20‏/04‏/2012

في الدفاع عن التاريخانية ونقدها



يقول عبد الله العروي:

"ما دمنا نتكلم في الأصول فإننا نقف خارج التاريخ العادي، لا معه ولا ضده. إلا أننا لا نستطيع البقاء في هذا المستوى. الترديد نفسه يرسم تاريخا فارغا، نقطة ركز عليها هيجل مرارا. انطلاقا من الأصل، من الموقف إزاء الزمان، وهو موقف لا بد له من تعيين، يمكن أن نحدّ الإطار الذي نبرر فيه التاريخانية [(Historicism)]، وبالمقابل الإطار الذي تستقيم فيه اللاتاريخانية. والإطار هو بالطبع الجماعة [التشديد خطا على لفظ الجماعة]. زمان الجماعة ليس زمان الفرد. التجربة دائما فردية الشكل، ولكن قد تكون وقد لا تكون جماعية المضمون. إذا لم تكن كانت ثائرة، خارجية، منافية للتاريخ، فلا تصلح لتفنيد مفهوم التاريخ. لم تنجح البحوث التأصيلية في تسفيه كل هم تاريخاني، إذا كان هذا هو هدفها الأول، وإنما أوضحت شروط استقامته وفعاليته".

عبد الله العروي 'مفهوم التاريخ: المفاهيم والأصول'. ج 2، ط. 4، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء/ المغرب 2005 ص 398.

 

في نقد التاريخانية (للتأمل)

التاريخانية مذهب يحكم بالنسبية على كل محتوى تاريخي عندما يجعل منه محتوى متوقفا على 'الظروف التاريخية'. التاريخانية بعبارة أوضح تتجنب مواجهة الواقع، وهي لهذا السبب تتعارض مع ما يسميه بعض الفلاسفة بـ ' التاريخية'.
' التاريخية' اصطلاح يستعمله هؤلاء ليشددوا أو يلحوا على وجود محرك لا تاريخي خالص يعمل في ثنايا لحظات التاريخ نفسه. التاريخية في الجهاز الاصطلاحي الذي يستعمله هؤلاء الفلاسفة (باديو، جيجيك وآخرون الذين يستوحون فكرة الواقع عند لاكان) لا تظهر في المشهد إلا عندما يُؤسَّس التاريخ على الواقع، الذي يعد عندهم شأنا كونيا ولا تاريخيا. فالفعل السياسي يكتسب من التاريخية عند هؤلاء نواة لا تاريخية تكون خارجة عن الانسياب العادي للتتابع التاريخي، وبمقتضى هذا الخروج تكون هذه النواة مكونة للتغيير التاريخي وللفعل السياسي الأصيل. وعلى العكس من هذا تعمد التاريخانية إلى تدجين التاريخية حين تعرض وتضرب صفحا عن تفسير واقع التمثيل التاريخي ذاته. التاريخانية تضع كل لحظة من لحظات التاريخية ضمن سلسلة من الظرفيات المتتابعة المفترضة، وتروم من وراء ذلك الاستدلال على وجود تعاقب خطي يحكم التاريخ. التاريخانية بهذا الصنيع تستبعد النواة اللاتاريخية واللارمزية، والصادمة أيضا، التي ينطوي عليها كل تغيير تاريخي. إنها لهذا السبب تكون فاقدة البعد التاريخي نفسه؛ لأنها عندما تحكم على التاريخية بالنسبية، تضفي الشرعية على كل ظرف تاريخي استنادا إلى منطلقاتها الإيديولوجية التي تصدر عنها.
لهذه الاعتبارات تكون التاريخانية في وضع تُبطل أو تَنقُض فيه نفسها بنفسها؛ لأنها تُضْطَر، ضدا على المبادئ التي تقوم عليها، إما أن تنظر إلى نفسها من حيث إنها إطار لا تاريخي وإما أن ترى في نفسها بناء عارضا ومحدودا. والسبب في هذا هو أنها في نظرتها إلى المناسبات العارضة تحتاج إلى اعتماد مبدئية عامة تكون مستقلة عن أي حقبة تاريخية، أو أنها، إذا لم تعمد إلى هذا، ستظل أسيرة موقف فوضوي يحكم بالنسبية على كل لحظة تاريخية من دون الاستناد إلى أي سند لا تاريخي، وهو ما يجعلها تنقاد إلى اعتناق الشعار المنفلت: 'كل شيء يجوز'. وأتصور أن سلافوي جيجيك كان يومئ إلى هذا الأمر حين كتب يقول: "الفعل قطيعة لا يبقى بعدها شيء على حاله كما كان. وهذا هو الذي يفسر أننا، على الرغم من قدرتنا على تفسير التاريخ دائما ورصده، لا نستطيع أبدا، بوصفنا فاعلين في هذا التاريخ ومنقادين بانسيابه، أن نتكهن بمجراه على نحو مسبق. إننا لا نستطيع ذلك لأن جريان التاريخ ليس (أو لا يكون) 'عملية موضوعية' بل عملية لا تكف الأفعال عن التدخل فيها وإعادة توجيهها. الجديد (أي الواقع الرمزي الذي يبرز عقب فعل من الأفعال) يكون دائما 'حالة تولدت بوصفها أثرا جانبيا في جوهرها' وليست أبدا نتيجة [حتمية] لتخطيط صارم مسبق".
بعبارات شارحة نستطيع القول إن الطبيعة اللاتاريخية للفعل تنسحب أيضا على ميزته من حيث إنه غير قابل للبت، ذلكم لأن هذا الفعل، بالنظر إلى كونه لا تاريخيا، يقع عزله من المتوالية التاريخية. وتكون النتيجة أننا لا نستطيع الكشف عن مصدره وعن نتائجه بالتعويل على الفحص عن الظروف التاريخية؛ بل على العكس من ذلك، يظل الفعل غير قابل للبت في سياق علاقته بالمجال الرمزي الذي انبعث منه...

ليست هناك تعليقات: