بالمغرب فلربما يكون علاجا أيضا لحالة الجزائر– هو عقد صفقة تاريخية. فما هي هذه الصفقة؟ أو ما هو إطار هذه الصفقة؟ الصفقة هي أن يسمح لهؤلاء الناس الذين استفادوا من الدولة وحققوا التراكم البدائي أن يتوجهوا إلى القطاع الخاص مقابل ابتعادهم عن السلطة، و بالمناسبة فإن لهم معامل وضيعات، ولهم بواخر صيد، فليذهبوا لتدبيرها وليكفيهم ما راكموه وليتركوا السلطة. وفي اعتقادي أن مثل هذه الصفقة التاريخية –التي لم يتوفق بوتفليقة في إنجازها أو لم يدرك أهميتها– هي التي ينبغي عقدها في الجزائر، إذ بدون إنجازها لن يتحقق في المغرب أو في الجزائر أو في مختلف البلدان المتخلفة أي تقدم نحو الممارسة الأخلاقية في الحياة السياسية، ولن يتحقق أدنى تأهيل للحياة الاقتصادية. الإشكال –إذن– هو إشكال سياسي: فما دامت الوسيلة الثورية غير متوفرة حاليا سواء في المغرب أو الجزائر يظل السؤال المطروح هو: كيف يمكن تحقيق ذلك بطريقة سلمية؟ كيف يمكن إقناع هؤلاء الناس بمغادرة السلطة حتى لا تبقى وسيلة؟ ذلك أنه إذا لم يتم الفصل بين السلطة السياسية والاقتصاد فإن أي حديث يتعلق بمسألة الأخلاق والسياسة سيظل حديثا غير ذي معنى، وأتمنى بالمناسبة أن تتاح لنا فرصة توضيح هذا الإشكال ومناقشته -سواء في إطار مجلة دفاتر الشمال أو غيرها...- لأنه إشكال جوهري بالنسبة لهذه المرحلة. ودون الحسم في هذه المسألة سيظل الاقتصاد والسياسة بل والأخلاق مرهونة بالأمر الواقع حيث تغلق المعامل وتهرب الأموال الطائلة خارج البلاد؛ سيظل الانتقال الديموقراطي –إذن– أمرا معلقا، وسيكون مآلنا أسوأ، سنصل إلى أكثر من السكتة القلبية، سوف تكون "دَقَّة بَطْلَة" كما أشار إلى ذلك المعتصم. إن بلدان العالم الثالث إذا لم تحسم هذا الأمر سوف ترزح من جديد تحت نير الاستعمار والاحتلال المباشر. ونحن لا نبالغ إذ أصبحنا نسمع عن مناقشات حول تملك الأراضي من طرف الجهات الأجنبية... مثل هذه الآفاق تزيد من إقناعنا بأن المشكل لا يجب أن نتناوله من الجانب الأخلاقي، قد يكون الجانب الأخلاقي حافزا، لكن يظل دون أهمية تذكر إذا لم يترجم إلى برامج ومقترحات ووسائل نضالية... وهنا أرجع إلى ما قلته عن المبادئ، فنحن لن نحقق ما نتطلع إليه بالكلام العام، لن نحققه بمجرد الدعوة إلى محاربة المخزن وإسقاط الرجعية، بل مثل هذا الكلام يمكن أن تكون نتيجته عكسية، إذ يمكن أن يساهم أصحابه من حيث لا يدرون في دوام أو في إطالة أمد الأمر الواقع، ومن ثم ـ عوض ذلك ـ علينا البحث عن الخيط الرفيع الذي يمكننا من إنجاز أهداف هذه المرحلة...

ع. البجوقي: أتفق بطبيعة الحال مع المعتصم في ما أشار إليه حول مسألة الفساد الإداري والقضائي، بحيث أن الفساد وصل إلى درجة قريبة بالفعل من الجلطة الدموية، وكان هذا سبب الاتفاق أو العهد بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي. فالمسألة إذن ليست مسألة أخلاقية، وإنما مسألة التأسيس للديموقراطية، أي مسألة انتقال ديموقراطي بالدرجة الأولى، وهذا موضوع يتم التعامل معه أحيانا بشكل لا أخلاقي، فمن اللاأخلاقي أن يقال بالأمس عن نفس النظام بأنه لاديموقراطي، وتدعي الحكومة اليوم بأنه ديموقراطي، وبأن الانتقال الديموقراطي قد تم، هذا منتهى اللاأخلاقية واللامسؤولية. وطبعا يظل حل مسألة الانتقال الديمقراطي حلا سياسيا. وهنا أود تأكيد فكرة القدوة التي طرحها المعتصم، ولو أنه يقال في الشمال "الفقيه عمل بكلامو ومد عملشي بفعايلو". وبالمناسبة من المؤسف أن نلاحظ الآن على المستوى الأخلاقي استعمال المساجد بشكل واضح للدعاية السياسية، وللشتم والسب، وإصدار فتاوى ضد النساء، وضد الرجال الأحرار بكل وقاحة، أي بطريقة لا علاقة لها فيما أعتقد بالإسلام أو بالأخلاق... أما في ما يتعلق بالعولمة وتأثيرها سأكون صريحا، لأنه آن الأوان ليكون السياسي صريحا، فالأخلاق الجديدة للسياسي هي الصراحة والوضوح في الموقف، فمن غير المعقول أن تعبر أحزاب محسوبة على اليسار عن رفضها للعولمة ثم توقع وتصادق على مواثيق في الأممية الاشتراكية لها علاقة بالعولمة، بل وتتصرف، وهي في الحكومة، وفق ما تمليه العولمة، فهذا موقف لا أخلاقي... غير أني انطلاقا من مرجعيتي اليسارية الماركسية –التي لازلت أحتفظ أنا الآخر بشيء منها– أرى أن للعولمة جوانب إيجابية؛ فالبنك الدولي إذا كان وراء دفع المغرب لطرح معضلة الرشوة وإعطاء الضوء الأخضر لتأسيس جمعية ضد الرشوة فهذا بالنسبة لي أمر إيجابي في العولمة، ونفس الحكم نصدره على مستوى التكنولوجيا الإعلامية، فعولمتها علة مثلا في إفراز قناة الجزيرة التلفزية التي تتيح إمكانية التواصل والعلاقة بين البشر، بحيث أمكن للإنسان معرفة مجموعة من القضايا لم يكن ممكنا معرفتها، فقد أتاحت إمكانية تتبع تفاصيل حرب أفغانستان، وكذا الوقوف على ما يجري في فلسطين وفي جنين... ولذا أعتقد بأن الحديث عن العولمة بنوع من التعميم غير صحيح، طبعا دون أن ننسى الجوانب البشعة للعولمة التي يجسدها بالخصوص نموذج رعاة البقر (الكاوبوي) الأمريكي، الذي يثير تخوف الأمريكيين أنفسهم، فالعولمة هي التي أفرزت حادثة 11 شتنبر التي ترتب عليها صدور القانون الذي يسمح للوكيل العام الأمريكي بالاطلاع على الحساب البنكي لأي شخص، وهذا قرار غير ديمقراطي وخطير يتعارض مع الدستور، بل ويتعارض أصلا مع العولمة نفسها، ولذا ثمة أناس يقفون ضده وهم ليسوا بالضرورة يساريين... ولعل من الجوانب السلبية للعولمة ما أشار إليه الدلايلاما بقوله: "حقيقة إن التكنولوجيا الحديثة فتحت باب الاتصال، والعلاقة بين البشر داخل وخارج الحدود، لكن ذلك لم يمنع أن تكون عزلة البشر والإنسانية اليوم أقوى وأشد مرارة من السابق". لماذا؟ لأنه يبدو أن الإنسان في ظل العولمة، وإن استطاع تطوير أسلحة خارقة، إلا أن قدرته على التحكم في الحروب انخفضت بنسبة كبيرة، كما انخفضت نسبة متوسط عمر الإنسان بالرغم من التطور التكنولوجي والاقتصادي: فقد وصل متوسط العيش في أوروبا إلى 80 سنة، وانخفض لدى مايزيد على مليار و 700 نسمة إلى 50 سنة. ثمة مساس أيضا في ظل العولمة بالمصالح المباشرة للفئات الفقيرة، ولعل ما يجري الآن في أوروبا أسطع مثال على ذلك، كالتراجع عن المكاسب الاجتماعية، وما إضراب 20 يونيو الأخير في إسبانيا سوى حركة احتجاج ضد منع التغطية الاجتماعية بقانون تم الإعداد لـه على مدى عشر سنوات، والأدهى من ذلك أن هذا المنع بلور في قانون وزاري قبل أن يقدم للبرلمان لاحقا... وفي مهد العولمة فاقت ميزانية السجون في أمريكا منذ 94 أيام كلينتون ضعف ميزانية الجامعات الأمريكية مجتمعة. إن هذه الجوانب البشعة للعولمة أضحت تقدم كما أشار إلى ذلك بيير بورديو في كتابه أسطورة العولمة والدولة الاجتماعية ضمن صياغة مفاهمية مثيرة للجدل، فقد تم استبدال تعريف أرباب العمل (الباطرونا) بالقوى الحية للأمة، وأصبح التسريح أو الطرد مرادفا لمقاربة رياضية للجسد النشط. هذه – مع الأسف– بعض مشاهد العولمة التي تترسخ، والتي يتم استيرادها إلى المغرب. وفي نفس السياق بدأت الدول تتخلى عن الخدمات الاجتماعية وتتنكر للحقوق بل وتعمل على إزالتها من دساتيرها، كالحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق في السكن... الحالة الفرنسية مثل حي على ذلك... وباختصار هناك مشاهد بشعة للعولمة، وثمة مشاهد يجب التعاطي معها بشكل إيجابي، بشكل واضح وواقعي، إذ لا يمكن تجاهل العولمة. لكن ما أؤكد عليه وما أنتقده هو الموقف اللاأخلاقي في التعامل مع هذه الظاهرة، بحيث يتم الحديث عن العولمة مع أصحاب العولمة بـ "نعم للعولمة" – وهنا أذكر بموقف الفقيه– ويتم انتقاد العولمة في الخطاب الموجه للشعب، للناس، خصوصا في الخطاب الانتخابي. طبعا ليست هذه ملاحظتنا الوحيدة، فلقد شاهدنا مؤخرا في المغرب تعاملا لاأخلاقيا مع قضايا متعددة ومنها القضية الفلسطينية، وإلا ما معنى زيارة الوفد الإسرائيلي لمدينة الدار البيضاء في الوقت الذي يتم فيه ادعاء الدفاع عن هذه القضية؟

أ. الخمسي: في سياق قضية التخليق ينبغي أن نتذكر أن كأس المغاربة كانت قد امتلأت، ومن ثم توفرت الشروط ليعلقوا الأمل على حكومة 98، وهي حكومة قدمت تصريحا وعد بالتخليق والتغيير... وجعل الناس في حالة ترقب خصوصا بعد إزاحة إدريس البصري، وازداد الأمل في إمكانية التغيير السياسي وتحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي... فمع بداية سنة 2000، أي مباشرة بعد ثلاثة أشهر أو شهرين ونصف بعد إزاحة البصري تصور الناس أن العطب الذي كان يعقد الآلة المغربية قد زال وعوض بلولب آخر جديد مواكب للعهد الراهن، خصوصا بعدما قدم اليوسفي في البرلمان التصريح الحكومي الثاني كميثاق لحسن التدبير يتوخى تحقيق ثلاث نقط:

1- إعادة الثقة في المؤسسات الإدارية.

2- تحسين التدبير العمومي، سواء في الصفقات العمومية أو في صرف المال العام...

3- تحسين العلاقات مع الناس ومع المحيط...

غير أن متابعة للقطاع السمعي-البصري – مثلا– الذي وقع فيه تعديل منذ سنة 2000 يجعلنا نتساءل: هل الوضع الآن بهذا القطاع أحسن مما كان عليه أيام المساري؟ وهل وقع تخليق في عهد الأشعري؟ نفس السؤال يطرح نفسه في ما يخص المسألة الاجتماعية، فقد حلت سيدة محل سعيد السعدي لتمسك بملف المرأة، فهل نجحت في إنجاز الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية؟ أبدا. وحل عباس الفاسي الأمين العام لحزب الاستقلال بقطاع التشغيل، لملاءمة التشغيل مع الاقتصاد، والهجرة والمقاولة... ولحد الآن مازال الموات والاستمرار في نفس الحصيلة التي كانت من قبل. هذا في ما يخص ما يمكن تسميته بالسياسة الكبيرة. أما عن السياسة الصغيرة فإن الناس في الشمال الذين يعاينون تفشي الرشوة اعتقدوا أن هذه الظاهرة ستندثر مع حكومة يتصدرها اليوسفي بصفته أهلا للثقة معتبرين أن الثورة ستأتي من فوق، وأن ميثاق حسن التدبير فيما بين 2000 و2002 سيحقق مراميه، غير أن الحصيلة يأس الجميع من ميثاق حسن التدبير ذاك. فهل المؤسسات الدولية هي التي أوحت ببعض التوجيهات المتعلقة بظاهرة الرشوة؟ وهل ظاهرة العولمة توجد وراء إعطاء وصل الإيداع للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (ترانسبرينسي) سنة 1999 بعدما حرمت منه سنة 1996؟ ثم أليس هذا مجرد حقن بشكل جزئي ووهمي للمتحكمين في العولمة؟ لذا فالصفقة التاريخية كل وجزء، يعني أن هناك أطرافا تدفع نحو تحقيقها، سواء من طرف اليسار، أو على الصعيد الدولي، فتوجيهات البنك الدولي في مسألة الإدارة العمومية وقضية التأهيل ليست توجيهات إيديولوجية، بل إنها مشاريع يمكن أن تتحول إلى قوة مادية. غير أن التراكم البدائي الحاصل خلال الأربعين سنة أدى إلى مظهرين من مظاهر اللاتوازن ما زالا قائمين: فالسياسة الحالية لم تستطع القطع مع اللاتوازن الطبقي، يعني أن حكومة اليوسفي لم تستطع أن تخرج الطبقة الوسطى من شرنقتها المحجوزة، فبالرغم من تشكيل هيئات المحامين والأطباء والمهندسين فإن هؤلاء –مثلا– على عهد وزير الإسكان سعيد الفاسي، وهو مهندس، ظلوا مرهونين بفعل تكريس وضع معين، ونعرف الأزمة التي حصلت بين المهندسين ووزارة الإسكان (السكنى) للحفاظ على وضع عام، بمعنى أنه على الصعيد الطبقي لا نتوفر على طبقة متوسطة واعية بوظيفتها، الأمر الذي يكرس اللاتوازن بين الطبقة العليا وأوسع الفئات الاجتماعية، ولذا فالتراكم البدائي لم يؤد إلا إلى مزيد من التفقير. أما على مستوى الجهات فنحن مازلنا نصب جميعا في الرباط والدار البيضاء، وبهذا الصدد أقول للإخوان الذين أتوا من هذه المناطق إنه لا مستقبل لحركة سياسية مقبلة إذا استمر طرح النظام الفيدرالي عندما يتعلق الأمر بالصحراء فقط، وإذا نحن أيضا لم نحاول إقامة نظام فيدرالي على مستوى التنظيم الحزبي لتمكين النخب المحلية من اتخاذ القرار في شؤون منطقتهم. إن عملنا السياسي والمدني يفصح عن قصور لا حد له، فمنذ سنة 1976 أي منذ الانتخابات الجماعية إلى غاية الآن هناك فراغ، إن المرشح الذي يصبح منتخبا باسم الحزب، يبتلع في ميكانيزمات السلطة، والعمل الحزبي لا يوفر لـه جدارا يراقبه ويحميه في نفس الوقت، أو يخفف عنه ضغط السكان، مما يضطره إلى الهروب والتخفي، إن العمل الحزبي هو الآخر لم يستطع لحد الآن إعطاء بديل لعدم التوازن على مستوى المناطق، وعلى مستوى توزيع مهام مؤسسات الدولة والمجتمع، وعلى مستوى البنية الطبقية، ولعل اليسار نفسه رهين ازدواجية كتلك التي أشار إليها البجوقي في ما يتعلق بالعولمة...

م. المعتصم: أثار أحمد حرزني مسألة مهمة جدا، وهي قضية الصفقة التاريخية، وهي على كل حال صفقة أخلاقية، لأن الشعب المغربي سيكون مطالبا بأن يرتفع فوق آلامه ومعاناته، وسيقول لأولئك الناس: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" كما قال الرسول (ص) لما دخل مكة. وأظن أن هذه أمور يجب أن تناقش في هذه البلاد، ومهما يكن فالسياسة في نهاية المطاف، سواء أكانت أخلاقية أو غير أخلاقية، تخضع لموازين القوى، وللأسف الشديد فإن هذه الموازين لصالح أعداء الديمقراطية. على كل حال فقهاء السياسة في الإسلام طرحوا قضية مهمة جدا: وهي قضية الترجيح والموازنة بين مفسدتين وبين منفعتين، وقد وصلوا إلى القول: "درء مفسدة خير من جلب منفعة"، وما دمنا نقدر أن الاصطدام سيكون لصالح الهياكل التي أوصلت البلاد إلى حالة الفساد وأن محاسبتها قد تنتهي بنا إلى استمرار المفسدة –كما حصل في الجزائر نتيجة موازين القوى– فإنا مطالبون بدرء هذه المفسدة بمفسدة أقل منها، بحيث نقول لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لكن اتركوا الحياة السياسية تنفتح على واقع جديد... ذلك أن ضعف القوى الديموقراطية يفرض مثل هذه الصفقة التاريخية، وهي على كل حال صفقة أخلاقية: على هؤلاء أن يتركوا الساحة لكي تنفتح الحياة السياسية على ممارسة أخرى نتمنى أن تكون جديدة.

م. الحداد: لننتقل إلى مسألة أخرى مرتبطة أساسا بما طرحتموه حول الصفقة السياسية. فالصفقة السياسية تعقد مع بنيات وسيطة، أي مع الأحزاب السياسية، لكن ما وضع هذه الأحزاب؟ حسب المراقبين تعرف هذه الأحزاب في الظروف التي نعيشها تشتتا وتمزقا، يعني باختصار أن وضعيتها ليست على ما يرام: فثمة انشقاقات في الساحة السياسية الحزبية المغربية، لأن كل واحد يريد تأسيس حزب خاص ليكون هو القائد، وثمة إشكالات عند الذين أرادوا الحوار من أجل التوحيد... غير أن ما يعقد مسألة الصفقات بالإضافة إلى وضعية الأحزاب –وهنا نكون بصدد السياسة السياسية حيث تتوارى الأخلاق قليلا- مشكل المجتمع المدني وهيئاته، فالجمعيات في المغرب بلغ عددها رقما كبيرا، منها ما لـه حضور أو تدخلات قوية جدا في المجتمع، ومنها ما لا حضور له. وأقصد أن للمجتمع المدني جانبا مظلما، لأن العاملين فيه أناس غير منتخبين بخلاف السياسيين، إنهم يؤسسون جمعية يطرحون من خلالها رأيهم الخاص؛ أي رأيهم كمجموعة تأسست طوعا، لكنها تصير طرفا في الحوار كما لو كانت منتخبة فتشوش على السياسي... ولذا فالسياسي يحس بالحرج، وربما بالامتعاض، إزاء المشتغل في الجمعية الذي يتدخل في الشأن العام... إذن بما أنه جرى الحديث عن الصفقة السياسية وحصل شبه اتفاق على ذلك، ما رأيكم كممارسين للسياسة أيضا في هذه البنيات الوسيطة، أقصد البنيات الحزبية في المغرب؟

أ. حرزني: أود العودة إلى ما طرحه م. المعتصم حول مسألة موازين القوى، والتي يرى أنها في صالح القوى المحافظة، فأنا أرى عكس ذلك، لأن هناك خلخلة في صفوف هذه القوى، ومظاهرها، ودون أن أطيل كثيرا يمكن الإشارة إلى الأجواء التي نحياها اليوم، فنحن نتحدث الآن بحرية غير مقيدة، يعني لم نعد مقيدين كما كنا منذ 3 سنوات أو أكثر، وهذا مؤشر لـه أهميته، وعلى العموم لا يجب أن ننظر إلى قضية ميزان القوى نظرة إستاتيكية، أو التركيز فقط على القوى المادية، فثمة عناصر تدخل في ميزان القوى، منها الجانب الأخلاقي نفسه والجوانب الفوقية بصفة عامة؛ لأن أية إمبراطورية كيفما كانت جيوشها ومؤسساتها لما تفتقد الأساس الأخلاقي، أو لما تستبد بها النزعة الدوغمائية تبدأ في الانهيار، ولو أن لها جيوشا والآخرين عزل. وهنا نلاحظ في الزمن الحالي، وبفعل عوامل داخلية وخارجية، أن القوى المحافظة لم تعد لها نفس اليقينية، ونفس الشعور بالشرعية، كما كان الحال سابقا، ومن ثم الشروخ الذي نلاحظه جميعا. وبالنسبة لي إذا كان ميزان القوى فعلا لفائدة هذه القوى، فليس بفضل القوة المتوفرة لديها بقدر ما هو تفكك في قوى التغيير. وبصفة عامة، ودائما بالرجوع إلى تلك المقدمة، فلربما مشكلتنا هو ما يمكن أن نصطلح عليه مشكلة الحركة الديموقراطية، والتي تشمل كل من هو ديموقراطي، فحينما أقول الصف الديموقراطي لا أقصي الإسلاميين أو غيرهم، كما يفعل بعض الإخوان. الديموقراطي بالنسبة لي هو كل من يريد الديموقراطية إلى أن يتبين العكس. المشكل يكمن – إذن– في تفكك هذا الصف وتوزع قوى مهمة منه ما بين الاتجاه العقائدي المنغلق على ذاته، والذي عانى من هذا الانغلاق الذي ينكر حصول أي تغيير، والاتجاه الانتهازي الذي يقبل بأقل ما تسمح الظروف بانتزاعه، والمقصود هنا ليس بحاجة إلى إيضاح، ونحن إذ نعتبر نقدنا لـه نقدا أخويا وليس نقدا عدائيا، فذلك لأننا يمكن أن نلتمس لـه بعض الأعذار، ثم إن كل مرحلة من مراحل التناوب التي انخرط فيها تستوجب حكما يختلف باختلاف تلك المراحل، وما ينبغي أن نسحضره هو قوة هذا الاتجاه ورسوخه في البلاد؛ وثمة اتجاه ثالث يحاول التوفيق بين المبادئ والواقعية من أجل انتزاع ما يمكن في الظرف الراهن دون تنازلات أو تنكر للمبادئ، وذلك بإعمال نوع من الواقعية، غير أن أداءه ضعيف، ذلك أن عقد صفقة تاريخية، كما أشرنا سابقا، لايتوقف على الشعارات، وإنما يتطلب برنامجا وخططا عملية، قد تعمل على تحقيق الصفقة التاريخية، غير أنني لا أعني بهذه الصفقة التسامح المطلق، فثمة تجاوزات تتوفر حجج دامغة ضد مرتكبيها لابد من إدانتهم... وبهذا الصدد أعود من جديد إلى الماركسية فـ ماو كان يرى ضرورة تضييق الهدف. وأعود أيضا في هذا السياق إلى الأخلاق والحق، إذ المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، وهذا يفرض تجاوز الأحكام العامة، فالمخزن اليوم أنواع، والدولة بالرغم من الفساد الذي ينخر أجهزتها تتوفر على آلاف الأطر النزيهة؛ ومن ثم فإن التعميم، وهو ما أسميه بالضبط "التوجه العقائدي" مضر إلى أبعد الحدود. ومن حسن الحظ أننا نلحظ اليوم وعيا متنامميا بضرورة تجميع كل هذه الأطراف في قطب ديمقراطي، وهو ما ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه، فالمهمة الحالية هي تجميع كل الديمقراطيين في قطب ديمقراطي موسع يشمل كل دعاة الديمقراطية بغض النظر عن كون البعض لبراليا أو يساريا أو إسلاميا... لأنه من غير الممكن مواجهة تحديات العولمة دون تحقيق الديمقراطية، وإلا فمصيرنا –دون شك– التفكك والحرب الأهلية. وبالمناسبة فبعضكم يعرف انخراطي في عملية تجميع اليساريين، وهي عملية مهمة، لكن الأهم في نظري هو الإسهام في تجميع الديمقراطيين في إطار واحد، وهذه مهمة بادرت بعض مكونات الصف الديمقراطي إلى الدعوة إلى تجسيدها في قطب ديمقراطي موسع يجمع جميع الديمقراطيين، غير أن هذه المكونات مستعدة للتخلي عن مبادرتها إذا تقدمت مكونات غيرها بمبادرة تتوخى تحقيق نفس الغاية، أي تستهدف توفير شروط إنجاح مهام هذه المرحلة الحرجة التي يبدو أنها لن تكون قصيرة، وأنها لن تتوقف على تجميع عددي بقدر ما تتطلب اجتهادا فكريا واقتصاديا... وفي اعتقادي أن هذا هو الجواب على متطلبات المرحلة.

ع. البجوقي: لاشك أن الصفقة التاريخية ضرورة مرحلية، ولاريب أن للأحزاب والمجتمع المدني دورا مهما في هذه الصفقة، غير أنه يجب التعامل مع هذا الموضوع بحذر، إذ لا ينبغي توقيع الشيكات على بياض. وما دمنا بصدد الحديث عن انتقال ديموقراطي سلمي أجدني مضطرا لأن أستحضر تجربة عاينتها وتابعتها عن قرب، وهي التجربة الإسبانية، والتي عند مراجعتها نصل إلى اللحظة التاريخية الحاسمة والدقيقة التي تمت فيها الصفقة التاريخية بفعل توفر شرطين أساسيين عبر عنهما بوضوح من أشرف على تلك المرحلة وهما: شرط التجاوز أولا، أي القبول بالمرور من مرحلة إلى مرحلة، لأن الطرف الآخر كان قويا. والشرط الثاني هو الحديث عن الموضوع بكل وضوح وصراحة على المستوى الإعلامي. وقد رمى هذا الوضوح بظلاله على الشارع، وهذا ما نفتقده هنا، بمعنى أن الحوار حول الموضوع كان حوارا مفتوحا، وانتهى إلى إجماع؛ ذلك أن الشعب الإسباني لما صوَّت على الدستور سنة 1978 أصدر عفوا جماعيا على الذين سيروا إسبانيا خلال أربعين سنة. والواقع أننا عندما نعود إلى التفكير في المسألة ضمن السياق المغربي ينبغي أن لا ننسى أن الطرف الماسك بزمام الأمور يعيش وضعا مقلقا، فلربما اضطره واقع إعلامي ودولي وجغرافي في المنطقة أن يختلق اكتشاف خلية نائمة باعتقال ثلاثة منتسبين مفترضين لتنظيم القاعدة لإنقاذ الاجتماع بإشبيلية للظهور بمظهر القوة، وهذا نوع من الرد على الانحصار الذي وقعت فيه الدولة المغربية، لكن بغض النظر عن أية مزايدة أعتقد أنه من الضرورة أن لا نتوهم أن الدولة ضعيفة اقتصاديا وعسكريا... فالدولة ما زالت تشتغل بنفس الشكل والقوة معتمدة على أجهزتها من المقدم إلى رئيس الديستي D.S.T، كما لا ينبغي أن نتجاهل الهامش الإيجابي من الحريات الذي نعيشه الآن، ومن ثم فإن الصفقة إذا كانت ستؤهل المغرب للانتقال الديمقراطي، فإنها ستكون خطوة شجاعة وجريئة لكونها تتطلب تضحية كبيرة، شريطة أن تطرح بوضوح ودون مزايدة أو تسيب، أي بناء على قواعد الأخلاق السياسية. وهنا أستحضر مدى قواعد المشاركة في مجموعة من المبادرات، فعند المشاركة في بعضها تجد من ينتسب لحزب أو لجمعية أو لإطار كما تجد من يدعي المشاركة باسمه الخاص. لابد إذن من استحضار قواعد ممارسة العمل السياسي واحترامها. وفي نفس الاتجاه يمكن أن نشير إلى واقع الانشقاق وتأسيس الأحزاب أو غيرها من الإطارات، والذي لا أعرف –شخصيا- لماذا يطرح كمشكل؟! فتأسيس الأحزاب والإطارات أعتبره إيجابيا وصحيا، وهذا ما يود قانون الأحزاب أن يحد منه بالدرجة الأولى، طبعا ثمة مشاريع وجمعيات سياسية مرتبطة بأشخاص أو بأهداف مرحلية انتخابية، وهو واقع لا يمكن التخلص منه إلا بإعطاء الشرعية لكل هذه الأحزاب... وبالمناسبة سمعت متقاعدا يقول في المذياع بعد مرور 25 عاما على أول انتخابات في إسبانيا: "ذهبت للمشاركة في انتخابات 1979 ووجدت ألوانا كثيرة، غير أن ما كان يهمني ليس نجاح هذا الحزب أو ذاك بقدر ما كانت تهمني نزاهة الانتخابات، ولذا جمعت كل الأوراق في الجيب وأخرجت واحدة منها بعد خلطها وصوَّت، ثم رميت الباقي فيما بعد في الوادي كي لا أعرف على من صوت، لقد كان الهدف في حد ذاته هو التصويت، هو بداية مرحلة ديموقراطية جديدة وليس برنامج أي حزب من الأحزاب..." والمعروف أن 1700 حزبا كانت مسجلة في إسبانيا آنذاك، وحاليا يشارك في الانتخابات ما يزيد عن 45 حزبا، بمعنى أن التعدد الحزبي ليس إشكالا في حد ذاته، إن الإشكال الحقيقي يكمن في مسألة تأسيس الحركة الديموقراطية: من سيؤسس الحركة الديموقراطية؟ هل ستؤسسها الإطارات القائمة والأحزاب أو التيارات السياسية الموجودة؟ هل سيؤسسها اليسار أم اليسار وغير اليسار؟. لكن ألا يجدر بنا قبل ذلك أن نتساءل عن ماهية الحركة الديموقراطية وهويتها؟ لا شك أن للحركة الديموقراطية مهمة تاريخية معينة هي بناء الديموقراطية بعدما انتهت مهام مرحلة الحركة الوطنية. والحركة الديموقراطية في إسبانيا على سبيل المثال أدت إلى اللقاء بين سانتياغو كاريو ومانويل فراغا وهذا الأخير هو من قال قوله المأثور عبر التلفزة أيام فرانكو وبعده: "الشارع مِلكي وأتصرف فيه كما أريد". بمعنى أن الحركة الديموقراطية تتيح النقاش والحوار بين كل الأطراف ودون استثناء أحد، ولذا أعتقد أن ما نعدها أحزابا كارطونية أو إدارية لها الحق في المشاركة في هذا الحوار، ذلك أن نهايتها رهينة بحضورها على المائدة. إن التعامل مع الآخر كيفما كان نوعه بمنطق افتقاره لشرعية الوجود تعامل خاطئ، لكن مع الأسف بعض الإطارات ذات المرجعية اليسارية ما تزال تجتر هذا المنطق... المجتمع المدني هو الآخر يفتقر لقواعد واضحة، وهي لن تنجلي إلا بالعودة إلى التساؤل حول مفهومه ووظيفته، فهل هو الجمعيات المدنية؟ وإذا كان الأمر كذلك ما هو دور هذه الجمعيات؟ هل يكمن دورها في تأطير المجتمع أم أن دورها يتمثل في الاضطلاع بالخدمات؟ نحن إذا قصرنا دوره في الاضطلاع بالخدمات سنكون بصدد تأسيس قطاع ثالث يتوفر على قوة التأثير والضغط عبر الحوار. إن البنك الدولي الآن يدفع في هذا الاتجاه وينصح الدولة بالتراجع عن تقديم الخدمات، وهو الأمر الذي يشير إليه بورديو، ليترك للقطاع الثالث تحمل مسؤولية تصريف جزء من الخدمات، هل القطاع الثالث سيقوم بدور الدولة؟ هنا الفخ. وهل تقتصر الدولة على الدور الأمني وتنحو منحى النموذج الأمريكي؟ أم أن دور هذا القطاع هو المشاركة والمراقبة، في ما يخص الخدمات وغير الخدمات؟ وخلاصة القول إن مسألة المجتمع المدني أو الجمعيات موضوع يجب أن يطرح بشكل مواز للموضوع السياسي ولموضوع الأحزاب. فالانتقال الديموقراطي لا يهم السياسيين فقط، ولا أعتقد أن هذا الانتقال يمكن أن يتم بالسياسيين والأحزاب فقط، المفروض أن يسهم هذا المجتمع المدني المؤطر كقطاع ثالث في تحقيق ذلك.

م. الحداد: ثمة مسألة تستدعي – أيضا– التأمل والتفكير، تتعلق بالبنيات الوسيطة عموما، وعلى رأسها الأحزاب السياسية. فقد تبيين أن هناك قصورا إن لم نقل عجزا تكشف عنه هذه الأحزاب. فالآليات التي تعمل بها تعود إلى عهد الحركة الوطنية، وهي آليات لم تعد قادرة على أن تكون سندا لإدارة الولاءات وتدبير المعارضات داخل هذه الأحزاب. و أظن أن الشباب الذين جاءوا من بعد ورثوا هذا النوع من التقليد ونسجوا عليه. أليست هذه الآليات هي ما يفسر التشتت الذي تعرفه الساحة السياسية في ظروف يقال إننا بإزاء التمهيد للانتقال الديموقراطي أو الصفقة كما أشار حرزني؟ ألم يشمل هذا المسلسل من التفكك المجتمع المدني نفسه، حيث أصبحنا نلاحظ جمعيات تتوالد عن بعضها وتتناسل... ما رأيكم في هذا؟ وما صلة هذا المشكل بالأخلاق والسياسة؟

ع. البجوقي: لابد في هذا السياق من الإشارة إلى الانتقال الجيلي...

أ. الخمسي: في ما يتعلق بالأحزاب والجمعيات يمكن أن نقف على تغير في الأخلاق السياسية، فقد وقع تجاوز لفكرة المطلق، وتم تحول من المطلق إلى النسبي أدى إلى فرز أرضية للتعايش ليس فقط داخل نفس الإيديولوجية وما بين تياراتها السياسية، ولكن فيما بين المدارس والمشارب الإيديولوجية، وذلك على أرضية برنامج من أجل الديموقراطية، وكمثال على ذلك القطب الذي أشار إليه حرزني، إننا –إذن– إزاء تباينات تولدت مع جيل جديد، يتجاوز المطلق ويعيد صياغة مفهوم الحوار... ولعل الاعتقاد في المطلق على المستوى الشخصي أدى سابقا إلى التمركز حول الذات وتوهم امتلاك الحقيقة، وما دامت صيرورة الترقية داخل إطار تتم مع الوقت بالخبرة والدور والقدوة...فإن ثقافة الصعود هي التي سادت طيلة 40 عاما على صعيد الأحزاب والجمعيات، وبالتالي خلقت أزمة التناوب وتجديد النخب، ومن ثم لابد من العودة للتفكير في قضية ثقافة الصعود والتناوب على صعيد الحزب، وكذا النظر في قضية التيارات داخل الأحزاب وقضية الفيدرالية على الصعيد الجغرافي، ثم التفكير الجدي في دور الدولة، فنحن ما نفتأ ننتقد اختيارات الدولة علما أن لديها ثوابت كقضية الصحراء والعلاقات الخارجية ومسألة الديون... فماذا سيفعل أي طرف يصل إلى الحكومة في العلاقات الخارجية؟ ماذا سيفعل إزاء توصيات البنك الدولي؟... المفروض أن الممارسة السياسية ترسم الحد الأدنى والحد الأقصى، ونحن في المعارضة ندافع عن الحد الأقصى، أما إذا صرنا أطرافا داخل الدولة فيجب ألا ننـزل إلى الحد الأدنى وإلا علينا تقديم الاستقالة. ونعتبر الصفقة غير موجودة في حدود ممارسة الحكم، إذن في قضايا مثل الصحراء يفترض أن يكون لليسار وضوح إزاء هذه القضايا، لابد لـه من أخلاق الوضوح، وبهذا الصدد نتساءل: ما موقف القطب المشار إليه آنفا من العولمة؟ ما هو موقفنا نحن – مثلا- من الأطراف التي تناهض العولمة في عين المكان، أي من أطراف الجنوب التي تناهض العولمة؟ وما هو تمثيلنا؟ وما هي برامجنا؟ وما رأينا في فرع أطاك الذي يشمل محور القاهرة ودكار، علما أن هذا المحور مجال حيوي للمغرب؟ لابد أن يتضمن برنامج اليسار مواقف عملية لمواجهة العولمة، يجب أن يكون في برنامجنا وضوح في ما يتعلق مثلا ببرنامج "بورتو أليغري"...

م. المعتصم: لقد طرح مفهوم الواقعية بإلحاح، وأعتقد أننا ينبغي أن لا نحددها بصفتها استسلاما للواقع بقدر ما هي محاولة للبحث عن الطرق والأشكال الممكنة لتغيير هذا الواقع نحو ما يخدم المصلحة العامة. وأنا لا أعتقد أن الذين مارسوا النهب وكانت ممارساتهم مشينة في حق الشعب المغربي كانوا يعرفون أنهم يقومون بعمل غير شرعي، لكنهم كانوا يشعرون بالاطمئنان ويتصورون بأنهم في منأى من العقاب. أما اليوم فإن الشك يساورهم في حالة انتقال ولو نسبي نحو وضع آخر بأنهم قد يتعرضون للمساءلة، من هنا عملهم الدؤوب والحثيث على إبقاء دار لقمان على حالها. ولذا نقرأ اليوم في بعض الجرائد من يتحسر قائلا: إن هناك تسيبا وكلاما مشينا لم يكن ليقال على عهد الحسن الثاني، يعني أن هناك نوعا من التحريض، وينخرط في هذا السياق – للأسف الشديد– بعض الذين ينتسبون للصف الديموقراطي، فهذا الصف المحافظ يغتنم الفرصة في محاولة حثيثة منه ليبقى الوضع في البلاد كما كان. وهنا أقول إن هذا الصف قوي، ويزداد قوة بفعل ضعف الصف الديموقراطي. أما في ما يتعلق بقضية التفكك فأعتبرها –وفي هذا أتفق مع البجوقي- شيئا طبيعيا، إن الساحة السياسية تتفكك، وسيؤدي هذا حتما إلى فرز طبيعي، سيتم الفرز وآنذاك سنشهد ضمور الأحزاب الكارطونية، والأحزاب التي شاخت، والتي يلزم موتها طبيعيا... نحن الآن بصدد إعادة تشكل الساحة السياسية الجديدة، وطبيعي أن كل من لـه عصا يحاول أن يطرحها معتقدا أنه يمتلك العصا السحرية... ومع ذلك فثمة عوائق تحول دون تطور الممارسات السياسية بالمغرب، و أظن أنها ترتبط بالأخلاق، إذ الأحزاب المغربية – للأسف الشديد- افتقرت منذ 1975 وخصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي للدرس الإيديولوجي أو التربوي، وقصرت مهمتها – وهذا ينطبق أيضا على الحزب الذي يقول إنه إسلامي– في الصراع على السلطة، أي الوصول إلى البرلمان، والمشاركة في الحكم، في حين أن دورها ووظيفتها الأولية هي تأطير الجماهير، ولذا فاليوم، حتى وإن توفرت النزاهة في الانتخابات، فإن الأحزاب التي تعد نفسها ديموقراطية ستنهزم في هذه الانتخابات، لماذا؟ لأن الناس الذين تقول الأحزاب إنها تتبنى الدفاع عن مصالحهم هم أول من يمكن أن "يخون" هذه الأحزاب، فنحن نعلم من يقبل الرشوة، وذلك بفعل تخلي هذه الأحزاب عن دورها التربوي... ولو أننا أحيانا نلاحظ أن المواطنين أوعى وأكثر إحساسا بالمسؤولية من هذه الأحزاب. ومن مظاهر انعدام المسؤولية أن نجد أحزابا تطالب الحكام بالديموقراطية في الوقت الذي تنعدم فيه الديموقراطية داخلها: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم أفلا تعقلون" إن مثل هؤلاء يوضعون في مرتبة الحمقى. ثمة مثال آخر، فالحزب الحاكم في الوقت الذي يطالب فيه الدولة بأن تكون واضحة وشفافة وأن تقدم الحساب يمتنع عن تقديم الحساب لمناضليه. ومن الطرائف أيضا أن الكل يستهجن العنف، ومع ذلك تحول الحوار هذا الأسبوع بين مناضلين كانوا بالأمس رفاقا في نفس الحزب أمام باب نقابة إلى حوار الهراوات والعصي، فكيف لا يدب الشك إلى نفس المواطن؟ وكيف لا نصل إلى ما وصلنا إليه إذا كان حاميها حراميها؟ ثمة أزمة ثقة، وما يصدق في الواقع على الأحزاب يصدق على الدولة. وهذا ما يفسر اليوم انعدام الثقة بين المواطن والدولة ويؤدي بالضرورة إلى امتناعه عن التسجيل في اللوائح الانتخابية، وإن يسجل تحت ضغط المقدم وإرهابه لا يذهب للتصويت، وإذا ذهب للانتخاب تكون النتيجة بعمل مليون ورقة ملغاة، وهذا لـه دلالته، فغالبا ما تضع الدولة القوانين وتكون هي أول من يخرق القانون. إذا كانت الدولة تقول في دستورها –برغم كل مؤاخذاتنا- بحرية التنظيم السياسي، فأنا –كمواطن بسيط منع من التنظيم السياسي- كيف تريد الدولة أن أحترم قوانينها وأقدرها؟ أما أمر المجتمع المدني فهو من من الأمور التي تتطلب مجالس أخرى لتشعب مسائله...

م. الحداد: سننتقل إلى النقطة الأخيرة في هذه الندوة. وهي المتصلة بمشكل الأخلاق والسياسة ضمن السياق العالمي، والعلاقة القائمة بين الأخلاق والسياسة من جهة، والقانون الدولي من جهة أخرى؛ خصوصا بعد أحداث 11 شتنبر 2001، التي لا شك أن لها تأثيرا في إعادة ترتيب الأوضاع في العالم على نحو لا يراعي الأخلاق والقانون. غالبا ما نتحدث في هذا الشأن عن اعتماد المعايير المزدوجة على المستوى الدولي، وقد نشر أحد الباحثين روبر كوبر، وهو شخص قريب من رئيس الوزراء البريطاني بلير، مقالا في 7 أبريل 2002 بالأوبسرفر يؤصل فيه مشروعية اعتماد المعايير المتباينة، ويقسم فيه العالم إلى ثلاثة عوالم: عالم ما بعد الإمبريالية أو ما بعد الحداثة وهو أوربا وأمريكا، وعالم الحداثة مثل الصين والهند وباكستان... وعالم قبل حداثي يضم الدول المتخلفة التي تعيش حالة حرب الكل مع الكل، ويذهب إلى أن التعامل مع كل فئة من هذه الفئات يجب أن يتم بناء على معاييرها. الدول في عالم ما بعد الحداثة تتعامل بمعايير ما بعد الحداثة، وبما أنها الأقوى، فإنها عندما تتعامل مع الدول الحداثية يجب أن تتعامل معها بمعايير الحداثة لا بمعايير ما بعد الحداثة، وعندما تتعامل مع دول قبل الحداثة يجب أن تتعامل معها بمعايير قبل الحداثة؛ من دون أن يكون هناك حرج أخلاقي. ما أردت الإشارة إليه بهذا المثال، ويوجد مثله كثير في الغرب، هو أن الغربيين شرعوا بجد في تأصيل مشروعية الفرز بين المعايير المثلثة، وليس المزدوجة فحسب، فما رأيكم؟ وكيف تنظرون لحكاية حقوق الإنسان بصفته كائنا مجردا في مثل هذا السياق؟ وما انعكاسات ذلك على ما نراه في فلسطين؟ وباختصار ما هو تشخيصكم للأزمة الأخلاقية الفاضحة على المستوى الدولي أو العالمي؟

أ. الخمسي: لقد أشرت سابقا إلى أنه كلما ذكرت حملة غربية على العالم الثالث إلا ويتم تقديم الخمير الحمر كنموذج ما بين 75 و79 بصفته نظاما ديكتاتوريا همجيا... غير أنه لما كثر الكلام عن ملوزفيتش تم تجاهل الكمبودج، هذا يعني أنه ليس للغرب قواعد وقنوات كبيرة يصب فيها الأحكام على مختلف المناطق في العالم فحسب، وإنما يمكن القول إن لـه أيضا برنامجا تكتيكيا يتبدل كل 24 ساعة فيما يتعلق بالعلاقة مع الدول...

م. المعتصم: ما ذكره الحداد على لسان ذلك البريطاني ليس شيئا جديدا. فالاستعمار دائما يصنف الشعوب إلى ثلاثة أنواع، وبالأخص الاستعمار الذي عرفته البشرية في القرن العشرين: فثمة شعوب يجب التعامل معها بنوع من النِّدِّية كتعامل فرنسا مع بريطانيا أو ألمانيا... وأخرى تستعمل للسخرة. هنا نذكر الشعوب السلافية، وشعوب يجب أن تباد وهي الشعوب السامية، والشعوب الزنجية... وقد طرح هتلر في كتابه كفاحي هذه المسألة بوضوح. أما عن الأخلاق السائدة اليوم فهي أخلاق أمريكا، وهذا شيء طبيعي، فيوم كانت الدولة الإسلامية هي الأقوى كانت أخلاقها سائدة في العالم. والإشكال في الأخلاق الأمريكية أنها ليست أخلاقا مسيحية وليست أخلاقا إنسانية، إنها أخلاق مشبعة بالأفكار اليونانية والتشوهات التي لحقت الفكر المسيحي اليهودي إضافة إلى الأفكار الداروينية، فهي تؤمن بشيء أساسي هو البقاء للأقوى وليس للأصلح، وبالتالي فهي مستعدة لإبادة كل من لا يتفق معها، وهنا يكمن خطر العولمة بالمفهوم الأمريكي. إن هذه العولمة تعني نهايتنا، وأعتقد أن السؤال المطروح اليوم هو: هل نترك أمريكا تفرض أخلاقها وتصوراتها الفلسفية على الإنسان والكون؟ هل نتركها تضع البشرية في كف عفريت، أم المفروض هو أن نقوم بمجهود من أجل جر البشرية نحن وأصدقاؤنا لعولمة أخرى؟ بمعنى آخر أن نبحث بمعية أصدقائنا في الغرب عن المشترك، أي عن العولمة بمفهومها الإنساني، وأظن أن مستقبلنا رهين بالدرجة الأولى بما سنقدمه في هذا الإطار...

أ. حرزني: سأشير إلى جانبي الموضوع باختصار شديد، ففي ما يتعلق بالجانب الأول أتفق مع ما قاله المعتصم، إذ نلاحظ أن جميع الحضارات تميل إلى التمييز في ما بينها وما بين الآخرين، فالحضارة العربية الإسلامية ميزت بين العرب والعجم، ونفس الشيء نلحظه عند اليهود ولدى اليونان... هذه نزعة كانت متضمنة وقد صارت اليوم سافرة، لماذا بالضبط هذا السفور؟ الحقيقة أن هذه رسالة تفاؤل، وأنا من الذين لا يختلفون كثيرا مع ما أشار إليه هننغتون في حديثه عن الهيمنة الأمريكية، إنها هيمنة آيلة إلى زوال، ولأجل إطالة أمدها لا بد من شرطين أساسيين: أولا فصل الحضارات الكنفوشية عن الحضارات الإسلامية، وهنا أذكركم بوقت بدأ فيه الأفغان بهدم التماثيل البوذية، وفتح خلاله بعض علماء الإسلام حربا على "البوكيمون"... إنها ممارسات غير بريئة. ثانيا ضرورة قمع هاتين الحضارتين. ولعل حوادث الحادي عشر من سبتمبر تؤكد بالفعل أننا أمام هيمنة آيلة إلى زوال، فبالرغم من كونهم يريدون أن يثبتوا لنا أن العالم بدأ في 11 شتنبر، غير أن لهذه الحوادث عللا في الواقع الأمريكي نفسه، ومن بين ما يجب تأمله هو أزمة الانتخابات التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه ليس أمرا هينا. إننا إزاء نظام يدعي أنه ديموقراطي، بل أرقى نظام ديموقراطي، ومع ذلك يعجز عن إفراز أغلبية. ومعنى ذلك أن المجتمع يعاني من خلل يفوق الأزمة القلبية، فلا شك أنه يعاني أزمة هيكلية تمس جميع الأعضاء... وهذا ما دفع البعض إلى اعتبار 11 شتنبر محاولة للضبط وإعادة التماسك للمجتمع الأمريكي من أجل إطالة أمد الهيمنة الأمريكية...

ع. البجوقي: أريد في هذا السياق أن أشير إلى ثلاث ملاحظات:

1. يطرح اليوم بحدة ما يسمى بعولمة الأمن وهو هدف رئيسي مطروح عند الأمريكيين بالدرجة الأولى.

2. قوة الردع تتمركز في يد واحدة فقط.

3. ثمة أزمة ديموقراطية في الغرب نفسه، وقد تمت الإشارة إلى النموذج الأمريكي. ويمكن أن نشير أيضا إلى ما حصل ببلجيكا حيث اضطرت هذه الدولة إلى تعديل دستورها ليصبح التصويت إلزاميا، ففي آخر انتخابات –قبل تعديل الدستور– لم يشارك غير 32% من الشعب البلجيكي، وهو ما أدى إلى التساؤل عن مدى ديموقراطية الحكومة وتمثيليتها؟ وبطبيعة الحال عندما أشير إلى أزمة الديموقراطية أقصد أزمة دولة الرخاء الاجتماعي. هذه ثلاث ملاحظات توضح بشكل كبير المشهد الدولي الذي نعيشه. ثم هناك عقدة أمريكية تاريخية، وهذا ليس كلامي بل كلام زعماء أطاك، وهي عقدة أمريكا التاريخية المتمثلة في عدم الانتماء الحضاري بالرغم من كونها أكبر قوة اقتصادية وعسكرية، فإذا وقفنا على العناوين الكبرى في الإعلام الغربي إبان أحداث 11 شتنبر نجدها لا تتكلم عن الإرهاب الإسلامي، بل عن الإرهاب ضد الحضارة: لا توجد سوى حضارة واحدة، وإرهاب واحد هو الإرهاب ضد الحضارة، وذلك قبل أن تتحدث عن الإرهاب الإسلامي ضد الحضارة. وقد أدى هذا المنحى إلى تشكل شبكات متعددة تضم الجمعيات غير الحكومية عبر بعضها عن مواقف عنيفة ومتطرفة، فالجمعيات غير الحكومية الآن، وعلى مستوى أوربا بالخصوص، بدأت تتوحد في شبكات لمواجهة آثار ما بعد 11 شتنبر مواجهة مباشرة. وفي هذا السياق يطرح موضوع مهم جدا –ونحن نتكلم عن الأخلاق- يمكن أن يتيح لنا فرصة لإعادة التفكير اليوم في عقد اجتماعي كوني جديد، يسميه البعض عقدا أخلاقيا اجتماعيا كونيا.

م. الحداد: شكرا للإخوان أحمد حرزني، مصطفى المعتصم، أحمد الخمسي، حميد البجوقي على صبركم وعلى هذا اللقاء الذي أنجزناه دفعة واحدة. الآن، بعد الفراغ من هذه الندوة، يمكنكم أن تستريحوا. دفاتر الشمال ترحب بكم في تطوان.

ليست هناك تعليقات: